رقابة دستورية القوانين في ليبيا

بقلم: عبدالسلام محمد المسماري المحامي

مرت رقابة دستورية القوانين في ليبيا بعدة مراحل ففي ظل الدستور الاتحادي الصادر سنة 1951 أوكل اختصاص رقابة دستورية القوانين إلى المحكمة العليا الاتحادية وفقا لما جاء في الفصل الثامن منه وتحديدا المواد المتعلقة بالمحكمة العليا الاتحادية وهي المواد 143 وما بعدها حتى المادة 158 ويتبين من المادتين 152 و153 أن رقابة المحكمة العليا لدستورية القوانين رقابة سابقة لسن القوانين ورقابة لاحقة، وبناءا على هذا الأساس بيّن قانون المحكمة الاتحادية العليا الذي صدر في 10 نوفمبر1953 تفصيل هذه الرقابة في المواد 14و 15/2، 3 و 16 وحدد طرق اتصال المحكمة العليا بالطعون المتعلقة بالمسائل الدستورية بإحدى وسيلتين: إما بالدعوى الأصلية أمام المحكمة العليا أو بالدفع الفرعي بعدم الدستورية أمام المحاكم الأدنى درجة، كما صدر المرسوم بشأن اللائحة الداخلية للمحكمة العليا الاتحادية في 10 يناير1954 وبين الإجراءات الخاصة برفع الطعون الدستورية ونظرها بموجب المادتين 13 و14 منه. ووفقا للرأي الراجح أن طبيعة رقابة المحكمة العليا في ليبيا في ظل ذلك الدستور كانت رقابة إلغاء(23). وبعد قيام الثورة، وبعد صدور الإعلان الدستوري بتاريخ 11/12/1969 ذهب بعض الفقه إلى القول بأنه بموجب نص المادة 18 من ذلك الإعلان لم يعد جائزا الطعن أمام المحكمة العليا على القوانين التي تصدر عن مجلس قيادة الثورة(24)، غير أن القراءة المتأنية لنص المادة 18 تجعلنا نرجح الرأي القائل بأن الإعلان الدستوري لم يحجب عن المحكمة العليا اختصاصها في رقابة دستورية القوانين إلا فيما يتعلق بتدابير مجلس قيادة الثورة التي يراها ضرورية لحماية الثورة وفقا لما ورد بعجز المادة 18 من الإعلان الدستوري”… ولا يجوز الطعن فيما يتخذه مجلس قيادة الثورة من تدابير أمام أي جهة.” وبعد صدور وثيقة إعلان قيام سلطة الشعب: ورغم عدم تطرق الوثيقة إلى مسألة رقابة دستورية القوانين إلا أنه أثير الجدل بشأن هذه المسألة حيث ذهب البعض إلى القول بأنه بإلغاء كافة أشكال التمثيل النيابي فقد أصبح اختصاص المحكمة العليا بالرقابة على دستورية القوانين ملغى ضمنيا بحجة أن هذه الرقابة تجعل من القضاء جهة خارجية تراقب نيابة عن المجتمع وأن الشعب أصبح يحكم نفسه بنفسه وهو السلطة التشريعية فإن حصل انحراف وأصدر قانونا مخالفا للدستور فإن تصحيح ذلك يتم بالمراجعة الديمقراطية(25)، وهذا الرأي غير سديد في نظرنا لأنه تأويل غير دقيق وغير موضوعي لما ورد بالكتاب الأخضر حول كيفية تصحيح شريعة المجتمع إذا حدث انحراف، إذ نجد الكتاب الأخضر ص (43) يعالج هذه المسألة بالقول بـ:” إذا حدث انحراف عن شريعة المجتمع فهو انحراف كلي يعالج بكيفية كلية عن طريق المراجعة الديمقراطية وليس عن طريق القوة..” بيد أننا نجد أنصار هذا الرأي بعد إيراد هذه الفقرة المجتزأة من نص الكتاب الأخضر في هذه المسألة يضيفون استنتاجاً خاطئا بالقول:-” إذن ليس عن طريق المحكمة العليا” (26)، وهذا قفز غير موضوعي على المسألة فما ورد في الكتاب الأخضر من أن تقويم الانحراف يتم بالمراجعة الديمقراطية، وهذا السياق لا يسمح بالاستنتاج الخاطيء سالف الإشارة لأن القضاء ليس وسيلة عنف أو قوة كما أن رقابة القضاء لدستورية القوانين لا تتعارض مع المفاهيم الديمقراطية بل تمثل ضمانة حقيقية لها من خلال ترسيخ التطبيق السليم للقوانين الصادرة عن السلطة التشريعية وضمان عدم اضطراب المنظومة التشريعية في البلد. بقي أن نقول أن هذا النوع من التناول غير الموضوعي لنصوص القانون هو الذي أدى إلى تغييب اختصاص المحكمة العليا برقابة دستورية القوانين مع ما ترتب على ذلك من آثار سلبية لا تخفى عن كل ذي عين.

ففي 25 مايو 1982 صدر القانون رقم 6 لسنة 1982 بإعادة تنظيم المحكمة العليا الذي جرد المحكمة العليا من سلطة رقابة دستورية القوانين من خلال إعادة تنظيم اختصاصات هذه المحكمة في المادة 23 منه، ولم يجعل من بين هذه الاختصاصات الاختصاص بالرقابة على دستورية القوانين ثم نص صراحة في المادة 56 على إلغاء قانون المحكمة العليا لسنة 1953 واللائحة الداخلية للمحكمة وكل حكم يخالف أحكام هذا القانون. وبسبب هذا القانون غابت الرقابة القضائية على دستورية القوانين في ليبيا مع ما يعنيه ذلك من إهدار لما تشكله هذه المسألة من ضمانة كبرى للشرعية القانونية بشكل يجعلنا نقول بدون أدنى تحفظ أن هذا الأمر شكل سقطة تشريعية كان لها الأثر السيئ على العملية التشريعية ككل، الأمر الذي راكم كما من القوانين المتعارضة مع القواعد الدستورية السائدة في المجتمع خلال مدة تزيد على العشرين عاما، وهذا الكلام لا يحمل مبالغة منا ففي الواقع لم تستعد المحكمة العليا ممارسة اختصاص رقابة الدستورية بمجرد صدور القانون رقم 17 لسنة 1423 الموافق لسنة 1994(27) الذي عدلت بموجبه المادة 23 من القانون رقم 6 لسنة 1982 بحيث أصبحت تنص على: “تختص المحكمة العليا دون غيرها منعقدة بدوائرها المجتمعة برئاسة رئيسها أو من يقوم مقامه بالفصل في المسائل الآتية:

أولا- الطعون التي يرفعها كل ذي مصلحة شخصية مباشرة في أي تشريع يكون مخالفا للدستور.

ثانيا – أية مسألة قانونية جوهرية تتعلق بالدستور أو بتفسيره تثار في قضية منظورة أمام أية محكمة…”، ولم تتمكن المحكمة العليا من ممارسة هذا الاختصاص بمجرد صدور هذا القانون لأن المادة 51 المعدلة بموجبه أيضا نصت في فقرتها الثالثة على أن تتولى الجمعية العمومية للمحكمة وضع لائحة داخلية للمحكمة تتضمن بوجه خاص بيان القواعد والإجراءات الخاصة برفع الطعون الدستورية ونظرها وتحديد المصروفات والرسوم القضائية على الطعون والطلبات التي تقدم إليها.” إلا أنه ولأسباب إجرائية! تراخى إصدار اللائحة المذكورة لمدة تزيد على عشر سنوات إلى أن صدر قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا رقم 283/1372 بإقرار اللائحة الداخلية للمحكمة العليا بتاريخ 28/6/1372 و.ر الموافق (2004)(28). وبصدور هذا اللائحة عادت المحكمة العليا لمباشرة اختصاص الرقابة على دستورية القوانين، وقد بينت في أسباب حكمها في قضية الطعن الدستوري رقم 1/46 ق طريقتي اتصالها بالدعوى الدستورية، الطريقة الأولى المتمثلة في الدعوى المباشرة التي يرفعها كل ذي مصلحة شخصية مباشرة في أي تشريع مخالف للدستور، والثانية المتمثلة في الدفع الجدي في مسألة جوهرية تتعلق بالدستور أو بتفسيره في قضية أمام إحدى جهات القضاء. وانتهت إلى القول بأنها بغير هاتين الوسيلتين لا تقبل الدعوى الدستورية ولا يجوز تحريك اختصاصها بنظرها(28).