الجمع بين المنطق القضائي والمنهج القانوني في الرقابة علي حسن تطبيق القانون‏:‏

وما كانت أسباب العدل وعلم القانون لتجتمع في قضاء محكمة النقض لو لم تستخدم كلا من المنطق القضائي والمنهج القانوني السليم أسلوبا لتفكيرها‏،‏ للوصول إلي الحل القضائي السليم. فاستطاعت المحكمة أن تشق طريقها في مراقبة منطق الاستخلاص الموضوعي للقاضي في مقام الرقابة علي حسن تطبيق القانون‏.‏
وقد اتخذت المنطق القضائي أداة لمراقبة مدي حسن تطبيق القانون‏،‏ تأسيسا علي أنه لا يمكن لمحكمة النقض أن تضمن وحدة كلمة القانون في أحكام القضاء ما لم تضمن في الوقت ذاته سلامة المنطق القضائي الذي ينبني عليه استخلاص الواقع‏. فالمنطق المعوج في استخلاص واقع الدعوي يقود إلي تطبيق معوج للقانون‏،‏ لأن التحكم في الواقع لابد أن يسفر عن خطأ في القانون‏.‏

وقد استطاعت محكمة النقض وضع قواعد للمنطق القضائي في مجال رقابتها علي تسبب الأحكام‏،‏ بما يسمح بضمان سلامة هذا المنطق كخطوة لازمة نحو وحدة القضاء في حسن تطبيق القانون‏. وتجلي ذلك واضحا في كثير من أحكامها التي تتحدث إما عن سلطة المحكمة في استخلاص الدليل بطريق الاستنتاج والاستقراء وكافة الممكنات العقلية‏،‏ أو عن حق المحكمة في استنباط الحقيقة بطريق الاستنتاج والاستقراء وكافة الممكنات العقلية طالما اتفق ذلك مع العقل والمنطق‏. ومن خلال هذه القواعد التي أقامتها محكمة النقض حددت المحكمة عيوب التسبب التي كشفت عن اعوجاج منطق الحكم‏،‏ فاستجلت عيوب القصور في البيان والفساد في الاستدلال والخطأ في الإسناد في مقام رقابتها علي منطق المحكمة في تحديد الواقع أو استخلاصه‏.‏

وتجلت قيمة رقابة محكمة النقض علي محكمة الموضوع بشأن الواقع في نقضها للأحكام إذا كانت المقدمات التي انتهت إليها المحكمة لا تؤدي من الناحية المنطقية إلي النتيجة التي خلصت إليها‏. ومن صور هذه الرقابة ما أطلقت عليه محكمة النقض تعبير التعسف في الاستنتاج لتتأكد رقابة المحكمة علي المنطق القضائي لمحكمة الموضوع في معرض استخلاص الواقع‏. وكل ذلك إيمانا بأن الأسس التي يقوم عليها المنطق القضائي هي المدخل نحو حسن تطبيق القانون‏. وفي هذا النظام تجلت روعة قضاء محكمة النقض حين أخرجت الإثبات المادي للوقائع من نطاق رقابتها‏،‏ بينما مدت هذه الرقابة علي منطق استخلاص الواقعة برمتها في ضوء ما أثبتته من ماديات الوقائع‏. ومن خلال رقابة محكمة النقض علي المنطق القضائي لمحكمة الموضوع ساهمت المحكمة في الاقتناع العام بعدالة الأحكام التي تتأبي ما لم تكن مبنية علي منطق سليم‏،‏ وساهمت بذلك في ضمان الأمن القانوني للحيلولة دون الخطأ في تطبيق القانون تحت تأثير الخطأ في الواقع الذي يعتبر مجرد هيكل عظمي يكسوه القانون‏،‏ فإذا كان الهيكل معوجا أو مشوها انعكس ذلك علي تطبيق القانون‏.‏

الرقابة عند تحديد معني القانون لضمان حسن تطبيقه‏:

وإذا كان القانون علما واسع النطاق يمتد في كل اتجاه ويتخذ أشكالا مختلفة‏،‏ فإن منهج التفسير القانوني يعين في تحديد معني القاعدة القانونية الواجبة التطبيق‏،‏ ويحرك النشاط القضائي عند إعمال حكم القانون‏. ولا يتوحد منهج التفسير القانوني الذي يلجأ إليه المنشغلون بالقانون علي اختلاف مشاربهم ومواقعهم بل يسوده الاختلاف‏. وقد اتسعت ساحة محكمة النقض للاستماع إلى مختلف أسانيد رجال القضاء من خلال أحكامهم المطعون فيها وإلى مختلف أسانيد المحاماة من خلال مرافعاتهم‏،‏ وكأنها تعبر عما يقبع في عقولهم عن فهم لمعني القانون‏. فالمحامون يرتكزون في حججهم القانونية علي حق الدفاع‏،‏ والقضاة يرتكزون في أسانيدهم القانونية علي رسالة القضاء في إقامة العدل وإعمال صحيح حكم القانون‏. ووسط هذا الزخم الكبير من الحجج والأسانيد تأتي محكمة النقض لكي تحسم الخلاف في تحديد كلمة القانون وتفرض الحل القانوني للنزاع بعد أن تتحري وجه الصواب في المنطق القضائي عند استخلاص الواقع الذي يتم عليه إنزال حكم القانون‏.‏

ولقد استطاعت محكمة النقض عبر تاريخها العريق في تفسير القانون أن تتجاوز متونه الشكلية لكي تكفل الحياة المتجددة للقانون وتكفل صلاحيته للتطبيق عبر المستقبل بغض النظر عن ظروف نشأته واللحظة التاريخية لميلاده وذلك بالنظر إلي نصوصه بوصفها قواعد قانونية عامة مجردة لا مجرد متون شكلية‏.‏

لقد آمنت محكمة النقض بأن معني القانون ليس أسيرا لنصوصه الجافة أو حروفه الجامدة‏،‏ وأمكن لها استخلاصه من خلال التفاعل مع الواقع والمستقبل بعوامله السياسية والاقتصادية والاجتماعية‏. كما لم يوهن من قدرة المحكمة علي التأويل الذي يكفل تطور معاني القانون‏،‏ أن هذا القانون كان من صنع جيل قديم‏،‏ لأن القانون بحسب الأصل لا تنتهي صلاحيته بتاريخ معين‏. كما أنه بين الجيل القديم الذي عاصر وضع القانون والجيل الجديد الذي يعاصر تفسيره وتطبيقه علاقة تربط الآباء بالأبناء. وعلي كل جيل من الأجيال التي تتسلم أمانة تطبيق القانون أن تتطور وأن تستمر لا أن يلقي في الهواء ما تسلمه من تراث أسلافه‏.

وتجلت حنكة محكمة النقض في تفسير القانون تارة في مجال تطبيق النص‏،‏ وتارة أخري في مجال تحديد المركز القانوني الذي أنشأه النص‏،‏ وكذلك في مجال تحديد الفكرة التي عبر عنها النص‏.‏ في هذا الإطار استطاعت محكمة النقض أن تنهض بدورها في مراقبة صحة تطبيق القانون بعد أن تعمل فيه منهج التفسير القانوني السليم وتستجلي معانيه‏. وإذا كان التمييز يجري بين مخالفة القانون‏،‏ والخطأ في تطبيقه‏،‏ والخطأ في تأويله‏،‏ إلا أن هذه الصور لا تنفصل عن بعضها‏. فالخطأ في تطبيق القانون يقود عادة إلي مخالفة القانون‏،‏ كما أن الخطأ في تأويل القانون يقود عادة إلي الخطأ في تطبيقه أو إلي مخالفته‏. وقد استطاعت محكمة النقض توحيد كلمة القانون من خلال مراقبة صحة تطبيقه في ضوء المعني القانوني الذي تحدده للقاعدة القانونية التي يحملها نص القانون بين جنباته‏. ويتحقق ذلك في مناسبتين هما‏، إعمال التكييف القانوني علي واقعة معينة، والنطق بحكم القانون عند الفصل في الدعوى.‏

دور محكمة النقض في مجال التكييف القانوني على واقعة معينة :

أوجبت محكمة النقض علي قاضي الموضوع أن يبحث الواقعة بجميع كيوفها وأوصافها حتى ينزل عليها التكييف القانوني السليم إعمالا لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات‏، فهذا المبدأ ليس موجها إلي المشرع وحده‏، بل موجه أيضا إلي القاضي‏. فإذا تجاهل تطبيقه بأن أضفي على الواقعة وصفا قانونيا خاطئا انطوى ذلك علي إخلال بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في بعض الأحوال. وفي هذا الصدد حددت محكمة النقض أربع دعائم لسلطة قاضي الموضوع في أعمال التكييف القانون الصحيح‏:
)أولاها‏)‏ عدم التقيد بالتكييف القانوني المرفوعة به الدعوي كما ورد في أمر الإحالة الصادر من النيابة أو في ورقة التكليف بالحضور أو في طلبات النيابة العامة‏،‏ وإنما يتعين علي القاضي أن يضفي علي الواقعة المعروضة عليه التكييف القانون السليم‏

(‏ المادة‏208‏ إجراءات‏)‏ انظر قضاء مستقرا لمحكمة النقض مقالة نقض‏16‏ أكتوبر سنة‏1967‏ مجموعة أحكام النقض س‏18‏ رقم‏200‏ ص‏21،986‏ ديسمبر سنة‏1967‏ س‏18‏ رقم‏295‏ ص‏3،1228‏ مارس سنة‏1988‏ س‏39‏ رقم‏55‏ ص‏377(
)ثانيتها‏) أن القاضي لا يتقيد بالتكييف القانوني الذي أثبتته غيره من جهات القضاء‏.‏ ويستوي أن تكون هذه الجهة من قضاء التحقيق أو قضاء محكمة أول درجة مع ملاحظة أن المحكمة الاستئنافية مقيدة بعدم الإضرار بمركز المتهم إذا كان هو المستأنف الوحيد‏،‏ طبقا لمبدأ عدم إضرار المستأنف باستئنافه‏(‏ المادة‏3/417‏ إجراءات‏)‏ ومقيدة بحدود الاستئناف المعروض عليها‏،‏ وقد رتبت محكمة النقض علي ذلك أن الحكم الصادر في المعارضة بعدم جوازها أو بعدم قبولها لرفعها عن حكم غير قابل لها يقتصر في موضوعه علي هذا الحكم باعتباره حكما شكليا قائما بذاته دون أن ينصرف اثر الاستئناف إلي الحكم الابتدائي الفاصل في الموضوع لاختلاف طبيعة الحكمين‏

(‏ نقض‏23‏ أكتوبر سنة‏2005‏ الطعن رقم‏23757‏ لسنة‏65‏ ق‏).

وكذلك الشأن فإنه نظرا لتحديد نطاق الاستئناف بشخص رافعه‏،‏ فإن استئناف النيابة العامة يكون مقصورا علي الدعوي الجنائية‏،‏ مما لا يجوز معه للمحكمة الاستئنافية أن تنظر الدعوي المدنية وتفصل فيها‏

(‏ نقض‏4‏ يناير سنة‏2006‏ الطعن رقم‏18598‏ لسنة‏70‏ ق(
)ثالثتها‏) أن تغيير التكييف القانوني للواقعة ليس محض رخصة للمحكمة‏،‏ بل هو
واجب عليها‏،‏ فعليها أن تمحص الواقعة المطروحة عليها بجميع أوصافها وان تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا صحيحا‏ (نقض‏8‏ يونيو سنة‏1964،‏ مجموعة أحكام النقض س‏15‏ رقم‏94‏ ص 476.‏ 12مايو سنة‏1964‏ س‏15‏ رقم‏74‏ ص ‏380. ‏ أول يونيو سنة‏1965‏ س‏16‏ رقم ‏108‏ ص ‏538. 7 نوفمبر‏1966‏ س‏17‏ رقم‏201‏ ص ‏1076. 10‏ ابريل سنة‏1967‏ س ‏18‏ رقم ‏98‏ ص‏ 512. 13 أكتوبر سنة‏1974‏ س ‏25‏ رقم‏ 142‏ ص‏661). فليس للمحكمة أن تقضي بالبراءة في دعوي قدمت إليها بوصف معين إلا بعد تقليب وقائعها علي جميع الوجوه القانونية والتحقق من أنها لا تقع تحت أي وصف قانوني من أوصاف الجرائم المستوجبة قانونا للعقاب

‏(‏ نقض‏2‏ ابريل سنة ‏2001‏ الطعن رقم ‏3388‏ لسنة‏65‏ ق. 8‏ يونيو سنة‏1964‏ مجموعة أحكام النقض س ‏15‏ رقم 94‏ ص ‏476‏. 23مايو سنة ‏1967‏ س ‏18‏ رقم ‏138‏ ص ‏705).‏
(رابعتها‏) وجوب تنبيه المتهم إلى التكييف القانوني الجديد احتراما لحق الدفاع عندما يتطلب الأمر ذلك‏، ولذلك وجب علي المحكمة في هذه الحالة أن تمنح المتهم أجلا لإعداد دفاعه إذا طلب ذلك. وطالما أن تغيير التكييف لا يمس حق الدفاع فلا تلتزم المحكمة بلفت نظر الدفاع إلى التكييف القانوني الجديد إذا كان هذا التكييف مما يتسع له التكييف المرفوعة به الدعوي (‏ نقض‏25‏ يناير سنة‏1965‏ مجموعة أحكام النقض ص ‏16‏ رقم ‏24‏ ص‏101).‏ وذلك الشأن إذا استندت المحكمة في تغيير وصف الجريمة إلى استبعاد بعض عناصر الواقعة الجنائية المرفوعة بها الدعوي‏،‏ مثل نية القتل أو سبق الإصرار

‏(‏ نقض‏27‏ نوفمبر سنة‏1956‏ مجموعة أحكام النقض س ‏7‏ رقم‏133‏ ص 1188. 3 ديسمبر سنة‏1957‏ س ‏8‏ رقم ‏259‏ ص 44. 5 مارس سنة ‏1962‏ س ‏5313‏ ص 201. 4 أكتوبر سنة ‏1965‏ س ‏16‏ رقم‏127‏ ص 662).

كما أنه إذا كان كل ما فعلته المحكمة عند إضافة عناصر جديدة هو مجرد تصحيح لبيان كيفية ارتكاب الجريمة بما لا يغير في وصف الجريمة‏،‏ فإنه لا يقضي
المتهم إلي ذلك‏

(‏ نقض ‏28‏ فبراير سنة ‏1956‏ مجموعة أحكام النقض س ‏7‏ رقم ‏82‏ ص ‏281).‏
واحتراما لحق الدفاع استقر قضاء النقض علي وجوب تنبيه المتهم كلما ترتب علي تغيير وصف التهمة أو تعديله إثارة دفاع جديد للمتهم. ويتحقق ذلك في حالتين هما‏:
(أ‏)‏ أن يتم تغيير وصف التهمة إلى وصف آخر أشد ولو كان مبنيا علي ذات الواقعة المنسوبة إليه دون إضافة أي عنصر آخر إليها‏

(نقض ‏26‏ نوفمبر سنة ‏1962‏ مجموعة أحكام النقض س ‏13‏ رقم ‏188‏ ص 770. 14 أكتوبر سنة ‏1963‏ س ‏14‏ رقم ‏113‏ ص‏612)‏.
‏(‏ب‏)‏ أن يتم تعديل وصف التهمة بناء على إضافة عناصر جديدة إلى الواقعة المرفوعة بها الدعوي‏،‏ بغض النظر عما إذا كان التعديل منطويا علي صالح المتهم أو ضده. ومن أمثلة تعديل وصف التهمة لصالح المتهم إذا عدلت المحكمة وصف التهمة من فاعل أصلي في تزوير إلى اشتراك فيه بناء على عنصر جديد لم يرد في أمر الإحالة

‏(‏نقض 28‏ فبراير سنة‏1956‏ مجموعة أحكام النقض س ‏7‏ رقم ‏82‏ ص‏ 271)،

أو استبعاد جناية الاختلاس لعدم توافر أركانها ثم إسناد جنحة السرقة إليه استنادا إلى عنصر جديد

‏(‏نقض 9‏ يناير سنة ‏1956‏ مجموعة أحكام النقض س ‏7‏ رقم ‏9‏ ص‏ 14).‏ وكذلك الشأن في تعديل وصف التهمة من ضرب أفضي إلى عاهة مستديمة إلى إصابة خطأ‏،‏ بعد استبعاد المحكمة ركن العمد‏،‏ لما ينطوي عليه هذا التعديل من إضافة ركن الخطأ حتى يكون المتهم علي بينة مما نسب إليه‏.‏

أمثلة لإبداعات محكمة النقض في استخلاص المبادئ :

وكما بينا من قبل استقر قضاء محكمة النقض في مجال إعمالها التكييف القانوني السليم على الواقعة على أن تجري ذلك فيما يتعلق بتحديد نطاق تطبيق النص، أو فيما يتعلق بتعريف المركز القانوني الذي أنشأه النص‏،‏ أو فيما يتعلق بتحديد الفكرة التي عبر عنها النص‏،‏ وفي هذه المجالات الثلاثة أبدعت محكمة النقض في استخلاص المبادئ التي تحمي الحقوق والحريات العامة‏،‏ فقدمت ثروة قضائية استطاعت بها أن تسهم في تأكيد سيادة القانون بشأن حماية الحقوق والحريات العامة‏،‏ نعرض أمثلة لها فيما يلي‏.‏

‏(‏أ‏)‏ التفسير في مجال تحديد نطاق تطبيق النص‏:‏

قضت محكمة النقض بأنه لا يصح تفتيش المحال العامة المفتوحة للجمهور بناء علي حقهم في دخولها ما لم يكن هذا التفتيش قائما علي حالة تلبس لا علي حق ارتياد المحال العامة

‏(‏ نقض 2‏ فبراير سنة ‏1986‏ مجموعة أحكام النقض س‏ 37‏ ص ‏217)‏

وقضت بعدم التوسع في القيود المفروضة علي حرية النيابة العامة في رفع الدعوي الجنائية‏. مما يجيز لها أن تباشر التحقيق في جريمة الاشتراك في تزوير عقد الزواج لأنها مستقلة في ركنها المادي عن جريمة الزنا

‏(‏نقض 16‏ أكتوبر سنة 1988‏ مجموعة أحكام النقض س ‏39‏ ص 914).
‏وأكدت محكمة النقض أن القيود التي وضعها المشرع علي حرية النيابة العامة في استعمال الدعوى الجنائية لا تمس حق المدعي بالحقوق المدنية في تحريك الدعوى أمام محكمة الموضوع مباشرة

(نقض 9‏ يناير سنة ‏1996‏ الطعن رقم ‏48182‏ لسنة ‏59‏ ق‏).

كما أكدت محكمة النقض أن حرية مجلس الشعب فيما يسنه من قوانين مقيدة باتخاذ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا لها

‏(نقض 7‏ أكتوبر سنة ‏1982‏ مجموعة أحكام النقض س‏ 33‏ ص ‏736).‏
وقضت محكمة النقض بأن لكل من أعضاء النيابة العامة في حالة إجراء التحقيق بنفسه أن يكلف أي مأمور من مأموري الضبط القضائي ببعض الأعمال التي من اختصاصه غير استجواب المتهم‏،‏ دون أن يمتد إلي تحقيق المندوب له خارج دائرة اختصاصه المكاني طالما كان هذا الإجراء في صدد دعوى بدأ تحقيقها علي أساس وقوع واقعتها في دائرة اختصاصه وانعقد الاختصاص فيها لسلطة التحقيق النادبة

(نقض 11‏ فبراير سنة 1974‏ مجموعة أحكام النقض س ‏25‏ ص ‏138،‏ أول يونيو سنة ‏1989‏ س ‏40. 15‏ يونيو سنة ‏1989‏ س ‏40‏ ص‏ 630. 5 مايو سنة ‏1991‏ س ‏42‏ ص ‏732).

وفي صدد تحديد نطاق النص علي سلطة القاضي الجنائي في الحكم بالبراءة أعطت محكمة النقض القاضي الجنائي سلطة واسعة بالنسبة للقضاء بالبراءة فاكتفت في صحة قضائه بالبراءة بأن يتشكك في صحة التهمة ولو تردى الحكم في خطأ قانوني أو لم ترد المحكمة الواقعة إلى وصف قانوني بعينه بل استقر قضاء محكمة النقض علي عدم اشتراط تضمن حكم البراءة أمورا أو بيانات معينة أسوة بأحكام الإدانة

‏(‏نقض 25‏ مايو سنة 1983‏ مجموعة أحكام محكمة النقض س 34‏ ص ‏674).

وفي صدد تطبيق المادتين 189‏ و‏190‏ عقوبات فيما يتعلق بنشر القضايا قصرت محكمة النقض إباحة النشر علي الإجراءات القضائية العلنية والأحكام التي تصدر علنا‏،‏ دون ما يجري في الجلسات غير العلنية أو التحقيق الابتدائي أو التحقيقات الأولوية أو الإدارية ‏(نقض 24‏ مارس سنة 1959‏ مجموعة أحكام النقض س‏ 10‏ ص 348. 16‏ يناير سنة ‏1963‏ س 14‏ ص 47‏)،

وقضت محكمة النقض بأن النص في المادة 44‏ من الدستور ينص علي صون حرمة المسكن وحظر دخوله أو تفتيشه إلا بأمر قضائي مسبب وفقا للقانون‏،‏ قابل للإعمال بذاته (نقض 20‏ نوفمبر سنة 1985‏ مجموعة الأحكام س 36‏ ص 1027

‏( ب‏)‏ التفسير في صدد تحديد المركز القانوني الذي أنشأه النص‏:‏

قضت محكمة النقض بأنه لما كانت حرمة المسكن تستمد من حرمة الحياة الخاصة لصاحبه‏،‏ فإن مدلول المسكن يتحدد في ضوء ارتباط المسكن بحياة صاحبه الخاصة‏،‏ فهو كل مكان خاص يقيم فيه الشخص بصفة دائمة‏،‏ أو مؤقتة‏،‏ وعلي ذلك فإن عدم اكتمال بناء المسكن أو عدم تركيب أبواب أو نوافذ له لا يقدح في أنه مكان خاص طالما أنه في حيازة صاحبه يقيم فيه ولو لبعض الوقت ويرتبط به ويجعله مستودعا لسره ويستطيع أن يمنع الغير من الدخول إليه إلا بإذنه فلا يعد مكانا متروكا يباح للغير دخوله دون إذنه ولا يجوز لرجال السلطة العامة دخوله إلا في الأحوال المبينة في القانون، وقضت بأن القيود الواردة علي حق رجل الضبطية القضائية في إجراء القبض والتفتيش تمتد إلي السيارات الخاصة بالطرق العامة طالما هي في حيازة أصحابها‏. وفي صدد الدفاع الشرعي‏،‏ نظمت محكمة النقض في تفسيرها لنصوص القانون حرية الدفاع الشرعي بوضع قيود تستلزمها الرقابة من اتخاذ تلك الجريمة وسيلة للاعتداء وليس لرد الاعتداء‏،‏ فأكدت محكمة النقض أنه لا قيام للدفاع الشرعي مقابل دفع اعتداء مشروع‏،‏ وأن حق الدفاع شرع لرد العدوان ومنع استمراره‏،‏ وليس من قبيل القصاص والانتقام لعدم تناسبهما. وقضت بأن استطاعة المدافع الاستعانة برجال السلطة العامة لحماية الحق المهدد تحول دون إباحة فعل الدفاع الشرعي‏،‏ وذلك باعتبار أنه لا محل للدفاع الشرعي إلا عند عجز السلطات العامة عن حماية الحق. وقضت بأنه لا وجود لحق الدفاع الشرعي إذا كان الاعتداء قد انتهي. وقضت بأنه كون المدافع محاميا لا يحرمه من حق الدفاع الشرعي عن ماله ولا يلزمه بأن يتخلي عن استعمال هذا الحق لرد ما يقع من اعتداء حفاظا علي ماله اكتفاء بالعمل علي استرداده بعد ضياعه. وقد حرصت محكمة النقض في تفسيرها للمادة ‏61‏ من قانون العقوبات علي عدم حصر حالة الضرورة في نطاق ضيق وتوسعت فيها تمكينا للأفراد من وقاية أنفسهم أو غيرهم مما قد يتعرضون له من أخطار جسيمة علي وشك الوقوع ليس لهم دخل في حدوثها‏،‏ إلا أن محكمة النقض حرصا منها علي عدم اتخاذ حالة الضرورة وسيلة للاعتداء علي حريات الأفراد‏،‏ وضعت لحالة الضرورة قيدا جوهريا هو أن الجريمة التي ارتكبها المتهم هي الوسيلة الوحيدة لدفع الخطر‏. وقضت محكمة النقض بأن المشرع نظم ممارسة حرية الصحافة بوضع قيود تستلزمها الوقاية من سطوة أقلام قد تتخذ من الصحف أداة للمساس بالحريات أو النيل من كرامة الشرفاء إن سبا أو قذفا أو إهانة أو غير ذلك من أفعال يتأبي علي المشرع إقرارها تحت ستار حرية الصحافة وما لها من قدسية وحماية‏،‏ وبتقدير أن الحرية في سنتها لا تتصور انفلاتا من كل قيد ولا اعتداء علي حقوق الغير ولا تسلطا علي الناس وباعتبار أنه لا شيء في الوجود يكون مطلقا من أي قيود‏.‏

‏(‏ج‏)‏ التفسير في صدد تحديد الفكرة القانونية التي عبر عنها النص دون أن يحدد مدلولها صراحة‏:‏

عنيت محكمة النقض بهذا التحديد في مقام مراقبة محكمة الموضوع في تحديدها لمعني بعض الأفكار غير المعرفة في القانون‏،‏ ومن أمثلة ذلك قولها عن التلبس بأنه حالة تلازم الجريمة ذاتها لا شخص مرتكبها‏،‏ وأنه يتعين أن يشاهد مأمور الضبط القضائي أثرا من آثارها ما ينبئ بذاته عن وقوعها‏،‏ وصونا للحرية الشخصية للأفراد توسعت محكمة النقض في تفسيرها بالمقصود بالتعذيبات البدنية في صور تطبيق المادتين 208 ، 282‏ عقوبات‏،‏ فلم تشترط فيها درجة معينة من الجسامة. وفي صدد تحديد المقصود بلفظ (الإذن‏)‏ برفع الدعوي الجنائية في جرائم النقد طبقا لمادة 419‏ من القانون رقم 80‏ لسنة 1947‏ بتنظيم الرقابة علي عمليات النقد المضافة بالقانون رقم 111‏ لسنة 1953‏ قضت بأنه بحسب التكييف القانوني السليم هو “طلب” بالمعني الوارد في المادة التاسعة من قانون الإجراءات الجنائية‏. وفي صدد حماية حرية الاختراع وتشجيعها توسعت محكمة النقض في تعريف الابتكار الذي يستحق الحماية‏،‏ فقضت بأن الابتكار قد يتمثل في فكرة أصلية جديدة فيخلق صاحبها ناتجا جيدا‏،‏ وقد تتخذ الفكرة الابتكارية شكلا آخر ينحصر في الوسائل التي يمكن عن طريقها تحقيق نتيجة كانت تعتبر غير ممكنة في نظر الفن الصناعي لا قائم قبل الابتكار‏،‏ وقد يكون موضوع النشاط الابتكاري مجرد التوصل إلي تطبيق جديد لوسيلة مقررة من قبل‏،‏ وليس من الضروري أن تكون النتيجة جديدة‏،‏ بل الجديد هو الربط بين الوسيلة والنتيجة واستخدام الوسيلة في غرض جديد‏،‏ وتسمي البراءة في الحالة براءة الوسيلة وهي تنصب علي حماية التطبيق الجديد‏،‏ وفي صدد تحديد معني الاعتراف الذي يعول عليه استقر قضاؤها علي وجوب أن يكون اختياريا وأنه لا يعتبر كذلك ولو كان صادقا إذا صدر تحت تأثير الإكراه أو التهديد كائنا ما كان قدره. وفي صدد تحديد المقصود بكذب البلاغ قضت محكمة النقض بأن العبرة في كذب البلاغ أو صحته هي بحقيقة الواقع‏،‏ ولا يصح القول بأنه إذا عجز المبلغ عن الإثبات فإن بلاغه يعتبر كاذبا‏،‏ وعرفت محكمة النقض الاستيقاف بأنه إجراء بمقتضاه يحق لرجل السلطة العامة أن يوقف الشخص ليسأله عن هويته وعن حرفته ومحل إقامته ووجهته إذا اقتضي الحال علي أساس أن له مسوغا‏،‏ واستندت محكمة النقض إلي هذا التعريف في التمييز بين الاستيقاف والقبض واعتبار الاستيقاف غير المشروع قبضا باطلا لا يستند إلى أساس وينسحب هذا البطلان إلى تفتيش المتهم وما أسفر عنه من العثور علي المادة المخدرة‏،‏ لان ما بني علي الباطل باطل‏. وفي صدد المرض العقلي الذي تنعدم به المسئولية الجنائية طبقا لنص المادة 62‏ من قانون العقوبات هو ذلك المرض الذي من شأنه أن يعدم الشعور أو الإدراك‏،‏ أما سائر الأمراض والأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره أو إدراكه فلا تعد سببا لانعدام المسئولية‏.

وفي صدد تعريف الاستيلاء علي مال الدولة المنصوص عليه في المادة 113‏ عقوبات عرفته محكمة النقض بأنه يقتضي وجود المال في ملك الدولة عنصرا من عناصر ذمتها المالية‏،‏ ثم قيام موظف عام‏-‏ أو من في حكمه‏-‏ بانتزاعه منها خلسة أو حيلة أو عنوة. وعرفت محكمة النقض المقصود بالحكمين المتناقضين وفقا للفقرة الثانية من المادة 441‏ إجراءات لقبول طلب إعادة النظر في الحكم النهائي الصادر بالعقوبة‏،‏ بأنه ينصرف إلى الحالة التي تكون فيها حجية أحد الحكمين تتناقض مع حجية الحكم الآخر أو تهدرها فلا يتفق أساس إدانة كل من المحكوم عليه مع أساس إدانة الأخر‏،‏ ولا يستقيم في حكم العقل والمنطق قيام الحكمين معا‏.‏
وعرفت محكمة النقض المقصود بالإهانة التي توجه إلي موظف عمومي أثناء تأدية وظيفته أو بسبب تأديتها المؤثمة بالمادة 134‏ عقوبات ينصرف إذا تعمد الجاني توجيه العبارات إلي المجني عليه مباشرة‏،‏ فإذا وجهت إلي إدارة تابعة له لا تتوافر أركان جريمة الإهانة. وعرفت محكمة النقض الرهن الذي قصده الشارع في جريمة خيانة الأمانة بأنه الرهن الحيازي دون الرهن الرسمي. وعرفت محكمة النقض الإجراءات الجنائية التي لا يجوز اتخاذها قبل عضو مجلس الشعب إلا بعد استئذان المجلس بأنها إجراءات التحقيق الماسة بشخص عضو مجلس الشعب كتكليفه بالحضور أو استجوابه أو إصدار أمر بضبطه وإحضاره أو حبسه أو تفتيش شخصه أو مسكنه أو إقامة الدعوي ضده أمام المحكمة الجنائية‏،‏ أما غير ذلك من إجراءات التحقيق غير الماسة بشخص عضو المجلس كسماع الشهود وإجراء المعاينات وندب الخبراء وغيرها والتحقيق دون قيد مشابه مع متهمين آخرين لا يلزم للتحقيق معهم إذن فلجهة التحقيق أن تجريها دون انتظار لإذن المجلس‏،‏ وأنه لا محل‏-‏ من بعد‏-‏ لإعمال حكم الفقرة الثانية من المادة التاسعة من قانون الإجراءات الجنائية التي جري نصها علي أنه‏:‏ “وفي جميع الأحوال التي يشترط القانون فيها لرفع الدعوي الجنائية تقديم شكوى أو الحصول علي إذن أو طلب من المجني عليه أو غيره لا يجوز اتخاذ إجراءات التحقيق فيها إلا بعد تقديم هذه الشكوى أو الحصول علي هذا الإذن أو الطلب‏..” فحرمت اتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق‏،‏ ولو لم يكن ماسا بشخص المتهم أو مسكنه إذا لم يكن هناك إذن‏،‏ ذلك أن نص هذه الفقرة الأخيرة ورد بشأن الإذن الذي يستلزمه قانون من القوانين‏،‏ فخرج بذلك الإذن الوارد بالمادة ‏99‏ من الدستور من إطارها‏-‏ إذ لا يجوز تقييدها بموجب تشريع أدني وكان تحت نظر المشرع الدستوري عند صياغة المادة المشار بيانها‏،‏ ولو كان يرى هذا الرأي لنص عليه صراحة‏.‏

خاتمة

هذه بعض نظرات علي قضاء محكمة النقض لضمان حسن تطبيق القانون، لقد عملت هذه المحكمة علي تأكيد سيادة القانون من خلال استخلاص معناه الحقيقي وصولا لاستخدام رقابتها من اجل العمل علي توحيد كلمة القانون‏. وقد ساهمت محكمة النقض عبر قضائها المستنير في تحقيق الأمن القانوني‏،‏ لأن اختلاف المحاكم في تطبيق القانون من شأنه أن يؤدي إلي تعدد معناه واختلاف الناس في تفسيره‏. وهذا الأمر يؤثر في الأمن القانوني بما يزعزع سيادة القانون ويخل بمبدأ المساواة أمام القانون‏.

ولهذا حرصت محكمة النقض علي منع هذا الاختلاف‏،‏ وتحقيق الاستقرار في تحديد معني القانون لضمان سلامة تطبيقه‏.
ولكننا نلاحظ أن محكمة النقض رغم الأعباء الجسام التي تتحملها لضمان حسن تطبيق القانون مازالت تؤدي دورها عبر توافر شرط المصلحة في الطعن لدي أحد الخصوم‏،‏ وكم كنا وما زلنا نأمل أن ينفتح طريق الطعن بالنقض الجنائي لمصلحة القانون ضد الأعمال القضائية والقرارات أو الأحكام المخالفة للقانون وذلك بناء علي طلب النائب العام حتى لا يتأذي القانون بسوء تطبيقه بما يسيء للعدالة‏.‏

ومن ناحية أخرى، أليس أمرا عجبا أن نرى حكما قضائيا مخالفا للقانون‏،‏ ثم يسمح القانون بعد ذلك أن ينتج هذا الحكم أثاره دون إصلاح الخطأ القانوني بدعوي انطباق نظرية العقوبة المبررة؟‏!‏

إن محكمة النقض بما تملكه من سمو موقعها في مراقبة حسن تطبيق القانون قادرة علي كشف ما يعتور التشريع في بعض الأحوال من عيوب تتبدى عند تطبيقه. ولهذا نأمل أن يصدر تقرير سنوي من محكمة النقض حول نشاط المحكمة وملاحظاتها عند فحص الطعون،‏ وما ترى إدخاله من تحسينات لمعالجة الصعوبات التي تقابلها‏،‏ ومنها ظاهرة ازدياد الطعون الجنائية وتأخر الفصل فيها‏،‏ بالإضافة إلى هيكل محكمة النقض بما يتطلبه من تحديث وتطوير لضمان فاعلية أسلوب العمل فيها‏ واقتراح ما تراه من تعديلات للقوانين لمعالجة بعض العيوب التشريعية التي تلاحظها‏.‏

ونقر بأن محكمة النقض كان لها دور محمود في توجيه المشرع نحو تعديل بعض نصوص قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وتقنين للمبادئ الرفيعة التي أرستها هذه المحكمة‏. وإذا كان لنا في العيد الماسي لمحكمة النقض أن ننظر بإعجاب وتقدير كبيرين للإنجازات الضخمة التي أنجزتها المحكمة في مقام العمل علي حسن تطبيق القانون وتوحيد كلمته‏، فإننا في ذات الوقت نسجل أن هذه المحكمة هي الحصن الأمين للحقوق والحريات‏،‏ فبفضل استجلاء معاني القانون وتوحيد كلمته ارتفعت سيادة القانون وتوحدت قيم المشروعية والأمن القانوني. ولا أدل علي ذلك مما سطرته محكمة النقض بحروف من نور من أنه لا يضير العدالة إفلات مجرم من العقاب بقدر ما يضيرها الافتئات علي حريات الناس والقبض عليهم بدون وجه حق.