الطلاق و آثاره بين القانون و الشريعة و مقاصدها
نعلم جميعا أن القواعد القانونية المنظمة للأسرة و الأحوال الشخصية استقاها المشرع من الشريعة الإسلامية و فقه المذاهب المختلفة و خاصة الفقه الحنفي.

لكن السؤال الذي أطرحه؟ هو مدى توافق هذة القواعد المستقاة من الشريعة و التي قال بأغلبها فقهاء عصور لم تكن مجتمعاتهم مثيلة لمجتمعاتنا، مع مقاصد الشريعة الغراء؟ إذ يعتقد البعض أن قواعد الأحوال الشخصية و الأسرة هذه هي الشريعة التي يأثم من يزيد عليها أو ينقص منها و يحتجون بها على غيرهم، متخذين لفظتي الشرع و القانون دروعا و متاريس، قائلين هذا هو قول الشرع و القانون، هل تريد مخالفة الشرع؟ و هو قول يصادر حق النقاش و الحوار.

لنأخذ مثلا مسألة الطلاق. هذا الحق الذي منحه الفقهاء الأول للرجل الذي كثيرا ما تعسف و تلاعب بهذا الحق. هذا دون إلزامه إلا بالقليل الذي لا يسمن و لا يغني من جوع في ظل قواعد المجتمع و أعرافه غير المنصفة و المتحيزة مما ألحق بالمرأة و الطفل ضررا بالغا و تركت للرجل القول الأخير دون ضابط منتظم.

إذا كان المشرع القانوني قد استحدث ضوابط انعقاد الزواج من تطلب الاشهار و الاثبات الكتابي أمام موظف أسماه المأذون له من القاضي. و هو اجتهاد لم تقل به نصوص القرآن و السنة و لا اجتهاد الفقهاء الأوائل، لكنه يدخل في جواز الاجتهاد و استحداث ولي الأمر ما يحق الحق و ينظم الشأن و يضبط المصلحة.

لذا لا أجد حرجا في دعوة المشرع إلي ضبط وقوع الطلاق واثباته عن طريق قاض شرعي متخصص و أن يوجب على الزوجين خلال فترة العدة اللجوء إلي جلسات اصلاح تحت اشراف أخصائي اجتماعي على أن يصدر الحكم بوقوع الطلاق بعد التثبت من استحالة الاصلاح بانتهاء فترة العدة. إن نص قانون رقم ١ عام ٢٠٠٠ بشأن تنظيم التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية بمادته الرابعة على أنه يمكن للمحكمة أن فى إطار تهيئة الدعوى للحكم تبصرة الخصوم فى مواجهتهم بما يتطلبه حسن سير الدعوى ، ومنحهم أجلا لتقديم دفاعهم .

ولها أن تندب أخصائيا اجتماعيا أو أكثر لتقديم تقرير عن الحالة المعروضة عليها أو عن مسألة فيها . وتحدد أجلا لتقديم التقرير لايزيد على أسبوعين .

ليس كافيا إذ يترك للقاضي مسئولية تقدير حاجة الأطراف لجلسات إصلاح بينما بتقديري أنه يجب أن يمر المطلقين بمثل هذه الجلسات أمام مختص يرفع تقريرا استشاريا يقدر على القاضي على ضوئه الحالة المعروضة عليه.

إن الوضع القانوني الحالي يخالف منطق العقد بشكل فاضح. فما من أحد يجادل في كون الزواج عقدا ينعقد بين طرفين الزوج و ولي الزوجة أو الزوجة نفسها على مذهب أبي حنيفة. فإذا كان انعقاد العقد يتطلب التحام إرادتين فإن انتهاء العقد لا ينبغي أن يكون بإرادة منفردة في زمن يتعسف الجميع في استخدام الحق فضلا عما هو ليس بحق!

اقرأ بعناية نص المادة ٢١ من القانون رقم ١ عام ٢٠٠٠ المشار إليه سابقا
لايعتد فى إثبات الطلاق عند الانكار ، إلا بالاشهاد والتوثيق ، وعند طلب الاشهاد عليه وتوثيقه يلتزم الموثق بتبصير الزوجين بمخاطر الطلاق ، ويدعوهما إلى اختيار حكم من أهله وحكم من أهلها للتوفيق بينهما .

فان أصر الزوجان معا على إيقاع الطلاق فورا ، أو قررا معا أن الطلاق قد وقع ، أو قرر الزوج أنه أوقع الطلاق ، وجب توثيق الطلاق بعد الاشهاد عليه .

و هو نص يتيح مسالك غير مستقيمة في التعامل مع أمر جلل كالطلاق كأن يذهب الرجل منفردا مقررا أنه أوقع الطلاق فيثتب له ذلك بناء على طلبه دون أن يراجع الزوجة أو وليها.

هكذا يمنح القانون ساترا يستتر وراءه حين يريد بها ظلما أو نكاية أو يخشى مواجهة المطلقة أو وليها!! مما لاشك فيه أن هذا الوضع لا يتيح فرصة للإصلاح كما أراد النص القرآني المشرع للطلاق، فلا يكفي أن يطلب القانون من الموثق أن يبصر الزوجين بمخاطر الطلاق و يدعوهما إلها اختيار حكمين من أهليهما في جملتين يقولهما شفاهة و هو يسطر أوراق الطلاق من باب ابراء ذمته!! أي جهة تراقب هذا المأذون له القاضي الموثق سوى ضميره، ترى هل يكفي ذلك ضمانا في ضوء ما يعرفه الجميع عن الضمائر التي تتغذى من تحت الطاولة.

إن رفع الأمر أمام قاض مختص محكوم بقانون و قواعد مهنية و علانية أعماله له أمر ضروري لتتثبت من أمر الطلاق بعيدا عن غرف الموثقين فوق أسطح المنازل.

لعل هناك من يقول أن ما أدعو إليه ليس من الشرع في شئ، لكنه إذا تمهل و نظر مليا لوجد أولا أن الشارع قد
انتهج سابقا مثل هذا الاجتهاد كما أشرت سابقا في ضبط انعقاد الزواج بما لم يقل به الأوائل من الفقهاء و لكنه مما يدخل في سلطة ولي الأمر و مما يستجيب لاحترام مقاصد الشريعة من حفظ الحقوق في أزمان فجرت فيه النفوس و شط الناس في معاملاتهم و معاشهم.

و ثانيا أن ما يعرف بالزواج العرفي هو زواج قد تكتمل في أغلب صوره شروط انعقاد و صحة الزواج التي تحدثت عنها مذاهب الفقه الكبري. إلا أن العوام و الخواص و كذا المشرع القانوني نظر إلي هذا الزواج نظرة ريبة و شك إن لم تكن نظرة تحريم.

الشاهد أن التجديد أمر مطلوب لاستمرار تطبيق شرع ربنا. و هو تعالي من رحمته بنا شاء أن تكون قواعده هي قواعد الحد الأدني لنضيف إليها ما يوافق زماننا و مكاننا مما يحقق مقاصد الشريعة الغراء.

ألا نكون مخطئين إذا اعتقدنا أننا أدينا واجبنا بتطبيق الشرع و القانون بمجرد أداء الحد الأدني دون التفات و عناية بالمقاصد الشرعية الكلية من عدل و قسط.

دعني أستعين بمثال الصلاة المكتوبة التي يتعين علينا إقامتها، إذ يعلمنا أهل العلم أن إقامة الصلاة ليست هي فقط تلك القراءة و الركوع و السجود. بل الإقامة إنما تعني التدبر و الخشوع و تعقل المعاني ليكون ذلك زاد المؤمن في الدنيا بعد أن يخرج من صلاته إلي سوق الحياة الدنيا إلي أن يعود مرة أخري في الصلاة اللاحقة.

إن كثيرا مما سيأتي في السطور التالية يستند إلي الإيمان بتكريم الإسلام للمرأة و مساوته لها بالرجل في المقام
و إن قبل الاختلاف بينهما في المهام كما جاء في قراءة د.صلاح سلطان عن وضع المرأة في الشريعة الإسلامية.

إن نظرتنا للطلاق و آثاره لهي شديدة الارتباط بنظرتنا للزواج..ثمة من يري في الزواج أن الرجل يتخذ زوجة يضاجعها و تقوم بمأكله و ملبسه و تربية عياله و هو منطق متخذي العبيد و الخدم و ملك اليمين، و هي نظرة تخالف برأيي منطق الاسلام و مقاصد الشريعة الغراء. فالعدل و القسط و المساواة و هي القيم و المقاصد التي حث عليها الشارع، كل ذلك و غيره من المقاصد النبيلة يدعو إلي الوسطية و الرشد في تقرير القوانين و القواعد بما يحفظ مقامات و حقوق جميع الأطراف.

لعل النظرة الأصح و الأقرب إلي سماحة الإسلام و قيمه العظيمة ترى في الزواج شراكة بين مكلفين راشدين تتوزع بينهما المهام اتفاقا حينا و عرفا حينا أخري. فشريعة الإسلام كما قدمنا ساوت بين الرجل و المرأة في المقام و إن نوهت إلي اختلاف المهام في بعض الأحيان و هو منطق يجعلنا ننظر إلي الزواج على أنه شركة يفترض أن يسودها الود والرحمة و التشاور و التكريم و إن اختلفت أدوار كل من الزوجين. فإذا ما وقع شقاق و استحكم الخلاف و وقع الطلاق فإن مقاصد الشريعة من العدل و المساواة تفترض أن يفترق الزوجين و قد تقاسما كشركاء لا يغبن أحدهما الآخر حتى و إن استند إلي قواعد الحد الأدنى الشرعية.

 

أموال الزوجية
سعيا إلي تدعيم المساواة و العدل بين الزوجين صبيحة اليوم التالي لوقوع الطلاق على الأقل من الناحية المالية و الاقتصادية، أدعو المشرع القانوني إلي استحداث ما يمكن أن نسميه أموال الزوجية التي يتقاسم قيمتها المطلقين كقاعدة نظام عام لا يجوز مخالفتها بالاتفاق قبل وقوع الطلاق مع السماح بالتنازل عن المقاسمة أمام قاض التطليق أي بعد وقوع الطلاق.

اقترح حصر هذه الأموال في أموال معدودة يحددها المشرع القانوني مثلا مسكن الزوجية شاملا منقولات الزوجية و مركبة التنقلات الأسرية ( السيارة) و يستبعد من أموال الزوجية ما يؤول إلي أي من الزوجين وراثة أو هبة أو وصية قبل أو بعد انعقاد الزواج و كذلك الأموال التي تعطي بعقد الزواج (كالمهر و الشبكة) و الحسابات البنكية و غير ذلك من الأموال.

أخيرا تحديد قواعد حساب و قسمة أموال الزوجية لتشمل تحديد قيمة هذه الأموال ثم تحديد قيمتها الصافية بعد خصم ما عليها من ديون و التزامات و أخيرا تحديد القيمة المقتسمة.
و لعل مشرعنا يستنير بتجارب شعوب أخرى فالحكمة تطلب و لو في الصين
Family Patrimony أثار تقنين أموال الزوجية

مما لا شك فيه أن غلاء المهور و مؤخرات الصداق لهو واحد من أسباب تأخر الشباب عن الزواج. كما أن قلق الأب و الأسرة على مستقبل كريمتهم قد يدفعهم إلي الشطط في الطلب.

لذلك لعل في استحداث نظام أموال الزوجية ما يطمئن الأسر على مستقبل أولادهم.

هذا النظام قد يعطي الزوجين و الأهل فرصة التروي و التفكير المنطقي في اختيار شريك حياته الزوجية.

قد يتصور البعض أن مثل هذا النظام هو وسيلة إثراء، و هو تصور خاطئ. فالأموال التي تعد ضمن أموال الزوجية معدودة و لها شروط قبول و احتساب يضعها المشرع. كما أن احتسابها لا يكون مسبقا بل هو مرجآ إلي وقوع الطلاق. فضلا عن أن تقنين وقوع الطلاق أمام قاض شرعي و بعد جولات اصلاح أمام اخصائي اجتماعي و أسري كل ذلك يكشف التلاعب و المراوغة مما قد يستدعي تدخل القاضي لتعديل القسمة و تسبيب حكمه بذلك.

الخوف على الأولاد و الميراث

إذا كنا قد عالجنا الطلاق بين الزوجين، فإين حقوق الأولاد؟
فرق القانون بين المطلقة الحاضنة و غير الحاضنة، فأثتب للأولي نفقة حضانة و منع عن الثانية و هو أمر مفهوم تماما لتكمل الأم مهمتها لصالح الأولاد دون أن تنشغل بالسعي على رزقها.
أما الميراث و ما ينشأ عنه من حقوق، فهو أمر لا يمكن حسابه مقدما، فكما نقول الأعمار بيد الله. من يدري من يرث من؟

إن القسمة بين المطلقين هي قسمة بين أحياء. بين شريكين عملا سويا و حين قررا أو تقرر انفصالهما ينبغي أن يكون هناك قسمة عدل.

لأن هذا يتعلق بحق كل منهما في الشركة، أما الميراث فإنه يحتسب بعد الوفاة فلا تضيع حقوق الزوجين بوقوع الطلاق خوفا على مواريث هذا أو ذاك و كأننا نعلم ساعة قبض الروح أو نعلم إذا ما كان نملكه اليوم ستطلع عليه شمس الغد و هو لا يزال ملكا لنا.

رحلة عمر

سيناريوهات عديدة يمكن أن نتخيلها، منها الرجل يتقدم إلي الزواج و هو لا يملك شيئا و يستمر الزواج سنوات طويلة. هو يكد كادحا خارج البيت و هي تكدح داخل البيت و يكنزا مالا و عقارا و يتعهدا عيالهما بالتربية و التقويم ثم يدب الخلاف و يقع الانفجار. هل من العدل أن يذهب الرجل بالجمل بما حمل دافعا إلي المرأة نفقة متعة و عدة قد تعينها شهورا قليلة لتجد المرأة نفسها بعدها مهددة ماديا و هي قد كدحت و تعبت تماما كما تعب الرجل كل في مجاله و مهامه.

هذه المرأة التي كبرت في السن تماما كما كبر الرجل، هذه المرأة غير المؤهلة للعمل و السعي خارج البيت لأنها لم تلق تعليما لائقا و لم تكتسب خبرة لتجد نفسها و قد تخطت الخمسين بحاجة إلي دخول سوق العمل حتى لا تعيش عالة على أب أو أخ أو ولد.
بينما يذهب الرجل بكل شئ.

إن الزواج رحلة عمر قد تطول أو تقصر تماما كسائر حيواتنا. من منا يريد أن تنتهي حياته ظالما لغيره؟ من منا يريد نهاية حياته بغير إحسان و لا معروف؟

مختصر القول

إن الشريعة ليست ما اجتهده الفقهاء القدامي، فلا ريب أن لكل زمان و مكان فقهاء يستحدثون ما يكمل قواعد الحد الأدني التي جاءت في النصوص الشرعية لتحقيق مقاصد الشريعة الغراء و إقامة ما ابتغاه الشارع الحكيم من افشاء السلام و المعروف.إن مجتمعنا في حاجة إلي تفقه واقع أبغض الحلال عند الله أي الطلاق و ضبط آثاره على مقاصد الشرع فما كان ما تقدم إلا اجتهادا في هذا الاتجاه و الله و رسوله أعلم.