سلطة الأطراف في وجود الخصومة المدنية

الخصومة ليست سوى مرحلة من مراحل الدعوى أو هي الدعوى في مرحلة تحقيقها وتهيئتها للحكم[1].

فالخصومة حسب ابن منظور هي الجدل أي مقابلة الحجة بالحجة[2]وهذا المفهوم يبرز خاصية أساسية من خصائص النزاع القضائي تتمثل في أن الاطراف يملكون سلطة كبيرة في تسيير الدعوى المدنية ويمكن القول أن هناك سلطة واسعة للأطراف تبرز على مستوى رفع الدعوى أي إثارة الخصومة وكذلك تمتد إلى التراجع في الدعوى أي إنهاء الخصومة.

ولكن هل سيترك العنان للطرفين يسيرون الخصومة كما يرغبون؟ أم أن سير الخصومة يخضع لضوابط وقواعد معينة تحدد سلفا دور كل من القاضي والأطراف في إثارة وتسيير وإنهاء الخصومة؟

الفقرة الأولى- سلطة الأطراف في إثارة الخصومة المدنية:

[3] إنّ الواجب المحمول على كاهل القاضي والمتمثل في ضرورة البث في النزاعات ليس مطلقا بل ينحصر في القضايا المعروضة عليه بصفة قانونية إذ ليس له أن يثير الخصومات ولا يتعهّد بالقضايا من تلقاء نفسه بل على صاحب الحق أو المركز القانوني رفع الأمر للمحكمة إذ أراد الحصول على حماية قضائية لحقوقه.

فالنزاع المدني يفترض على الأقل وجود مدعي ومدعى عليه فالأول يلتجأ إلى السلطة القضائية مستنجدا بها لحماية حقوقه باعتبارها تجسم مظهرا من مظاهر سيادة الدولة ووظيفة من وظائفها الأساسية المتمثلة في ضمان الأمن في البلاد فالقاضي المدني مبدئيا لا يثير النزاعات ولا يتعهد بها تلقائيا إلا في حالات نادرة ويعتبر ذلك من أبرز مظاهر مبدأ ملكية الدعوى للمتقاضين.

أولا- المبدأ:القاضي لا يتعهد بالقضية تلقائيا:

فالمبدأ هو أن القاضي ليس له التعهد بالقضية دون أن ترفع إليه بصفة قانونية[4] استنادا إلى أن القضاة لا يفرضون من تلقاء أنفسهم احترام الحقوق الخاصة ولا يتعهدون بذلك إلا برفع دعوى قضائية لديهم[5].

ويربط بعض الفقهاء بين هذا المظهر من فكرة ملكية الدعوى للمتقاضين وبين مبدأ حياد القاضي على أساس أن القاضي لا يتدخل من تلقاء نفسه لحسم النزاعات إذ عليه أن ينتظر حتى يلتجأ إليه المتنازعون[6].

إذ لو أن القاضي قام ببدء الخصومة لأصبح مدعيا وقاضيا في نفس الوقت[7].

وبالرجوع إلى القانون المقارن يمكن القول أن قاعدة عدم جواز النظر في الدعوى دون طلب منذوي العلاقة تأخذ بها جميع الأنظمة القانونية رغم الاختلافات الواسعة بينها في الفلسفة القانونية التي تقوم عليها[8].

بل إنّ الأمر لم يقتصر على القوانين الوضعية وإنما هي أيضا قاعدة معروفة في الفقه الإسلامي، إذ الأصل فيه أن القاضي لا يستطيع البدء في نظر الدعوى ليصدر حكمه فيها إلا إذا جاء صاحب الشأن وطلب ذلك بادعاء يقدّم بصدد الحق المطلوب وهذا يستفاد مما ذهب إليه الفقهاء المسلمون من أنه لا يصح النظر في قضية من القضايا دون طلب من صاحب الحق المعتدى عليه.

وهذا هو معنى قولهم أن المدعي لا يجبر على الخصومة لأنّ الحق المعتدى عليه يعود له ولا يعود للقاضي والإنسان حرّ بالمطالبة بحقه أو التنازل عنه[9].

وفي القانون التونسي وقع أيضا تبني هذه القاعدة م م م ت وذلك ضمن أحكام الفصلين 43 و 69.

إذ ينصّ الفصل 43 المتعلق بإجراءات رفع الدعوى لدى حاكم الناحية ” ترفع الدعوى لدى حاكم الناحية بعريضة كتابية يسلمها الطالب أو من يمثله لكتابة المحكمة…”.

أما الفصل 69 والمتعلق بإجراءات رفع الدعوى لدى المحكمة الابتدائية فقد نص على أن ” ترفع الدعوى لدى المحكمة الابتدائية بعريضة يحررها محامي الطالب…” ويمتد نطاق هذه القاعدة أيضا ليشمل الطعون[10].

فالدعوى هي الأداة التي لا يمكن للمحكمة المدنية التحرك دونها، ذلك أن القضاء المدني ولو أنه وظيفة من وظائف الدولة إلا أنه لا يباشر إلا بناء على طلب[11].

ولقد أقرت محكمة التعقيب التونسية بدوائرها المجتمعة هذه القاعدة أيضا حيث أكدت على أنّ “القاضي لا يعهد نفسه بنفسه وإنما هو يتعهد بالخصام بسعي من أحد المتقاضين”[12].

ثانيا – الاستثناءات: امكانية التعهد التلقائي:

إلا أن هذه القاعدة قد يطرأ عليها استثناءات نادرة جدا يسمح فيها القانون للمحكمة أن تتعهد بالقضية من تلقاء نفسها ودون طلب من أحد وذلك خاصة في القضايا المتعلقة بالنظام العام مثلما ورد في الفصل 447 م ت المتعلق بدوى التفليس، إذ جاء فيه “تتعهد المحكمة بمقتضى تصريح كتابي من المدين أو بطلب من أحد الدائنين ويمكن أن تتعهد بالنظر من تلقاء نفسها”.

فالمحكمة في هذه الحالة تتعهد بالدعوى دون طلب من أحد، ولكن تبقى هذه الحالة استثنائية وصعبة التطبيق عمليا وفي الحقيقة فإنّ الذي يحدث غالبا هو أن المحكمة عند نظرها دعوى رفعت أمامها تثير مسألة الإفلاس، أي أنها لا تثير الدعوى فعلا وإنما فقط تثير مسألة تهم النظام العام.[13]

ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أن النيابة العامة وطبقا للفصل 251 م م م ت تملك “الحق في القيام بالقضايا كلما كانت هناك مصلحة شرعية تهم النظام العام”.

فبالنسبة للمدعي فإنّ قانون الإجراءات المدنية يحمله واجب استدعاء خصمه للحضور أمام المحكمة ليجيب على الدعوى[14]، إذ لا يجوز للقاضي النظر في ادعاءات الطالب وفحص مؤيداته قبل أن يتحقق من أنه وقع استدعاء الخصم بصفة قانونية[15].

أما بالنسبة للمحكمة، فإنه يترتب عن رفع الطلب القضائي إليها تحميلها واجب الفصل في موضوع الطلب وإلا عد الحاكم مرتكب لجريمة إنكار العدالة،[16] وهذا الواجب يقوم سواء وجد نص يعالج موضوع النزاع أم لا.

لأن الفصل في النزاعات هو من الواجبات الأساسية للدولة ممثلة في السلطة القضائية، فالمحكمة إذا لا تملك حق رفض طلب التقاضي من أي إنسان وعليها البت فيه، لأن المتقاضين الذين رفعوا الدعوى هم الوحيدون مبدئيا القادرين على الرجوع فيها أي إنهاء الخصومة.

الفقرة الثانية – سلطة الأطراف في إنهاء الخصومة المدنية:

يمكن أن تنتهي الخصومة المدنية بعدة أوجه وذلك إّما بالوفاة أو بالسقوط، وقد تعرض المشرع لهاتين الطريقتين ضمن أحكام الفصل 241-247 م م م ت تحت عنون “معطلات النوازل”[17] ولكن الذي يعنينا هنا هما طريقتين إراديتين يمكن للمتقاضين بموجبهما وضع حد للسير في الدعوى وبالتالي إنهاء الخصومة وهما: الصلح وترك الخصومة.

أولا: إنهاء الخصومة بالصلح بين الأطراف:

يملك الأطراف كامل الحرية لإنهاء الخصومة وفق ما يرونه مناسبا لمصالحهم وذلك بإبرام عقد صلح بينهم[18].

ويعرف الفصل 1458 م أ ع الصلح بأنه: “عقد لرفع النزاع وقطع الخصومة” ويكون ذلك بتنازل كل من المتصالحين عن شيء من مطالبه أو بتسليم شيء من المال أو الحق”.

وفي صورة الاتفاق على عقد الصلح وإنهاء الخصومة فإن المحكمة لا تملك حق الاعتراض على ذلك ولا يبقى لها سوى مراقبة مدى احترام عقد الصلح لأحكام القانون خاصة التي تهم النظام العام والتي منع فيها المشرع إجراء الصلح أصلا[19] أو إخضاعه لشروط يجب أن تكون متوفرة في النزاع[20].

فمثلا “لا يجوز الصلح فيما يتعلق بالحقوق الخاصة بذات الإنسان التي لا يجوز التعامل فيها بالمال كالحرية والأبوة ونحوهما وبالحق العام لكنه يجوز فيما يترتب عن ذلك من حقوق مالية”.[21]

وفي صورة إنعقاد صلح صحيح فإنه يؤدي إلى سقوط الحقوق والدعاوى التي انعقد الصلح عليها، ولا يمكن الرجوع في الصلح ولو باتفاق الجانبين.[22]

ثانيا: ترك الخصومة:

ترك الخصومة معناه تنازل المدعى عنها وعن كافة إجراءاتها بما في ذلك عريضة الدعوى مع احتفاظه “بالحق” موضوع الدعوى[23].

والأصل أن المدعي أو الطاعن هو صاحب المصلحة الأولى في تقدير ما إذا كان سيستمر في السير بالدعوى أم يقرر ترك الخصومة فيها وذلك باعتبار أنه هو الذي بدأ الخصومة، وتركه إما أن يقع بصفة ضمنية أو بصفة صريحة.

فترك الخصومة بصفة ضمنية يكون بعدم مباشرة الدعوى أصلا منذ البداية وذلك بتخلي المدعي عن السير في الإجراءات.

ورتب المشرع عن ذلك الحكم بطرح القضية فالفصل 49 م م م ت اقتضى أنه “إذا لم يحضر الطالب بنفسه أو بواسطة محام فإن النازلة تطرح”[24].

فغياب المدعي يفسر بأنه تخلى عن السير في إجراءات الخصومة.

أما ترك الخصومة بصفة صريحة فإنه يحدث عندما تتقدم الخصومة أشواطا ويعبر بعد ذلك المدعي عن رغبته في الترك، ففي هذه الحالة يمكن أن يعتبر تصرفه بأنه وسيلة للحيلولة دون صدور الحكم في الموضوع لهذا كان لا بد من وضع ضوابط لمثل هذا الترك[25] وهي:

1.أن يكون الترك صريحا وذلك بمطلب كتابي ممضي أو أن يقع بالجلسة ويضمن في محضرها
ولا يعتد بهذا الترك في القضايا التي تهم النظام العام (مثل الإفلاس).[26]

2.أن لا يؤدي طلب الترك إلى الإضرار بمصلحة المدعى عليه لهذا فلا بد من قبوله له.

فإذا توفر هذين الشرطين طرحت القضية أو قبل الرجوع في الاستئناف فإن الخصومة تنقضي وتعتبر كأن لم تكن وليس للمحكمة أن تواصل النظر في الدعوى.

فمبدأ ملكية الدعوى للأطراف يعطيهم السلطة في إثارة وإنهاء الخصومة إلى جانب أنه يعطيهم أيضا سلطة مماثلة في ضبط وتحديد مادة النزاع.