تاملات فى جرائم الاموال العامة
مقــدمــة:
يقتضي الحديث عن جرائم الأموال العامة التطرق أولا لدراسة المحكمة التي أحدثت ليحاكم أمامها الأضناء المتهمون بارتكاب جرائم اختلاس وتبديد أموال عمومية، أو الرشوة أو جرائم الغدر واستغلال النفوذ، هؤلاء الأضناء الذين يكونون قد ائتمنوا على هذه الأموال، إلا أن شراهتهم ورذالتهم ونفسهم الأمارة بالسوء سولت لهم بارتكاب هذه الجرائم الساقطة .

و قد أنشئت المحكمة الخاصة للعدل سنة 1965، لتختص في متابعة المسؤولين والموظّفين في المؤسّسات العموميّة وشبه العموميّة الذين يتورّطون في جرائم الفساد المالي، وظلت تستقبل كل المشتبه فيهم من الذين ارتكبوا الأفعال السالفة الذكر.

إلا أنها لقيت انتقادات شديدة من طرف كل المهتمين بحقوق الإنسان وطنيا ودوليا بحيث اعتبر هؤلاء أن هذه المحكمة استثنائية، نظرا لكون النصوص القانونية المطبقة على الأضناء المقتادون أمامها استثنائية ولا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة، الشيء الذي أدى بالمشرع المغربي إلى أن يتدخل ليلغي هذه المحكمة لتحل محلها تسع غرف جنائية متخصصة في جرائم الأموال 1 ابتداء من تاريخ 16 شتنبر2004.

وهنا لابد أن نسجل أن إلغاء هذه المحكمة، باعتبارها محكمة استثنائية تتسم بغياب عناصر المحاكمة العادلة نظراً للمسطرة المتبعة فيها التي تبقى مخالفة لمبدأ استقلال القضاء، جاء في سياق الخطوات الإيجابية التي تحققت في مجال إصلاح و تعزيز السلطة القضائية، بما فيها إصلاح قانون المسطرة الجنائية وبعض مقتضيات القانون الجنائي، وإخراج مدونة الأسرة إلى حيز الوجود، وتنفيذا كذلك لتعليمات العاهل المغربيّ الذي أمر في بداية سنة 2003 بضرورة إعادة النظر في هذه المحكمة .

كما أنّ حذف هذه المحكمة من التنظيم القضائيّ المغربي، وإسناد الاختصاص في القضايا التي كانت تعرض عليها إلى غرف متخصّصة في محاكم استئنافيّة، هو تجسيد للرغبة في تحقيق المساواة بين المواطنين أمام القضاء، وتخويلهم نفس الضمانات والحقوق، وضرورة إعمال مبدأ الفصل بين السلط. ويندرج هذا الإلغاء من جهة أخرى، في إطار صيرورة الإصلاح الرامي إلى تحديث وعصرنة التنظيم القضائيّ المغربيّ، وتقريب العدالة من المواطنين، وتخليق الحياة العامة.

لذا يصح القول بأن إلغاء المحكمة الخاصة للعدل والحرص على تخليق الحياة العامة ومحاربة كل أنواع الفساد المالي والانحراف يدخل في سياق بناء مشروع مجتمعي متكامل من شأنه تمكين المغرب من الانخراط في مصاف الدول الديموقراطية ومن تحقيق التنمية الشاملة بإشراك كافة الطاقات بغض النظر عن توجهاتها .

بناء على ما سبق، سنتناول بالدرس ما يمكن أن نسميه تجاوزا بـ “محاكم الأموال العامة” التي حلت محل هاته المحكمة، أو بالأحرى غرف الجنايات الخاصة بالنظر في جرائم الأموال -التي يمكن أن تشكل بحق نواة لمحاكم جنائية متخصصة– والنصوص القانونية المطبقة بهذه الغرف –الموضوعية والشكلية- ،

لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أنواع الجرائم التي يمكن أن يحاكم بسببها مرتكبي هذه الجرائم التي تكون – كما سبق أن أسلفنا- إما جرائم اختلاس وتبديد أموال عمومية أو رشوة أو استغلال نفوذ أو غدر، لنتحدث فيما بعد عن صفة الجاني المقتاد أمام هذه الغرف الجنائية وموقف المشرع والفقه واجتهاد القضاء من مفهوم الموظف العمومي، كما سوف نتناول مفهوم المؤسسات العمومية التي قد ترتكب في حظيرتها مثل هذه الجرائم وبذلك ينعقد الاختصاص للغرف الجنائية المذكورة. وبعد ذلك نتطرق لمفهوم الأموال الخاصة منها والعامة وأنواعها، لنخلص في الأخير لدراسة القصد الجنائي بخصوص هذه الجرائم.

لذلك ستكون هذه الدراسة مقسمة إلى المحاور التالية:
الفصل الأول : مفهوم المال العام ومعيار تمييزه.
الفصل الثاني : النظام القانوني للمؤسسات العمومية بالمغرب.
الفصل الثالث : المفهوم الإداري والجنائي للموظف العمومي في التشريع والفقه والقضاء المغربي والمقارن.
الفصل الرابع : القصد الجنائي في الاختلاس والتبديد والفرق بينهما من خلال الفقه والقانون والاجتهاد القضائي المغربي والمقارن.

الفصل الأول
مفهوم المـــــال العــــام ومعيــار تمييــزه

تحتاج الأشخاص الإدارية المختلفة في إدارتها للمرافق العامة والمؤسسات العمومية إلى أموال متنوعة، منها الثابت ومنها المنقول، وقد تكون هذه الأموال خاصة أو عامة، فالأموال الخاصة هي أموال تملكها الدولة أو الأشخاص الإدارية بغرض استغلالها والحصول على ما تنتجه من موارد مالية، وهي تماثل تلك التي يملكها الأفراد، لذا فهي تخضع من حيث اكتسابها واستغلالها والتصرف فيها لأحكام القانون الخاص.

أما الأموال العامة فهي أموال تخصص للنفع العام أي لاستعمال الجمهور مباشرة أو لخدمة مرفق عام، فهي بذلك تستهدف غرضا يخالف ذلك الذي يحكم الأموال الخاصة، الأمر الذي استتبع خضوعها لنظام قانوني يغاير ذلك الذي ينظم الأموال الخاصة في القانون المدني، وبذلك يستهدف النظام القانوني للأموال العمومية حمايته عن طريق عدم جواز التصرف فيه أو الحجز عليه أو تملكه بالتقادم.

ومن البديهي أن الدولة والمؤسسات العمومية حتى تتمكن من القيام بوظائفها كاملة، لابد من توفرها على الوسائل المادية اللازمة التي تمكنها من أجرأة وإعمال مشاريعها على أرض الواقع، إذ لابد أن تتاح لها الأموال اللازمة لتدبير مرافقها، لكن في نفس الوقت يتعين إحاطة هذه الأموال بحماية صارمة، وهذا ما يعرف بحماية المال العام.

فما هو إذن مفهوم المال العام في الفقه الإسلامي (المبحث الأول) ، وطبيعته القانونية في القانون الوضعي (المبحث الثاني)، وما هي معايير تمييزه عن المال الخاص (المبحث الثالث).

المبحث الأول: مفهوم المال العام في الفقه الإسلامي
تنطلق نظرة الإسلام التجريدية إلى المال العام من أنه مجرد وسيلة من وسائل تبادل المنافع، وتوطيد العلاقة بين الناس، فلا قيمة ذاتية له ، ليس قطعة فنية تقتنى وليس مادة غذائية ترد، ومن تم فالعمل لمجرد كسبه لاكتنازه عملية خاسرة وصفقة بائرة[1].

وعلى هذا الأساس فالمال في الشريعة الإسلامية وسيلة لا غاية وجد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ينشدها الإسلام ، فالأموال في الشريعة الإسلامية أموالا مملوكة لله، وما الإنسان إلا مستخلف فيها على وجه الأرض سيما وأن الله تعالى يقول:  وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه [2]، فإذا استعمل هذا المستخلف تلك الأموال في غير ما يأمر به المالك الحقيقي لها، انقلبت إلى شهوة تورث صاحبها الهلاك، وتفتح على الناس أبواب الفساد [3].

إذن ما هو تعريف المال (المطلب الأول) وما هي تقسيماته باعتبار الهدف منه (المطلب الثاني) ثم ما الفرق بين الأموال الخاصة والأموال العامة (المطلب الثالث).

المطلب الأول: تعريف المال لغة و اصطلاحا
يمكن أن نميز بين تعريف الأموال لغة وتعريفها اصطلاحا، فالمال في اللغة هو ما يملكه الإنسان من كل شيء[4]، وقد ورد استعماله بمعان متعددة، وحسب كتب اللغة فقد تحملت هذه الكلمة – المال- المعاني التالية:

· في الأصل أطلق المال على ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويتملك من الأعيان.

· المال ما يملك من جميع الأشياء، سواء كان من الأعيان أو المنافع.
· يطلق المال عند أهل البادية على الأنعام والمواشي كالإبل والغنم، يقال خرج إلى ماله أي إلى ضياعه أو إبله.

ويظهر من ترتيب هذه الإطلاقات أمران:
أ ـ إن الكلمة ظلت محتفظة بمعناها الأصلي، وقد تدرجت بين أوسع المعاني.
ب ـ إن الأشياء التي لا يملكها الإنسان فعلا كالطير في الهواء لا يطلق عليها اسم مال[5].

أما تعريف المال اصطلاحا فهو كل ما يمكن أن يملكه الإنسان، وينتفع به على وجه معتاد، سواء كان مملوكا بالفعل أو كان قابلا للتملك كالطير في الهواء والسمك في الماء[6]. وهذا يعني أن المال هو كل ما يملك قيمة اقتصادية تقدر بالنقود سواه كانت في حيازة شخص وفي ملكه أو كان غير مملوك لأي شخص ما دام يقبل أن يحاز ويملك.

ويستنتج من هذا أن المال يطلق على الأشياء التي تقوم به، كالدار والقمح والكتاب، وهذا ما يسمى عند رجال القانون بالأموال المادية، كما يطلق على الحقوق المالية التي تقع على تلك الأشياء، كحق الملكية الذي يقع على الدار، وحق الانتفاع بالحبس الذي يقع على الشيء المحبس، وهذا ما يسمى بالأموال غير المادية.

وهذا المفهوم للمال هو الذي تمسك به رجال القانون منذ القديم، أما المحدثون منهم فقد أصبحوا يفرقون بين الأموال والأشياء، حتى يقصرون المال على الحق الذي ينصب على الشيء، وتكون له قيمة تقدر بالنقود، أما المحل الذي ينصب عليه ذلك الحق المالي من عقار وغيره فيسمونه شيئا لا مالا، بمعنى أن حق الملكية الذي يقع على عقار مثلا يسمى حقا ماليا، في حين أن ذلك العقار يسمى شيئا.

وينبني على هذا أن كل مال يعتبر شيئا، في حين أنه ليس كل شيء يعتبر مالا لأن هناك أشياء لا تكون مملوكة لأي شخص ولا تكون موضوع الحق المالي، وذلك كالشمس والهواء والنور[7].

وقد اختلفت التعريفات الفقهية حول العناصر المكونة للمال المعتبر شرعا، فصياغة بعضها تدل على أنها لا تعتبر المنافع والحقوق مالا اقتصاديا، مع أن المنافع قد تكون مقصودة لذاتها، غير أن امتلاكها لا يتم إلا بسبب حيازة أصلها.

ويمكن أن نرجح أن تعريف المال هو كل ما يمكن أن يملك وينتفع به على وجه معتاد شرعي[8]. ويتضمن هذا التعريف شرطين جوهريين لابد من توفرهما في الشيء حتى يطلق عليه اسم مال في الاصطلاح الفقهي وهما:

أولا: يجب أن يكون الشيء قابلا للتملك، أي يمكن حيازته والاستئثار به للفرد والجماعة، كالمنزل والسيارة، فالشيء الذي لا يمكن امتلاكه وإخضاعه لعملية التبادل بين الناس لا يعتبر مالا اقتصاديا، وليست له أية قيمة مالية[9].

ثانيا: أن يكون الشيء نافعا، أي صالحا لقضاء حاجته، أو إشباع رغبته، لا في نظر صاحبه، ولكن في نظر الشرع[10].
وهكذا يتضح بأن مفهوم المال، وحكمه لا يكونان واضحين إلا بوضعهما في الإطار الفقهي المتكامل، فنظرة الإسلام إلى المال نظرة موضوعية، فهو وسيلة لا غاية، وجد لتحقيق العدالة الاجتماعية التي ينشدها الإسلام[11] مما يعني أن للمال وظيفة اجتماعية هدفها إسعاد المجتمع وقضاء حاجياته ومصالحه[12] .

و قد انقسم الفقه في تعريفه للمال العام إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ فريق منهم اعتمد على عنصر المنفعة، فعرفوه بأنه كل شيء يحقق للإنسان منفعة ما، وكونه قابلا للتملك الخاص.

2 ـ فريق ثاني اعتمد على عنصر الملكية، فعرفوا المال بأنه كل شيء يصلح في ذاته لأن يكون محلا لحق مالي يدخل في تقدير ذمة شخص طبيعي أو اعتباري.

3 ـ فريق ثالث اعتمد على فكرة الذمة المالية، فعرفوا المال بأنه سائر العناصر الإيجابية للذمة المالية .

وعلى الرغم من اختلاف التعاريف في صيغتها، فهي تشترك في عدم حصرها للأموال فحسب وإنما تتناول الحقوق أيضا[13].

المطلب الثاني: تقسيم المال باعتبار الهدف منه
بما أن الإسلام جعل بنصوصه حرمة للمال، وجعله من الضروريات للحياة، فإنه يمكن تقسيم المال باعتبار الهدف منه إلى أربعة أقسام، كما يلي:

تقسيم المال بحسب ثبوت القيمة
ينقسم المال باعتبار ثبوت القيمة المالية إلى قسمين متقوم وغير متقوم، فالمراد بالمال المتقوم، هو ما كان مملوكا منتفعا به بوجه شرعي معتاد، كالمنزل، والسيارة، والكتاب . وهو وحده الذي يصلح مجالا للمعاملات المالية وفي حالة التعدي عليه، فإن متلفه يلزم بضمان قيمته ، إن كان قيميا، أو مثله إن كان مثليا،كما قد يكون عينيا كالأمثلة المتقدمة، وقد يكون منفعة كسكنى دار، وركوب سيارة[14].

ويعتبر المال غير متقوم إذا كان غير مملوك لأحد كالطير في الهواء، أو كان مملوكا بالفعل لكن المشرع حرم الانتفاع به لاعتبارات صحية وخلقية واجتماعية كالخمر، والمخدرات، والخنزير، والسم، وما شاكل ذلك مما هو رجس أو نجس.

ولا يلزم في المال غير المتقوم ضمان في حالة التعدي عليه، فمن أتلف خمرا أو حال دون تسلم مال القمار والربا لا يكون عليه ضمان. وتأسيسا على ذلك فهذا المال لا يصح أن يكون استهلاك أو رأس مال الاستثمار[15].

تقسيم المال بحسب الطبيعة الذاتية
ينقسم المال بحسب الطبيعة الذاتية إلى مثلي ومقوم، فالمال المثلي هو ما يعرف بعينه، ولا تتفاوت آحاده وأوصافه تفاوتا يعتد به، بحيث يوجد له نظائر في الأسواق، ويجوز أن يقوم نظير له من جنسه ونوعه مقامه عند الوفاء، ومثاله عروض التجارة المتحدة الجنس الموجودة بكثرة عند التجار وما تمت صناعته بواسطة الآلة وكان من نوع واحد لعدم تفاوت إجراء وحداته.

أما المال المقوم فهو كل ما يعرف بعينه، وتتفاوت آحاده وأوصافه تفاوتا كبيرا في التجارة والمعاملات، كالحيوان، والعقارات، وكذا سائر عروض التجارة المختلفة الجنس. ومنه ما لا يكون كذلك، ولكن لا توجد له نظائر في الأسواق ككتاب مخطوط، أو ثوب منسوج باليد، نظرا للاختلاف في إتقان النقل أو جودة الصنعة[16].

تقسيم المال بحسب الثبات والحركة
ينقسم المال بحسب الثبات والحركة إلى عقار ومنقول، ويختلف المالكية مع غيرهم في تعريف العقار والمنقول، نظرا لاختلاف وجهة النظر في بعض المنقولات، هل هي من الصنف الأول أو الثاني.
فبالنسبة للعقار عند المالكية فهو كل متمول له حيز ثابت فيه، ولا يمكن نقله من مكان إلى آخر دون إتلاف، سواء كان ذلك من أصل خلقته أو بصنع صانع، كالأرض والمناجم والبناء والشجر[17]. ويرى غير المالكية من حنفية، وشافعية، وحنابلة، أن العقار هو كل شيء لا يمكن نقله من مكانه أبدا، وهذا يعني أن كلمة العقار لا تنطبق إلا على الأرض، أما الشجر، والبناء فلا تسمى عقارات، لأنها لا يمكن نقلها[18].

وعلى هذا يكون العقار عند المالكية أعم من العقار عند غيرهم، وعلى هذا الأساس تكون أنواع العقار عندهم ثلاثة:
أ ـ عقار بطبيعته، كالأراضي الزراعية والمنشآت العمرانية.

ب ـ عقار بالتخصيص، وهو المنقول الذي يضعه مالكه في عقار مملوك له، إما لخدمة العقار وإما لاستغلاله.

ج ـ عقار بالإلحاق، هو عبارة عن جميع الحقوق التي تقع على عقار، وكذا الدعاوى التي ترمي إلى استرجاع عقار[19].

أما المال المنقول عند المالكية فهو ما أمكن نقله بدون إتلاف، وكان متحركا بطبيعته، أو بفعل فاعل، كالأثاث والملابس والأسلحة والآلات والماشية والبواخر ومواد البناء قبل استعمالها، والأسهم المالية والصكوك والوثائق .

وهو على نوعين : المنقول الحقيقي، وقد سبق التمثيل له، والمنقول الاعتباري، أو ما يسمى بالحقوق الذهنية، كحق الملكية الأدبية، وحق الاختراع وحق المعاملات التجارية.
ويرى غير المالكية أن المنقول هو ما أمكن تحويله من مكان لآخر، وهو ما على الأرض من زرع وشجر وبناء، وعلى هذا يكون المنقول أعم مما عند المالكية كما هو واضح.

وتظهر فائدة تقسيم المال إلى عقار ومنقول في الآتي:
ـ العقار وما ألحق به تصح فيه الشفعة، دون المنقول الحقيقي أو الاعتباري.
ـ لا خلاف في جواز وقف العقار، وفي صحة وقف المنقول خلافا وتفصيلا.
ـ بيع العقار قبل قبضه جائز بخلاف المنقول.
ـ المفلس يباع عليه ما يملك من منقول لوفاء دينه، ثم العقار إن لم يكن المنقول.
ـ العقار له شخصية ثابتة، على عكس المنقول فإنه دائم الاختلاف والتحويل.

 تقسيم المال بحسب النماء أو الاستهلاك
يمكن تقسيم المال بحسب النماء أو الاستهلاك إلى مال نام ومال غير نام، فالمال النامي هو كل ما كان قابلا للنماء وفارغ من الحاجة الأصلية. وعلى سبيل المثال، فمن تملك رصيدا من النقود، فهذا الرصيد المالي يعتبر قابلا للنماء والزيادة فيه، إذ باستطاعة مالكه أن ينميه عن طريق استثماره وتوظيفه بأن يجعله رأس مال تجاري أو فلاحي أو صناعي، مما يدر عليه ربحا أو غلة للتسوية [20] .
أما المال غير النامي فهو ما كان مشغولا بالحاجة الأصلية، كالتغذية والملبس والمسكن والأثاث وأدوات العمل اليدوي ومعدات الإنتاج الآتية بصفة عامة[21].

لذا فإن الفلسفة المالية في النظرة الإسلامية، أكدت على أن تجعله وسيلة لتعاملنا، وأداة خاضعة لإرادتنا، بشرط أن يتم ذلك في إطار توزيع عادل، وتنظيم اجتماعي أساسه التكافل، ومساهمة الأفراد في عملية النهوض بالمستوى الاجتماعي.

ومن هنا يتضح بأن الحيازة للأموال، سواء كانت منقولة أو غير منقولة من مصادرها المشروعة تعتبر في حقيقتها ملكية انتفاع مؤقتة بأجل لتحقيق الاستفادة منها بالحق والعدل، وسواء كانت الأموال خاصة أو عامة، فإن الإسلام حرم التعدي عليها، فقرر عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغش والجباية الظالمة ونحوه.

المطلب الثالث: الأموال الخاصة والأموال العامة
لتحقيق العدل الاجتماعي والتوازن بين حقوق الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين حقوق الجماعة أو الأمة حث الإسلام على حفظ المال سواء كان خاصا أو عاما، ودعا إلى تنميته واعتباره أمانة في يد من أؤتمن عليه، وكل من عمل على سرقته أو اختلاسه أو تبديده أو إتلافه أو تصرف فيه بطرق غير شرعية فإنه يعاقب بعقوبة مشددة محددة شرعا بغض النظر عن هذا المال إن كان خاصا أو عاما.

إن الأصل في شريعة الإسلام أن كل من كان أهلا للتملك فله أن يستعمل حقه في تملك ما يعتبر مالا مشروعا على أن يأتي تملكه بسبب مشروع من شراء أو قبول هبة أو إرث أو ما إلى ذلك[22].

ومن هنا نلاحظ أن الإسلام يحمي حق التملك الشرعي في هذه الحدود، قال تعالى: ]فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون[ [23]، وقال النبي محمد r “كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”.

فالتملك الشرعي حق مقرر للفرد تحميه الدولة، ودفاع المالك عن ملكه حق شرعي[24]، لأن المال الذي نشده الإسلام هو الذي يكسبه الإنسان بالطرق المشروعة بكده واجتهاده وسعيه[25] يقول الرسول r : “إن أفضل الكسب كسب الرجل من يده”[26].

وبما أن الإسلام اعترف بالملكية الفردية أو الخاصة فإنه منع أكل أموال هؤلاء الأفراد بالباطل ، قال الله تعالى: ]ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون[ [27]، وأكل أموال الناس بالباطل على أوجه، منها السرقة ومنها الاختلاس ومنها الرشوة[28].

وحفظ المال من مقاصد الشريعة الأساسية كما قرر الفقه[29] لأن الأموال المتداولة بأيدي الأفراد تعود منافعها على أصحابها وعلى الأمة كلها[30] وعلى هذا أوجب الحفاظ عليها، وبذلك يتحقق العدل الاجتماعي، والتوازن بين حقوق الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين حقوق الجماعة[31].

وهكذا يتبين بأن الإسلام لم يكتف باعترافه للفرد بحق تملك الأموال بل عمل على صيانة هذا المال وحفظه لصاحبه من السرقة أو النهب أو السلب، أو الاختلاس بأية طريقة من الطرق أو المصادرة بوضعه الحد والردعة لكل من يتعدى على مال الغير[32].

وكما أقر الإسلام منذ ظهوره الملكية الفردية، أقر في نفس الوقت الملكية الجماعية، وجعلهما تعيشان معا جنبا إلى جنب في انسجام كامل وتوافق تام قصد إيجاد توازن اقتصادي داخل المعادلة الاجتماعية بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة[33] أو الأمة الإسلامية، ولأجل ذلك بمجرد أن عم الأمن وأخذت التجارة تزدهر بادر الرسول ٍr إلى تأسيس بيت مال المسلمين، إذ منذ ذلك الوقت أصبحت للمسلمين خزينة عامة تجمع بها موارد الدولة، وتصرف من دخلها النفقات.

وإن كانت الموارد والنفقات التي تشكل ميزانية الدولة لم تكن على النمط المتعارف عليه في المفهوم المالي الحديث، إذ كانت أموال الدولة الإسلامية – آنذاك- حرفة تستجيب لمتطلبات الأمة وما تقتضيه مصلحة الدين الإسلامي[34].

وكانت موارد الدولة الإسلامية تشكل الخراج، والجزية، والزكاة، والفيء، والغنيمة، والعشور، وميراث من لا وارث له، ومداخيل الوقف ، والتبرعات الخصوصية وغير ذلك من المعادن والركاز، وهذه الموارد تدخل في ملك الدولة الإسلامية، وتصرف في الأموال العامة؛ وليس للحاكم أن يستأثر بها أو يؤثر بها أحدا[35]:

الخــراج :وهو ما وضع على رقاب الأرضيين من حقوق تؤدى عنها، أو هو جزية الأرض وحق يتعلق برقبتها زرعت أم لم تزرع.

الـفـــيء:هو ما غنمه المسلمون من أموال الكفار المنقولة وغير المنقولة مما لا يؤجل عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، وذلك مما يتركه الأعداء رعبا وخوفا عند فرارهم من المسلمين أو أنهم يجلون عنه ويتركونه.

الغنيمــة: الغنائم هي الأموال التي جاءت من وراء قتال وحرب وهي ما غنمه المسلمون وغلبوا عليه.

الجزيــة:هي مبلغ معين من المال توضع على الرؤوس، وتسقط بالإسلام، وهي ثابتة بنص القرآن لقوله تعالى: ]قاتلوا الذين لا يومنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية…[[36].

الـعشــور:هي الضرائب التي كانت تفرض على أموال التجارة الصادرة من البلاد الإسلامية والواردة إليها، وهذا ما يسمى في العصر الحالي بالضرائب الجمركية.

✔ الـركــاز:هو ما وجد من أموال الجاهلية مدفونا بالأرض أو على ظهرها عينا كان أو عرضا من نحاس أو لؤلؤ أو طيب أو غيرها[37] ويجب فيه الخمس لبيت المال، والباقي لمالك الأرض إن كان[38].

مال من مات ولا وارث له[39]: جاء في الجواهر، وإذا عدمت المعصوبة من جهة القرابة… فالمال لبيت المال، لأن بيت المال وارث من لا وارث له[40].

المال الذي ظل صاحبه وجهلت أربابه[41] والمراد منه غير اللقطة[42]: فأموال الغياب الذين ثبتت وفاتهم أو تقررت وفاتهم قضائيا أو احتملت وفاتهم بعد مرور ثمانين (80) سنة ففي هذا الحالات، وفي غياب ورثة معروفين لهؤلاء تفتح تركتهم ويتولاها بيت مال المسلمين[43].

أراضـي الحبـس: تعتبر جزءا من الملكية العامة[44]، فأملاك الحبس شأنها شأن الأملاك الجماعية تتمتع بنظام حمائي خاص من حيث عدم قابليتها للتفويت والتقادم بحيث إن هذا النظام الاستثنائي، وعلى خلاف نظام الأملاك الجماعية يضمن لأملاك الحبس – مبدئيا على الأقل- حماية قائمة بحكم تخصيصها بموجب عقد تأسيس الحبس الذي يضفي على المال المحبس صفة عدم قابليته للتفويت والتقادم.

وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يميز إذن أموال الحبس عن أموال الدولة الخاصة؟ نعتقد أنه بعد اضمحلال الغاية الأصلية للحبس المنصوص عليها في عقد تأسيس الحبس ذاته؛ قد يصبح المال المحبس مع مرور الزمن حرا طليقا من إرادة المحبس، ويصبح بإمكان إدارة الأحباس توظيف هذا المال في إطار أشمل وأرحب للنفع العام، وهذا ما يغير جوهريا من نظام مال الحبس، فمن مال غير قابل للتنفيذ والتقادم مبدئيا يصبح هذا المال أو على الأقل بعضا من عناصره قابلا للتفويت والتقادم[45].

الزكـاة أو الصدقــة: وتجبى في الأموال المرصدة للنماء، إما بنفسها وإما بالعمل فيها، ويقوم عمال الحكومة بجباية زكاة الأموال الظاهرة كالمواشي (الغنم والبقر) والمنتجات الزراعية (الزرع والثمار…)[46]. أما زكاة الأموال الباطنة كالذهب والفضة فتترك للفرد.

ومن خلال ما ذكر يتبين أن كل الأموال ذات النفع العام تدخل تحت نفوذ الدولة حتى وإن وجدت بخلق الله تعالى كالمعادن والنفط والأحجار والماء والكلأ والنار، أو بفعل فاعل كالمساجد والمدارس والطرقات والأنهار والترع والقناطر والجسور والسكك الحديدية وخطوط النقل الجوية والبحرية والمتاحف ومكاتب الدولة والحدائق العامة وأملاك بيت المال[47].

فكل هذه الأموال وما شابهها من أموال أخرى من المنافع العامة لا تؤدي غايتها إلا إذا كانت للجماعة أو الدولة، وعلى هذا لا يصح بيعها أو تفويتها إلا لضرورة أو مصلحة رابحة كالحاجة إلى ثمنها أو الرغبة فيها بضعف الثمن ونحوها، لأن أموال الدولة كأموال اليتيم عند الوصي لا يتصرف فيها إلا للحاجة. ففي هذا الصدد قال عمر بن الخطاب (ض): أنزلت نفسي من بيت مال المسلمين بمنزلة وصي اليتيم[48].

الـهـبــات:الهبات تبرعات ممنوحة لاعتبارات دينية أو اجتماعية أو سياسية أو شخصية من قبل أشخاص خاصة لفائدة أشخاص عامة، والدولة كشخص عام مؤهلة بالدرجة الأولى لتلقي الهبات من القيم المنقولة والعقارات[49].

يتبين مما سبق أن الإسلام اعتبر الأموال لله، وأن الإنسان يتصرف فيها لأجل تلبية حاجياته، وبتصرفه فيها تنمو وتزداد.

والأموال إما خاصة أو عامة، أي للفرد أن يملكها ويتصرف فيها لنفسه، وللدولة -أيضا- أن تملكها وتتصرف فيها. وأموال الدولة باعتبارها أموالا عامة فهي غير قابلة للتفويت أو التصرف فيما لا يخدم الصالح العام. والأموال التي يمكن أن تكون في ملك كل من الأفراد أو الدولة قد تكون منقولا أو عقارا.

ونظرا لما للأموال من أهمية فإن الإسلام أحاطها بسياج من القوانين الرادعة لكل من سولت له نفسه اختلاسها أو تبديدها أو سرقتها أو عمل على حيازتها بأي طريقة من الطرق الغير المشروعة.

المبحث الثاني: الطبيعة القانونية للمال العام في القانون الوضعي
ليس هناك تعريف جامع ومانع لمفهوم المال العام، إذ هناك جملة من التباينات في القانون المقارن أثناء معالجتها لهذا المفهوم.
ويمكن أن نعتبر الأموال العامة كل ما تملكه الدولة وسائر الأشخاص المعنوية العامة من أموال عقارية ومنقولة وتخصص لتحقيق المنفعة العامة سواء بطبيعتها أو بتهيئة الإنسان لها أو بنص تشريعي صريح.

لقد انقسم فقهاء القانون عند تعريفهم للمال العام إلى ثلاثة أقسام:
ـ فريق منهم اعتمد على عنصر المنفعة، فعرفوا المال بأنه كل شيء يحقق للإنسان منفعة ما ويكون قابلا لتملك الخاص.
ـ وفريق ثان اعتمد على عنصر الملكية، فعرفوه بأنه كل شيء يصلح في ذاته لأن يكون محلا لحق مالي يدخل في تقدير ذمة شخص طبيعي أو اعتباري.
ـ وفريق ثالث اعتمد على فكرة الذمة المالية، فعرفوا المال بأنه سائر العناصر الإيجابية للذمة المالية.
وعلى الرغم من اختلاف التعاريف في صيغتها، فهي تشترك في عدم حصرها للأموال العامة في الأشياء فحسب وإنما تتناول الحقوق أيضا.
وللوقوف عند مفهوم المال العام يتعين التطرق تباعا في مطلب أول لهذا المفهوم في القانون المقارن، وفي مطلب ثان نعرض لتعريف التشريع المغربي للمال العام.

المطلب الأول: تعـريف المـال العـام في القانون المقارن

وبالنظر إلى مختلف التشريعات المقارنة، نجد أن مسألة إيجاد تعريف دقيق وشامل حظيت باهتمام أغلبها، فالتشريع الفرنسي يعتريه غياب معيار واضح للمال العام بحيث عمد المشرع إلى البحث عن المعيار المميز للمال العام عن المال الخاص.
ولا شك أن البحث في هذا المعيار يجب أن يبدأ بالتشريع، فهل تضمن التشريع الفرنسي معيارا لهذا التمييز؟
إن أول ما يصادفنا في هذا الصدد نصوص المادتين الأولى والثانية من “مجموعة دومين الدولة « Code du domaine de l’état » الصادر سنة 1957 تحت رقم 1336 حاول فيها واضعو هذه المجموعة وضع معيار لتعريف المال العام يفرقه عن المال الخاص المملوك للدولة، فنصت المادة الأولى على أنه: “يتكون الدومين القومي من جميع الأموال والحقوق المنقولة والعقارية المملوكة للدولة”، ونصت المادة الثانية على أن “الأموال المشار إليها في المادة السابقة التي لا تقبل الملكية الخاصة بسبب طبيعتها أو بسبب التخصيص المرصود من أجله تعتبر من توابع الدومين العام”، أما ما عداها من أموال فتتكون من “الدومين الخاص”[50] .

والواقع أن هذا النص تضمن تعريفا للمال العام فحواه أن الأموال العامة هي الأموال التي لا تقبل التملك الخاص إما بسبب طبيعتها أو بسبب التخصيص الذي أعدت له، إلا أن المشرع الفرنسي لم يضع حصرا شاملا للأموال العامة، إذ أن هناك جملة من النصوص القانونية المنظمة للأموال العمومية كالتشريع الصادر في 18 أبريل 1953 الذي اعتبر في مادته الثانية الطرق السيارة Les autoroutes من عداد الأموال العامة.

وإذا كان المشرع الفرنسي قد تدخل بطريقة إيجابية فاعترف بالصفة العامة لبعض الأموال على النحو السالف إيضاحه، إلا أنه تدخل (في بعض الحالات) لينفي الصفة العامة عن بعضها الآخر. مثال ذلك عندما قرر اعتبار الطرق الزراعية Les chemins ruraux من أموال “الملك” الخاص لا من أموال “الملك” العام بالأمر الصادر في 7يناير 1959.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التشريع الفرنسي لم يتضمن معيار علميا واضحا يمكن الاعتماد عليه لتمييز الأموال العامة عن الأموال الخاصة، ولم يتضمن هذا التشريع حصرا شاملا لهذه الأموال.

لذلك وقع على عاتق الفقه والقضاء الفرنسيين عبء محاولة وضع معيارا محدد للأموال العامة تمييزا لها عن الأموال الخاصة، فكان دورهما إذن في هذا الشأن دورا منشئا وخلاقا، والحقيقة أننا لا نكاد نعرف نظريات قانونية اختلفت في ما بينها كتلك التي ساقها أصحابها للبحث عن معيار محدد للتفرقة بين المال العام والمال الخاص المملوك للإدارة، وعلى الرغم من تعدد هذه النظريات وتباينها، إلا أنه يمكن ردها إلى اتجاهات ثلاثة:

الاتجـاه الأول: تمثله مدرسة “التوجه الطبيعي” وتشتمل على النظريات التي تربط الصفة العامة للمال بطبيعة المال ذاته.
الاتجـاه الثانـي: تمثله مدرسة “التوجه التخصيصي” وتضم النظريات التي يرى القائلون بها أن التخصيص للمنفعة العامة هو السمة المميزة للمال العام.
الاتجـاه الثالث: يرى أنصاره تأسيس معيار المال العام خارج فكرة التخصيص و وجوب الربط بين الصفة العامة للمال وإرادة المشرع [51] .

أما المشرع المصري فقد توسع في مدلول المال العام في جرائم الاختلاس والتبديد وغيرها من الجرائم المالية، فالمشرع لم يقتصر في تحديده للمال العام على المعيار الوارد في المادة 87 ـ البند الأول مدني ـ التي تنص على أنه: ” تعتبر أموالا عامة العقارات والمنقولات التي للدولة أو الأشخاص الاعتبارية العامة، والتي تكون مخصصة لمنفعة عامة بالفعل أو بمقتضى قانون أو مرسوم أو قرار من الوزير المختص”، بل جاء نص المادة 119 من قانون العقوبات الذي حدد ما يعد أموالا عامة في جرائم هذا الباب، فنصت هذه المادة على أنه “يقصد بالأموال العامة في تطبيق أحكام هذا الباب ما يكون كله أو بعضه مملوكا لإحدى الجهات الآتية أو خاضعا لإشرافها أو لإدارتها:

ـ الدولة أو وحدات الإدارة المحلية.
ـ الهيئات العامة والمؤسسات العامة ووحدات القطاع العام.
ـ الاتحاد الاشتراكي والمؤسسات التابعة له.
ـ النقابات والاتحادات.
ـ المؤسسات والجمعيات الخاصة ذات النفع العام.
ـ الجمعيات القانونية.
ـ الشركات والجمعيات والوحدات الاقتصادية والمنشآت التي تساهم فيها إحدى الجهات المنصوص عليها في الفقرات السابقة.

ـ أية جهة أخرى ينص القانون على اعتبار أموالها أموالا عامة” [52].
نلاحظ أن المشرع المصري قد توسع في تعريفه للمال العام، إذ لم يقتصر في إضفاء صفة المال العام على تلك الأموال المملوكة فقط لتلك الجهات ، بل أضفى تلك الصفة على الأموال الخاضعة لإشرافها أو لإدارتها ولو لم تكن تلك الأموال مملوكة لهذه الجهات.

كما أن هذا المشرع لم يعتد بمعيار صفة الشخص المالك للمال لإضفاء صفة العمومية عليه، فليس من اللازم أن يكون المال مملوكا للدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية العامة لإضفاء الصفة العمومية عليه، بل يكفي أن يكون مملوكا أو خاضعا لإدارة وإشراف جهة من الجهات الواردة بالمادة 119 عقوبات ولو لم تكن من الأشخاص الاعتبارية العامة مثل النقابات والاتحادات والشركات والجمعيات والوحدات الاقتصادية.

وإذا كانت جميع التشريعات المقارنة تجمع على أن الأموال العمومية هي تلك الأموال المخصصة للمنفعة العامة، وبالتالي لا يجوز في جميع الأحوال التصرف فيها أو الحجز عليها أو تملكها بمرور الزمن، فما هو موقف المشرع المغربي؟

المطلب الثاني: تعريف المال العام في التشريع المغربي
إن التنظيم القانوني للأموال العمومية جاء لأول مرة مع ظهير فاتح يونيو 1914 المعدل بظهير 29 أكتوبر 1929 عبر سبعة فصول، حيث أكد المشرع المغربي في الفصل الأول أن الأموال العمومية هي “الأملاك العمومية” التي حصرها في:

“أولا: شاطئ البحر الذي يمتد إلى الحد الأقصى من مد البحر عند ارتفاعه مع منطقة مساحتها ستة أمتار تقاس من الحد المذكور.

ثانيا: الأخلجة والمراسي والموانئ وملحقاتها.

ثالثا: المنارات والفنارات والعلامات التي توضع للإنذار بالخطر وكافة الأعمال المعدة للإضاءة والإنذار بالمخاطر في الشواطئ وملحقاتها.

رابعا: المياه التي على وجه الأرض أو تحتها ومجاري المياه والينابيع على اختلاف أنواعها.

خامسا: الآبار المعروفة بالإرتوازية والتي يفجر منها الماء وأيضا الآبار والموارد والبحيرات كبيرة أو صغيرة والسباخ والمستنقعات والغدران على اختلاف أنواعها، وتدخل في هذا القسم سائر قطع الأراضي التي ولو كانت غير مغطاة بالماء على الدوام فهي مع ذلك غير صالحة للفلاحة اعتياديا كالمرجات وغيرها.

سادسا: البحيرات الكبيرة أو الصغيرة والمستنقعات والسباخ والآبار المعروفة بالارتوازية وسائر الآبار والموارد العمومية.

سابعا: الترع التي تسير فيها المراكب والتي تستعمل للري أو التي تجفف وتعتبر أشغالا عمومية.

ثامنا: الحواجز والسدود والقنوات والأشغال التقنية وغيرها مما يحدث بصفة أشغال عمومية وذلك لوقاية الأراضي من طغيان المياه أو لحاجات المدن أو لاستخدام قوة الماء.

تاسعا: الطرق والأزقة والسهول والسكك الحديدية الخارجية والكهربائية والجسور، وعلى العموم الطرق الموصلة أيا كان نوعها التي يستخدمها العموم.

عاشرا: الأسلاك التلغرافية والتلفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي.

حادي عشر: كل الاستحكامات والتحصينات المتعلقة بالمواقع الحربية والمراكز العسكرية وتوابعها، وعلى العموم كل الأراضي والأعمال التي لا يمكن للأفراد أن يمتلكها لأنها مشاعة”.

إن أهم ما يلاحظ على هذا النص، أساسا:
ـ أن المشرع المغربي أورد أمثلة لما يعتبر مالا عاما، أما ما دون ذلك فقد ترك للقاضي وفقا لكل حالة أن يحدد ما يعتبر من مرادفات المال العام.
ـ لكي تكون هذه الأملاك عمومية يجب أن تكون ملكا عموميا للدولة كما جاء في ديباجة هذا الظهير.

ـ تشمل الأملاك العمومية الأموال العقارية والأموال المنقولة، سواء كانت هذه الأموال مخصصة للاستعمال المباشر للجمهور أم كانت مخصصة لخدمة المرافق العامة.

كما ينص الفصل الثالث من ظهير 29 أكتوبر 1929 على أنه: “يجب على من له ملك خاص أن يتحمل الواجبات المتعلقة بالمرور وبالجولان في ملكه ويجعل جميع أنواع الآلات اللازمة لإحداث الأسلاك التلغرافية والتلفونية والأبنية الحديدية المعدة للتلغراف اللاسلكي ولمواصلات القوة الكهربائية الداخلة في عداد الأملاك العمومية ولصيانة جميع ما ذكر وللاستغلال به”[53].

ونتيجة لفكرة أن الدولة تتولى حماية الأموال العمومية بنصوص قانونية لضمان استغلالها بالطريقة الأصح من طرف الدولة والمؤسسات العمومية خدمة للنفع العام، فإن التشريع المغربي إضافة إلى الأحكام التي تحمي المال العام من التصرفات المدنية كعدم قابلية المال العام للتملك، وعدم قابليته أيضا للحجز عليه أو التصرف فيه، فإنه عني بتقرير حماية خاصة للمال العام وجعل من كل اعتداء أو تعطيل أو إضرار بمنافعه العامة عقوبة جنائية يعاقب عليها طبقا للفصول 586، 587، 590، 591، 592 و595 … من القانون الجنائي المغربي، وذلك ليس فقط في حالة الاعتداء العمد بل وحتى في حالة الاعتداء الخطأ الناشئ عن الإهمال وعدم الحيطة.

المطلب الثالث: معيار تمييز المال العام عن المال الخاص
ثمة جملة من معايير تمييز المال العام عن المال الخاص إذ ليس هناك معيار محددا لتمييز الأموال العامة المملوكة للدولة عن الأموال الخاصة، ففيما ذهب اتجاه من الفقه يمثله الفقيه الفرنسي “برودون” إلى تقسيم هذه المعايير إلى ثلاثة اتجاهات، أولها تمثله مدرسة “التوجه الطبيعي” وتشتمل على النظريات التي تربط الصفة العامة للمال بطبيعة المال ذاته، ومن أشهر أنصار هذه النظرية الفقيه “برتلمي” الذي يقول بأن كل مال يعتبر غير قابل للتملك الخاص إنما هو وثيق الصلة أو النفع بالجمهور مثل الطرق والأنهار.

وثانيها تعرف بمدرسة التوجه التخصيصي بحيث تركز على أن التخصيص للمنفعة العامة هو السمة المميزة للمال العام، ويدعي أنصار هذا المذهب ومنهم الفقيهان “جيز” و “دوكي” أن المرفق العام هو من أشخاص القانون الإداري والمال المخصص له يعتبر مالا عاما.

وثالثها يقوم على أساس أن معيار المال العام خارج فكرة التخصيص ووجوب الربط بين الصفة العامة للمال وإرادة المشرع، ومن أنصار هذه النظرية “أندري هوريو” حيث يدعي بأن كل ما يخصص للنفع العام يعتبر من الأموال العامة سواء كان ذلك المال المخصص لخدمة الجمهور مباشرة أو بصورة غير مباشرة عن طريق مرفق عام[54].

وبعيدا عن هذا التحليل نصادف تحليلا أقرب إلى الدقة يقوم على معيارين رئيسيين، أولهما معيار التخصيص للمنفعة العامة، وثانيهما معيار التخصيص لاستعمال الجمهور:
معيار التخصيص للمنفعة العامة : ويعد هذا المعيار أكثر المعايير وضوحا وانضباطا وتجاوبا مع مقتضيات المصلحة العامة لذلك أخذت به معظم التشريعات المعاصرة كالتشريع المصري والمغربي.

لقد اتجه الرأي الراجح في الفقه والقضاء تفاديا للانتقادات الموجهة إلى معيار التخصيص لاستعمال الجمهور (الذي نعرضه في النقطة الموالية) إلى الأخذ بمعيار مزدوج قوامه التخصيص لاستعمال الجمهور والتخصيص للمرافق العامة وبذلك تشمل الأموال العامة والأموال المخصصة للاستعمال المباشر للجمهور وكذلك الأموال المخصصة لخدمة المرافق العامة، أي المخصصة للمنفعة العامة بصفة عامة.

وطبقا لهذا المعيار تعتبر أموالا عامة كل الأموال المملوكة للدولة أو لغيرها من أشخاص القانون العام والمخصصة للمنفعة العامة مهما كانت أهميتها المادية وقيمتها المنفعية سواء كانت هذه الأموال معدة لخدمة الجمهور مباشرة كالطرق وشواطئ البحار أو كانت مرصدة لخدمة المرافق العامة فلا يستفيد منها الجمهور بطريـق غيـر مباشـر كالمصالح الحكوميـة وتجهيـزات السـكك الحديدية.

ويؤخذ على هذا المعيار أنه يوسع من نطاق مجال الأموال العامة أكثر من اللازم، فهو بالمعنى السابق يدخل في مفهوم الأموال العامة حتى الأشياء القليلة القيمة والأهمية كالأدوات المكتبية فهي بذلك تخضع بلا مبرر للحماية المقررة للمال العام.

وهذا ما دفع بعض الفقهاء لإدخال بعض التحفظات والضوابط للحد من توسيع إطار الأموال العامة ، وتبعا لذلك لا تتصف الأموال بصفة العمومية إلا إذا كانت تؤدي دورا أساسيا في خدمة المرافق أو التي تكون ضرورية لخدمتها ، بحيث لا يمكن استبدال غيرها بها بسهولة لأنها معدة إعداد خاصا للغرض المخصصة له. وبذلك تعتبر السكك الحديدية والحصون العسكرية أموالا عامة بينما لا تعتبر كذلك المصالح الحكومية التي يسهل استبدالها ونقل المصالح الحكومية منها إلى غيرها.

معيار التخصيص لاستعمال الجمهور: يعتبر هذا المعيار من أهم المعايير وأقدمها ومفاده أن الأموال المملوكة للدولة أو لأحد أشخاص القانون العام تعتبر أموالا عامة إذا كانت مخصصة لاستعمال الجمهور مباشرة، وغير قابلة للتملك سواء أكانت هذه الأموال عقارات أو منقولات وسواء أكان الاستعمال مجانيا أو مقابل رسم معين يدفعه المنتفع وسواء أكانت هذه الأموال عقارات أو منقولات، وسواء أكان الاستعمال مجانيا أو مقابل رسم معين يدفعه المنتفع، وسواء أكان الاستعمال مباحا بلا إذن سابق أم معلقا على صدور ترخيص أو موافقة بشأنه.

وطبقا لهذا المعيار تكون الأموال مخصصة للاستعمال المباشر للجمهور أي للكافة إذا كان الأفراد ينتفعون بها مباشرة أي بأنفسهم، لكن لا يتعلق الأمر بأموال مخصصة لاستعمال الجمهور إذا كان الغرض الأساسي والنهائي للأفراد الانتفاع بخدمات المرافق العامة لا الانتفاع بالأموال المخصصة لخدمة هذه المرافق، فالمنتفع مثلا بخط السكك الحديدية وجهاز الهاتف إنما يكون قد قصد الانتفاع أساسا بخدمات مرفق النقل ومرفق الاتصالات، لا الانتفاع بعربة القطار أو آلة الهاتف، وإن كان ينتفع بها من حيث الواقع.

الفصــــــل الثاني
النظـــــام القانونـــي للمؤسســـات العموميـــة فـــي المغــرب
في غياب وجود نص قانوني يعرف المؤسسة العمومية ، يمكن أن نعتبرها نوعا من المرافق العمومية التي تمنح لها الشخصية المعنوية ، فيكون لها بموجبها قدرا من الاستقلال المالي والإداري تجاه السلطة الإدارية التي ترتبط بها برابطة الخضوع لوصايتها[55].

فالمؤسسة العمومية إذن هي مرفق عام يدار عن طريق هيئة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية، ومن أجل ذلك تتمتع بنصيب وافر من الاستقلال في تسيير شؤون إدارة لا مركزية[56].

فعناصر هذا التعريف هي:
1 ـ المؤسسة العمومية شخص قانوني عام، ويترتب على هذا العنصر عدة نتائج منها، تمتعها بذمة مالية لتحقيق الأهداف المرسومة، ووجود مستخدمين لتنفيذ مقرراتها.
2 ـ هي شخص له شكل قانوني متميز عما هو موجود في القانون وليس له مثيل في القانون الخاص، لذلك فهي تستفيد من بعض الامتيازات الخاصة منها عدم جواز الحجز على ممتلكاتها.
3 ـ هدفها القيام بنشاط متميز يدخل في نطاق المرافق العمومية.
4 ـ ارتباطها بسلطة عامة عن طريق خضوعها للوصاية.

هكذا ومن أجل تحديد مفهوم المؤسسة العمومية نشير أولا بأن هذا المفهوم يعرف أزمة حادة، يمكن إبراز العناصر المكونة للمؤسسات العمومية حيث أن نظامها القانوني يبقى مشروطا، وفي نفس الوقت بالطبيعة العامة للمؤسسة، وكذا السمة الإدارية أو الصناعية والتجارية لنشاط المرفق العام المعني بالأمر[57].

لذلك سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين رئيسيين، يتناول الأول مفهوم المؤسسة العمومية، ويهتم الثاني بكيفية إدارة المؤسسة العمومية في المغرب.

المبحث الأول: مفهوم فكرة المؤسسة العمومية
المؤسسة العمومية في المغرب واقع متعدد الأشكال والوظائف وواقع متناقض يصعب تحديد إطارها القانوني نتيجة لعدم وجود قانون أساسي مشترك تخضع له جميع المؤسسات العمومية، لهذا السبب يذهب “كولمان CULMAN” إلى القول: “أنه لا توجد فكرة عامة للمؤسسات العامة وإنما توجد مؤسسات عامة لها أشكال وأنظمة متنوعة لا ترتكز على نظرية متجانسة[58].

ويرجع السبب في عدم تحديد المشرع لتعريف دقيق وموحد لمفهوم المؤسسة العمومية إلى محاولة إسباغ عدم الجمود في الفقه وترك المجال مفتوحا أمام الفقهاء للنظر في المسألة، الشيء الذي ترتب عنه عدم الاتفاق على مفهوم واحد للمؤسسة العمومية وبالتالي اختلاف التعريفات في الفقه المقارن (المطلب الأول) ، مع محاولة تأصيل مفهوم مغربي لفكرة المؤسسة العمومية (المطلب الثاني) .

المطلب الأول: تحديد مفهوم المؤسسة العمومية في الفقه المقارن
يعرف الفقهاء التقليديون المؤسسة العمومية بأنها “عبارة عن مرفق عام يدار عن طريق منظمة عامة، وتتمتع بالشخصية المعنوية مع خضوعها للرقابة الإدارية، وتتخصص في أعمال معينة طبقا لقاعدة التخصص الوظيفي”، ويشترط الفقيه الفرنسي “جيز” في المؤسسة العمومية أن يتوفر فيها عنصران: الأول هو المرفق العام والثاني هو الذمة المالية المخولة للمؤسسة المنفصلة عن ذمة الدولة[59].

لذا، فالفقه الفرنسي يعتبر المؤسسة العمومية بمثابة مرفق ذي مصلحة عامة يحميه القانون ويسبغ عليه الشخصية المعنوية، فالجامعة إذا كانت مؤسسة عمومية فلأن لها شخصيتها المعنوية التي لا تتجلى في منشآتها أو مالها بل في المهمة التي تؤديها أي التعليم العالي، وهذا ما حدا بالفقيه الفرنسي “فالين” إلى القول: “إنه كلما وجد مرفق عام يحقق مصالح عامة للسكان ومعترف له بالشخصية المعنوية، وجدت المؤسسة العمومية[60]، كما أن الفقه الفرنسي عموما يعرف المؤسسة العمومية بتعريفين، اقتصادي وقانونية[61] .

* التعريف الاقتصادي: المؤسسة العمومية تعني وحدة إنتاج تهدف إلى إشباع مصلحة عامة في إطار اقتصاد سوقي، وبما أن الدولة تكون مالكة لجزء من رأسمالها أو كله فإن السلطات العمومية تراقب تسييرها الخاص.

* التعريف القانوني: المؤسسة العمومية هي شركة مجهولة الاسم رأسمالها كله أو في أغلبيته تملكه الدولة أو الجماعات المحلية، وبفعل ممارستها للأنشطة الصناعية والتجارية فهي تخضع إلى قسط وافر من قواعد القانون الخاص، لكن بفعل صبغتها العمومية فإنها تكون خاضعة لأنواع من المراقبة من قبل السلطات العمومية.

أما بالنسبة للفقه البلجيكي فقد ذهب إلى اعتبار أن عنصر المال هو الذي يشكل المعيار الأساسي الذي تستند إليه فكرة المؤسسة العمومية، حيث يقول أصحاب هذه النظرية “أنه لا يمكن إدارة نشاط المؤسسة العمومية إلا إذا اعترف لها القانون بميزانية خاصة بها مستقلة عن ميزانية الدولة[62].

وبالمقابل يميز الفقه المصري بين نوعين من أشخاص المرافق العامة، إذ اعتبر أن فكرة المؤسسة العمومية تنصب على المرافق التي تتولى القيام بخدمات صناعية أو تجارية أو فلاحية أو نقدية، بينما تدخل المرافق التي تباشر نشاطا إداريا ضمن الهيئات العامة[63].

إلا أن هذا الاتجاه الفقهي لم يعد له وجود، وذلك بحكم قانون 1975 الذي أزال فكرة المؤسسة العمومية واحتفظ بمفهوم الهيئات العامة دون ما النظر إلى طبيعة النشاط الذي تزاوله المرافق العامة.

يتضح إذن أن المؤسسة العمومية هي مرفق عام يدار عن طريق منظمة عامة تتمتع بالشخصية المعنوية، ومن أجل ذلك كان لها نصيب وافر من الاستقلال في إدارة شؤونه إدارة لا مركزية، فهي شخص اعتباري من أشخاص القانون العام، تمارس اختصاصات السلطة العامة، وتنوب عن الوزارة الممثلة للدولة في هذا المجال، ولو فرضنا أن المؤسسة ألغيت فإن الدولة تحل محلها وتتولى إدارتها مباشرة.

المطلب الثاني: المفهوم المغربي لفكرة المؤسسة العمومية
إن أول ما يلاحظ على المشرع المغربي أنه يستخدم مصطلح “المؤسسة العمومية” لتعيين بعض الهيئات القانونية الأخرى مثل المكاتب والمصالح ذات الامتياز دون أن يتحمل عناء تحديد كل فئة بدقة، فنجده مثلا في ظهير 14 أبريل 1960 ينص على أن الرقابة المالية للدولة تمتد إلى المكاتب والمؤسسات العمومية المتمتعة بالاستقلال المالي وإلى الشركات الملتزمة التي تدير مصالح عمومية للدولة أو للمجالس المحلية[64].

فالمؤسسة العمومية هي وسيلة من وسائل الحد من التركيز الإداري وبالتالي تنفيذ سياسة الدولة إما لأجل تلبية حاجة مشتركة لمجموعة من الأفراد، متميزة عن المصلحة الوطنية أو الجماعية فيتم إحداث جهاز لهذا الغرض مثل الغرفة التجارية والصناعية وإما بهدف تخفيف العبء عن الوظائف التي تمارسها وزارة معينة، وإما بتأمين وسائل الإدارة الخاصة لبعض المرافق الاقتصادية.

إلا أن فكرة المؤسسة العمومية في المغرب – كما أشرنا إلى ذلك سابقا- لم تجد تعريفا ثابتا وموحدا خصوصا وأن تدخل الدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي لمواجهة داء التخلف في عهد الاستقلال أدى إلى أزمة خانقة كادت أن تقضي على مقوماتها القانونية، إذ طغت عليها فكرة المؤسسة ذات المنفعة العامة التي ظهرت وبكثرة في عدة مجالات، كما أنها اختلطت ببعض المفاهيم الأخرى كفكرة المقاولة العمومية.

ويترتب على الاعتراف للمؤسسة العمومية بالشخصية المعنوية ما يلي:
ـ أن تكون لها ذمة مالية مستقلة عن مالية الدولة.
ـ أن يكون لها الحق في قبول الهبات والوصايا وفي أن يوقف عليها.
ـ أن ترفع عليها الدعاوى وأن يكون لها حق التقاضي والتعاقد.
ـ أن تتحمل وحدها المسؤولية عن أفعالها الضارة.
ـ أن يعتبر مستخدموها موظفين عموميين، غير أنهم يكونون مستقلين عن موظفي الدولة، مع جواز خضوعهم لأنظمة خاصة بهم تختلف عن الأنظمة المتبعة بالنسبة إلى بقية موظفي الدولة[65].

إلا أن استقلال المؤسسة العمومية ليس مطلقا، وإنما مقيد بقيدين:
قيد التخصص، بمعنى أن المؤسسة مقيدة بالغرض الذي قامت من أجل تحقيقه.
وقيد الرقابة أو الوصاية الإدارية وذلك للتأكد من عدم خروجها عن القواعد المقررة لها بقانون أو بقرار إنشائها.

ومجمل القول: فإن المؤسسة العمومية هي كل مرفق ينشئه القانون لممارسة نشاط يحدده القانون المحدث له مع الاعتراف له بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي دون الإخلال بالوصاية العامة التي تمارسها الدولة أو الهيئة المحلية التي تتبعها.

وخصائص المؤسسة العمومية هي التمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري في حدود الوصاية الإدارية العامة التي يقررها القانون الذي تخضع له كل مؤسسة[66]. وجدير بالذكر أن نشاط المؤسسة العمومية قد يكون اقتصاديا، وقد يكون هذا النشاط ذا صبغة مزدوجة إدارية واقتصادية.

المبحث الثاني: كيفية إدارة المؤسسة العمومية
في المغرب
إذا كانت المؤسسة العمومية يتم إنشاؤها بمقتضى ظهير، وتوضع تحت الوصاية الإدارية للدولة، فإنها تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، وهذه الاستقلالية تمكن المؤسسة العمومية من أداء مهامها في نطاق أكثر مرونة وأكثر حرية في التصرف، وهي ركن من أركان وجود المؤسسة العمومية ذاتها باعتبارها شخصا معنويا يسعى إلى تحقيق مصلحة عامة.

لذلك فالمؤسسة العمومية تتوفر على عدة أجهزة إدارية تشرف على أداء المهمة المنوطة بها، ومن بين هذه الأجهزة نجد الجهاز التنفيذي للمؤسسة العمومية الذي يمثله المدير (المطلب الأول)، والمجلس الإداري الذي يتخذ قرارات المؤسسة ثم اللجنة التقنية أو لجنة التسيير التي تتكلف بمساعدة المدير والحلول محل المجلس الإداري في الفترة الشاغرة التي لا يستطيع الاجتماع فيها (المطلب الثاني).

المطلب الأول: المـديــر
يعهد إلى المدير بمهمة تنفيذ مقررات المجلس الإداري وبتدبير الشؤون اليومية للمؤسسة العمومية، غير أن دوره الذي قد يبدو ثانويا يمكن أن يكون هاما للغاية حسب الظروف لأن اختصاصه وسمعته يشكلان بطبيعة الحال عاملين هامين في هذا الصدد، ومع هذا يمكن التأكيد أن نفوذه يكون أشمل وأوسع كلما قلت درجة اهتمام وتتبع المجلس الإداري للاختصاصات المخولة إليه. ويتجلى ذلك على سبيل المثال في كون المجلس الإداري لا يجتمع إلا نادرا مما يفسر الحرية الكبيرة التي تطبع عمل المدير[67].

ويعتبر المدير الجهاز التنفيذي للمؤسسة والساهر الدائم على سير نشاطها، وتتسع سلطاته وتضيق بحسب النصوص المحددة لاختصاصاته. ويتم تعيينه إما بظهير شريف بناء على اقتراح من سلطة الوصاية [68]أو بمرسوم [69]أو بقرار من الوزير المختص[70] وذلك حس