مفهوم الرقابة على أعمال الإدارة ، ومخالفات وجرائم الموظف العام.

نحن وفي هذا الوقت الذي انتشرت فيه جرائم الاعتداء على الأموال العامة والانحراف بالسلطة و إساءة استعمال السلطة ما أحوجنا إلى الاستهداء بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم لأبي ذر عن الإمارة (إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدي الذي عليه فيها) , فالوظيفة أمارة وأن الموظف في الأصل أمين على المصلحة العامة في نطاق اختصاصه ومسئول على أن يبذل قصارى جهده للإسهام في حسن أداء المرفق الذي يعمل به , ومن هنا كان لابد أن تهتم الدول اهتماما خاصا بحقوق الموظف وواجباته وأن تصدر القوانين التي تتكفل بها , وأن تعني وهي بصدد ضبط الوظيفة العامة – بإرساء القواعد التي تحاسب من يخطئ من الموظفين حتى يكون الجزاء ردعا للمخطئ وعبرة لأمثاله ولذلك تحرص الدول المتقدمة في عالمنا المعاصر على إصدار القوانين والقواعد العامة للزجر إذا ما فرط الموظف في واجبه أو أخطأ وتنشئ الأجهزة المستقلة التي تسهر على تنفيذ هذه القواعد وتطبيقها بما يحقق العدالة للجميع.

ولاشك أن القوانين والأجهزة التي تعالج هذه الناحية – بعد أن أتسع نشاط الدولة وبعد التحول إلى اللامركزية في الإدارة وتقسيم السودان إلى ولايات ومحليات , ونتيجة للتطور في الناحية الاقتصادية في السودان وفي العالم اليوم, ودخول شركاء في التنمية من المستثمرين الوطنيين ومن خارج الوطن , أصبحت قاصرة على أن تسد الحاجة وأن تواجه الأوضاع المتطورة , ولذلك كان لابد من أن يفرد لهذا الأمر اهتمام خاص يتمثل في إصدار قوانين وأجهزة متعددة تتناول الرقابة على مخالفات الموظفين وتتناول شئون التأديب الإداري خاصة بعد مطالبة المصارف والجهات المانحة والمنظمات والمؤتمرات المتخصصة في شئون التنمية و في شئون الاستثمار الجهات المختصة في كل الدول التي تشجع الاستثمار فيها , بالتعامل بالأمانة والصدق والشفافية مع هذا الأمر ضمانا لأموال وحقوق المستثمرين والمواطنين من تغول الجشعين والمنتفعين واستغلال أموال القروض والمنح في غير ما خصصت له وبالتالي حرمان الطبقات والفئات الفقيرة للاستفادة منها في الخدمات الضرورية .
وفي هذه الدراسة والتي أردنا من خلالها إلقاء الضوء على موضوع الرقابة على مخالفات وجرائم الموظف وذلك من خلال توضيحنا لثلاثة نقاط وهي :
1 ـ موقف الفقه الإسلامي من الرقابة على مخالفات الموظف.
2 ـ مقارنة الأجهزة المقترحة مع أجهزة مشابه في بعض الدول العربية.
3 ـ إنشاء أجهزة متخصصة تراقب مخالفات الموظف ابتداء من إجراءات الاستدلال والتحقيق حتى المحاكمة وذلك بالإضافة للأجهزة للرقابية الحالية .

موقف الفقه الإسلامي من الرقابة على مخالفات وجرائم الموظف:

لأشك أن المخالفات والجرائم التي يرتكبها الموظف سواء كانت هذه المخالفات أو الجرائم مثل جرائم الاختلاس والرشوة والتزوير وجرائم استغلال السلطة أو غيرها من الجرائم والمخالفات, والتي يترتب عليها عقوبات تأديبية وجنائية , تختلف وتتضاعف عقوبتها حسب تبعية الموظف للجهة الإدارية التي يتبع لها , وهي تعتبر من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية وأن الشريعة لم تضع لها عقوبة محددة , ولكن نجد أن النصوص الشرعية قد جاءت متضافرة بين مسؤولية الموظف عن العمل الذي يوكل إليه , وأنه يجب عليه أن يؤديه بالشكل المطلوب , وفق ما يخدم المصلحة العامة , وبالتالي يؤدي حقوق المسلمين عليه الذين استأجروه لهذا الغرض , وقد روي أبو حميد الساعدي , قال بعث رسول الله صلي عليه وسلم رجلا من الأزد , يقال له أبن اللتبية على الصدقة , فقال هذا لكم وهذا أهدي إلى , فقام النبي صلي عليه وسلم فحمد الله , وأثني عليه , ثم قال (ما بال العامل نبعثه , فيجي فيقول : هذا لكم , وهذا أهدي إلى , ألا جلس في بيت أمه , فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده , لا نبعث أحدا منكم , فيأخذ شيئا , إلا جاء يوم القيامة يحمله /على رقبته , إن كان بعيرا له رغاء , أو بقرة لها خوار , أو شاة تيعر )) فرفع يده حتى رأيت عفرة إبطيه , فقال 🙁 اللهم هل بلغت )) ثلاثا متفق عليه .
وهذا مما يدل على اهتمام الرسول صلي الله عليه وسلم بالرقابة على العمال المأجورين ومحاسبتهم إذا قصروا في أداء وأجبتهم أو أخذوا حقوق الآخرين بغير حق والتحذير من عواقب ذلك .
وبالتالي فالموظف في نظر الفكر الإداري الإسلامي أمين على المصلحة العامة في نطاق اختصاصه , وعليه بالتالي أن يبذل قصارى جهده للإسهام في حسن أداء المرفق الذي يعمل به. لذلك فهو مسؤول عن أي تقصير في قيامه بهذه المسؤولية وفي مقابل هذا التقصير يؤاخذ ويعاقب تأديبيا عليه.

الأجهزة الرقابية في بعض الدول العربية :

هناك بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية التي اهتمت بهذا الأمر وأصدرت بناء على ذلك مرا سيم ملكية لإنشاء هيئة تقوم بدور الرقابة على مخالفات الموظف الإدارية والمالية تسمي هيئة الرقابة والتحقيق تتبع لديوان المظالم وهي هيئة مستقلة وقد جعل لها حق ممارسة سلطات النيابة الإدارية , وهو دورها الأساسي باعتبار أنها تباشر مهام الرقابة على الأجهزة الحكومية , والكشف عن المخالفات المالية والإدارية.
ولها سلطات التفتيش لأماكن العمل للكشف عن المخالفات , أما غير أماكن العمل فإن تفتيشها يخضع للأحكام العامة للتفتيش الوارد في النظم المعمول بها في المملكة العربية السعودية , وبعد أن يتم التحقيق في الموضوع , ويظهر منه وجود ما يعده النظام في المملكة مخالفة مالية أو إدارية تستوجب إيقاع العقوبة التاديبية أو ينتج عن التحقيق وجود جريمة تستوجب إيقاع العقوبة , فعلى الهيئة أن توضح ذلك بالأدلة الكافية ليتم إعداد قرار الاتهام اللازم لذلك , وللمرافعة لدي الجهة القضائية المختصة بالمملكة .
وكذلك نجد أن هناك جهة رقابية بالمملكة العربية السعودية تسمي ديوان المراقبة العامة على المؤسسات الخاصة والشركات التي تساهم الدولة في راس مالها وهو جهاز مستقل مرجعه رئيس مجلس الوزراء بالمملكة العربية السعودية ويختص بالرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة ومصروفاتها وكذلك مراقبة كافة أموال الدولة المنقولة والثابتة ومراقبة حسن استعمال هذه الأموال واستغلالها والمحافظة عليها , وهناك أجهزة رقابية مختلفة بالمملكة العربية السعودية تقوم بدور الرقابة وتأديب الموظفين .
ونجد في جمهورية مصر أنشئت النيابات الإدارية المختصة بالتحقيق في مخالفات الموظفين المالية والإدارية , ونجد أن جمهورية مصر لم تكتفي بالنيابات الإدارية فقط بل اهتمت اهتماما كبيرا بإنشاء الشئون القانونية في الأجهزة والمؤسسات والشركات الحكومية وحددت لها مهامها التي تتعلق بالتحقيق في المخالفات في بدايتها قبل أن تستفحل ,,حيث أنه لهم دور كبير في جمع الاستدلالات والبينات الأولية والتحقيق الابتدائي قبل تحويله إلي النيابة الإدارية وذلك لقربهم من المخالفين والمشتبه فيهم من الموظفين ومعرفتهم بسلوكهم داخل الجهة الإدارية .
ونجد أيضا أن مصر أنشأت جهاز المدعي الاشتراكي للتحقيق في القضايا المتهمين فيها من كبار المسئولين الحكوميين مما لهم من تأثير على التحقيق والذي يقتضي بالضرورة أن تكون جهة التحقيق معهم مستقلة وتتبع مباشرة لرئاسة الدولة .

أهمية النيابة الإدارية ودورها الأساسي في الرقابة :

إن للنيابة الإدارية دور كبير وأساسي باعتبار أنها تباشر مهام الرقابة على الأجهزة الحكومية والإدارية , وذلك مما لدي المستشارين من الاستقلالية والخبرة القانونية والذي يوفر ضمانات كافية لنجاح التحقيق في مثل هذه المخالفات مع الأخذ في الاعتبار وجود أجهزة داخلية مساعدة بالجهات الحكومية لتقوم بجمع الاستدلالات والتحقيقات الأولية وهي الشئون القانونية , و دور النيابة الإدارية يأتي من خلال تخصص المستشارين القانونين للقيام بمثل هذه المهام ومن خبرتهم في التحقيق في قضايا التأديب والتي تتطلب قدر خاص من المعرفة بالإضافة للدارسة القانونية , وأيضا لأن تصرفاتهم يغلب عليها طابع الاستقلال لا التنفيذ المرتبط بأوامر صادرة من الرؤساء التنفيذيين , وبذلك يودون دورهم بكل فعالية وجدية وحرص, وهم يتبعون لوزارة العدل ولا يختلفون عن النيابة الجنائية إلا في اختلاف الجرائم التي يحققون فيها , وبما أن للنيابة حق ممارسة الكشف عن المخالفات الإدارية والمالية , فعليها إذا كشفت عن شي من هذه المخالفات من خلال رقابتها أن تجري التحقيق اللازم في الأمر , بما في ذلك التفتيش لأماكن العمل للكشف عن المخالفات وبعد أن يتم التحقيق في الموضوع , ويظهر منه وجود ما يعده القانون مخالفة مالية أو إدارية تستوجب إيقاع العقوبة التأديبية , أو ينتج عن التحقيق وجود جريمة تستوجب إيقاع العقوبة , فإن عليها أن توضح ذلك بالأدلة الكافية ليتم إعداد قرار الاتهام اللازم لذلك , وللمرافعة لدي الجهة القضائية المختصة وذلك حسب القانون الذي ينظم عملها.
أما بالنسبة للإجراءات التي تنظم الدعوى التأديبية التي تقوم بإجراءاتها النيابة الإدارية , نجد أن فقهاء القانون اتفقوا أن قانون الإجراءات الجنائية هو القانون الأصل الذي يتعين الالتجاء إليه في حالة عدم وجود النص الخاص بها, وذلك للتشابه الكبير بين الدعوى التأديبية التي تقوم بالتحقيق فيها النيابة الإدارية والدعوى الجنائية .

ضرورة وجود أجهزة متعددة للرقابة:

لاشك وكما ذكرنا أنفا أن التطور الإداري والتوسع في الولايات والمحليات وإننتشار المؤسسات والشركات التي تملكها الدولة , وبالتالي زيادة عدد الموظفين وأيضا التطور الاقتصادي بالبلاد وانتشار الشركات الأجنبية والاستثمار الأجنبي بالبلاد , وكثرة المعاملات التجارية كل ذلك يجعلنا من المنادين بمواكبة التطور الإداري والتطور في أجهزة الرقابة على الأموال العامة في معظم دول العالم , وذلك بالاهتمام بإنشاء نيابة إدارية متخصصة , للقيام بمهام الرقابة على مخالفات وجرائم الموظفين والتحقيق معهم في حالات تقصيرهم وتجازوهم في استخدام الأموال العامة وسلطاتهم , وأيضا إنشاء محاكم إدارية متخصصة لتفصل في قضايا ومخالفات الموظف العام , بعيدا عن تأثير الرؤساء التنفيذيين وحفظا للمال العام وحقوق المواطنين , وإنشاء جهاز للمراقبة على المؤسسات الخاصة والشركات التي تساهم الدولة في رأسمالها, وأن يكون جهاز مستقل ويتبع لرئاسة الجمهورية .
وهذا بدوره لا يقدح في دور أجهزة الرقابة الحالية والتي تودي دورها بكل فعالية واستقلالية مشهود لها ,ولاشك أنها قامت بالفعل بالكشف عن جرائم كثيرة أضرت بالاقتصاد السوداني.
ونري أيضا من الأجدى توظيف عدد من القانونيين والمستشارين القانونين بالشئون القانونية بالوزارات الإتحادية والولايات والمحليات والمؤسسات والشركات التي تملكها الدولة أو تشارك فيها ليقوموا بإجراءات الاستدلال وإجراءات التحقيق الأولية حتى لا تستفحل جرائم الاختلاسات والاعتداء على المال العام……. (فدينار رقابة خير من ألف لجنة تحقيق بعد فوات الأوان).