مقال قانوني مميز حول مميزات التحكيم في فض منزاعات التجارة الدولية

المزايا الإجرائية للتحكيم في منزاعات التجارة الدولية

أولا: الســرية:

إذا كانت جلسات المحاكمة لدى محاكم الدولة تتم علانية، بل لا يسوغ للمتقاضين المطالبة بإجرائها سرية، لأن العلانية مبدأ شكلي وضمانة من ضمانات التقاضي الأساسية، فإن جلسات التحكيم المبدأ فيها هو أن تتم في سرية تامة تضمن لأطراف الخصومة حجب أسرار معاملاتهم عن الغير بل وعن بعضهم البعض.[1]
وإجراءات التحكيم تتم في أضيق نطاق من حيث الأشخاص المشتركين فيها ويحرص المحكم على حل المنازعات بأقل قدر ممكن من العلانية، فإفشاء أسرار المعاملات التجارية قد يرتب أبلغ الأضرار بأصحابها الذين يتنافسون على الأسواق الدولية بمنتوجاتهم التي يفضلون إبقاء أسرار إنتاجها داخل أسوار وحدات إنتاجهم.

كما إن بياناتها والمفاوضات التي تتم بشأنها هي جزء من رأسمالهم، مثال ذلك، عقود نقل التكنولوجيا والمعرفة الفنية في مجالات تصنيع الأدوية وتصنيع الأقمار الاصطناعية … فالتحكيم هو فقط الذي يحفظ هذه الأسرار في جميع مراحل الخصومة.[2]

وتؤكد على مبدأ السرية العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتحكيم التجاري الدولي، وأنظمة الهيئات الدولية للتحكيم وكذلك التشريعات الوطنية ذات الصلة فأثناء سير إجراءات المرافعة مثلا “تكون جلسات المرافعة وسماع الشهود سرية، ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك”[3]، ولا تكون الجلسات مفتوحة لأشخاص أجانب عن الإجراءات، ما لم يتفق الأطراف ومحكمة التحكيم على غير ذلك”[4] ولأعمال هيئة التحكيم طابع السرية، الذي يتحتم على كل شخص يشترك فيها، بأي صفة كانت، مراعاته”، “ولا تبلغ الوثائق المقدمة للمحكمة الدولية للتحكيم أو الصادرة عنها بمناسبة الإجراءات التي تجريها إلا لأعضاء المحكمة.”[5]
وفي أثناء الإجراءات “تعتبر كل المعلومات المقدمة من الأطراف طالبي التوفيق أو التحكيم سرية، ويجب على كل من اطلع عليها بحكم وظيفته عدم إفشاء ما فيها إلا بموافقة الطرفين أو بطلب من جهة قضائية مختصة.”[6] وبعد صدور الحكم” لا يجوز نشر قرار التحكيم إلا بموافقة الطرفين”.[7]

ثانيا: الســرعة:

سرعة الفصل في النزاع ميزة، يحققها التحكيم، وهي بهذه الصفة، بالنظر إلى واقع قضاء الدولة الذي يتسم بطول مساطره وقدسية بعض قواعده الشكلية، مما يطول معه أمد التقاضي[8]، الأمر الذي يكون عادة مرهقا كلما تعلقت القضية بالتجارة عموما والتجارة الدولية بصفة خاصة، نظرا لحجم المعاملات وقيمتها النقدية التي قد تتأثر سلبيا بهذا التأخير، وتتحقق سرعة الفصل في النزاعات أمام التحكيم لعدة أسباب منها قلة شكلية الإجراءات المتبعة من طرف هيئة التحكيم، و تفرغها لنظر النزاع…
وتحرص التشريعات المختلفة، الاتفاقية أو الوطنية، وكذلك أنظمة وقواعد مؤسسات ومراكز التحكيم على تحقق هذه السرعة عن طريق تحديد آجال قصيرة لسير التحكيم.

ومثال ذلك بالنسبة لتشكيل هيئة التحكيم (المادة 17) من قانون التحكيم المصري، والفصل 5-327/2 من قانون المسطرة المدنية المغربي المعدل بالقانون 05-08، والمادتان 7 و6 من قواعد الأنسترال لعام 1976، والمادة 38 من اتفاقية واشنطن (1956) والمادة 18 من اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري لعام 1987، وبالنسبة لرد المحكمين (المادة 19 من قانون التحكيم المصري، المادة 11 من قواعد الأنسترال والمادة

170 من لائحة إجراءات التحكيم التجاري لدى مركز التحكيم لدول مجلس التعاون الخليجي لعام 1994) وكذلك الأمر بالنسبة لميعاد إصدار القرار (المادة 45 من قانون التحكيم المصري، والفصل 17-327 من قانون المسطرة المدنية المغربية، لمعدل بالقانون رقم 05-08، والمادة 31/3 من اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري…) وبالنسبة لتصحيح القرار (المادة 36 من قواعد الانسترال 1976، والمادة 49/2 من نظام مركز واشنطن 1965، والمادة 33 من القانون النموذجي، والمادة 21/ب من اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة للاستثمارات العربية، بين مواطني الدول العربية الأخرى، والمادة 17 من نظام محكمة تحكيم لندن…) ونفس الأمر بالنسبة لمواعيد رد المحكم أو طلب تفسير القرار أو الطعن فيه.
وكل هذه النصوص الغاية من إقرارها هو تحقيق سرعة الفصل في النزاعات، هذه السرعة التي تنسجم مع خصوصيات التجارة الدولية التي لا تتحمل بطء وتعقيدات إجراءات التقاضي أمام محاكم الدولة.[9]
وبالإضافة إلى الأمثلة السابقة على تدخل التشريعات في تحديد مهل سير خصومة التحكيم وإصدار القرار التحكيمي، تخول بعض التشريعات لأطراف النزاع إمكانية تحديدهم لهيئة التحكيم مهلا يتقيدون بها أثناء نظرهم في النزاعات.[10]

ثالثا: كفـاءة المحكـم وحياده:

لا يشك أحد في الكفاءة القانونية لقضاة الدولة، لكن في المقابل هم قليلو الخبرة الفنية كلما تعلق الأمر بشؤون التجارة الدولية[11]، الأمر الذي يستدعي الاستعانة بخبراء فنيين، ومن أمثلة ذلك، المنازعات المتعلقة بمسؤولية المقاول أو المهندس أو الناقل البحري أو التي لها ارتباط بالتكنولوجيا… فالقاضي مهما كان تخصصه (لجوء بعض الدول إلى نهج سياسة قضائية متخصصة، كالمحاكم التجارية مثلا في المغرب)، يبقى عاجزا في الكثير من الأحيان عن إيجاد الحلول للقضايا المعروضة عليه خاصة وإن بعضها تحكمها الأعراف والعادات المهنية التي لا يمكن للقاضي الإحاطة بها جميعا، مما يستدعي كما سلف تعيين خبير فني ليكشف عن مضامينها،[12] وهذا فيه مضيعة للوقت من جهة وزيادة في مصاريف التحكيم وتوسيع نطاق الأشخاص الذين يطلعون على أسرار وتفاصيل المنازعة الأمر الذي يضر مبدأ السرية. وأمام هذا أليس من المفيد طرح النزاع مباشرة على فني أو خبير[13]؟.

وتبقى حيادية المحكم ميزة إضافية لهذا الطريق الخاص لفض النزاعات (التحكيم) فالمحكم غير خاضع لأية جهة ولا لأي قانون وطني، فهو لا يصدر قراراته باسم سيادة دولة معينة[14] وغير ملزم بتطبيق القوانين الوطنية لأنه لا ينتمي لأي واحد منها، وهذا يجعله أيضا بعيدا عن التأثر بها تحت دافع الوطنية.
إن مميزات التحكيم عديدة بالمقارنة مع واقع القضاء النظامي الذي يعرف أمراضا مزمنة، تطرقت إلى بعضها، وهي تختلف من بلد لآخر وتؤثر فيها بالزيادة أو بالنقصان عدة عوامل كعدد السكان ومستوى النمو الاقتصادي ونوع النظام السياسي ومدى سيادة مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان… وهذه المميزات ينظر إليها حسب مصلحة كل طرف وحسب نوع المعاملات موضوع المنازعة.
وأختم هذا الفرع بتقرير إن التحكيم هو قضاء التجارة الدولية، ويساهم في نموها وازدهاره. هذا القضاء الذي ساعد على نجاحه أطراف النزاع ودليل ذلك هو استمرار علاقاتهم بعد صدور القرار التحكيمي وهذا قلما يتحقق عند اللجوء إلى القضاء الرسمي.

منقـــــول

[1] – في هذا المعنى أنظر: د محسن شفيق، التحكيم التجاري الدولي (دراسة في قانون التجارة الدولية) م.س.ص 28 وما بعدها –و د. ناريمان عبد القادر اتفاق التحكيم م.س ص 65 وما بعدها.

[2] – د. أحمد عبد الكريم سلامة، قانون التحكيم التجاري والداخلي (تنظير وتطبيق مقارن) الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، عام 2004، ص 131.

[3] -المادة 21/4 من لائحة إجراءات لدى مركز التحكيم التجاري لدول مجلي التعاون الخليجي لعام 1994 والمادة 25/4 من قواعد الأنسترال تنص أن لا تكون جلسات المرافعة الشفوية وسماع الشهود مغلقة، ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك”.

[4] – المادة 21/4 من لائحة إجراءات غرفة التجارة الدولية بباريس لعام 1998.

[5] – الفقرة الثالثة من المادة الأولى من النظام الداخلي للمحكمة الدولية للتحكيم بغرفة التجارة الدولية.

[6] – المادة 7 من نظام التوفيق والتحكيم لغرفة تجارة وصناعة دبي لعام 1994 وتنص المادة 13/ج من نظام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس القانون الخليجي لعام 1993 على أن “فيما عدا قائمة أسماء المحكمين تكون أوراق ومستندات المركز سرية لا يجوز لغير أطراف دعوى التحكيم والمحكمين الاطلاع عليها أو أخذ صورة منها إلا بموافقة صريحة من أطراف النزاع أو إإذ رأت هيئة التحكيم ضرورة لذلك للفصل في النزاع”.

[7] – المادة 32/5 من قواعد الأنسترال لعام 1976، والمادة 48/5 من اتفاقية واشنطن لعام 1965 ونفس الموقف تبناه المصري في القانون 27/94 (المادة 44/2) وكذلك المشرع المغربي في ق 05/08 المعدل لقانون المسطرة المدنية (1974) في الفصل27/327.

[8] – د. أحمد عبد الكريم سلامة، قانون التحكيم التجاري الدولي والداخلي (م س.ص 136).

[9] – د.أحمد شرف الدين، دراسات في التحكيم في منازعات العقود الدولية، القاهرة، 1993.ص 23.

[10] – ناريمان عبد القادر، اتفاق التحكيم، م.س.، ص 68 وما بعدها.

[11] – انظر د. محسن شفيق، القانون التجاري الدولي، م.س.ص 30

[12] -د. مصطفى الجمال، د عائشة عبد العال، التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية، م س ص 26 وما بعدها.

[13] – د. محسن شفيق، القانون التجاري الدولي، م.س ص 130.

[14] – في هذا المعنى انظر د. جورج حزبون النظام القانوني للتحكيم الأجنبي في القانون الداخلي مجلة الحقوق الكويت، ع 4 السنة 11، دجنبر 1987، ص 189-190.