تأخذ ظاهرة التركز الاقتصادي وسائل متعددة، وهي بهذا الوصف ليس لها شكل قانوني يخضع لنظام قانوني خاص به. فكل ما يعنيه التركز الاقتصادي هو عبارة عن “تجمع اقتصادي بين وحدات اقتصادية يختلف نظامه القانوني حسب العلاقة القانونية التي تربط هذه الوحدات الاقتصادية“(1). ومن بين الوسائل التي يتخذها التركز الاقتصادي الشركات متعددة الجنسية على اعتبار أنها انسب الوسائل القانونية التي تفرغ فيها ظاهرة التركز الاقتصادي والتراكم الرأسمالي، غير أن ما تضطلع به الشركات متعددة الجنسية في هذا المجال تبرز اهمية في الاندماج الدولي للشركات متعددة الجنسية. ويعد مفهوم الاندماج بين الشركات مفهوما قانونيا له احكامه واثاره الخاصة به، ورغم خلو التشريعات الوطنية من اعطاء تعريف له، الا ان الكثير من الفقهاء والكتاب قد تصدوا له وأعطوه تعاريف عدة. فلقد عرفه الاستاذ “Chuilon” بانه “عملية تتضمن قيام شركة او عدة شركات بنقل كافة موجوداتها الى شركة اخرى قائمة يزيد رأسمالها بمقدار هذه الموجودات او الى شركة جديدة، بحيث تتحمل الشركة الدامجة او الجديدة كافة خصوم الشركة المندمجة وتؤول الاسهم او الحصص الجديدة التي تمثل هذه الموجودات الى الشركات المندمجة“(2). وعرف بانه “دمج شركة او اكثر بشركة قائمة قانونا او دمج شركتين في الاقل لتكوين شركة جديدة، وتتطلب عملية الاندماج اذن وجود شركتين في الاقل وانتهاء الشخصية المعنوية للشركة المندمجة“(3). بينما يعرفه الدكتور محسن شفيق بانه “فناء شركة او اكثر في شركة اخرى، او فناء شركتين او اكثر وقيام شركة جديدة تنتقل اليها ذمم الشركات التي فنيت“(4).

ويتضح من هذه التعاريف ان للاندماج صورتين :

الأولى : الدمج بطريقة الضم “الابتلاع” : وتعني هذه الطريقة فناء شركة او اكثر في شركة قائمة فعلا، أي فناء شركة وطنية في شركة وطنية وليدة او تابعة لشركة ام اجنبية، فتكون الشركة الوليدة هي الدامجة والشركة الوطنية هي المندمجة، فيتم نقل اموال وموجودات واصول وديون الشركة المندمجة الى الشركة الدامجة(5).

الثانية : الدمج بطريقة المزج : وهذه الطريقة تعني ان جميع الشركات الداخلة في عملية الاندماج تفنى وتزول عنها شخصيتها المعنوية، وتقوم على انقاضها شركة جديدة، غير ان الاندماج بطريقة الضم “الابتلاع” هي الطريقة الاكثر رواجا في العالم الرأسمالي نظرا لما في الدمج بطريقة المزج من تكاليف باهضة تتمثل في ارتفاع نفقات الدمج وزيادة الضرائب والرسوم نتيجة للزيادة في حجم الاصول التي تم نقلها الى الشركة الجديدة(6).

وللاندماج بصورة عامة مفهومان احدهما اقتصادي والاخر قانوني، وليس بالضرورة ان يتطابق المفهومان حتى نكون امام حالة اندماج، فالمفهوم الاقتصادي اوسع في مداه من المفهوم القانوني، حيث انه يشمل صورا للتركز الاقتصادي لا تعد من قبيل الاندماج كمفهوم قانوني(7). فعلى سبيل المثال لا يعد من قبيل الاندماج بالمفهوم القانوني اذا ما قامت شركة ما بنقل اصولها الصناعية الى شركة اخرى مع استمرار الاولى قائمة كشركة قابضة ليس لها من نشاط الا ادارة ما تملكه من اسهم في الشركة المقبوضة وممارسة سيطرتها عليها(8). فهكذا عمل على وفق المفهوم الاقتصادي يعد من قبيل الاندماج، لان ما يهم الاقتصاد هو وحدة المشروع الاقتصادي، ولكن على وفق المفهوم القانوني لا يعد من قبيل الاندماج لانه قد بقيت الشركة التي نقلت اصولها الصناعية محتفظة بشخصيتها القانونية وهذا يتنافى مع الاندماج كنظام قانوني. والاندماج الدولي مثلما يقوم بين الشركات الوليدة او التابعة والشركات الوطنية القائمة في اماكن تواجد تلك الشركات، فانه كذلك يتم مع شركات عملاقة قابضة “شركات ام” والغاية من هذا الاندماج ليست لزيادة السيطرة والتبعية فحسب وانما الغاية الاساس في تركيز رؤوس الاموال لتقوية مركزها في الاسواق العالمية، مما يعني زيادة قدرتها على منافسة الشركات المماثلة، وخير مثال على ذلك اندماج شركة دانلوب البريطانية مع شركة بيريللي الايطالية عام 1971 لمنافسة الامريكية لصناعة المطاط، وبالاخص الشركات المتخصصة في انتاج اطارات المركبات(9).

والاندماج الدولي هو الذي يتم بين شركتين او اكثر تحمل جنسيات مختلفة، غير ان هذا لا يعني عدم اهمية الاندماج الذي يحصل بين شركتين تحملان نفس الجنسية، خاصة اذا كانت الشركة الدامجة شركة وليدة، حيث انه يؤدي بطريقة غير مباشرة الى الاندماج الدولي. وتزداد أهمية الاندماج الدولي بين الشركات متعددة الجنسية اذا اقترن الاندماج بالاسواق المالية العالمية، فاندماج الأسواق المالية العالمية تعود الى “انعكاسات بالغة الاهمية على مجمل محاور الاقتصاد الدولي من خلال التأثير في كفاءة التخصص العالمي للمدخرات وابتكار مصادر جديدة للتمويل الدولي وزيادة السيولة الدولية، فضلا عن انعكاساتها في مستوى اسعار الفائدة الدولية واسعار الصرف، الى جانب تاثيرها في فعالية السياستين المالية والنقدية في الاقتصاد القومي(10)، لهذا فان اكبر المصارف الدولية تتجه اليوم نحو الاندماج فيما بينها لتعمل معاً على المستوى الدولي في تامين الخدمات المالية(11). ويكمن سبب انتقال المصارف المالية والاسواق المالية من العمل ضمن النطاق الاقليمي الى العمل على المستوى الدولي في انه استجابة لتمكين الشركات متعددة الجنسية وفروعها الدولية من الحصول على المستلزمات المالية، وهذا يبدو واضحا من خلال تحول المصارف الامريكية من اطارها القومي إلى إطارها الدولي استجابة لخروج الشركات الامريكية من ذات الاطار، وقد حذت المصارف الاوربية واليابانية حذو نظيرتها الامريكية بغية تمكين شركاتها من الحصول على المواد اللازمة للقيام بأعمالها في دول العالم كافة(12). ان الطابع الدولي لعمليات الاندماج بين المؤسسات المالية الذي حدث بكثرة في الاونة الاخيرة بعد مرحلة الانفتاح المالي الدولي – سوف يعكس التقارب الاقتصادي وخاصة في المجال المصرفي والمالي بين الاقتصادات الدولية، الذي تلعب فيه الشركات متعددة الجنسية دورا بارزا ومعقدا في نسج نظام اقتصادي دولي جديد يتناسب ومعطيات موجة الاندماجات التي تقوم بها الشركات متعددة الجنسية فيما بينها.

ومن الجدير بالذكر ان هناك امثلة عديدة على موجة الاندماجات الحاصلة بين الشركات متعددة الجنسية ومنها “ماحصل مع شركة جنرال الكترك” الامريكية و تحالفها مع (62) شركة منتشرة في (19) دولة، و “شركة كرايزلر” الامريكية التي تملك حصة بنسبة (24%) من “شركة ميتسوبيشي” اليابانية، وهذه بدورها تملك حصة في “شركة هونداي” الكورية، و “شركة فورد” الامريكية بنسبة (25%) في “شركة مازدا” اليابانية، وهذه بدورها تصنع في امريكا سيارات “لشركة فورد” وكلاهما تملكان حصصا في “شركة كيا” الكورية، وشركتا “فورد ونيسان” لهما مصانع في استراليا، و “شركتا فورد وفولكس فاكن” شركة واحدة في امريكا الجنوبية تنتج شاحنات للولايات المتحدة، وتملك”شركة جنرال موتورز” نسبة (41%) من “شركة اسوزو” وهذه بدورها تقيم ائتلافا مع “شركة سوبارو” المملوكة “لشركة نيسان” اليابانية، اما شركات الالكترونيات فلها تحالفاتها العالمية ايضا، مثل “شركة سيمنز” الالمانية و “شركة فيليبس” الهولندية و “شركة JVC” و “شركة بول” و “شركة تومسون” في فرنسا و “شركة اولفيتي” في ايطاليا و “شركة ITT وIBM ” في امريكا وشركات “كونترول داتا وفوجيتو وتوشيبا و NEC ” في اليابان(13). وتقوم الشركات متعددة الجنسية فضلا عما سبق ذكره باتخاذ استراتيجية التنويع غير المترابط في الانتاج والتسويق، ذلك انها تتخذ طابع الاندماج مع شركات اخرى مختلفة في طبيعة الانتاج، أي التنويع في الانشطة دون ان يكون هناك ادنى ترابط فني في الانتاج الذي تقوم به. فعلى سبيل المثال ان شركة التلفون والتلغراف الدولية “ITT” تضم الى ملكيتها شركات فنادق شيراتون، كذلك فان شركة “تايم وارنر” لها ملكية العديد من الاسهم والسندات في شركات النشر والاعلام والملاهي “من استوديوهات هوليود الى المجلة الامريكية الشهيرة الى شبكة الاخبار CNN مرورا بالتلفزيون بالكابل”(14). وعلى الرغم من اهمية الاندماج الدولي كاداة لتكوين الشركات متعددة الجنسية، الا انها تصطدم بعقبات قانونية تعيق اهميتها كاداة قانونية مثلى لتكوين الشركات متعددة الجنسية، وهذا مرجعه الى تعدد الاحكام المنظمة للاندماج وتضاربها بين تشريع واخر من جهة، وعدم وجود قواعد دولية تحكم عملية الاندماج بين الشركات من جهة اخرى.

_________________

1- د.حسام الدين عبد الغني الصغير، النظام القانوني لاندماج الشركات، ط1، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1987، ص10.

2- المصدر نفسه، ص25.

3- كامل عبد الحسين البلداوي، دمج وتحويل الشركات – دراسة في التشريع العراقي، مجلة اداب الرافدين، تصدرها كلية الاداب، جامعة الموصل، العدد 19، 1989، ص214.

4- د.محسن شفيق، الوسيط في القانون التجاري المصري، ج1، ط3، النهضة المصرية، القاهرة، 1957، ص664.

5- انظر عوني محمد الفخري، التنظيم القانوني للشركات متعددة الجنسية والعولمة، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص110، كذلك انظر بنفس المعنى نغم حنا رؤوف ننيس، النظام القانوني لزيادة راس مال الشركة المساهمة، سلسلة الرسائل القانونية، ط1، الدار العلمية الدولية ودار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، 2002، ص63.

6- انظر د. حسام عيسى، الشركات المتعددة القوميات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، بدون سنة طبع ، ص 88-89.

7- انظر: د. حسام الدين عبد الغني الصغير، النظام القانوني لاندماج الشركات، ط1، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1987، ص15. كذلك انظر د. احمد محمد محرز، اندماج الشركات من الجهة القانونية: دراسة مقارنة، منشأة المعارف، الاسكندرية، بدون سنة طبع، ص18 ومابعدها.

8- انظر د.حسام عيسى، الشركات المتعددة القوميات، المصدر السابق، ص 89.

9- انظر : عوني محمد الفخري، مصدر سابق، ص111.

10- د. عماد محمد علي العاني، اندماج الاسواق المالية الدولية: اسبابه وانعكاساته على الاقتصاد الدولي ، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص15.

11- انظر د. فؤاد مرسي، الراسمالية تجدد نفسها، عالم المعرفة، الكويت، 1990، ص138.

12- انظر: د. عماد محمد علي العاني، اندماج الاسواق المالية الدولية: اسبابه وانعكاساته على الاقتصاد الدولي ، ط1، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص187.

13- فراس علي حسين عكلة الجبوري، اشخاص القانون الدولي العام في ظل العولمة، رسالة ماجستير، كلية القانون، جامعة الموصل، 2003، ص118.

14- د. اسماعيل صبري عبد الله، الكوكبة : الرأسمالية في مرحلة ما بعد الامبريالية، مجلة المستقبل العربي، عدد (222)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص13. كذلك انظر بنفس المعنى د. ريمون حداد، العلاقات الدولية، ط1، دار الحقيقة، بيروت، 2000، ص353.

المؤلف : طلعت جياد لجي الحديدي
الكتاب أو المصدر : المركز القانوني الدولي للشركات متعددة الجنسية
الجزء والصفحة : ص34-39

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .