التسعير وتوقيت تدخل الدولة

تدخلت الدول بمختلف فلسفاتها السياسية وتوجهاتها الاقتصادية، كليًا أو جزئيًا، لتسعير السلع والخدمات، تخفيفًا عن الناس وتحقيقًا لمصالحهم. فالحكومات المختلفة تفرض أسعارًا للسلع والخدمات الأساسية، ثم تتجه الدول الرأسمالية إلى عدم اللجوء للتسعير، بينما الدول النامية والدول ذات النظم الاقتصادية الموجهة تعمل على التسعير بدرجات مختلفة.

هناك العديد من العوامل التي توثر على السعر المقترح للمنتج، بعضها داخلي والآخر خارجي، ومن أهم العوامل الداخلية الأهداف المرجو تحقيقها من المشروع لتحقيق أقصى عائد على الأموال المستثمرة أو إغراق الأسواق، ومدى توافر الموارد المالية والبشرية والطبيعية، وتكلفة إنتاج السلعة، وعناصر المزيج التسويقي. أما العوامل الخارجية فتتمثل في الطلب، والمنافسة، والأحوال الاقتصادية العامة، والعرف السائد في التسعير، والقوانين والقرارات الحكومية بشأن التسعير.

وهناك طرق عديدة يتم المفاضلة فيما بينها لتسعير السلع من أهمها التسعير على أساس التكلفة، ووفقا لهذا المنهج يتم التسعير إما على أساس التكلفة الكلية بحيث يساوي سعر بيع الوحدة المنتجة التكلفة الإجمالية للوحدة المنتجة مضافا إليها هامش ربح معين لتغطية الربح المتوقع للوحدة المنتجة. أو على أساس التكلفة الحدية حيث تعتبر التكلفة الحدية والإيراد الحدي العاملين المحددين في تحديد سعر البيع.

كما أنه يمكن التسعير على أساس سعر السوق: ووفقا لهذا المنهج يتم التسعير في ضوء أسعار المنافسين، فإما أن يتم بسعر يعادل أسعارهم أو يزيد أو يقل عن أسعار المنافسين. ويعتمد الاختيار فيما بين البدائل الثلاثة على عدة اعتبارات كطبيعة السلعة، وظروف الطلب، والأهداف المرجو تحقيقها من المشروع، والمنافسة، والجهود الإعلانية والترويجية المطلوب بذلها، وأسلوب التوزيع المقترح.

وفي ظل استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية يظل الأمل معلقا علي أدوات الرقابة والمتابعة لضبط الأسواق، وفي مقدمة هذه الأدوات تأتي أجهزة حكومية يتم إنشاؤها خصيصا لهذا الغرض منها جهاز حماية المستهلك وجهاز منع الممارسات الاحتكارية.‏

التسعير في الفقه الإسلامي

وفي الشريعة الإسلامية فإن التسعير لا يخلو من حالتين: أن يكون في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، أو أن يكون في حالة الغلاء. وفي كلا الحالتين اختلف أهل العلم رحمهم الله في جوازه وبيان اختلافهم كالتالي:

الحالة الأولى: التسعير في الأحوال العادية التي لا غلاء فيها، وفيها اختلف الفقهاء على قولين:

القول الأول: عدم جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء في الأسعار، وهذا هو قول جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].
ووجه الدلاله في الآية الكريمة أن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة رخص الثمن أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].

واستدلوا أيضاً بما رواه الترمذي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني في دم ولا مال. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان وقال أبو عيسى الترمذي: حديث حسن صحيح.

وبما رواه أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل أدعو ثم جاء، رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. إسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر.

ووجه الدلالة من هذين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد سألوه ذلك ولو جاز لأجابهم إليه، وإذا كان عليه الصلاة والسلام لم يسعر وقد طلب منه التسعير رغم غلاء السعر كما ورد في الحديث، فمن باب أولى أن لا يكون تسعير في الأحوال التي تكون فيها الأسعار عادية.

القول الثاني: جواز التسعير في الأحوال العادية التي لا يظهر فيها ظلم التجار ولا غلاء الأسعار. وهذا قول بعض العلماء، فالتسعير عندهم جائز مطلقاً، وعللوا بأن فيه مصلحة للناس، وفيه منع من إغلاء السعر.

والذي ذهب إليه الجمهور هو الأولى بالأخذ والاعتبار، نظراً لقوة الأدلة التي استدلوا بها، ولأن الأصل في الشريعة هو حرية التعامل بين الناس ماداموا واقفين عند حدود الله فلا ظلم ولا غش ولا احتكار ولا تلاعب في الأسعار.

الحالة الثانية: التسعير في حالة الغلاء، وفيها اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين:

الرأي الأول: رأي المانعين للتسعير، وقد ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية والحنابلة والمالكية، واستدل هؤلاء بما أخرجه مالك في الموطأ عن أبي هريرة قال: جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله سعر لنا، فقال: بل أدعو الله، ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعر لنا فقال: بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة. ووجه الدلالة من هذا الحديث هو أن التسعير يعد إجباراً للناس على بيع ما عندهم بغير طيب من أنفسهم، وهذا ظلم لهم.

الرأي الثاني: رأي المجيزين للتسعير، وهو ما ذهب إليه الحنفية وبعض المالكية وابن تيمية وابن القيم، يقول صاحب الفتاوى الهندية: ولا يسعر بالإجماع إلا إذا كان أرباب الطعام يتعدون عن القيمة، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير، فلا بأس به بمشورة أهل الرأي والبصر وهو المختار وبه يفتى.

ويقول ابن العربي المالكي في عارضة الأحوذي بعد ذكره حديث أنس: والتسعير على الناس إذا خيف على أهل السوق أن يفسدوا أموال المسلمين….. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حق، وما فعله حكم؛ لكن على قوم صح ثباتهم واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل أموال الناس والتضييق عليهم فباب الله أوسع وحكمه أمضى.

الضوابط الشرعية للتسعير

يرى الفقهاء المسلمين الذين يحبزون تدخل الحاكم في تحديد الأسعار أن ذلك جائزاً في بعض الحالات منها حالة الاحتكار، حيث يحرم الإسلام الاحتكار لأنه يؤدى إلى ارتفاع الأسعار وإحداث ضرر بالناس، وكذلك حالة المخمصة والمقصود بها الأزمات، وهنا يجيز الفقهاء التسعير سداً لذريعة الاستغلال وارتفاع الأسعار بدون مبرر، ففي هذه الحالة يجبر الناس على بيع من عندهم بسعر المثل، وهناك أيضًا حالة تكتل المنتجين ضد المستهلكين أو العكس لإحداث ارتفاع أو انخفاض في الأسعار، وفى كلا الحالتين يحدث ضرر يستوجب تدخل ولى الأمر للتسعير والرقابة الفعالة على ذلك.

سياسات إسلامية ضرورية لضبط الأسعار

حتى يمكن ضبط الأسعار ومحاربة كبح ارتفاعها يتطلب الأمر اتخاذ مجموعة من السياسات والإجراءات العملية من أهمها ما يلي:

1ـ قيام الحكومة بتسعير مجموعة من السلع والخدمات الضرورية ومبرر ذلك هو عدم التزام المتعاملين في الأسواق بالقيم والمثل والأخلاق الإسلامية حيث انتشر الاحتكار والاستغلال والجشع والغرر والتدليس والغش، وهذا كله سبب ظلماً للمستهلكين بالإضافة إلى ذلك نجد أن كمية الإنتاج والمعروض من هذه السلع والخدمات أقل من الطلب عليها وهذا يعرض السوق للخلل والارتفاع في لأسعار.

2ـ تحقيق الرقابة الفعالة على الأسواق ابتداءً من الرقابة الذاتية التي تعتمد على الوازع الديني إلى الرقابة الحكومية إلى الرقابة الشعبية.

3ـ تشجيع استيراد السلع والخدمات الضرورية ومنع استيراد ما دون ذلك، لأن الاستيراد يعنى الجلب وزيادة المعروض وهذا أمر تحث عليه الشريعة فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ” الجالب مرزوق والمحتكر ملعون “.

4ـ تقليل عدد الوسطاء بين المنتج والمستهلك لأن هذا يزيد من أسعار السلع والخدمات، لأنه في كل مرحلة من مراحل الوساطة تزداد الأسعار.

5ـ إعفاء السلع والخدمات الضرورية من الضرائب والرسوم لأن في ذلك تخفيضاً لسعرها.

6ـ الرقابة على تكاليف إنتاج السعر والخدمات أو تكاليف جلبها بحيث تتضمن نفقات لا عائد منها مثل نفقات الرشوة والإكرامية ونفقات المظهر والترف، وهذه الأنواع من النفقات محرمة شرعاً.

7ـ تطبيق نظام المشاركة الإسلامية في تمويل إنتاج أو جلب السلع والخدمات بدلا من نظام التمويل عن طريق القروض الربوية لأن الربا أهم أسباب ارتفاع الأسعار.