ثارت في الأونة الاخيرة تعبيرات و مصطلحات سياسية و قانونية اكتنفت المشهد الثوري في مصر بعد ثورة 25 يناير المجيدة و إقصاء النظام البائد للمتهم محمد حسني مبارك و ساد مصطلح العصيان المدني المشهد السياسي في البلاد ، و بلا منازع ،و حاول البعض ممارسة ذلك النهج من أشكال الرفض و العصيان للسلطة الحاكمة في البلاد من أجل تحقيق استحقاقات ثورية معينة ، لم يحصل عليها الثوار حتي الان بعد مرور عام من الثورة المجيدة .

و العصيان المدني يعني رفض الامتثال و تنفيذ التشريعات و القوانين و اللوائح للسلطة الحاكمة في البلاد ، أو سلطات الاحتلال ، و ذلك للضغط علي السلطات المشار اليها لاثنائها عن القوانين الجائرة ، من وجهة نظر الرافضين ، أو لرفض سياسات و ممارسات و اجراءات معينة ، و قد يلجأ للعصيان المدني للضغط لنيل الاستقلال في الأقاليم و الدول التي ترزح تحت نير الاستعمار أو الاحتلال ، وخلافا للحق في الاضراب ، فان المواثيق الدولية و التشريعات الوطنية لم تعترف بان اللجوء

للعصيان المدني – بشكل مطلق – يعد غاية سياسية مشروعة , كحجة لانتهاك التشريعات و القوانين و اللوائح , التي سنتها حكومة شرعية منتخبة تحقيقا للعدالة , و صيانة للنظام العام , و تجسيدا لمبدأ الشرعية، و يبين الاستثناء في شرعية اللجوء للعصيان المدني و غيره من أشكال الرفض ، في حالة الاحتلال، حيث دأبت المواثيق و الاعلانات الدولية الصدارة عن منظمة الامم المتحدة وغيرها من منظمات دولية اقليمية علي كفالة اللجوء لكافة الاساليب و الادوات لنيل الاستقلال و حق تقرير المصيربما في ذلك القوة المسلحة .

لقد لجأت العديد من الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار و الاحتلال الي العصيان المدني , و ذلك لاجل نيل الاستقلال و استئصال شأفة الاستعمار ، و المثير في معرض الحديث عن التأصيل القانوني لمعني العصيان المدني ، أن مصر في العام 1919 كانت من أوائل دول العالم في التاريخ الحديث ، التي انتهجت هذه النهج لاجل الحصول علي الاستقلال التام أو الموت الزؤام، كما كان يردد المتظاهرون المصريون ، حيث أجمعت جموع الشعب المصري في ذلك الوقت ، بعد نفي الزعيم المصري سعد زغلول و رفاقه خاج مصر إلي اللجوء الي العصيان المدني ، للضغط علي المحتل البريطاني كي يمنح البلاد الاستقلال والحرية التي كانت تتطلع اليهما منذ عام 1882 , فشمل العصيان المدني سائر أنحاء البلاد ، و شارك فيه كل العباد من طلبة المدارس و الجامعات و عمال البريد و البرق والترام والسكك الحديدية و المحامين ، و ضم الاضراب في النهاية سائر الموظفين الوطنيين العاملين في دواوين الحكومة ، حتي انتهي العصيان العام و أتي ثمرته غير الناضجة بمنح بريطانيا لمصر صك الاستقلال غير القابل للصرف في فبراير من عام 1922 .

أما في غزة و القطاع المحتلين ، فقد لجا الاشقاء الفسلطينيون أيضا لهذه الوسيلة للرفض و الضغط ، علي السلطات الاسرائيلية لنيل استقلالهم المروم , حيث شملت الانتفاضة الفلسطينية الاولي المسماة بانتفاضة الحجارة في ديسمبر 1987 العصيان العام التام ، و لم يتوقف العصيان المدني الفلسطيني الا في عام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو مع الاسرائيلين .

ان النظرة الفاحصة للعديد من المواثيق و الاعلانات الدولية الصادرة عن منظمة الامم المتحدة تكشف عن حق الافراد في اللجوء للاضراب فضلا عن التجمعات السلمية – المظاهرات – لا العصيان المدني , و ذلك بحسبانهما حقين اساسيين من حقوق الانسان , و يأتي الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن المنظمة في عام 1948 ، و العهد الدولي للحقوق الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية الصادر أيضا عن المنظمة الاممية في عام 1966 علي رأس المواثيق الدولية التي ترسخ الحق في الاضراب و التجمع السلمي ، فحين قضي القضاء المصري ببراءة كافة المضربين من عمال سكك حديد مصر في الواقعة الشهيرة عام 1986 ، فقد أسس الحكم حيثياته علي انضمام مصر للعهد الدولي المشار اليه سالفا و الذي يكفل للعمال الاضراب ، و هنا تثرينا الحالة المصرية بمدد مهم في سياق الممايزة بين مفهوم الاضراب و مفهوم العصيان المدني العام .

و لم تخرج التشريعات الوطنية عن المواثيق الدولية في ذات الاطار , حيث لم تقر هذه التشريعات الوطنية في معظم دول العالم , اللجوء الي العصيان المدني كحق من الحقوق الاساسية للانسان , باعتبار أن هذه الفعل يعد خروجا عن النظام العام , و انتهاكا للشرعية التي تجسدها التشريعات و القوانين ذاتها . , و ذلك بالنظر الي أن العصيان المدني في مجمله اعتراضا و عصيانا لتنفيذ التشريعات و القوانين السارية ، بغض النظر عن الغايات و الاهداف السياسية , و الاقتصادية , و الاجتماعية و غيرها من مطالب أخري قد يسعي المشتركين في الاعتصام المدني لتحقيقها .

فاذا كان النظام العام يعد صورة مادية ملموسة مجسدة لحالة النظام المناهض للفوضي , و أنه يعد ايضا , مجموع الشروط اللازمة للامن و الأداب و النظام و الصحة التي لا غني عنها لقيام علاقات مستقرة بين سائر أنحاء المجتمع في دولة معينة و في حقبة زمنية معينة , فانه ما من شك أن العصيان المدني في هذه الحالة يقوض اسس النظام العام للدولة ، و من ثم فان المصالح القصوي للمجتمع , تتطلب تدخلا من الدولة في هذه الحالات و ذلك من أجل اعادة النظام العام للحالة العادية الطبيعية ، بعد أن حاقت به الاخطار ، و تبدد الخوف و الروع و الهلع من جانب المواطنين , الذين اعتديت علي حقوقهم الخاصة في الأمن و السكينة والحرية .

إن حريات الأفراد و حقوقهم يقابلها حق الدولة ، لذلك فلضمان استقرار ، بل دوام الدولة و بقائها، لابد لها من النظام ، و عليها أن تدرء كافة الظروف و الملابسات و التي قد تحيق خطرا بهذه الدولة , و هنا فالدولة ليست هدفا بحد ذاتها للدولة , لكن الافراد – عناصر هذه الدولة – الذين من دونهم ما قامت الدولة هم الهدف الاساسي لتدخل الدولة لحفظ النظام العام . فحريات الافراد ليست مطلقة ، كما أن النظام العام أيضا يجب ألا يكون مطلقا ، حيث يكون النظام العام ديمقراطيا حينما يكون نسبيا لا مطلقا ، فلابد من قيود لاتقاء الفوضي و عدم الاستقرار ، لكن من الحمق أيضا وضع القيود ما لم تكن في سبيل المصلحة العامة و خاضعة لرقابة القضاء .

بقلم د . أيمن سلامة

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .