تعريف المحقق
المؤلف : سلطان الشاوي
الكتاب أو المصدر : اصول التحقيق الاجرامي

دخلت كلمة المحقق لأول مرة في التشريع العراقي في قانون ذيل قانون أصول المحاكمات الجزائية البغدادي رقم 42 لسنة 1931 في الفقرات 1 و 2 و 3 من المادة الخامسة من نفس القانون. ولم يستعمل المشرع العراقي قبل هذا التاريخ الا عبارة نائب عمومي للدلالة على الموقف الذي كان يقوم بالتحقيق بالإضافة الى واجبات الادعاء العام في التنقيب والتحري. وبذلك فصل القانون العراقي بين سلطة الادعاء العام فأودعها الى المدعي العام ونوابه حسب أحكام المادة السادسة. من نفس القانون ووظيفة المحقق التي انيطت بالمحققين (1).

والمحقق هو الموظف الذي يقوم بالتحقيق في جميع أنواع الجرائم لإثبات حقيقة وقوع الجريمة وكيفية ارتكابها ومدى علاقة المتهم بها. ويعين المحقق في العراق من قبل وزير العدل بشرط ان يكون حاصلا على شهادة في القانون معترف بها، وللوزير ان يمنح هذه السلطة الى ضابط الشرطة ومفوضيها وموظفي وزارة العدل ممن يحملون شهادة في القانون. ولا يستطيع المحقق ان يمارس أعمال وظيفته لأول مرة إلا اذا حلف أمام رئيس محكمة الاستئناف اليمين الآتية : (أقسم بالله العظيم أن أودي أعمال وظيفتي بالعدل وأطبق القوانين بأمانة). ويقوم المحقق بإجراءاته التحقيقية تحت اشراف حاكم التحقيق (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-انظر عبد الأمير العكيلي، أبحاث في التحري عن الجرائم وجمع الأدلة والتحقيق، الجزء الثاني 1972. ص53 بغداد.
2-انظر المادة (51) الفقرات (أ، هـ، و) من قانون أصول المحاكمات الجزائية.
صفات المحقق
لم يتطرق قانون أصول المحاكمات الجزائية للصفات والمواهب التي يجب ان يتصف بها المحقق. والظاهر ان المشرع العراقي قد ترك هذا الأمر الى تقدير وزير العدل. وبها ان التحقيق يعتبر من الوسائل النافعة والحديثة التي تستخدم في مكافحة الجريمة فلا يجوز بالتالي ان يسلم الا لمن هو قادر على استعماله تؤهله صفاته ومعلوماته للقيام به على الوجه الأكمل (1). اتفق علماء التحقيق الإجرامي على الصفات التي يجب توفرها في المحقق وهي كالآتي :
1-قوة الملاحظة :
وهي عبارة عن المعرفة السريعة والأكيدة لتفاصيل الأشياء التي تقع تحت الحواس، وبعبارة ثانية هي القدرة على استيعاب الأمور مهما كانت دقيقة ومهما بدت تافهة لأول مرة. هذا وأن علم النفس يعلمنا بأن قوة الملاحظة تختلف لدى الأشخاص بصورة عامة تبعا لاختلاف تكوينهم الشخصي والتجارب التي مروا بها في حياتهم الماضية، وتختلف كذلك تبعا لميولهم ورغباتهم ومهنهم، فلاعب كرة القدم يكون سريعا في ملاحظة الخطة المتبعة من قبل الفريق المقابل والأخطاء التي ترتكب داخل الملعب، والمهندس أثناء مروره في الطريق لا يلفت نظره الا الأبنية وهاوي الخيول تجلب انتباهه الخيول اكثر من شيء آخر، ولا يستلفت نظر السيدان الا الازياء.

أما فيما يتعلق بالمحقق فيجب ان يكون سريعا دقيقا في ملاحظة جميع الأشياء التي تقع تحت حواسه وان كانت هذه الأشياء تبدو لأول وهلة تافهة وعديمة الأهمية وخاصة عند إجراء التفتيش او الكشف على محل ارتكاب الجريمة او خلال استجوابه المتهم او الشاهد : اذ ان التجارب تعلمنا بان ملاحظة أشياء صغيرة وتافهة كعود ثقاب او عقب سيجارة التي لا قد لا يهتم بها الشخص لعادي كثيرا ما كانت مفتاحا لكشف جرائم غامضة. وبما أن لقوة الملاحظة أهمية لكل فرد بصورة عامة وللمحقق بصورة خاصة لذا وجب تقويتها وذلك عن طريق التمرين والممارسة ويتم ذلك بملاحظة وتدقيق كل ما يحيط بالشخص والأشياء العابرة التي يمر بها كالحاجات المعروفة في المخازن ومحاولته تذكرها بعد ذلك بتفاصيلها ومحاولته التحقيق في مدى انطباق ملاحظته على الواقع.

2-قوة الذاكرة
ويراد بها القدرة على حفظ المعلومات والمشاهدات والاختبارات التي تقع تحت احدى الحواس واستدعائها عند الحاجة ولا شك في أن لقوة الذاكرة أهمية بالغة بالنسبة للمحقق لا تقل أهميتها عن قوة الملاحظة اذا نها تسهل مهمته الى حد كبير فبواسطتها يمكن ربط الحوادث بعضها بالبعض الاخر.

فقوة الذاكرة تساعد كثيرا على معرفة التباين والاختلاس الذي يحصل في أقوال الشاهد او بين أقوال عدد معين من الشهود حول نقطة او حادثة معينة وهذا مما يساعد بلا شك على معرفة صدق الشهادة او كذبها او التلاعب بجزء منها، ويتمكن المحقق الذي يتمتع بقوة ذاكرة جيدة ان يتذكر أوصاف الأموال المسروقة مما يساعد على معرفتها عند رؤيتها وهذا من شأنه ان يؤدي الى كشف الجريمة او جزء منها على الأقل، كما ان قوة الذاكرة تساعد المحقق على تذكر اوصاف المتهمين الهاربين من قبضة العدالة فيشخصهم فور وقوع نظره عليهم. اما اذا أراد المحقق ان يقوي هذه الصفة وجب عليه ان يعي الأشياء التي تقع عليها حواسه ويمرن نفسه على استعادة الحوادث السابقة وذلك لان الذاكرة تقوى بالاستعمال والتمرين اما إهمالها فيؤدي الى اضعافها.

3-سرعة الخاطر :
يقصد بها تيقظ ذهن الإنسان وإدراكه السريع لما يدور حوله ويصادفه من الحوادث وحسن تصرفه الفعلي او القولي بما يناسبها وفي حين وقوعها إذ ان المحقق كثيرا ما يجد نفسه في ظروف حرجة لا ينقذه منها الا سرعة خاطره فالتباطؤ في الفهم يؤدي به في أحيان كثيرة الى ضياع جهود كبيرة.
4-العدالة :
من الواضح ان الهدف الاساسي الذي يسعى إليه المحقق هو التوصل الى معرفة الحقيقة في الحادثة التي يحققها، وهذا الهدف يتطلب منه ان يلتزم طريق الحياد التام دون التحيز الى طرف الاتهام او الدفاع، اذ يجب ان يكون حاضرا في ذهنه على الدوام بأن الاصل في الإنسان البراءة حتى يثبت العكس وان الشك يفسر لصالح المتهم ولذا وجب عليه جمع الأدلة التي تثبت إدانة المتهم كما وجب عليه وفي نفس الوقت جمع الأدلة التي تثبت براءة البريء، فليس من العدالة ولا من حسن سير التحقيق ان يعتقد المحقق ان شخصا معينا هو المرتكب للجريمة ويكون همه جمع الأدلة ضده، بل يجب ان تكون مهمة المحقق اثبات ادانة المتهم وإظهار براءة البريء على حد سواء.
5-احترام حرية الدفاع :
أما احترام حرية الدفاع فإنها توجب على المحقق بأن يصغى الى أقوال ودفاع المتهم بصدر رحب وان يستمع الى شهود النفي ويناقش أقوالهم في وجود تسوده الطمأنينة اسوة بشهود الاثبات، ويجب على المحقق ان يتأكد من ان أقوال المتهم تصدر منه بإرادته وبالتالي يجب عليه ان يبتعد عن استعمال الخداع والتغرير بالمتهمين والشهود وعلى الأخص ان يبتعد كليا عن اللجوء الى استعمال وسائل الاكراه المادية والأدبية.

إن حرية الدفاع توجب عدم اساءة معاملة المتهم او تهدده ولو ثبت كذبه في افادته لان من حقه ان يحاول دفع التهمة عنه بكل الوسائل المؤدية الى ذلك ومنها الكذب. وبإمكانه أيضاً ان يمتنع عن أداء أي إفادة بالمرة، فهو ان شاء سكت. ولذلك نصت المادة (127) من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أنه (لا يجوز استعمال أية وسيلة غير مشروعة للتأثير على المتهم للحصول على اقراره، ويعتبر من الوسائل غير المشروعة اساءة المعاملة والتهديد بالإيذاء والاغراء والوعد والوعيد والتأثير النفسي واستعمال المخدرات والمسكرات والعقاقير). والمحقق الذي يلجأ الى استعمال وسائل الإكراه المادية والأدبية للحصول على الاعتراف من المتهم او الحصول على أقوال معينة من الشهود ان دل سلوكه هذا على شيء فإنما يدل على عجزه في مهنته لجمع الأدلة والوصول الى الحقائق بالطرق المشروعة للوصول الى الحقيقة.
6-الدقة في العمل
ويقصد بها التأكد والتثبت من تفاصيل الأمور وجزئياتها وعدم الأخذ بمجرد ظواهرها ومن مقتضيات الدقة في العمل ان يتحرى المحقق صحة ما يدلي به الشاهد او المتهم او المجني عليه وذلك بالقيام بالكشف والتجارب اللازمة في محل ارتكاب الجريمة حتى تظهر الحقيقة فلو أخذ المحقق كل قول على علته دون دراسة وتمحيص ومعرفة مبلغ صحته لتبعثرت أمامه الوقائع الصحيحة في القضية وابتعد عن جادة الحق وأثر عليه المظللون. فإذا ذكر المجني عليه مثلا او احد الشهود بأنه قد شخص المتهم بناء على رؤيته له ليلا من مسافة معينة على ضوء القمر، وجب على المحقق اختبار صحة هذه الأقوال وجعل المجني عليه او الشاهد في حالات مماثلة للتأكد من قوة بصره ومقدرته على التشخيص.

يجب اخذ أقوال المجني عليهم بتبصر واحتياط، لأنه في حالة جرائم السرقات وبالأخص ممن يؤتمنون على أموال بسبب وظائفهم، قد يكون هؤلاء المدعين بوقوع السرقة دخل فيها، وفي كثير من قضايا الحريق في الأماكن المؤمن عليها لدى شركات التأمين يعمد صاحب المكان الى وضع النار فيه وبذلك يرتكب جريمة الحريق للحصول على بدل التأمين، ففي حالات مثل هذه يجب على المحقق ألا يأخذ أقوال المخبرين على علاقاتها بل عليه إجراء الكشف الشامل والفحص الدقيق لأجل الوقوف على حقيقة الأمر الواقع.
7-الشجاعة والاعتماد على النفس
الشجاعة هي الحال النفسية التي تجعل صاحبها قادرا على الوقوف بوجه المخاطر دون خوف او وجل. فالمحقق يجب أن يتصف بالشجاعة (المادية والأدبية) فهو يحتاج للشجاعة المادية لأن واجبه يحتم عليه الذهاب الى الأماكن البعيدة والمنعزلة في أوقات مختلفة وهو مضطر من ناحية ثانية وبحكم وظيفته على مخالطة المجرمين فان كانت الشجاعة تنقصه عجز عن القيام بواجبه. أما الشجاعة الأدبية فضرورية أيضاً إذ أنها تساعد على إجراء التحقيق ضد أشخاص من ذوي الجاه والنفوذ أو يخشى نفوذها في المستقبل. أما الاعتماد على النفس فمعناه ركون المحقق عند القيام بأعماله على جهوده الشخصية دون الالتجاء الى احد غيره في اتمام التحقيقات المناطة به لان التحقيق اذا كان على أيد مختلفة قد يسبب في أحيان كثيرة الى فقدان الحقيقة. ومع ذلك فليس هناك ما يحول دون الاعتماد على الغير في اجراء التحقيق ممن يوثق بهم، كما أنه ليس هناك ما يمنعه من الاستعانة بذوي الخبرة الذين هم أكثر خبرة منه في اختصاصهم.
8-النشاط والجد :
ان النشاط والجد في العمل من الصفات الأساسية التي يجب ان يتصف بها المحقق وهما يقتضيان الاسراع في التحقيق وعدم التسويق والتأجيل فيه والانتقال الى محل وقوع الحادثة فورا لأن معالم الجريمة تزول بمضي الوقت اما قصدا بفعل المجرم وأعوانه او بفعل الطبيعة كالأمطار والرياح والغبار وما شابه لذلك وجب على المحقق ان يسرع في اجراء التحقيق حال وصول خبر وقوع الجريمة الى عمله دون تباطؤ، لأن كل تأخير في مباشرة التحقيق قد يفسح المجال امام المجرم للهرب، ومن المعلوم ان بعض الجناة يرتكبون جرائمهم بعد ان يكونوا قد هيأوا لأنفسهم وسائل الهرب بالسرعة المستطاعة، ودبروا من الأدلة المصطنعة ما ينفي عنهم الشبهة ويدفع عنهم التهمة فاذا ما تماهل المحقق في اتخاذ الإجراءات الضرورية في وقتها المناسب فإنه يكون بذلك قد أعطى الجاني الفرصة الكافية للهرب، والكفيلة لإزالة معالم الجريمة وابتكار طرق الدفاع الكاذبة. ولكي لا يتأخر التحقيق، يجب على المحقق دائما إعداد جميع الوسائل والأدوات اللازمة للقيام بالتحقيق فورا عند بلاغه خبر وقوع الجريمة وذلك استعدادا للطوارئ.. اذ ان الجرائم تقع بصورة مفاجئة.
9-الصبر والمثابرة :
يجب ان تكون للمحقق المقدرة على تحمل المشاق والمتاعب دونما كلل او ملل فلا يضجر او يمل او يستولى عليه اليأس لمجرد عدم حصوله على نتائج ايجابية في تحقيقاته الأولية، وإنما عليه ان يستمر ويثابر في تحقيقاته الى ان يصل الى معرفة الجاني الحقيقي. فإذا ما تعذر على المحقق معرفة المجرم بالرغم من كل الجهود التي بذلها جاز له اغلاق القضية بصورة مؤقتة دون أن يهملها نهائيا، وعليه في نفس الوقت ان يواصل تحرياته كلما سنحت له الفرصة بذلك، فالملاحظة ان المجرمين عندما يعلمون بإغلاق التحقيق يتركون الاحتياطات التي اتخذوها دفعا للشبهة ولاعتقادهم ان ذلك دليل على انتهاء التحقيقي في القضية.
10- الهدوء ورباطة الجأش :
يصادف المحقق أثناء تأديته لواجبه كثيرا من العوامل التي تؤثر عليه كالشعور بالشفقة عند سماعه البكاء والعويل من أهل المجني عليه او الشعور بالخوف من أن يعتدى عليه احد المتصلين بالواقعة التي يحققها (المتهم أو ذويه) فعليه ان يحافظ على قوة أعصابه وهدوء نفسه أثناء قيامه بالتحقيق، وان يجعل الثبات رائده وأن لا يدع للمؤثرات الخارجية أي سلطان عليه وإلا فقد يوجه التحقيق وجهة خاطئة، فتضيع الحقيقة ويفلت المجرم من العقاب.
11- كتمان السر :
يجب على المحقق ان يكون كتوما للسر، فعليه ان يحتفظ في الخفاء على معلومات ليس من المصلحة ان يطلع عليها احد وذلك لأن الإفضاء بالأسرار قد يترتب عليه فشل التحقيق. قد يحدث ان يكون هناك شخص يريد مساعدة المحقق في وظيفته فيأتي إليه ويدلي بمعلومات كافية لإدانة المتهم على أن لا يباح باسمه لسبب ما، منها مثلا انه قد يكون من أصد او أنه يخشى من انتقام المتهم وأعوانه، ففي مثل هذه الحالات لا يجوز للمحقق ان يصرح باسم المخبر لأنه سوف يسبب ضررا له. علاوة على أنه نكت عهده، مما يحول بالتالي دون أقدام أشخاص آخرين على مساعدته. هذا ويلاحظ بأن افشاء المحقق لبعض المعلومات التي توصل اليها خلال إجراءاته التحقيقية قد يفيد المتهم في دفع التهمة عنه وبالتالي يشوه الحقيقة. وان كشف المحقق عن الخطة التي يتبعها بالتحقيق تنبه المتهم الى ضرورة اتخاذ إجراءات مضادة لإحباط تلك الخطة.
___________________________
1-في صفات المحقق انظر احمد فؤاد عبد المجيد، المرجع السابق ص10-15 محمود حسن، المرجع السابق ص17-32 إحسان الناصري، المرجع السابق ص19-44، عبد اللطيف أحمد، التحقيق الجنائي العمل، بغداد 1957، ص19 – 25 فؤاد أبو الخير وابراهيم غازي، مرشد المحقق دمشق، 1969، دمشق، 1969، ص228- 291.
Criminal Investigation، Hans Gross، fith Editon، 1962، pp 15-30.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت