مبدأ حق الدفاع في مجال التحقيق

ان التحقيق، سواء تولته في البداية الجهة الرئاسية بأجهزتها المختلفة او جهة التفتيش الإداري (النيابة الإدارية في مصر)، هو عملية استقصاء يستهدف كشف الحقيقة في كنف قاعدة أساسية تستقى منها الجزئيات والتفاصيل، حتى يكون للتحقيق الإداري كل مقومات التحقيق القانوني الصحيح وكفالته وضمانته من حيث وجوب استدعاء الموظف وسؤاله ومواجهته بما هو منسوب اليه، هذا وتمكينه من الدفاع عن نفسه وإتاحة الفرصة أمامه لمناقشة شهود الإثبات او شهود النفي .

وان كانت إجراءات التحقيق تشكل جزءاً من مراحل الاستقصاء والاستجواب الذي يقدم عليه المفتش المولج إجلاء قضية معينة، لما تتبعه من بيان معلومات مطلوبة من الموظف موضع التحقيق، وإعطاء الأجوبة للأسئلة الموجهة اليه، إلا انها تبقى إجراءات تعوزها أصول وضمانات تكمن في ضمان احترام حقوق الدفاع .

هذا ما بيّنه مجلس شورى الدولة في قرار له(1) ان الفرق شاسع بين إجراءات التحقيق وبين حق الدفاع، كما كرسته المبادئ العامة وأقرته القوانين الوضعية، فإجراءات التحقيق لا تعفي سلطة التفتيش من إبلاغ الموظف تقرير المفتش او على الأقل خلاصة عنه وعن مضمونه وعن النتيجة التي توصل اليها والاقتراحات المقدمة من قبله، ليتمكن المستدعي على ضوئها من تقديم دفاعه الخطي في التهم المؤاخذ عليها، مما يشكل إغفالا للمعاملات الجوهرية ومخالفة بالتالي للقانون والمبادئ العامة .

عديدة هي المواضيع التي يمكن ان تثار في مرحلة التحقيق، نطرح بعضها على سبيل البحث والمناقشة باعتبارها من مقومات التحقيق ومن المظـاهر الأساسية لاحترام مبدأ حق الدفاع، كحق الموظف في الاستعانة بمحام او حقه بالحصول على مهلة كافية للدفاع عن نفسه او حقه بتقديم شهود الإثبات او النفي، ويبقى قاعدة اطلاع الموظف على ملفه الشخصي التي تعتبر من أهم الحقوق المصونة بنصوص قانونية تلتزم جهة التحقيق بمراعاتها قبل اتخاذ أي عقوبة تأديبية بحقه او قبل إحالته إلى مجلس التأديبي . لذا نتناول هذا المبحث في ثلاثة مطالب . المطلب الأول : اطلاع الموظف على ملفه

من أهم المقومات التي يقوم عليها التحقيق هو اطلاع الموظف على الملف communication du dossier، اعتبرها مجلس الدولة الفرنسي قاعدة تكفل احترام حقوق الدفاع .

تجد هذه القاعدة مصدرها في المادة 65 من قانون الموازنة الفرنسية للعام 1905 المتضمنة اطلاع كل موظف على ملفه الشخصي قبل اتخاذ أي عقوبة تأديبية بحقه . وتنص المادة المشار اليها على أنه : “كل الموظفين المدنيين والعسكريين وكل المستخدمين والعمال في جميع الإدارات العامة لهم حق الاطلاع الشخصي والسري على كل الوراق والوثائق التي يتكون منها ملفهم قبل اتخاذ إجراء تأديبي ضدهم”.

وقد اعتبر مجلس الدولة هذه القاعدة عنصراً أساسياً من حقوق الدفاع تمكّن صاحب العلاقة من الاطلاع على المآخذ والأسباب المدلى بها من الإدارة . إلا ان هذه القاعدة لا يمكن فرضها على الإدارة إلا بنص قانوني خاص، وهو ما نستخلصه من حكم (1)Ampoilange الذي قرر بموجبه مجلس الدولة الفرنسي انه لا تلتزم الإدارة بقاعدة الاطلاع على الملف إلا عند وجود نصوص قانونية تنص بمراعاة هذا الاطلاع .

غير انه عند سكوت القانون او في غياب نصوص قانونية حول هذا الموضوع، لا يلزم مجلس الدولة الإدارة باحترام القاعدة المذكورة إلا إذا كانت المآخذ المنسوبة تشكل “مآخذ أساسية essentiel des griefs”(2) .

رغم ما سبق، نجد ان مجلس الدولة الفرنسي توسع في تفسير المادة بقصد إعطاء ضمانة فعّالة للموظفين، فقرر ان نص المادة 65 نص عام ينطبق ليس فقط على الموظفين، بل على كل العمال، ويسري على كافة العقوبات التأديبية بدون تفرقة(1). كما يجب ان يمنح الموظف الوقت الكافي للاطلاع على أوراق الملف(2).

والاطلاع على الملف، يجب ان يكون كاملاً وشاملاً لكل أوراق الملف بحيث يتمكن صاحب العلاقة من الاطلاع على كل ورقة تتضمن مآخذ تأديبية عليه(3). ولا يشمل هذا الاطلاع الأوراق البعيدة عن موضوع المساءلة التأديبية(4)، على ان يطلع الشخص على الملف في مكانه دون نقله ودون الحق في أخذ صور او نسخ عنه(5). ومع تقدم القضاء الإداري، جعل مجلس الدولة في حكم (6)Oriano من القاعدة مبدأ عاماً للقانون، على الإدارة احترامه في كل حالة تتخذ بحق الموظف عقوبة تكون على قدر من الجسامة .

أما في مصر، الاطلاع على الملف يعتبر ضمانة جوهرية في المساءلة التأديبية، لذلك فانه يجب على السلطة التأديبية تمكين العامل من ممارسة هذا الحق ولو لم يوجد نص بذلك، لأنه يعد من المبادئ العامة في القانون(7).

ولكـن لو تمعنـا في قـانون النيابة الإدارية والمحاكمات التأديبية ولائحته الداخلية نجد انها أجازت للعامل ان يحضر بنفسه جميع إجراءات التحقيق، إلا إذا اقتضت مصلحة التحقيق ان يجري في غيبته (المادة 8 من القانون) . وتتأكد مضمون القاعدة في المادة 16 من اللائحة، وهي تعطي العامل حق الاطلاع على أوراق التحقيق بعد الانتهاء منه .

بأي حال، فانه على عكس التحقيق الجنائي، المشرع لم يضع تنظيماً متكاملاً للتحقيق الإداري، لا سيما حينما تتولاه الجهة الإدارية . ولقد أعلنت عن هذه الحقيقة المحكمة الإدارية العليا في حكمها الصادر بتاريخ 27 ت2 1965 حيث تقول “لم تتضمن النصوص ما يوجب إحالة التحقيق إلى النيابة الإدارية، ولا ما يوجب إفراغه في شكل معين أو وضع مرسوم إذا ما تولته الجهة الإدارية ذاتها او بأجهزتها المتخصصة في ذلك، كما لم ترتب جزاء البطلان على إغفال إجرائه على وجه خاص، وكل ما ينبغي ان يتم التحقيق في حدود الأصول العامة، وبمراعاة الضمانات الأساسية التي تقوم عليها حكمته بأن تتوافر فيه ضمانة السلامة والحيدة والاستقصاء لصالح الحقيقة، وان تكفل به حماية حق الدفاع للموظف تحقيقاً للعدالة ” . أما في لبنان : راعى القانون اللبناني، قاعدة الاطلاع على الملف في المرسوم رقم 2826 (أصول التفتيش) إذ تنص المادة 8 منه : “ينظم محضر باستجواب الموظفين وإفادة الأفراد، ويتلى المحضر على صاحب العلاقة ويطلب اليه توقيعه، فإذا امتنع أشير إلى ذلك في المحضر” . وتنص المادة 13 الفقرة الأولى من المرسوم المذكور “إذا تضمن تقرير المفتش اقتراحاً بمؤاخذة أحد الموظفين، وجب على المفتش العام أن يبلغ هذا الموظف العام التقرير او خلاصة عنه لبيان دفاعه الخطي خلال أسبوع على الأقل من تاريخ التبليغ” . يتبين لنا من النصوص القانونية ان مراعاة قاعدة الاطلاع على الملف واجب تلتزم الإدارة باحترامه، إذ يلزم المرسوم المفتش العام ان يبلغ الموظف التقرير او على الأقل خلاصة عنه، ليكون على بينة من مضمونه والنتيجة التي توصل اليها والاقتراحات المقدمة من قبله، ليتمكن على ضوئها من تقديم دفاعه الخطي في التهم المؤاخذ عليها . هذا، ولا يتجاهل مجلس شورى الدولة في لبنان مراعاة المبدأ، إذ نراه دائماً يحرص على وجوب احترام الإدارة (التفتيش المركزي) للمادة 13 من المرسوم المذكور في سبيل تحقيق احترام مبدأ حق الدفاع(1).

ومن ناحية أخرى، فان للتبليغ أهميته كون القانون اشترط على الموظف المعاقب ان يقدم اعتراضه بواسطة المفتش العام، في خلال فترة خمسة أيام من تاريخ تبلغه قرار المعاقبة، ويسقط حق الموظف بعد مضي هذه المهلة . فقضاء مجلس شورى الدولة مستقر على اعتبار ان مهلة الطعن والاعتراض بالقرار التأديبي لا تبدأ إلا من تاريخ تبليغ هذا القرار، وان هذا التبليغ يجب ان يتم وفقاً للأصول المتبعة في التبليغات الإدارية بحيث يكون كاملاً كي يتمكن صاحب العلاقة من الرجوع اليه والتمعن بمضمونه للوقوف على ما يلحق به من ضرر واتخاذ موقف في شأنه(1).

وقد ذهب القضاء الإداري لأبعد من ذلك، فقد اعتبر في أحد قراراته ان توقيع الموظف صاحب العلاقة على محضر القرار الصادر بحقه غير كاف لاعتباره مبلغاً قانوناً إذ يقتضي تسلمه نسخة عن قرار صرفه من الخدمة ليتسنى له الاطلاع على مضمونها واتخاذ الموقف الملائم على ضوء ما ورد فيها(2). وأخيراً، وفقاً للفقرة الأخيرة من المادة 13 يمكن للمفتش العام ان يعدل عن إبلاغ الموظف المآخذ المنسوبة اليه إذا كان هذا الموظف المؤاخذ سبق ان أعطى إفادة خطية أثناء التحقيق او التفتيش معترفاً بما نسب اليه، او صدرت عنه وثيقة، او علم بوجود وثيقة صادرة عن غيره ولم يعترض عليها، بما لا يدع مجالاً للشك او التأويل من قبل المفتش العام، وذلك منعاً لتكرار الإجابة عليها من جديد .

ومع هذا, يمكن القول خارج إقرار الموظف المؤاخذ بما نسب اليه، تكون قاعدة الاطلاع على الملف من الأصول الإجرائية الجوهرية، وكل خرق لها يشكل عيباً في الشكل بالغ الخطورة يشوب القرار اللاشرعية وان كان هذا الخرق لا يؤثر على القرار النهائي . ويكون عدم إبلاغ الملف تدبيراً تمهيدياً لا يمكن فصله من مجمل الإجراءات التأديبية، ويصبح تجاهل قاعدة الاطلاع على الملف ذريعة للموظف يمكن الإدلاء بها بمناسبة تقديم مراجعته طعناً بالعقوبة او دعوى الإبطال لتجاوز حد السلطة .