المحكمة الجنائية الدولية والخوف من العدالة

عد أكثر من نصف قرن علي صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم تصل الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ـ بعد ـ إلي توفير الآليات الفعّالة لبلوغ الأهداف المنشودة من الإعلان والمواثيق الأخري، فمن المعروف أنّ الآليات المعتمدة لاتتعدي إعداد تقارير ومناقشتها وإصدار توصيات بشأنها. وقد كان هذا الخلل مصدر قلق العديد من النشطاء في مجال حقوق الإنسان الذين سعوا إلي إصلاح النظام المعمول به في إطار هيئة الأمم المتحدة وجعله أكثر فعالية وتجاوبا مع مطامح الشعوب إلي الحرية والعدالة والحكومات الرشيدة.

وفي هذا السياق كانت المطالبة بـ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية أحد أهم المطالب لتوفير الآليات والضمانات الكفيلة بالوقاية من الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان ومحاسبة مرتكبيها والمسؤولين عنها ومعاقبتهم. ومع بداية العام القادم ستكون المحكمة الدولية قد شرعت في عملها كأول محكمة دائمة في العالم للفصل في جرائم الحرب والإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان، مما يوفر إمكانية ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين وغيرهم. فما هي الأسس التي تقوم عليها المحكمة؟ وما هي صلاحياتها؟ وما هي مواقف الأطراف الدولية والإقليمية منها؟ وما هي آفاقها؟.

لقد استغرق إعداد معاهدة المحكمة والمصادقة عليها بضع سنوات، حيث بدأ تداول الفكرة في العام 1993 حين اقترحت لجنة القانون الدولي إعداد معاهدة دولية لهذا الغرض وتمت مناقشة ميثاقها بروما في العام 1998. غير أنّ إبرام المعاهدة وجعلها نافذة لم يكن ممكنا إلا بعد شهر نيسان (ابريل) 2002، حيث تمّت المصادقة عليها من قبل أكثر من ستين دولة، وهو العدد المطلوب، كحد أدني، لجعل المعاهدة نافذة.

وجاءت المحكمة استجابة للمطالبة المستمرة بتعقب مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية، فقد تضمنت المعاهدة تعريفا واضحا ومحددا لهذه الجرائم : كل الجرائم التي ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق ومنهجي وموجّه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين ويشمل جرائم القتل المتعمّد والإبادة والاسترقاق وإبعاد السكان أو نقلهم بالقوة والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية والتعذيب . كما أنّ قيام المحكمة وممارستها أعمالها قد يردعان القيام بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ويعوّقان محاولات التأخير والمماطلة في النظر إلي الجرائم ضد الإنسانية، ويمنعان الانتقائية في إقامة محاكم دولية مؤقتة وظرفية (يوغسلافيا ورواندا). فثمة جريمة حرب ضد الإنسانية المعذبة في فلسطين ارتُكبت في جنين، ولكنها بقيت خارج إطار المساءلة الدولية، وبقي مرتكبوها من قادة وجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي في منأي عن أية محاسبة.

فبموجب معاهدة إنشاء المحكمة فإنّ لديها صلاحية محاكمة الأفراد بتهمة ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي تُرتكب بعد الأول من تموز (يوليو) 2002 علي أراضي أي من الدول الأعضاء في المحكمة، ولديها صلاحية إصدار أوامر باعتقال أفراد متهمين وإصدار الأحكام بحقهم بعد القبض عليهم.

وفي كل الأحوال تكمن أهمية المحكمة الجنائية الدولية في أنها المحكمة الأولي التي تختص بجرائم الحرب والإبادة الجماعية والانتهاكات المنظمة لحقوق الإنسان في أي مكان من العالـم. وسوف يكون للمحكمة 18 قاضيا ينتخبون من الدول التي صادقت علي الاتفاقية لفترة 9 سنوات، وهي لا تلغي الأنظمة القضائية الوطنية ولا تتدخل إلا عندما تعجز هذه المحاكم عن التحقيق في الجرائم الخطيرة الموصوفة أعلاه، غير أنّ سلطاتها تطال حتي رؤساء الدول عندما ترتكب جرائم ضد الإنسانية.

وبالرغم من عدم مصادقة الحكومة الإسرائيلية علي المعاهدة فإنها قلقة من إمكانية مقاضاة مستوطنيها وضباطها وجنودها وقادتها أمام المحكمة الجنائية الدولية، لذلك شكّلت طاقما خاصا لتقديم المشورة القضائية لعدد من السياسيين والضباط حول كيفية مواجهة احتمال تقديم دعاوي ضدهم، وبادر الحاكم العسكري مناحيم فنكلشتاين إلي إجراء مداولة خاصة في هيئة أركان الجيش الإسرائيلي حول المحكمة. واعتبر المحلل العسكري زئيف شيف أنّ محكمة الجنايات الدولية ستكون ساحة صراع دعاوي فلسطينية وعربية ضد إسرائيل، وقال مثلما هو الحال في كل حرب يتوجب أن نعرف كيف نهاجم بسرعة وفي الأماكن الصحيحة، وليس فقط أن نعرف كيف ندافع عن أنفسنا . وتوقع المدعي العسكري العام أنّ ثمة محاولات ستجري لمحاكمة ضباط إسرائيليين كبار أخشي أن يقدم زعماؤنا إلي القضاء كمجرمي حرب .

كما حذّر المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية الياكيم روبنشتاين من أنّ المحكمة الجنائية الدولية الجديدة يمكن أن تقدم المستوطنين الإسرائيليين إلي المحاكمة، باعتبار أنّ البناء في المستوطنات يعتبر جريمة حرب، لذلك أعلن الناطق بلسان وزارة العدل الإسرائيلية يعقوب غالانتي أنّ إسرائيل لا تنوي تصديق معاهدة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، خشية أن تجد نفسها بين الملاحقين بسبب مواصلة سياسة الاستيطان. وقال نعتبر أنّ هناك خطرا كبيرا من تسييس المحكمة التي يمكن أن تعتبر وجود الإسرائيليين في المناطق جريمة حرب .

وتعارض إسرائيل هذه المحكمة ـ أساسا ـ بسبب الخشية من تعرّض ضباطها وجنودها للمحاكمة جراء تصرفاتهم تجاه الشعب والأرض في فلسطين المحتلة، غير أنها تركز في معارضتها علي اعتبار القانون الدولي المستوطنات جرائم حرب، ولذلك تخشي من تقديم مستوطنيها أو عسكرييها أو ساستها للمحاكمة الجنائية كأفراد علي أساس البناء في المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة أو في هضبة الجولان السورية المحتلة.

وهكذا، صاغ خبراء وزارتي الخارجية والعدل تصوراتهم لمواجهة احتمالات المستقبل : عدم المصادقة علي معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لعرقلة عمل المحكمة، واللجوء إلي محاكمات صورية للجنود الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية المعذبة في فلسطين لإحباط تقديمهم إلي المحكمة الدولية. كما أجري المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية اتصالات مع منظمات حقوقية إسرائيلية لإقناعها بعدم الوشاية إلي هيئات دولية بأفعال جيش الاحتلال ضد المواطنين الفلسطينيين.

أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد استنكفت عن المصادقة علي المعاهدة لأنها لاتستطيع التحكم بقراراتها، حيث أنّ نظام المحكمة الجنائية الدولية يجرّدها من سلاح الفيتو الذي تستخدمه في مجلس الأمن الدولي. ومن المفارقات الملفتة للانتباه أنّ إدارة الرئيس الأمريكي السابق وقّعت المعاهدة لأنّ ذلك، حسب تعبير كلينتون، يقع ضمن تقاليد الريادة الأخلاقية الأمريكية في العالم ، بينما رفضت إدارة الرئيس بوش المصادقة علي المعاهدة بل الانسحاب منها نهائيا والدعوة إلي إنزال العقوبات بالدول التي صادقت عليها !!. وتعارض الإدارة والقوي المحافظة في الكونغرس المحكمة باعتبارها تشكل تهديدا للسيادة الوطنية . فقد قال وزير الدفاع رامسفيلد لست مقتنعا بأنّ مسؤولين عسكريين أو مدنيين من وزارة الدفاع أو من أية وزارة أخري في الحكومة الأمريكية سيكونون بمنأي عن النشاطات المحتملة لهذه المحكمـة .

ويبدو أنّ الرفض الأمريكي لقيام المحكمة يعود لأسباب خاصة هي تفادي أي خطر أو تهديد قد يلحق وكلاء الشبكات الأمريكية والعاملين فيها والمنخرطين في نشاطات وفاعليات سرية أو مكشوفة يمكن أن تطالها المساءلة والملاحقة القضائية الدولية. كما أنّ النهج العام السائد للإدارة الأمريكية الحالية هو إضعاف النظام الدولي، وتفادي أية التزامات متعددة الأطراف، والتطلع إلي فرض هيمنة أحادية الطرف علي العالم كما تجلي أخيرا في سلسلة المواقف من العديد من الاتفاقيات الدولية، إضافة إلي السياسات الأمريكية المؤيدة للإجرام الصهيوني في فلسطين.

ويبدو واضحا أنّ ثمة حساسية أمريكية كبيرة تجاه المؤسسات الدولية التي تسعي للمساواة بين البلدان والشعوب، إذ ترفض الإدارة الأمريكية التنازل لتلك المؤسسات إذا لم تطابق سياساتها. ووصل الأمر إلي درجة أنّ السفير الأمريكي لدي الأمم المتحدة ريتشارد ويليامسون طالب مجلس الأمن الدولي بمنح حصانة خاصة للجنود الأمريكيين العاملين في عمليات حفظ السلام من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية نحن نأمل في إيجاد وسيلة عملية يمكننا من خلالها تعزيز عمليات حفظ السلام بينما نحترم الموقف الأمريكي الذي لن يضع الرجال والنساء الأمريكيين تحت طائلة المحكمة الجنائية الدولية . وبذلك أثارت الإدارة الأمريكية تعقيدات جديدة في علاقاتها مع المجتمع الدولي وحلفائها، وهددت بالانسحاب من مهمات حفظ السلام ما لم يتم إعفاء العاملين فيها من الخضوع لتشريعات المحكمة التي سيبدأ العمل بها في الأول من تموز (يوليو) إنّ كل عمليات حفظ السلام في العالم ستخضع للمراجعة بالتأكيد إذا لم نحصل علي الحصانة التي نطلبها .

وبذلك تبدو الولايات المتحدة الأمريكية أكثر عزلة عن طموحات دول وشعوب العالم، مما يفتح المجال واسعا للتساؤل عن حقيقة النوايا الأمريكية تجاه المرجعيات الدولية المتعارف عليها، إذ يبدو أنّ إدارة الرئيس بوش ماضية في الاستفراد بالقرار الدولي خارج أطر الأمم المتحدة والإجماع الدولي.

ومما يدهش المرء أنّ الدول العربية قد تقاعست عن المصادقة علي معاهدة المحكمة الجنائية الدولية بالرغم من الفرصة التي توفرها لمحاسبة المجرمين الصهاينة علي مجازرهم المتواصلة ضد الشعب العربي الفلسطيني، وبالرغم من أنّ نصوص المعاهدة لاتتعارض مع دساتير الدول العربية أو مع القضاء الوطني لأي قطر عربي، وكل ما هنالك أنّ الدول العربية مطالبة بإجراء بعض التعديلات التشريعية في قوانينها الجنائية علي ضوء النظام الأساسي للمحكمة الدولية، خاصة في ميدان تعريف الجرائم الدولية والعقوبات اللازمة لها. فالمحكمة لاتمثل سيادة أجنبية مستقلة عن إرادة الدول، بل أنّ الدول الأعضاء هي التي أنشأتها بإرادتها بموجب اتفاق دولي نصَّ صراحة علي أنّ المحكمة ذات اختصاص تكميلي وليس سياديا علي القضاء الوطني. ويبدو أنّ خشية بعض الأوساط العربية الحاكمة تكمن في الحرص علي الحصانة من الملاحقة القانونية، خاصة أنّ المعاهدة لا تستثني من الملاحقة رؤساء الدول وحكوماتها والوزراء والنواب وضباط الأمن والقائمين علي التعذيب والمنتهكين لحقوق الإنسان.

إنّ المؤسسة التي تتحفظ الحكومات العربية علي إنشائها ليست هيئة أو مجلسا تتخذ فيه قرارات لها الصفة السياسية، بل هي محكمة جنائية تحكم بموجب القانون الذي انشأها والقوانين الوطنية والدولية وشرعة حقوق الإنسان والأدلة والقرائن والمرافعات التي يدلي بها أمامها من قبل جهتي الاتهام والدفاع علي حد سواء. فهل نحن خائفون أن نقف أمام محكمة لنترافع ونقارع الحجة بالحجة ونحتكم لشرعة القانون ومبادئ العدل والإنصاف بالنسبة لأي اتهام يمكن أن يوجّه إلينا؟ أم أننا خائفون من أن نقارع خصومنا بالحجج والبراهين؟. أوليس أجدي لنا أن نؤسس بنك معلومات لتقديم ادعاءات ضد قادة الجيش الإسرائيلي؟. وعليه، فمن الضروري أن تسارع الدول العربية للانضمام إلي المعاهدة، مع العلم أنّ عدم توقيع دولة ما علي المعاهدة لا يعفي أي مسؤول فيها من الملاحقة في حال انتقل إلي دولة طرف في المعاهدة.

إنّ وجود محكمة جنائية دائمة تختص بالنظر في مختلف الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية يبعد المحكمة عن ساحة مناورات وألاعيب الدول الكبري، الأمر الذي يشكل ضمانة مهمة للغاية لحسن سير العدالة الدولية، وفرصة لكل المظلومين والمستضعفين في العالم، حيث أنّ المحكمة سوف تملأ فراغا في التشريع الدولي يتيح للأفراد التظلم أمام جهة دولية.

ولكي ينجح مشروع المحكمة الجنائية الدولية فلا بد من توفير الدعم السياسي لها من قبل التجمعات الدولية والإقليمية والمنظمات غير الحكومية. فلقد عاني العالم من التوجهات غير الإنسانية لدي بعض القادة السياسيين والعسكريين الذين تدفعهم ميولهم الإجرامية لارتكاب جرائم الحرب في نشوة النصر أو مرارة الهزيمة. وتعتبر المحكمة تطورا عمليا لنمط التفكير الدولي الذي يتطلع لعمل مشترك يقوم علي مبادئ المساواة والاعتراف بحقوق الشعوب في العيش الآمن وتقرير المصير وردع الظلم والعدوان. فهي مشروع يجب أن لا يفشل برغم معارضة الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية له، لكي لا تصاب الإنسانية المعذبة بنكسة أخري في تعاطيها مع حقائق الواقع وضغوط النزعات الشريرة في بعض النفوس.