مـبـدأ الـبـطـلان فـي قـانـون الإجـراءات الـجـنـائـيـة الـسـودانـي

إن قانون الإجراءات الجنائية لا يتوقع منه أن ينتج آثاره المرجوة في تحقيق التطبيق السليم لقواعده ومراعاة حقوق المتهم إلا إذا كان هناك جزاء يترتب على المخالفة لتلك القواعد . وهذا الجزاء إما أن يكون إيجابياً كأن يسأل مرتكب المخالفة جنائياً أو إدارياً ، وإما أن يكون سلبياً وذلك يتمثل في منع العمل الذي اتخذ مع المخالفة للقانون وهذا ما يعرف بالبطلان ويترتب على كل ذلك جبر أي ضرر يقع على المتهم من جراء هذه المخالفة لأن أساس الضمان هو الجبر ورفع الضرر لا الجزاء والعقوبة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار . وأتناول هذا الموضوع على النحو التالي :

أولاً – البطلان : وهو عدم ترتيب أثر على الإجراء المخالف للقانون . وقد عرف الفقه ثلاث نظريات للبطلان هي :

1 – نظرية البطلان الشكلي : ويذهب أنصارها إلى أن المعيار في البطلان هو مخالفة أي قاعدة شكلية . ويستندون في ذلك على أن القانون ما دام قد نص على وجوب اتخاذ إجراء بشكل معين فهذا يفسر أن لهذا الإجراء أهمية خاصة وإلا لا داعي للنص عليه وبالتالي فإن مخالفة ذلك الإجراء تستوجب تقرير البطلان .

2 – نظرية البطلان القانوني : ومفادها ألا يقرر أي بطلان جزاء على مخالفة أية قاعدة قانونية أو إجراء قانوني إلا إذا نص القانون صراحة على ذلك .

3 – البطلان الذاتي : وتقضي هذه النظرية بأن كل مخالفة لقاعدة إجرائية جوهرية يترتب عليها بطلان الإجراء المخالف لها ولو لم ينص القانون على ذلك . والمشرع هنا لا يحدد حالات محددة للبطلان وإنما يترك تقرير ذلك للسلطة التقديرية للمحكمة .

أما من حيث من له حق إثارة البطلان والتمسك به فإن البطلان نوعان :

1 – بطلان مطلق : وهو الذي يتعلق بالنظام العام وهو يتحقق عند مخالفة أية قاعـدة جوهرية عامة . والمحكمة تقضي به من تلقاء نفسها دون طلب الأطراف متى ما تحقق لها ذلك .

2 – بطلان نسبي : وهو المتعلق بمخالفة القواعد الجوهرية غير المرتبطة بالنظام العام والمحكمة هنا لا تقضي به إلا بناء على طلب الطرف المتضرر من الإجراء.

وعليه أياً كانت النظرية المتبعة حول مفهوم البطلان إلا أنه يجب بطلان أي إجراء يمس حرية المتهم جاء مخالفاً للقانون وهذا ما سعت إليه كل الاتفاقيات الدولية المعنية بهذا الشأن . وقد جاء في الفقرة 14 من التعليق رقم 20 للجنة المعنية بحقوق الإنسان 🙁 ….. على ألا يكره المتهم على الشهادة ضد نفسه أو على الاعتراف بذنب. ولدى النظر في هذا التدبير الوقائي، ينبغي عدم إغفال أحكام المادة 7 والفقرة 1 من المادة 10 ـ من العهد الدولي ـ فبغية إكراه المتهم على الاعتراف أو على الشهادة ضد نفسه، غالبا ما تستخدم طرق تنتهك هذه الأحكام. وينبغي أن ينص القانون على أن الإثباتات الموفرة بواسطة مثل هذه الطرق أو بأي شكل آخر من أشكال الإكراه غير مقبولة البتة ) .

أما قانون الإجراءات الجنائية السوداني فإنه لم ينص على البطلان بصورة واضحة وصريحة بل أن السوابق القضائية قد أكدت ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف في سابقة حكومة السودان ضد نصر عبد الرحمن وآخر(مجلة الأحكام القضائية 1975 ص 638 ) بقولها :

1 – نظرية البطلان نظرية مستمدة من النظام اللاتيني ولا يعرف القانون السوداني ما يسمى بمبدأ البطلان، ولكن هذا لا يعني عدم إمكانية الأخذ بنظرية البطلان القانوني وذلك في حالة ما إذا ارتأى المشرع ضرورة للنص على بطلان أي عمل إجرائي إذا شابـه خطأ شكلي .

2- القواعد العامة التي تسترشد بها محاكمنا مؤداها أن عدم اتباع إجراءات معينة لا يؤدي بالضرورة إلى البطلان إلا إذا ثبت أن تلك المخالفة قد أدت إلى إجهاض العدالة .

وأرى أن عدم نص قانون الإجراءات الجنائية على مبدأ بطلان الإجراءات المتخذة في مواجهة المتهم والمخالفة لما تقضي به القوانين المنظمة لها فيه إجحاف بحق المتهم ، ودعوة صريحة من قبل السلطة نحو موظفيها لارتكاب مثل هذه الانتهاكات . بل أن المحكمة العليا في قضية حكومة السودان ضد أ. ص. ع. وأخرى (مجلة الأحكام القضائية 2007 : ص 129 ) قد منحت محكمة الموضوع سلطة تقديرية في قبول البينة المتحصل عليها بإجراء صحيح متى اطمأنت لها وما دامت لم تخالف الشرع .

ثانياً – حق المتهم في التعويض : المقصود بحق المتهم في التعويض هو حقه في الحصول على ما يجبر الضرر ممن أوقعه به أو تسبب في وقوعه بخطئه . وقد نصت المادة 9 (5) من العهد الدولي : لكل شخص كان ضحية توقيف أو اعتقال غير قانوني حق في الحصول على تعويض.

كما نص المبدأ 35(1) من مجموعة المبادئ : يُعوَض وفقاً للقواعد المطبقة بشأن المسؤولية والمنصوص عليها في القانون المحلي، عن الضرر الناتج عن أفعال لموظف عام تتنافى مع الحقوق الواردة في هذه المبادئ أو عن امتناعه عن أفعال يتنافى امتـناعه عنها مع هذه الحقوق .

والضرر المقصود هنا هو الضرر الذي يصيب المضرور في جسمه أو ماله أو شرفه أو عواطفه والتعويض يشمل على اتساعه كل أنواع الضرر ويتحدد مقداره بمدى جسامة وفداحة آثاره . ففي توجيه التهمه بلا مسوغ إضرار يلحق المتهم في كرامته وسمعته ، ورغم أن بعض هذه الأضرار معنوية إلا أن لها تأثيرها على الجوانب المادية فالتاجر على سبيل المثال تتأثر تجارته بما يتخذ حياله من إجراءات مقيدة لحريته .

إن تعويض المتهم مما لحق به من ضرر أمر لا اختلاف فيه فقد ذهبت اللجنة المعنية لحقوق الإنسان في التعليق العام رقم 20 في الفقرة 15 إلى القول : وقد لاحظت اللجنة أن بعض الدول قد منحت العفو فيما يتعلق بأفعال التعذيب وبصورة عامة فإن حالات العفو غير متماشية مع واجب الدول بالتحقيق في هذه الأفعال، وبضمان عدم وقوع هذه الأفعال في إطار ولايتها القضائية ؛ وبضمان عدم حدوث هذه الأفعال في المستقبل. ولا يجوز للدول حرمان الأفراد من الحصول على إنصاف فعال، بما في ذلك الحصول على تعويض وعلى أكمل رد ممكن للاعتبار .

ولكن بالرجوع إلى القوانين الجنائية السودانية فقد نصت على مجموعة من القواعد العامة مثل : ( لا ضرر ولا ضرار ) وكذلك ( الضرر يجبر ) والتي من شأنها تعويض المتهم عن كل ضرر ألحقه به الشاكي متى كان ادعاؤه لا يقوم على أساس وكذلك إذا صدر الضرر من موظف عام قام بفعله بسوء نية . ولكن ما يثير الجدل هو إن أتى هذا الفعل الذي رتب الضرر موظف بحسن نية . و مثاله أن يأتي الموظف العام الفعل الداخل في اختصاصه على خلاف ما تقضي به القوانين معتقداً بحسن نية ( دون إهمال ومع الثبت والتحري الكافيين ) بأنه متسق مع القانون كالأمر بإلقاء القبض على شخص غير متهم . في هذه الحالة يستظل الموظف العام تحت مظلة المادة 11 من القانون الجنائي لسنة 1991م والتي تنص على : ( لا يعد الفعل جريمة إذا وقع الفعل من شخص ملزم بالقيام به أو مخول له القيام به بحكم القانون أو بموجب أمر مشروع صادر من السلطة المختصة ، أو كان يعتقد بحسن نية أنه ملزم به ، أو مخول له القيام به ) . فبالرغم من أن المسؤولية الجنائية سقطت عنه إلا أن الدولة يجب أن تتحمل وزره ما دام أن الفعل وقع بحسن نية وتدفع التعويض المناسب لمن انتهكت حريته ، لأن مخالفة اللوائح أو القوانين تعتبر صورة قائمة بذاتها ومستقلة تترتب عليها مسؤولية الجاني ولو لم تتوافر أي صورة من صورة الخطأ إذ يتحقق الخطأ في هذه الصورة بمجرد ارتكاب سلوك يخالف ما تقضي به اللوائح ولو كان هذا السلوك لا يتنافى مع واجب الحيطة والحذر.