موقف القضاء الجزائري

للإجابة على السؤال الذي تم طرحه في بداية هذا المطلب و المتعلق بالأساس القانوني الذي اعتمد عليه القضاء الجزائري لسد الفراغ القانوني في موضوع العربون؟ سأحاول مناقشة بعض الأحكام و القرارات ، والتي على ضوئها يمكن تحديد موقف القضاء الجزائري .

1) مناقشة الأحكام و القرارات

أ : مرحلة ما قبل صدور القانون المدني : خلال هذه المرحلة كان القضاء الجزائري يطبق أحكام المادة 1590 من القانون المدني فرنسي على كل النزاعات المتعلقة بالعربون إما صراحة(2) ، و إما ضمنا و ذلك بالنص على القاعدة القانونية دون ذكر المادة .

فقد جاء في قرار المحكمة العليا الغرفة المدنية المؤرخ في 31/01/1979 :«… في حين أن ذلك الحكم قد ألزم البائعين أي المطعون ضدهما بأن يردا للطاعن بالنقض الثلاثة عشر ألف و خمسمائة دينار التي كان قد دفعها لهما على سبيل العربون مع أن الاجتهاد القضائي يقرر باستمرار أن البائع الذي يمتنع من تنجيز البيع يكون ملزما بدفع مضاعف العربون »

ما يلاحظ هنا أنه رغم رفع الدعوى قبل صدور القانون المدني أي في المرحلة التي كان فيها القانون الفرنسي هو المطبق، إلا أن قضاة المحكمة العليا لم يشيروا إلى المادة 1590 صراحة بل استعملوا عبارة «الاجتهاد القضائي يقرر باستمرار » أي اعتمدوا على الاجتهاد رغم وجود نص قانوني، هذا الاجتهاد الذي هو أصلا تطبيق لهذه المادة.

ب : مرحلة ما بعد صدور القانون المدني و قبل تعديله: تتميز هذه المرحلة بعدم النص على العربون في القانون المدني .

*جاء في قرار المحكمة العليا(1) المؤرخ في 19/02/1986 :«حيث تبين من قراءة القرار المطعون فيه أن مجلس الجزائر استند في حكمه على القاعدة التي تنص : ( إذا تم الوعد بالبيع مع العربون فلكل متعاقد أن يتنصل من البيع ،و من قدم العربون يخسره و من قبضه يرد ضعفه ) و هي قاعدة يأخذ بها القانون المدني الفرنسي في مادته 1590 لكن القانون المدني الجزائري لم يتبناها ».

وما يلاحظ هنا أن قضاة المحكمة العليا نقضوا قرار مجلس الجزائر الذي استند على المادة 1590 من القانون المدني الفرنسي و اعتبروه منعدم الأساس القانوني ، و لكن لم يبرزوا موقفهم بخصوص الأساس الذي يجب أن يبنى عليه القرار .

* قضى الحكم رقم 1378/92 الصادر عن محكمة باتنة(1) بإلزام المدعى عليه برد المبلغ الذي تسلمه من المدعي و المقدرب44.000 دج و أن يدفع له مبلغ 5000دج تعويضا عن الضرر اللاحق به .

كيفت المحكمة في حيثياتها المبلغ المدفوع بأنه عربون ، فمن جهة قضت برده و من جهة أخرى قضت بالتعويض ، من خلال ما درسناه حول دلالة العربون نتساءل عن الدلالة التي أعطتها المحكمة للعربون ؟ فإن كانت دلالة بت فالحكم صحيح ، أما إذا كانت دلالة عدول فهو غير صحيح لأن الحكم في هذه الحالة يكون برد مبلغ العربون فقط (1) دون تعويض .

بعد إستئناف هــذا الحكم صدر القرار المؤرخ في: 09/02/1994 عن مجلس قضاء باتنة(2)، وجاء في إحدى حيثياته : « أن موضوع الدعوى يتعلق ببيع قطعة أرض دفع المستأنف عليه جزء من ثمن هذه الأرض للمستأنف » .

و هنا كيف قضاة المجلس المبلغ المدفوع على أنه جزء من الثمن .

بعد الطعن بالنقض صدر القرار المؤرخ في 13/03/ 1996 (3) الذي قضى بتأييد القرار المطعون فيه ، فاعتبر قضاة المحكمة العليا أن المبلغ المدفوع جزء من الثمن و بذلك كيف البيع على أنه بيع نهائي أي بات ، دون تأسيس ذلك .

* في قضية أخرى قضت محكمة الحراش(4) برد مبلغ العربون المقدر ب 150.000 دج ، و بهذا الحكم تكون قد كيفت المبلغ المدفوع على أنه عربون، و أعطت له دلالة عدول ، و ألزمت البائع برد مبلغ العربون فقط دون مثله تطبيقا للعرف السائد في الجزائر .

وبعد استئناف هذا الحكم صدر قرار من مجلس قضاء الجزائر(5) الغرفة المدنية ، جاء في إحدى حيثياته : « أن المستأنف عليه لم يخل بالتزاماته و بأن المسؤولية تقع على المستأنفة (المشترية ) » ، وبهذا التحليل من المفروض أن يقضي بفقد المشترية للعربون إلا أنه قضى ب :«إلغاء الحكم و القضاء من جديد برفض دعوى المستأنفة لعدم التأسيس» و تأسيس ذلك ليس كما أشرت إليه و لكن لأن مبلغ العربون وضع تحت تصرفها من طرف المستأنف عليه و بإمكان المستأنفة استلامه دون اللجوء إلى القضاء .

و بذلك لم يؤسسوا سبب أحقيتها للعربون هل هو اتفاق الطرفين ؟، أم العرف؟ و هذا الأخير لا يقضي بذلك بحيث من تسبب في عدم تنفيذ الالتزام يفقد مبلغ العربون .هذا القرار طعن فيه بالنقض إلا أن المحكمة العليا رفضت الطعن(1).

2- تحديد الموقف

قبل الخوض في مدى إستقرار القضاء الجزائري بخصوص العربون من عدمه ، يتعين تقديم الملاحظات التالية :

1- في حكم واحد يكيف المبلغ على أنه عربون و في نفس الوقت جزء من الثمن ، وكان لزاما على القضاة أن يبتوا في ما إذا كان المبلغ المدفوع هو في حقيقته عربونا أو جزءا من الثمن لاختلاف الحكم في الحالتين .

قد يخطئ الطرفان في تسمية الدفعة المقدمة كجزء من الثمن للبدء في تنفيذه على أنها عربونا فالعبرة بالنية لا بالألفاظ : «قد يثبت للمحكمة من ظروف الدعوى أن المبلغ الذي سمي عربونا في عقد البيع هو جزء من الثمن دفع دلالة على إتمام العقد و ضمانا لتنفيذه ، لا عربونا بالمعنى القانوني الذي يصح أن يتخذ وسيلة يتمكن بها المتعاقدان من نقض العقد و التخلص منه. »(2)

2-عدم تأسيس القواعد التي على أساسها تم الفصل في النزاع، أي من أين استمدوا أحكام العربون هل من الشريعة الإسلامية أم من العرف ؟

في حين في مصر استقر العرف قبل القانون المدني الجديد على نفس دلالة العربون الحالية : « جرى العرف فيما يختص بالعربون بأن المشتري إذا عدل عن الشراء يفقد حقه في العربون الذي دفعه ، و كذلك إذا عدل البائع عن البيع يجب أن يرد العربون مضاعفا.»(3)

لا يكاد يختلف اثنان على أن القضاء الجزائري كان يطبق في مسألة العربون العرف السائد في الجزائر ، إلا أنهم لم ينصوا صراحة عليه كما فعله القضاء المصري الذي طبق العرف باعتباره المصدر الثاني.فكان لزاما على القضاء الجزائري طبقا للمادة الأولى من القانون المدني في حالة عدم وجود نص قانوني أن يلجؤا إلى أحكام الشريعة الإسلامية و هذا ما لم يحدث بحجة عدم الإجماع بين الفقهاء حول مسألة العربون فانتقلوا مباشرة إلى المصدر الثالث و هو العرف .

و لكن على ضوء كل ما تقدم أقول بأن القضاء الجزائري كان متذبذب في تحديده لدلالة العربون، فأحيانا يعتبرها دلالة بت ،و أخرى دلالة عدول ، و يمكن إرجاع ذلك إلى قلة القضايا المطروحة على القضاء باعتبار أن العربون دائما ما يكون مبلغا ضئيلا مقارنة بالمبلغ الأصلي مما يحول دون تكبد خاسره عناء اللجوء إلى القضاء، و في حالة العكس فنادرا ما يتم سلوك طريق الطعن بالنقض ، الشيء الذي أدى إلى قلة القرارت الصادرة عن المحكمة العليا ، و عدم إجماع قضاتها على مبدأ معين ، و هذا ما أثر على موقف قضاة الدرجة الأولى و الإستئناف .