مقال قانوني مميز بعنوان مجلس الأمن في عالم متحول

واقع الانحراف ومتطلبات الإصلاح
إدريس لكريني*

مقدمة

يحتل مجلس الأمن مكانة بارزة ومهمة ضمن الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة، ذلك أن الميثاق منحه اختصاصات وسلطات واسعة في سبيل تحقيق السلم والأمن الدوليين، فهو الذي يحظى بسلطة الإقرار بالحالات المهددة أو المخلة بالسلم والأمن الدوليين أو وقوع حالات العدوان، وهو الذي يحتكر سلطة استعمال الوسائل الزجرية لمواجهة القائمين بهذه الأعمال، سواء في شقها المرتبط باستعمال القوة العسكرية أو بإعمال الضغوط الاقتصادية والسياسية.. الأخرى، كما أن قراراته تتميز بقيمتها القانونية الحاسمة وقوة نفاذها.

وإذا كانت ظروف الحرب الباردة قد ألقت بظلالها على هذا الجهاز، وأسهمت بشكل كبير في شله، فإن الظرفية الدولية التي تمخضت عن انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، وما تلاها من انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة الدولية، سمحت بتفعيل هذا الجهاز بعد زهاء نصف قرن من الركود. غير أن الممارسة الدولية ومن خلال مقاربة المجلس للعديد من المنازعات والقضايا الدولية، أثبتت بما لا شك فيه أن هذا التفعيل تم بشكل منحرف وعلى حساب مقومات المشروعية الدولية، وكشف عن مكامن خلل قانونية وسياسية في هذا الجهاز، وهو الأمر الذي بلور رأيا قويا ما فتئ يدفع باتجاه المطالبة بإصلاحه ضمن رؤية إصلاحية شاملة للأمم المتحدة.

أولا: الحرب الباردة تفرض منطقها على المجلس

عشية تأسيس منظمة الأمم المتحدة عام 1945 ، لم تكن شعوب العالم قد ضمدت جراحها التي خلفتها الحرب العالمية الثانية بعد، ولذلك كان الأمل المعلق على هذه الهيئة كبيرا نحو القضاء على كل ما من شأنه تعكير صفو العلاقات الدولية والإساءة للأمم والشعوب، من خلال الاستفادة من أخطاء الماضي وبخاصة هفوات عصبة الأمم، التي شكل اندلاع الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية بمثابة إعلان رسمي لوفاتها.

ففي عالم خلفت فيه الحروب – خاصة الحربين العالميتين الأولى والثانية – خسائر جسيمة في الأرواح والطبيعة والعتاد والمعمار..، جعلت هذه الهيئة من حفظ السلم والأمن الدوليين أهم مرتكز لوجودها (الفقرة الأولى من المادة الأولى للميثاق)، غير أنها ستصطدم في سبيل ذلك بمجموعة من الإكراهات والمعيقات.

ومن أجل تحقيق هذا المطلب العالمي الملح، نهجت هذه المنظمة – وبناء على ميثاقها-
مسلكين:

الأول: ذو طابع وقائي؛ ويتلخص في العمل على منع الأسباب المهددة للسلم والأمن الدوليين، وتوفير المناخ الدولي الملائم والمناسب لخلق علاقات دولية ودية، يطبعها التعاون والإخاء و”جعل هذه الهيئة مرجعا لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة” (الفقرة الرابعة من المادة الأولى من الميثاق)، وتبني مجموعة من المبادئ التي ألزمت بها المنظمة نفسها وكذا أعضاء المجتمع الدولي (المادة الثانية من الميثاق الأممي)، من قبيل: المساواة في السيادة بين الدول(الفقرة الأولى من المادة الثانية) وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية (الفقرة الثانية من نفس المادة) وفض النزاعات بوسائل سلمية (الفقرة الثالثة من نفس المادة) وعدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلا في العلاقات الدولية (الفقرة الرابعة من نفس المادة) وتقديم العون للأمم المتحدة (الفقرة الخامسة من نفس المادة) وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول (الفقرة السابعة من نفس المادة).

والثاني: ذو طابع علاجي، ويتلخص في تدخل المنظمة بأجهزتها (الجمعية العامة، مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية، الأمانة العامة) في حل المنازعات القائمة؛ بشكل سلمي أو بشكل زجري بواسطة المجلس.

لقد شكلت المحافظة على السلم والأمن الدوليين مطلبا ملحا للشعوب والأمم، في ظل الحروب والمآسي التي اجتازتها البشرية خلال النصف الأول من القرن الماضي، ولذلك جاء الميثاق الأممي مترجما لهذا الهاجس، حيث تمحورت فلسفته حول تحقيق هذا الهدف الأسمى، وفي هذا الإطار، احتل مجلس الأمن مكانة الريادة، بعدما خول له الميثاق مجموعة من الوسائل والسلطات. غير أن المشكلة طرحت بصدد مفهوم “السلم والأمن الدوليين” الذي ظل فضفاضا ويحتمل أكثر من دلالة ويخضع لتأويلات متباينة، على اعتبار أن الميثاق وإن كان قد أثار مصطلح “السلم” و”الأمن” أو “تهديد السلم” أو “الإخلال به” أو “العدوان”..، فإنه جاء خاليا من تحديد مفهوم دقيق لهذه المصطلحات المهمة والخطيرة في نفس الآن، رغم أنه حفل بالعديد من المبادئ – السابق ذكرها- التي يمكن أن تقارب في تكاملها وانسجامها مفهوما عاما للسلم والأمن الدوليين.

وبقراءة متأنية لبنود الميثاق، يتبين أن الغموض الذي شاب الميثاق في هذا السياق، كان القصد منه ترك هامش واسع للمجلس باعتباره المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين، لكي يصبح الجهة الوحيدة المؤهلة بسلطتها التقديرية لتحديد الحالات النقيضة لهذا المفهوم، وتوصيف ما إذا كانت تنطوي على تهديد أو إخلال للسلم والأمن الدوليين.. قبل مباشرة إجراءاته الزجرية للرد على هذه الممارسات(المادة 39 من الميثاق).

يتكون مجلس الأمن من خمسة عشر عضوا (المادة 23 من الميثاق)، – خلافا للجمعية العامة للأمم المتحدة التي يكون التمثيل فيها متاحا لكافة أعضاء الأمم المتحدة على قدم المساواة – خمسة منهم دائمون (الصين الشعبية، فرنسا، بريطانيا، الولايات المتحدة وروسيا) ويملكون حق الاعتراض، وعشرة غير دائمين، يتم انتخابهم من قبل الجمعية العامة بصفة دورية ولا يملكون. هذا الحق، وهي تشكيلة جاءت لتترجم الفوارق الموجودة بين الدول 1 إن السبل التي يعتمد عليها المجلس في سياق تسوية المنازعات وحفظ السلم والأمن الدوليين 35 و 99 من ، تتنوع ما بين وسائل سلمية، تتم من خلال النظر والتحقيق فيها (المواد 34
الميثاق) أو إعمال مقتضيات التسوية السلمية لتدبيرها (المادة 33 و 36 من الميثاق)، أو بشكل زجري وخاصة إذا ما تم تكييف النزاع من قبل هذا الجهاز بموجب المادة 39 من الميثاق، باعتباره يهدد السلم والأمن الدوليين أو يخل بهما أو باعتباره عملا عدوانيا، وذلك من خلال إعمال التدابير المؤقتة (المادة 40 من الميثاق) أو تدابير غير عسكرية مختلفة (المادة 41 من الميثاق) أو تدابير عسكرية (المادة 42 من الميثاق)، وهي التدابير التي تندرج ضمن ما يعرف بنظام الأمن الجماعي 2، الذي يحتل مكانة متميزة ضمن الوسائل اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، والتي أتاح عبرها الميثاق الأممي لمجلس الأمن الدولي إمكانية مواجهة الحالات النقيضة للسلم والأمن الدوليين بكل حزم وعبر كافة الوسائل الزجرية اللازمة.

ومعلوم أن الميثاق أحاط قرارات المجلس بنوع من الإلزام مقارنة مع قرارات باقي الأجهزة الرئيسية للأمم المتحدة.

ورغم هذه الإمكانيات الكبيرة التي انفرد بها المجلس، فإن تداعيات الحرب الباردة طالته، وأسهمت بشكل كبير في عرقلة مهامه، الأمر الذي انعكس سلبا بالتالي على نظام الأمن الجماعي وحال دون تطبيقه رغم وجود حالات استدعت تدخلات فورية زجرية من قبله، فقد ظلت مقتضيات هذا النظام معطلة ومجرد حبر على ورق، رغم بروز أزمات دولية خطيرة تندرج ضمن الحالات التي نصت عليها المادة 39 من الميثاق.

وهكذا ظلت مجموعة من القضايا والأزمات الدولية المتفاوتة الخطورة تدبر خارج مدار نطاق الأمم المتحدة، مما عرض السلم والأمن الدوليين للخطر خلال مرات عديدة، وذلك بسبب تضافر مجموعة من العوامل التي أفرزتها مرحلة الحرب الباردة، من قبيل: الصراع الإيديولوجي بين القطب الاشتراكي ونظيره الرأسمالي، وعدم اكتمال أدوات هذا النظام وآلياته بالإضافة إلى الإسراف في استعمال حق الاعتراض داخل مجلس الأمن وأخيرا إحلال مناطق. النفوذ محل نظام الأمن الجماعي 3
وأمام هذا العجز، قامت الأمم المتحدة بالبحث عن سبل جديدة لتجاوز شلل المجلس باعتباره الدعامة المفروضة لبناء هذا النظام.
وقد تمحورت الإجراءات التي ابتدعتها الأمم المتحدة في سبيل تجاوز هذا العجز 4 حول أمرين اثنين:

الأول: يتعلق بتطوير وتدعيم دور الجمعية العامة في مجال المحافظة على السلم والأمن 5 بتاريخ 4 نونبر / الدوليين؛ عبر تبني الجمعية ذاتها لقرار “الاتحاد من أجل السلم” رقم 377 1950 بأغلبية أعضائها، الذي يسمح لها بتحمل التزامات الأمم المتحدة المرتبطة بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين في حالة عجز المجلس عن أداء واجباته المتعلقة بهذا الشأن؛ جراء استخدام أعضائه الدائمين لحق الاعتراض (الفيتو).

والثاني: يرتبط بخلق عمليات لحفظ السلام في مناطق مختلفة من أرجاء العالم، وهذه العمليات وإن لم يتطرق لها الميثاق بصورة محددة ودقيقة، إلا أنها تطورت لتصبح أداة غير عسكرية لكبح النزاع في وقت حالت فيه قيود الحرب الباردة دون اتخاذ مجلس الأمن ما يسمح. به الميثاق من خطوات أشد قوة 5 ويعتبر استخدام قوات عسكرية تحت إمرة الأمم المتحدة بهذا الشكل، من ابتكارات هذه. المنظمة في حقل المحافظة على السلم والأمن الدوليين 6 ويطلق اصطلاح عمليات حفظ السلام على تلك الإجراءات التي اتخذتها الأمم المتحدة لتهدئة الصراعات المسلحة والنزاعات السياسية الحادة، حيث اتخذت هذه الإجراءات صورا مألوفة، أهمها قوات حفظ السلام والمراقبون الدوليون العسكريون، ومهمات المساعي الحميدة،. بالإضافة إلى ممثلي الأمين العام في كل نزاع على حدة 7 وأمام هذه الوضعية، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، أضحى تفعيل المجلس أمرا ملحا وضروريا.

ثانيا: بين مطلب التفعيل وواقع الهيمنة الأمريكية

شكل سقوط الاتحاد السوفييتي محطة تحول تاريخية في مسار العلاقات الدولية، فبعد انشغال العالم بهاجس الحرب الباردة، التي حالت دون الالتفات إلى قضايا واهتمامات دولية أخرى أكثر أهمية وحيوية، مثلت بداية التسعينات من القرن المنصرم مرحلة حاسمة في رسم معالم واقع دولي جديد. وهكذا بدأ الاهتمام بالعديد من القضايا التي ظلت منسية ومهملة طيلة زمن الحرب الباردة، من قبيل: تشجيع التحولات الديموقراطية في العالم ودعم حقوق وحريات الإنسان ومحاولة إيقاف التدمير والتلوث اللذان يطالان البيئة وكذا مكافحة “الإرهاب” والجريمة المنظمة..

كما ساد شعور دولي قوي بضرورة إعادة المصداقية والدينامية لمنظمة الأمم المتحدة عموما ومجلس الأمن على وجه الخصوص، حتى يساهما في تحقيق السلم والأمن الدوليين المنشودين، وبخاصة وأن هذا الانهيار الذي شهده المعسكر الشرقي ستتمخض عنه العديد من النزاعات العرقية والإثنية.. في مختلف بقاع العالم.

وإذا كانت العديد من دول العالم قد دخلت هذه المرحلة الجديدة من تطور المجتمع الدولي خائرة القوى ومثقلة بالمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والديون..، مثلما هو الشأن بالنسبة لرابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي وجل بلدان أوربا الشرقية والعديد من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية وبعض دول آسيا، فإن العديد من دول الشمال خرجت من هذه الفترة منتصرة وقوية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة التي اعتبرت انهيار الاتحاد السوفييتي بمثابة انتصار لها ولنظمها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية..

وفي غمرة هذه التحولات الدولية المتسارعة التي بشرت خلالها الولايات المتحدة ببزوغ فجر جديد و”نظام دولي متميز وجديد”، شكل تفعيل الأمم المتحدة وبخاصة جهازها الرئيسي مجلس الأمن مطلبا جماعيا، غير أن هذا التفعيل تم بمنطق أحادي رسمت معالمه الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتبرت نفسها في ظل هذه المتغيرات زعيمة العالم والوصية على شؤونه الاستراتيجية.

وهكذا تمكن مجلس الأمن خلال هذه الفترة من إصدار قرارات تعادل ما أصدره في العشرين سنة الأولى من تأسيسه، وتم إرسال “الخوذات الزرقاء” إلى كل مكان، وبات الأمين. العام نفسه كشخصية لا يمكن تجاهلها في حل العديد من الخلافات 8 ولقد تبين مع اندلاع أزمة الخليج الأولى إثر اجتياح القوات العراقية للكويت، أن المجلس خرج عن صمته وتحرر من القيود التي فرضت عليه لفترة طويلة، وبالنظر إلى القرارات الجريئة والصارمة التي اتخذها في الأشهر الأولى لاندلاع هذه الأزمة، ساد اعتقاد بلغ حد اليقين بأن هذا الجهاز يسير قدما باتجاه تفعيل البنود المرتبطة بوظائفه التي جمدتها ظروف الحرب الباردة.

وهكذا وفي 31 يناير من سنة 1992 وخلال مؤتمر القمة للدول الأعضاء في مجلس الأمن، عمل هذا الأخير على بلورة مجموعة من الضوابط الجديدة للأمم المتحدة وللعلاقات الدولية من قبيل: رفض الإيديولوجيا ومكافحة “الإرهاب” والدبلوماسية الوقائية ثم تعزيز مهام مجلس الأمن؛ بالشكل الذي سيمكن الدول الكبرى المحتكرة لحق الاعتراض والعضوية الدائمة – الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص- من إدارة الشؤون الدولية بشكل منفرد.

وفي هذا السياق بدأت ملامح توسع مهام المجلس من خلال الممارسة الميدانية تزداد يوما بعد يوم، سواء على مستوى مجالات التدخل أو على مستوى آلياته. فأمام تزايد النزاعات الإثنية والعرقية التي اجتاحت العديد من الدول التي كانت تسبح في فلك موسكو، واندلاع حروب دامية بشأن الصراع على السلطة، وجد المجلس نفسه – باعتباره المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين- أمام نزاعات داخلية وإقليمية جديدة لا تخلو من تداعيات دولية خطيرة. كما أن انهيار المعسكر الشرقي وتراجع حدة التهافت على استعمال حق الاعتراض، مكنه من التصدي لقضايا جديدة أخرى اعتبر من شأن إهمالها تهديد السلم والأمن الدوليين، مثلما هو الشأن بالنسبة لمكافحة ظاهرة “الإرهاب” الدولي والجريمة المنظمة، والمحافظة على البيئة ونشر الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان..

وأضحت هذه القضايا ضمن قائمة أهم الأولويات على جدول أعماله، ونشير هنا إلى قراره 1991/688 الذي اعتبر فيه أن ما لحق بالأكراد في الشمال من قمع وخرق لحقوق الإنسان 1993 القاضي بالتدخل في الصومال من / يعد تهديدا للسلم والأمن الدوليين، وكذا القرار 794 أجل تطويق المأساة الإنسانية الناجمة عن تنامي الاقتتال بهذا البلد وانهيار مؤسسات الدولة.

1992 بصدد قضية “لوكربي” الذي اعتبر فيه أن قمع الأعمال الإرهابية يعد / وقراره 748 2001 الذي يقضي بضرورة / ضروريا للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، والقرار 1373 مواجهة الإرهاب الدولي بكل الوسائل السياسية والعقابية بما فيها تجميد أموال المشتبه في علاقتهم بالإرهاب، دون التمييز بين هذا الأخير وحق النضال والكفاح المشروعين ضد 1992 الذي نص على تشكيل هيئة مؤقتة للأمم المتحدة في / الاحتلال، ثم القرار 745 الكامبودج للمحافظة على السلم والأمن الدوليين والإشراف على عملية الانتخابات باتجاه 1993 الذي جاء في سياق التحولات الديموقراطية بهذا / “دمقرطة” البلاد، وكذا القرار 841 البلد وما ترتب عنها من أزمات إنسانية..

ومن ناحية أخرى شهد المجلس توسعا كبيرا على مستوى آليات عمله، وبخاصة على مستوى إحياء نظام الأمن الجماعي، وقد شكلت حرب الخليج الثانية محطة حاسمة لتحريك هذا النظام، بعد أن استرجع المجلس حيويته بعد سنوات من الحرب الباردة التي خيمت بظلالها على نشاطه وفعاليته 9، لينطلق بعد ذلك في تطبيق هذا النظام خلال العديد من المناسبات سواء بواسطة إجراءات عسكرية أو غير عسكرية، غير أن هذا التحرك سيثير مجموعة من الإشكالات والتساؤلات بفعل السيطرة الأمريكية على المجلس، مما أفرز مظاهر صارخة من استغلال المشروعية الدولية في إطار ما يعرف بسياسة “الكيل بمكيالين” وما نتج عنها من
تهميش لقضايا وأزمات دولية حيوية.

وفي نفس السياق، أسهمت هذه المتغيرات في حدوث تحولات جوهرية على عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، حيث تمكن المجلس من تنويع وتوسيع هذه العمليات، بعد أن استعاد حيويته وتحرره من الانقسام الحاد الذي عانى منه زهاء نصف قرن، الشيء الذي أثار قلقا. وتخوفا كبيرين في أوساط الدول النامية من مخاطر توسيع هذه العمليات 10

وتنطلق هذه العمليات في مرحلة ما بعد الحرب الباردة من مرتكزين:
الأول: هو استعادة الأمم المتحدة لحرية حركتها في تعقب مواطن التوتر في العالم وحرصها على التواجد الفوري في جميع هذه المناطق.
والثاني: هو الاستناد إلى خطة السلام التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1992 والتي وسعت نظرتها لهذه العمليات لتشمل الدبلوماسية الوقائية وصنع السلام وحفظ. السلام وبناء السلام 11

ويمكن تحديد مجموعة من المميزات التي أصبحت تتصف بها هذه العمليات:

-1 امتدادها إلى مناطق عديدة من دول العالم، وبخاصة في إفريقيا التي نالت حوالي 90 %من هذه العمليات (جيبوتي وإرتريا والصومال وناميبيا وجنوب إفريقيا والسنغال والصحراء الغربية ونيجيريا وبنين وبوروندي وسيراليون ومالاوي والسودان وكينيا وتشاد وأنجولا ورواندا..)، وبعض الدول بآسيا وأوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية.

-2 تنوعها وامتدادها لمجالات لم تكن مألوفة من قبل، ومن الأمثلة على ذلك نذكر: الإشراف على سير الانتخابات، كما حدث في كمبوديا سنة 1992 والإشراف على عمليات الاستفتاء مثلما تم في تيمور الشرقية أواخر التسعينيات من القرن الماضي، أو تسهيل اتفاقيات التسوية بين الأطراف المتصارعة على السلطة، كما هو الشأن بعمليات الأمم المتحدة في كل من الموزامبيق أو سيراليون سنة 1992 أو الإشراف على المناطق الآمنة وحماية إمدادات المعونة الإنسانية مثلما حدث في الصومال و في البوسنة والهرسك..

3- كما أن القوات المشاركة في هذه العمليات لم تعد مقتصرة على الدول غير الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وإنما أصبحت مفتوحة أمام كافة الدول.
-4 لم تعد هذه العمليات رهينة بإرادة الدول التي يتم التدخل فيها عند حصول أزمة معينة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بانهيار كامل لمؤسسات الدولة؛ مثلما حدث في الصومال في مطلع التسعينات، بل أصبح التدخل لمباشرة هذه العمليات يتم بناء على قرار صادر من مجلس الأمن في هذا الخصوص.

-5 أصبحت هذه العمليات مع توسعها وتعددها تتطلب إمكانيات مالية هائلة، غير أن هذا. الارتفاع الهائل لتكاليف هذه العمليات يقابله مردود سياسي متواضع 12

-6 يلاحظ تنامي وتزايد هذه العمليات بشكل كبير مقارنة مع فترة الحرب الباردة، ويشير الأمين العام الأممي السابق كوفي عنان إلى أن عدد القوات المشاركة في هذه العمليات تزايد بشكل كبير، فحتى سنة 1997 كان حوالي 22500 جندي وعنصر من عناصر الشرطة المدنية يخدمون في 16 بعثة في بلدان شتى من العالم 13 ومعلوم أن هذه العمليات لا تخلو من مجازفة ومخاطرة في بعض الأحيان، نتيجة لما تقوم به بعض الفصائل المتصارعة داخل الدولة التي تباشر فيها هذه العمليات من أعمال عدوانية وإرهابية ضد أفراد هذه القوات. فقد عرفت هذه العمليات مثلا، خسائر هامة في الأرواح بكل من البوسنة وكمبوديا والصومال وكوسوفو وسيراليون 14 ، فما بين سنة 1991 و 1995 قتل 456 فردا في بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام مقابل 398 ضحية في الفترة الفاصلة ما بين 15 1948 و 1990

وكان منطقيا أن تتوسع وتتطور هذه العمليات بعد أن تخلص مجلس الأمن الدولي من ركوده، ذلك أنه تمكن من اتخاذ 343 قرارا ما بين يوليو 1990 ويوليو 1995 ، فيما لم يتجاوز عدد  235 قرارا 16 ، القرارات المتخذة خلال الفترة الممتدة ما بين 1978 و 1990

وهكذا وفي الوقت الذي تزايدت فيه ملحاحية هذه العمليات مع تنامي المنازعات الدولية وتنوعها وتعقدها، برزت عدة صعوبات وإكراهات أثرت سلبا على مردوديتها وفعاليتها، وتباينت هذه الصعوبات والإكراهات بين ما هو مالي وعسكري ومعلوماتي.
فعلى المستوى المالي، نجد العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تمتنع عن تسديد
مستحقاتها من الحصص المالية المحددة لها في ميزانية الأمم المتحدة، مما يحرم هذه الهيئة من
الموارد اللازمة لتنفيذ برامجها ومهامها على أحسن وجه. ففي أغسطس من سنة 1995 بلغ
مجموع الاشتراكات غير المسددة حوالي 3,9 بلايين دولار منها 858,2 مليون دولار
للميزانية العادية و 3 بلايين دولار لعمليات حفظ السلام.
لقد تزايدت تكاليف هذه العمليات بشكل ملحوظ، ففي النصف الأول من عام 1992 ازدادت
تكاليفها أربعة أضعاف عما كانت عليه، بحيث ارتفعت من نحو 700 مليون دولار إلى حوالي
. 2,8 مليار دولار 17
ورغم أن المادة 19 من الميثاق الأممي أخذت بمنع الدول من التصويت داخل الجمعية العامة
كجزاء على عدم أداء مستحقاتها المالية في مواعيدها، فإن العديد من الدول لازالت تتماطل تارة
وتمتنع تارة أخرى عن أداء هذه المستحقات، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الأكثر
مديونية لفائدة المنظمة الدولية؛ والتي وصلت سنة 1999 إلى حوالي ألف وسبعمائة مليون
. دولار 18
ومعلوم أن هذه الصعوبات المالية تعمق التبعية المالية للمنظمة وتؤثر سلبا على استقلاليتها
ومصداقيتها.
أما بخصوص الصعوبات العسكرية، فرغم كون الميثاق الأممي أكد على ضرورة إنشاء قوات
،45 ، مسلحة قارة؛ تابعة للمنظمة في إطار هيئة أركان الحرب أو في إطار عرضي (المواد 26
47 من الميثاق)، فإن واقع الممارسة الدولية أثبت بشكل ملموس مدى الصعوبات التي لقيتها ،46
المنظمة في سبيل إعمال هذه البنود، ويلاحظ أن نسبة كبيرة من العمليات التي اضطلعت بها
القوات الأممية لم تحرز نجاحا يذكر، بل إن العديد منها سجل فشلا ذريعا في مهامه كما هو
.(1994- الشأن بعملية الأمم المتحدة في الصومال ( 1992

ويعود هذا الفشل في غالبيته إلى افتقاد المصلحة الجماعية فيما بين الدول والتي يمكن أن
تدعم هذه العمليات، إضافة إلى كون هذه القوات لا تتسلح إلا بأسلحة خفيفة نسبيا؛ وبالشكل
الذي لا يكون كافيا في الغالب لإحداث التوازن المطلوب مع الأطراف المتنازعة، مما يجعلها
غير قادرة على الردع أو بالأحرى حتى على الدفاع عن نفسها.
أما على الصعيد المعلوماتي وبالنظر إلى أهمية هذا العنصر في إنجاح عمليات الأمم
المتحدة للسلام، فيلاحظ أن معظم الوسائل التي تعتمد عليها المنظمة الدولية في تدفق
المعلومات إليها لإعمال جهودها السلمية، تتسم بالبساطة والبطء مقارنة مع تعقد الأزمات
وتصاعدها المتسارع والفجائي، لذلك ففهم الدينامية المعقدة للمنازعات ومظاهرها والكشف عن
مسبباتها ولاسيما في مراحلها الأولى، يتطلب وجود خبراء مختصين وأكفاء وإمكانيات تقنية
عالية، عوض الاعتماد على سبل تقليدية متجاوزة كإرسال المبعوثين أو بعثات تقصي الحقائق
أو بعثات المراقبين دون تعزيزهم بوسائل تكنولوجية متطورة.
ففي تقريره المعنون بخطة السلام أشار الأمين العام الأممي الأسبق بطرس بطرس غالي إلى
أهمية عنصر تقصي الحقائق والإنذار المبكر في معرفة آنية ودقيقة بالحقائق لإعمال جهود
. الديبلوماسية الوقائية 19
ومعلوم أن غياب وسائل متطورة لاستقاء المعلومات والتأكد من الأحداث، يفتح المجال أمام
القوى الكبرى لممارسة التعتيم على الحقائق أو تحريفها بالشكل الذي يخدم مصالحها.
ويبدو من خلال ما سبق أن التحولات التي طرأت على أداء المجلس لم تكن بأي حال من
الأحوال لتخدم في مجملها السلم والأمن الدوليين، بقدر ما جاءت في صالح بعض القوى
الدولية المتحكمة فيه، وهو ما تثبته الممارسة الدولية، وبخاصة عند مقاربته للعديد من القضايا
والمنازعات العربية.
ثالثا: القضايا العربية ضمن الاهتمامات الجديدة للمجلس
ظلت العديد من القضايا العربية خلال فترة الحرب الباردة على هامش اهتمامات المجلس،
فيما أديرت أخرى بشكل غير فعال، وتعد قضية الشرق الأوسط المرتبطة بالصراع العربي –
الإسرائيلي، خير شاهد على ذلك، فعلى الرغم من أن المجلس قد راكم ترسانة قانونية مهمة

تؤكد حقوق الشعب الفلسطيني العادلة في مواجهة المحتل الإسرائيلي، إلا أنها ظلت دون
فاعلية في غياب إرادة وقدرة حقيقيتين من هذا الجهاز باتجاه تطبيقها.
ومباشرة بعد انتهاء الحرب الباردة وما تلاها من تبشير أمريكي ب”نظام دولي جديد” مبني
على التعاون والإخاء والعدل ومواجهة الأخطار المحدقة بالسلم والأمن الدوليين، خال من
“الإرهاب” وتلعب فيه الأمم المتحدة دورا بارزا..”، ساد اعتقاد إلى حد اليقين بأن نصيب
القضايا العربية العادلة سيكون إيجابيا على مستوى مقاربات المجلس.
وقد تزامنت الأجواء الدولية المرتبطة بنهاية الحرب الباردة والتبشير بهذا النظام مع اندلاع
أزمة الخليج الثانية، التي شكلت مناسبة دشن من خلالها المجلس مقاربات جديدة للقضايا
المطروحة عليه، حيث تحرك بفعالية غير معهودة وأصدر مجموعة من القرارات وفرض
مجموعة من العقوبات الزجرية على العراق كرد فعل على عدوانه على دولة الكويت.
وجاءت الأزمة الصومالية التي شكلت مناسبة أولى لفتح مجال التدخل الإنساني باسم إعادة
الأمل إلى الشعب الصومالي، الذي كان يرزح في جو من الفوضى نتيجة لانهيار مؤسسات
1993 وضمن سابقة دولية تحدث لأول مرة منذ /02/ الدولة، فبموجب القرار 794 بتاريخ 03
تأسيس الأمم المتحدة، منح المجلس تفويضا رسميا لقوات من دول أعضاء في المنظمة وعلى
رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، للتدخل عسكريا في دولة أخرى لم تطلب هذا التدخل، في
. إطار تأمين عمليات الإغاثة الإنسانية لإنقاذ مواطنيها من الموت جوعا 20
وقد منيت هذه العملية بفشل ذريع نتيجة إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على تحريض
فصائل صومالية ضد أخرى أملا في التحكم في هذا البلد ذي الموقع الاستراتيجي الهام، وذلك
في انحراف سافر بالمهام الإنسانية والسلمية الحيادية المنوطة بهذه العمليات.
وخلال أزمة لوكربي المرتبطة بتفجير طائرة “بان أمريكان” فوق الأجواء الاسكتلندية،
تمكنت الولايات المتحدة من تحويل هذه القضية من طابعها السياسي المرتبط بتفسير اتفاقية
مونتريال للطيران المدني إلى طابع سياسي توارت معه كل هذه الضوابط، بعدما أقحم فيها
مجلس الأمن، الذي أصدر عدة قرارات صارمة في حق ليبيا بسبب امتناعها عن تسليم
مواطنيها للمحاكمة أمام القضاء البريطاني أو الأمريكي.

ورغم أن مجلس الأمن – في تعامله مع هذه الأزمة – نجح إلى حد ما في منع تحول الأمور
إلى مواجهة عسكرية كانت ستضر بليبيا حتما، فإن سيناريو الأحداث أبرز أن مسار القضية تم
بإرادة أمريكية بحتة، سواء على مستوى المعلومات المعتمدة من قبل المجلس أو على مستوى
تكييف القضية أو تقديم مشاريع القرارات الصادرة بخصوصها، بالشكل الذي لم يكلف المجلس
عناء مراجعتها أو تعديلها.
وهكذا فإن إدارة الأزمة تمت على حساب الشرعية الدولية، حيث ترامى المجلس على
اختصاصات محكمة العدل الدولية بالنظر للطابع القانوني للقضية، وقطع الطريق على إعمال
.( مقتضيات اتفاقية مونتريال ( 1971
وبهذا السلوك يكون المجلس قد خالف الأصل العام في حل المنازعات الدولية والذي نصت
3 من الميثاق، بحيث أنه قطع الطريق أيضا على جهود التسوية السلمية للأزمة / عليه المادة 2
2 من الميثاق، ولم يوص أطراف النزاع باتباع ما يراه ملائما من / التي تجسدها المادة 33
إجراءات وطرق للتسوية، ولم يراع ما اتخذته ليبيا من إجراءات وتدابير لحل النزاع (المادة
3 عندما قطع الطريق أيضا على / 2 والمادة 52 / 2/36 )، كما خالف المجلس نص المادة 33
مبادرات جامعة الدول العربية بوصفها منظمة إقليمية لتسوية النزاع بالطرق السلمية وأسرع
7/ بتطبيق العقوبات على ليبيا، هذا فضلا عن مخالفته الواضحة والصريحة لأحكام المادة 2
من الميثاق التي تلزمه بالامتناع عن التصدي لأية مسألة تعد من صميم السلطان الداخلي
للدول – مسألة التسليم – وكذا أحكام الفقرة الثالثة من المادة السابعة والعشرين التي تحظر
على الدول الغربية الثلاث التصويت على قرارات مجلس الأمن الصادرة بخصوص الأزمة
باعتبارها أطرافا رئيسية فيها، لأن من شأن ذلك أن يجعل منها خصما وحكما في قضيتها
الخاصة.. 21
وضمن سابقة فريدة أخرى عرفها العالم العربي أيضا، أصدر المجلس قراره رقم 1559 في
الثالث من شهر سبتمبر 2004 ، طالب فيه بانسحاب كامل للقوات غير اللبنانية من هذا البلد
العربي، مناقضا بذلك بنود الميثاق الأممي ذاتها والتي تنص على عدم جواز التدخل في
الشؤون التي تعد من صميم السلطان الداخلي للدول. خصوصا وأن التواجد السوري في لبنان
وبغض النظر عن أبعاده وخلفياته، محكوم بمقتضى اتفاقية ثنائية (الطائف) ووفقا لمجموعة
من الضوابط، ولا يشكل بأي حال من الأحوال مصدر تهديد للسلم والأمن الدوليين ولا
يستدعي تدخلا تهديديا وزجريا من قبل المجلس.

ويبدو أن الخلفيات التي تحكمت في صدور هذا القرار تصب باتجاه تشديد الخناق على
الأنظمة التي تعتبرها الولايات المتحدة معادية لمصالحها أو داعمة “للإرهاب”، خصوصا وأن
هناك ملفات سورية غير محسومة مع إسرائيل وبالنظر للدور السوري المزعوم في تزايد
أعمال المقاومة العراقية في مواجهة الاحتلال.
ويأتي القرار أيضا في سياق محاولات تعديل مواقف الدولتين (سوريا ولبنان) إزاء الصراع
العربي – الإسرائيلي، وبخاصة بعد القضاء على شوكة العراق في هذا الشأن، بالشكل الذي
يضمن تأمين محيط إقليمي متهالك ومناسب لإسرائيل قوية، ثم العمل على إلغاء المقاومة في
جنوب لبنان وفرض المشاريع “الديموقراطية” الأمريكية عليها وإعداد المجال لجر لبنان نحو
. عقد اتفاقية منفردة للسلام مع إسرائيل قد تسمح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان 22
وقد كان بالأحرى على هذا الجهاز أن يصدر مثل هذا القرار في حالات أكثر ملاءمة
وضرورة كاحتلال إسرائيل للأراضي العربية وممارساتها العدوانية والمستمرة في مواجهة
الشعب الفلسطيني، بالشكل الذي يهدد السلم والأمن الدوليين بصفة واضحة وجدية.
وقد جاء التدخل العسكري الأمريكي- البريطاني الأخير في العراق (سنة 2003 ) وما
تمخض عنه من احتلال لهذا البلد العربي وتوريطه في دوامة من العنف والفوضى وعدم
الاستقرار، لتكشف عن قصور دور المجلس في التعامل مع القضايا والأزمات الدولية بنفس
الصرامة، ذلك أن هذا الجهاز لم يتمكن من الحؤول دون تدخل الولايات المتحدة العسكري في
هذا البلد، بل ولم يستطع حتى اتخاذ قرار يقضي بإدانة هذا السلوك.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار خطورة هذا العدوان والظرفية الدولية المتميزة التي جاء فيها
والمرتبطة بتداعيات أحداث 11 سبتمبر والتحدي الذي رفعته الولايات المتحدة في وجه دول
العالم، يظهر أن هذه الدولة قد انتقلت من مرحلة التبشير ب”نظام دولي جديد” ومحاولة تكريسه
دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا إلى مرحلة فرضه وبلورته بالقوة العسكرية، ونحت باتجاه
تكريس سياسة واقعية تنم عن ثقة خيالية في النفس وبالشكل الذي دفعها إلى الاستهانة
بالمؤسسات الدولية والقوى الدولية الصاعدة الرافضة للعدوان كألمانيا وفرنسا وروسيا
والصين، والواضح أنها لم تعد تكتفي بالهامش الذي يتيحه لها تكييف بنود الميثاق واستصدار
قرارات من مجلس الأمن في إعمال تدخلاتها وتحقيق مصالحها، لتفرض منطق القوة
. واختصار الطريق 23

و هكذا يظهر من خلال هذه الممارسات وغيرها أن المجلس اتخذ من الأقطار العربية فضاء
رئيسيا لتجريب أدواره الجديدة وتفعيل استراتيجيته المنسجمة مع انفراد الولايات المتحدة
الأمريكية بالساحة الدولية بعد رحيل الاتحاد السوفييتي.
رابعا: مجلس الأمن والمشروعية الدولية: قوة القانون أم قانون القوة؟
واجهت الولايات المتحدة الأمريكية مجموعة من الصعوبات والتحديات في تعاملها مع المنظمة
الدولية عموما ومجلس الأمن خاصة خلال فترة الحرب الباردة، بسبب وجود الاتحاد السوفيتي
واستخدامه المتكرر لحق الفيتو، فضلا عن الدول الاشتراكية والدول النامية التي استطاعت أن
تشكل الأغلبية في الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة، وبخاصة بعد تزايد دور الجمعية العامة
التي تمكنت من استصدار مجموعة من التوصيات والقرارات التي تصب في اتجاه حماية
سيادة هذه الدول وتأكيد حقها في الاستقلال والتحرر.. مما شكل عقبة رئيسية أمام تمرير
السياسة الأمريكية عبر هذه المنظمة.
غير أنه مع اختفاء الاتحاد السوفييتي وما كان يشكله من تحد بالنسبة للولايات المتحدة
الأمريكية، وما تلا ذلك من ضعف أصاب تكتل دول العالم الثالث، أصبحت الظروف ملائمة
للولايات المتحدة لقيادة الأمم المتحدة عموما ومجلس الأمن على وجه الخصوص، وتوجيهها
بالشكل الذي يلائم مصالحها. فقد خلا المجال لها لتلعب دورا قياديا وطلائعيا على الصعيد
العالمي، وتبلور هذا الدور بشكل جلي من خلال سياسات تأديب المتمردين على إرادتها
ومصالحها سواء في صورة عمل عسكري مباشر، كما في حالتي أفغانستان ( 2001 ) والعراق
2003 ) أو في صورة عقوبات اقتصادية وحظر عسكري وجوي كما في حالة ليبيا، وكل ذلك )
تحت مظلة قانونية دولية متمثلة في قرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي.
وقد أسهم الغموض الذي يشوب بعض بنود الميثاق في فتح المجال أمام الولايات المتحدة للقيام
بتفسيرات وتكييفات منحرفة لهذه البنود لإعمال تدخلاتها بالشكل الذي يخدم مصالحها.
وبذلك أصبحت هذه الدولة تقيد عمل المجلس وتؤثر على حياده في تناول القضايا الدولية،
بالشكل الذي أضحى معه آلية لتنفيذ سياستها الخارجية ولترهيب ومعاقبة الدول بدل المحافظة
على السلم والأمن الدوليين، الأمر الذي انعكس سلبا على أداء المنظمة إجمالا وحال دون قيام
أجهزتها بأدوارها بشكل مستقل.
وجدير بالذكر أن انحراف الولايات المتحدة الأمريكية بالمشروعية الدولية واستثمارها عبر مجلس
الأمن خدمة لمصالحها الضيقة ومصالح حلفائها، يرتكز إلى عنصرين أساسيين هما: احتكار
العضوية داخل مجلس الأمن الدولي والتذرع بالمشروعية الدولية.
-1 احتكار العضوية داخل مجلس الأمن
إن الطابع السياسي الذي يميز عمل مجلس الأمن جعله معرضا في كثير من الأحيان
لتأثيرات القوى والمصالح الخاصة بالدول الدائمة العضوية، مما انعكس سلبا على مصداقيته
أثناء مباشرته لمهامه واختصاصاته في العديد من المناسبات.
وإذا كانت ظروف الحرب الباردة قد ساهمت في التخفيف من حدة استعمال هذا الجهاز كأداة
لبسط الهيمنة وتحقيق المصالح الخاصة، بفعل التوازن الاستراتيجي الذي كان قائما بين الاتحاد
السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية من خلال إقبالهما المكثف على استعمال حق الفيتو في
مواجهة مصالح بعضهما البعض، فإنه في ظل التحولات الدولية الراهنة أصبح احتكار
العضوية داخل هذا الجهاز وفضلا عن كونه يمس بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول
ويكرس ديكتاتورية هذا المجلس التي تؤثر سلبا على دمقرطة الأمم المتحدة ومجلس الأمن
خاصة والعلاقات الدولية عامة، يمثل وسيلة بيد الدول الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة
الأمريكية تمكن من تمرير القرارات المرغوب فيها، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بأن عدم
فعالية الأمم المتحدة وبيروقراطيتها، وعدم نجاح مجلس الأمن في معظم مهامه المرتبطة بحفظ
السلم والأمن الدوليين يعود بالأساس إلى احتكار العضوية الدائمة داخل هذا الجهاز من قبل
بعض الدول؛ بالشكل الذي يحول دون توزيع عادل للسلطة بين القوى الدولية الراهنة ودون
فتح المجال لدول أخرى للالتحاق بالمجلس بصفة دائمة.
ولعل هذا ما دفع بالعديد من الدول إلى المطالبة بتعديل ميثاق الأمم المتحدة بالشكل الذي
يسمح بتوسيع العضوية بداخل هذا الجهاز، حتى يعبر بصدق عن الخريطة السياسية
والاقتصادية الحقيقية في العالم وعلى علاقات القوة السائدة فيه، بالمعنى الذي ينصرف إلى
خدمة البشرية جمعاء؛ مع الأخذ بعين الاعتبار جميع مكونات المجتمع الدولي من أغنياء
وفقراء، خصوصا وأن تشكيلته الحالية ما هي في واقع الأمر إلا تعبيرا عن موازين القوى في
النظام الدولي الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية أكثر منه عن موازين القوى في عالم
اليوم.
-2 التذرع بالمشروعية الدولية
تتمحور المشروعية حول مطابقة التصرف للقاعدة القانونية، والقول بمشروعية أو عدم
مشروعية قرارات مجلس الأمن، يعتمد أساسا على مدى تطابقها مع القواعد القانونية الدولية
المرعية واستيفائها لشروط شكلية محددة.
أ- المرتكزات القانونية اللازمة لمشروعية قرارات المجلس
تتجلى هذه المرتكزات في مصدرين أساسيين يلزم على المجلس أن يستمد منهما معا أو من
أحدهما المقومات التي يستند إليها في إصدار قراراته وتوصياته، ويتجلى هذان المصدران في
ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي.
فميثاق الأمم المتحدة يعد بمثابة دستور لكل أجهزة هذه المنظمة، ومن تم ينبغي الخضوع له
والتصرف وفق مقتضياته. ولذلك فالمجلس ملزم خلال مباشرته لمهامه المرتبطة بحفظ السلم
والأمن الدوليين أن يخضع لبنود هذا الميثاق ويتصرف في ضوئها، وقد عبر الميثاق عن ذلك
صراحة في الفقرة الثانية من المادة 24 ، حينما نص على أن: “يعمل مجلس الأمن، في أداء
هذه الواجبات وفقا لمقاصد “الأمم المتحدة” ومبادئها..”.
ومن جهة الاستناد إلى قواعد القانون الدولي والمبادئ العامة للقانون، يمكن القول أن مصادر
المشروعية الدولية بالنسبة لمجلس الأمن هي أقرب إلى مصادر القاعدة القانونية الدولية التي
نصت عليها المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والتي ترتكز على ما يلي:
– المعاهدات الدولية العامة والخاصة.
– العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال، وهي ما يعبر
عنها بالأعراف الدولية المدونة أو التي هي في الطريق إلى ذلك.
– مبادئ القانون الدولي التي أقرها المجتمع الدولي وارتضتها الدول.
– أحكام المحاكم الدولية، وأحكام المحاكم الوطنية المرتبطة بقضايا دولية.
– قرارات وتوصيات المنظمات الدولية والإقليمية المتسمة بدورها بصفة المشروعية.
– المبادئ العامة للقانون، وهي تلك المبادئ الراسخة في القانون الداخلي والتي يمكن اللجوء
إليها في القضايا الدولية كمبدأ المسؤولية وعدم التعسف في استعمال الحق..
ب – الشروط اللازمة لمشروعية قرارات مجلس الأمن
بالإضافة إلى الأسس القانونية التي ينبغي أن يرتكز إليها المجلس لإضفاء طابع المشروعية
الدولية على قراراته، هناك شروط أخرى تتطلب منه احترامها أثناء إصداره لقراراته، حتى
يمكن القول بمطابقتها للمشروعية الدولية. وتتمحور هذه الشروط فيما يلي:
– التقيد بالأهداف الخاصة:
إن ضوابط المشروعية الدولية تفرض أن يكون الهدف من القرار الذي يقدم المجلس على
إصداره يتماشى والأهداف التي أنشئ من أجلها، ومن تم لو انفصلت العلاقة بين القرار وتلك
. الأهداف تعين القضاء بعدم مشروعيته 24
وقد سبق لمحكمة العدل الدولية أن زكت هذا الطرح عندما اعتبرت أن إجراء إنفاق لتحقيق
أهداف لا يتضمنها الميثاق الأممي لا يمكن اعتباره إنفاقا للمنظمة الدولية.
وهذا ما يجعلنا نقر بأن المجلس لا يملك مطلق السلطات والحرية في إصدار قراراته، بل
يجب أن تكون هذه الأخيرة مرتبطة بالأهداف التي نص عليها الميثاق.
– الالتزام بالاختصاصات المخولة
إن السمة التي يمكن أن نطلقها على القرارات التي تصدر عن المجلس أو أي جهاز آخر
داخل المنظمة دون أن تكون من ضمن اختصاص هذا الجهاز الذي أصدرها هو عدم
المشروعية، لذلك فالمجلس عند إصداره لقراراته لا يكون فقط ملزما بالأهداف المتوخاة
والمتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، وإنما يكون ملزما أيضا باحترام اختصاصاته وحدوده
المنصوص عليها في الميثاق.
– الالتزام بالقواعد الإجرائية أو الشكلية
إن احترام المساطر الشكلية والإجرائية باعتبارها عنصرا مهما في تنظيم وترتيب عمل
المجلس أثناء إقدامه على مهمة لحفظ السلم والأمن الدوليين، يشكل بدوره عاملا أساسيا إلى
جانب العوامل القانونية السابقة في إضفاء طابع المشروعية على قرارات المجلس. وفي هذا
الجانب ينبغي للمجلس أن يلتزم بمجموعة من الإجراءات المسطرية اللازمة قانونا، بحيث أن
مخالفتها يجعل قرارات المجلس أو توصياته غير مشروعة، ويمكن تقسيم هذه الإجراءات إلى
نوعين:
– الصنف الأول: ويتعلق بضرورة التزام المجلس واحترامه لمراحل تدخله في النزاع القائم
بحسب الطرق التي سبق أن أشرنا إليها.

– الصنف الثاني: يهم إجراءات ومساطر التصويت، بحيث أن القرارات ينبغي أن تصدر
وفق ما نص عليه الميثاق بهذا الخصوص.
غير أن هذا المفهوم – المشروعية الدولية – أضحى من الناحية الواقعية بمثابة فزاعة في
مواجهة الدول الضعيفة فقط ومجرد ذريعة وشعارا تستعمله بعض القوى لتحقيق مصالحها
وتكريس هيمنتها على مجلس الأمن والمجتمع الدولي قاطبة.
وليس هذا السلوك بغريب؛ وبخاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار كون الأساس القانوني
للمشروعية الدولية لم ينشأ مستقلا عن مصالح واضعيه من القوى الدولية الكبرى.
وهكذا وفي ظل تنامي أداء المجلس وتوسيع صلاحياته، أضحى هذا الجهاز مجرد آلية
لحماية مصالح وحقوق الدول الكبرى على حساب تقزيم دور الجمعية العامة التي تضم دولا
فقيرة عديدة، وتهميش دور محكمة العدل الدولية في مجال المحافظة على السلم والأمن
الدوليين، بل والترامي على اختصاصاتها القانونية وإضفاء طابع سياسي عليها.
ولقد تنامى بذلك استعمال المشروعية الدولية لبسط الغطاء على تجاوز المجلس لاختصاصاته
وصلاحياته المنصوص عليها في الميثاق، ولم يكن بالتالي استعمال هذا المفهوم في العديد من
المناسبات من أجل الدفاع عن الحق والعدالة، وإنما كان وسيلة لتكريس المصالح الضيقة
وترهيب الدول والشعوب.
إن الدول الكبرى أصبحت ترى في المشروعية الدولية وسيلة لحماية مراكزها ووسيلة
لتبرير سلوكاتها في مواجهة الخصوم، فيما ترى فيها الدول الضعيفة وسيلة لحمايتها من
مختلف التهديدات الخارجية وتطوير الواقع الدولي بالشكل الذي يخدمها.
فمع بداية التسعينيات من القرن المنصرم؛ برزت بشكل واضح مظاهر انحراف مجلس الأمن
بالمشروعية الدولية من خلال تعامله مع مجموعة من القضايا والمنازعات الدولية، التي برز
فيها بشكل جلي حجم الهيمنة الأمريكية على هذا الجهاز، مثلما هو الشأن بالنسبة للأزمة
الصومالية وقضية هاييتي..
وفي أعقاب عمليات 11 سبتمبر 2001 التي استهدفت العمق الأمريكي أصدر المجلس
القرار رقم 1368 بإجماع أعضائه وبعد مرور يوم فقط على الأحداث وبناء على معلومات
أمريكية مسبقة حول الجناة، منح من خلاله المشروعية والمرجعية للرد العسكري الذي كانت
الولايات المتحدة تهيئ له ضد أفغانستان، حيث نص على:”أن المجلس يعتبر العمليات التي
تمت بتاريخ 11 سبتمبر 2001 مثل أية عملية للإرهاب الدولي، بمثابة تهديد للسلم والأمن
الدوليين” واعترف لها كذلك بالحق في الدفاع الفردي أو الجماعي عن النفس، طبقا لمقتضيات
المادة 51 من الميثاق، حيث ساوى القرار بين هذه العمليات والعدوان العسكري النظامي الذي
يقصده الميثاق.
وقد جاء الرد الأمريكي تعسفيا، حيث أن العمليات جاءت مدمرة وتجاوزت حق الدفاع
المشروع وتحولت إلى عمل انتقامي بعد أن استهدفت كل معالم الحياة بأفغانستان، ولم تميز
. بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية 25
وفي ظل هذه المعطيات ازدادت التخوفات من إمكانية تحول المجلس بشكل رسمي إلى آلية
لتنفيذ السياسات الأمريكية والدول الحليفة لها، وبالتالي الاعتداء على الدول والشعوب.
كما أن مبدأ بوش المرتبط “بالضربات الوقائية” أو “الاستباقية” يفتح باب استخدام القوة
المسلحة الأمريكية على مصراعيه، ويقلص دور الأمم المتحدة تقليصا كبيرا ليحل في مكانها
الهيمنة الأمريكية في إدارة النظام العالمي، ومن المتوقع أن يستمر ذلك طوال فترة حكم
. الإدارة الأمريكية الحالية 26
و الملاحظ أنه وموازاة مع “التفعيل” الذي شهده نشاط المجلس في السنوات الأخيرة، تم
استبعاد مجموعة من القضايا ضمن اهتمامات هذا الجهاز، مثلما هو الشأن بقضية الصراع
العربي- الإسرائيلي بصفة عامة والقضية الفلسطينية بصفة خاصة التي أصبحت تعالج في
إطار اتفاقيات ثنائية لم تلعب فيها الأمم المتحدة أو مجلس الأمن أي دور فعال رغم انشغالها
بها لمدة تربو على النصف قرن.
ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بأن دعاة النظام العالمي الجديد يفقدون صدقيتهم إذا
استمروا بمعالجة مواقف متساوية أمام القانون بسياسة الكيل بمكيالين، سيما وأن هذا القانون
. نصبوه إطارا مرجعيا لسياستهم الخارجية 27

خامسا: بين واقع القصور ومتطلبات الإصلاح
نخلص إلى أن أداء مجلس الأمن في مجال المحافظة على السلم والأمن وإن تم تفعيله مقارنة
مع فترة الحرب الباردة التي شلت هذا الجهاز لفترة طويلة، تميز إجمالا بالانتقائية تارة
والانحراف تارة أخرى. فهناك منازعات تدخل المجلس فيها بشكل فعال، وأخرى بشكل
منحرف، بينما بقيت قضايا أخرى على الهامش مهملة من جانبه. وهذا ما يبين مدى ارتباط
هذه التحركات بمصالح القوى الدولية الكبرى داخل المجلس، كما أن النفوذ الأمريكي أصبح
يسمح بتفسير وتأويل أية مادة في ميثاق المنظمة الدولية – وبخاصة تلك المرتبطة بالفصل
السابع منه – بالشكل الذي يتيح إمكانية تسخير المجلس في خدمة المصالح الخاصة، الأمر
الذي أثر سلبا في مصداقية الأمم المتحدة بصفة عامة ومصداقية هذا الجهاز على وجه
الخصوص.
ولعل تفعيل أداء مجلس الأمن في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين، وبالشكل
الذي يسمح بتطبيق المشروعية الدولية بصفة موضوعية وسليمة، يتوقف على إدخال مجموعة
من الإصلاحات الجذرية على هذا الجهاز ضمن استراتيجية إصلاحية شاملة للأمم المتحدة.
وهي إصلاحات ملحة؛ وذلك بالنظر إلى حجم التحديات والمتغيرات المتسارعة التي أضحت
تواجه المجتمع الدولي، وكذا مظاهر الانحراف بالمشروعية الدولية داخل هذا الجهاز.
لقد أضحت إشكالية إصلاح المجلس أمرا معهودا ضمن المناقشات المستمرة للجمعية العامة،
26 سنة 1993 تقرر إنشاء مجموعة عمل للبحث في / فبموجب قرار من الجمعية العامة 48
إمكانية تعزيز عدد أعضاء المجلس ومسائل أخرى مرتبطة بهذا الجهاز.
ومن بين أهم الأمور التي خلفت نقاشات واسعة داخل الهيئة وأصبحت تستدعي المراجعة
الحقيقية، هناك مسألة توسيع التمثيل الدولي داخل المجلس بالصورة التي ينبغي أن تعكس
توازن المصالح الدولية بجنوبها وشمالها، خصوصا وقد ارتفع عدد أعضاء الأمم المتحدة من
51 دولة عند إنشائها سنة 1945 ، إلى 192 دولة سنة 2004 ، أي تضاعف بقرابة أربع
مرات.
ولذلك فمجلس الأمن ينبغي أن يستجيب في تشكيلته لهذا المعطى الأساس، وفي هذا السياق
طالبت عدة دول بضرورة الأخذ بالتمثيل القاري.
فالظاهر أن هناك شعورا عاما بعدم الارتياح من التشكيلة الحالية لهذا الجهاز، فدول أمريكا
اللاتينية ودول إفريقيا والدول العربية والإسلامية لا تمتلك العضوية الدائمة فيه.
وحسب مؤيدي الإصلاح، فمن المؤكد أن توسيع العضوية في المجلس سيضمن فعالية أكبر
. داخل هذا الجهاز 28
إن الأمم المتحدة أضحت بحاجة إلى إعطاء العضوية بها مدلولا يعكس بالفعل المساواة في
السيادة بين الدول الأعضاء.
وبالنظر إلى أهمية هذا الموضوع، قررت الجمعية العامة مناقشة مسألة التمثيل المتكافئ
داخل المجلس وسبل تعزيز أعضائه، أثناء انعقاد دورتها الخامسة والخمسين، كما أن أحد
التقارير المقدمة للأمم المتحدة، أكد على:”أن زيادة أعضاء الأمم المتحدة وخاصة من جانب
الدول النامية وتطور العلاقات الدولية، يفرضان تعزيز وتقوية فعالية المجلس في إطار
المساواة في السيادة بين الأعضاء” 29 خاصة وأن التشكيلة الحالية للمجلس تعكس في واقع
الأمر موازين القوى الناتج عن نهاية الحرب العالمية الثانية.
أما بخصوص الاعتبارات والشروط اللازمة للحصول على العضوية الدائمة بالمجلس، فقد
تباينت بصددها الآراء والمقترحات، فهناك من أكد على أهمية الاعتبارات الديموغرافية وهناك
. من ركز على الإمكانيات الاقتصادية، في حين ربط البعض ذلك بالقدرة على التمويل 30
وفي هذا السياق برزت عدة مقترحات ومحادثات تصب باتجاه توسيع هذه العضوية من
خمسة أعضاء إلى عشرة وتوسيع العضوية غير الدائمة من عشرة أعضاء إلى إحدى عشر أو
أربعة عشر عضوا.
وطالبت كل من اليابان وألمانيا رسميا بالعضوية الدائمة بهذا الجهاز، فيما قامت البرازيل
بعدة مبادرات لحصد التأييد نحو تمكينها من الحصول على هذه العضوية أيضا، كما أن الهند
التي تعد أكبر وأعرق بلد ديموقراطي وثاني أكبر بلد من حيث عدد السكان بعد الصين الشعبية
والمالكة للسلاح النووي، عبرت غير ما مرة عن رغبتها في الحصول على هذا المقعد، ويرى
العديد من المراقبين أن إفريقيا بدورها بحاجة إلى تمثيل داخل هذا الجهاز؛ وقد أكدت العديد
من الدول الإفريقية (جنوب إفريقيا، مصر، نيجيريا..) على حقها في الحصول على هذه
الامتياز.

وخلال انعقاد دورة الجمعية العامة في أواخر شهر سبتمبر 2004 اقترحت البرازيل وألمانيا
مشروعا موحدا يقضي بضرورة حصولهما على مقاعد دائمة بالمجلس، أما اليابان فقد أكدت
على لسان ممثلها أن دور اليابان في إعادة إعمار العراق وأفغانستان وفي جهود تسوية الأزمة
النووية لكوريا الشمالية، يجعلها أهلا للظفر بمقعد دائم داخل المجلس 31 ، وهو ما ترفضه
الصين نظرا لحسابات إقليمية استراتيجية.
في حين هناك من طالب بإلغاء حق الاعتراض والعضوية الدائمة، باعتبارهما يتناقضان مع
مبدأ المساواة في السيادة الذي نص عليه الميثاق، خصوصا وأن منح هذا الحق لدول أخرى
سيؤدي حتما إلى مزيد من تعطيل وعرقلة نشاط المجلس، تبعا لتضارب المصالح والخلفيات.
ومن جهة أخرى، أشار نفس التقرير السابق إلى أهمية توخي الشفافية في عمل هذا الجهاز،
. مع ضرورة إقراره بالمسؤولية أمام الجمعية العامة 32
كما تطرح بحدة أيضا ضرورة خلق جيش خاص بالأمم المتحدة ليساهم في تحقيق السلم
والأمن الدوليين، وذلك عبر تشكيل لجنة الأركان الدائمة ووضعها تحت تصرف المجلس طبقا
لمقتضيات الفصل السابع من الميثاق، ثم نهج سياسة صارمة في مواجهة الدول التي تتهرب
من أداء واجباتها المالية المستحقة للأمم المتحدة، وخلق نوع من التوازن بين أجهزة هذه الهيئة
عبر تفعيل دور الجمعية العامة وإضفاء طابع الإلزام على قراراتها وتوصياتها، ومنح محكمة
العدل الدولية سلطات قضائية واسعة وتلقائية وملزمة، ثم تطوير دور الأمانة العامة في مجال
المحافظة على السلم والأمن الدوليين.
وفي إطار الوقوف على مظاهر القصور ضمن سبل مقاربة المجلس للصراعات والأزمات
الدولية، تم التأكيد على ضرورة فحص وتدقيق مشكل العقوبات والأخذ بعين الاعتبار حدودها
الإنسانية وتداعياتها السلبية في بعض الحالات، ضمن تقرير اللجنة الخاصة بميثاق الأمم
. المتحدة وتقوية دور المنظمة الصادر عن الجمعية العامة

كما أكد نفس التقرير على ضرورة إحداث توازن في الوظائف بين مختلف أجهزة المنظمة،
وبخاصة بين الجمعية العامة ومجلس الأمن في كل المسائل المرتبطة بالمحافظة على السلم
والأمن الدوليين، وتعزيز التعاون المتكافئ بينها في هذا الشأن 34 ، بشكل يكفل بلورة عمل
جماعي متكامل وأكثر فعالية.
ويعتبر التقرير حق الفيتو “بمثابة خطأ تاريخي، فهو امتياز غير عادل وغير ديموقراطي،
لكون استعماله أو التهديد باستخدامه كفيل بإلغاء مبادئ الشفافية والمسؤولية التي ينبغي أن
. تصاحب طرق وسبل عمل ومساطر المجلس” 35
ومن المفروض أن يلغى هذا الإجراء أو يعقلن ويقيد استعماله في أقل الأحوال، لتعارض
روحه مع مبدأ المساواة في السيادة المنصوص عليها ضمن بنود الميثاق الأممي.
إن إصلاح الأمم المتحدة ينطوي على صعوبات قانونية مرتبطة بمقتضيات ميثاقها 36 وأخرى
موضوعية وسياسية مرتبطة بمدى وجود إرادة حقيقية لدى القوى الدولية الكبرى نحو بلورة
هذه الإصلاحات واستعدادها للتخلي عن امتيازاتها داخل هذه المنظمة، و فتح المجال أمام
. القوى الأخرى لتتقاسمها معها 37
ومنعا لحدوث تأويلات ضيقة ومنحرفة لبنود الميثاق الأممي تخدم مصالح القوى الكبرى
داخل المجلس، ينبغي تعديل الميثاق باتجاه تحديد دقيق للعديد من الاصطلاحات والمفاهيم
الواردة فيه، من قبيل السلم والأمن الدوليين وتهديهما وخرقهما والعدوان..
وفي إطار تخفيف العبء على المجلس في مجال المحافظة على السلم والأمن الدوليين،
و”دمقرطة” عمله، ينبغي الانفتاح على المنظمات الإقليمية في هذا الصدد، لتلعب دورا طلائعيا
في إقرار السلم والأمن بمناطق عملها وذلك عبر منحها صلاحيات واسعة في هذا الشأن
وتشجيع مبادراتها والتنسيق معها في كل الإجراءات التي قد يقدم عليها المجلس في هذا
الخصوص.
وينبغي كذلك إعمال رقابة فعالة سابقة وموازية ولاحقة على نشاط المجلس من قبل الجمعية
العامة ومحكمة العدل الدولية – حسب طبيعة المشكل أكان سياسيا أم قانونيا – لمنع حدوث أيانحراف على تحركاته الزجرية المندرجة ضمن الفصل السابع من الميثاق؛ وحثه على التحرك
في حالات ضرورية ومنعه أيضا من قطع الطريق على جهود التسوية السلمية أو الترامي
على اختصاصات الأجهزة الأممية الأخرى.
ثم تقييد وضبط التدخلات الزجرية للمجلس لصالح السبل السلمية والودية لتسوية المنازعات،
وإشراك الجمعية العامة بشكل فاعل في كل الإجراءات والمشاورات المرتبطة بمهام حفظ
. السلم والأمن الدوليين سواء عبر السبل الوقائية أو العلاجية 38
وما لم يتم تدارك الأمر عبر تبني إصلاحات تستجيب لمصالح المجتمع الدولي بشماله
وجنوبه، فالأكيد أن الأمور ستزداد سوءا وتعقيدا. فالولايات المتحدة – على سبيل المثال –
وإن كانت تتمتع بهيمنة سياسية داخل سلم اتخاذ القرارات في الأمم المتحدة، فإن مشاركة
القوى الدولية الأخرى وبخاصة تلك التي تتمتع بحق الاعتراض والعضوية الدائمة بالمجلس
في التمتع بالإمكانيات المتاحة نفسها لاتخاذ القرار في الأمم المتحدة عامة وفي مجلس الأمن
بصفة خاصة، يجعلها لا تشعر بعدم الرضا والارتياح.. الأمر الذي يدفعها نحو الطموح باتجاه
تعديل الميثاق الأممي بالشكل الذي يمنحها موقعا متميزا داخل سلم اتخاذ قرارات في هذه
الهيئة ويجعلها بمثابة الوصي والمرجع والضابط لتدخلات هذه المنظمة وجعل المجلس درجة
ثانية بعدها في هذا السياق، ولعل تجاوز الولايات المتحدة للأمم المتحدة ولمجلس الأمن على
. الخصوص عند غزوها للعراق سنة 2003 يعد مؤشرا قويا في هذا الاتجاه 39
وبقي أن نشير إلى أن الحضور العربي ضمن النقاشات الجارية بصدد إصلاح مجلس الأمن
والأمم المتحدة، في ارتباطه ببلورة تصور ومشروع موحدين خاصين بهذا الإصلاح
المرتقب 40 كان باهتا؛ وهو أمر سيضر حتما بمصالح هذه الدول، وبخاصة أمام الضغوطات
التي ما فتئت تمارسها الولايات المتحدة باتجاه شرعنة الحروب الاستباقية التي طالت ومن
المنتظر أن تطال العديد من الدول العربية والإسلامية 41 تحت ذرائع ومبررات واهية شتى.

فعلى الرغم من التحديات والمخاطر التي تواجهها معظم هذه الدول وما لاقته من معاناة نتيجة
لتدخلات زجرية من هذا الجهاز، فهي لم تناقش بشكل جدي إمكانية مطالبتها بمقعد دائم داخل
المجلس يكفل حماية مصالحها، كما أن التحرك المصري في هذا الشأن وعلى أهميته، لم يحظ
بدعم ملموس وواضح من قبل الدول العربية، علما أن عدد الدول العربية والإسلامية داخل
المنظمة هو 58 من ضمن 192 دولة عضو في الأمم المتحدة.
خاتمة
حقيقة أن الأمم المتحدة نجحت بشكل كبير في منع حدوث حروب كونية كان بإمكانها تدمير
الحياة على كوكب الأرض، وأسهمت بقسط وافر في تعزيز التعاون والتواصل بين مختلف
الدول والشعوب، ووضعت الأسس الكفيلة ببلورة سلم وأمن دوليين من خلال سبلها الوقائية في
تدبير النزاعات، غير أنها لازالت بحاجة إلى فتح أوراش كبرى للإصلاح في سبيل التواؤم مع
المتغيرات الدولية الجارية وما تفرزه من تحديات ومخاطر ومعطيات جديدة.
إن الظرفية التي تمر بها الساحة الدولية تفرض إصلاح هذه المنظمة، فحجم الانحرافات
يتزايد بشكل كبير، ومخاطر الحروب والمواجهات في عالم مضطرب تفرض وجود منظمة
قوية قادرة على الوقوف بصرامة أمام كل ما من شأنه تعريض السلم والأمن الدوليين للخطر
وسواء تعلق الأمر بدول قوية أو ضعيفة.
عادة ما كان ظهور أو تجديد المنظمات الدولية العالمية مرهونا بأزمات دولية كبرى، فعصبة
الأمم جاءت بعد خروج العالم من الحرب العالمية الأولى، فيما ظهرت الأمم المتحدة كإفراز
لما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن الملاحظ أنه ورغم مرور العالم بظروف عصيبة وبأزمات
وحروب خطيرة في السنوات الأخيرة، إلا أن الأمم المتحدة لم تتفاعل معها بالشكل المطلوب.
فانهيار الاتحاد السوفييتي وما أفرزه من تحديات جديدة، وانفراد الولايات المتحدة بالساحة
الدولية، وما خلفته أحداث 11 سبتمبر من ممارسات أمريكية خطيرة من قبيل التدخل
العسكري الأمريكي في كل من أفغانستان والعراق وعدم قدرة المجلس على منع هذه الدولة
من التدخل الأخير في العراق، ووجود مجموعة من المنازعات والأزمات الخطيرة تدبر
خارج مدار الأمم المتحدة، كلها مؤشرات تدق ناقوس الخطر وتؤكد بصورة لا لبس فيها أن
هذه المنظمة لم تعد قادرة على الالتزام بمهامها وأهدافها ومبادئها، وبالتالي تفرض إصلاح
. هذه الهيئة 42
حقيقة أن الأمم المتحدة لم تأت من أجل حملنا إلى نعيم الجنة بقدر ما جاءت لتخلصنا من ويلات جهنم كما قال
“وينستون تشرشل”، وفي هذا الصدد قدمت الكثير للبشرية وبخاصة على مستوى المقاربات الوقائية للمحافظة على
السلم والأمن الدوليين بالشكل الذي حال دون اندلاع حرب عالمية جديدة في زمن التكنولوجيا المتطورة والعالية الدقة،
لكن الحاجة إلى أمم متحدة قوية ومجلس أمن قوي وعادل؛ أصبحت تتزايد بشكل ملح مع تزايد التحديات العالمية
المشتركة التي تواجه كل الشعوب والدول، ومن تم فتفعيل مجلس الأمن وإصلاحه ضمن إصلاح شامل وجذري وبناء
للأمم المتحدة هو أمر تقضيه حاجة البشرية لمجتمع دولي مستقر وآمن.