مقال قانوني بعنوان القضاء مقدس و لكن القضاة غير معصومين

نقلاً عن جريدة البديل 12/02/2009
د. نادر فرجاني

القضاء أحد أهم مؤسسات الحكم في المجتمعات البشرية المتحضرة، والقضاء المستقل المنصف إحدي دعائم نسق الحكم المؤسسي الصالح. والقضاء، مؤسسة وقيمة، أيضا من أعز ما يملك الشعب، ويعلق عليه الآمال في صيانة الحرية والكرامة الإنسانية. ومن ثم فإن الحرص علي قيام قضاء منصف ومستقل يتجاوز القضاة أنفسهم إلي الشعب قاطبة. ولهذا فإن زمرة القضاة في لحظة زمنية محددة تحمل شرفا مزدوجا: القيام بأعباء القضاء المنصف من ناحية، والتعبير عن ضمير الأمة من ناحية ثانية، باعتبارها شريحة من ألصق شرائح النخبة بحماية الحق وإقامة العدل كأساس للحكم الصالح، ومن ثم يشكلون ضمير الأمة في مسارها التاريخي.

وتحت الاستبداد والفساد يضحي مجرد إحقاق الحق وإقامة ميزان العدل فعلا سياسيا بالمعني الأشمل، علي الأقل في نظر أعمدة الحكم الفاسد، وإن حمي حقوق الناس.
كل هذا يضع القضاة في لحظات تاريخية فارقة، تجاه تَحد تاريخي فحواه المساهمة في الإصلاح الهيكلي، أوالبنيوي، للحكم خاصة في منظور ضمان سيادة القانون، المنصف والحامي للحرية، وضمانا لاستقلال التام للقضاء. ومن ثم يصبح الإصلاح منوطا بالقضاة، لكونهم شريحة طليعية من ضمير الأمة، في مرحلة التحول من حبس الحرية، من خلال الاستبداد والفساد، إلي مجتمع الحرية والحكم المؤسسي الصالح. ولا يدنس ذلك الموقف شرف القضاء، بل يعلي من شأنه، في المنظور التاريخي، ويعد عربونا للمكانة الأرقي للقضاء في مجتمع الحرية والحكم الصالح. ومن ثم، فإن إحقاق الحق وإقامة ميزان العدل في ظل الحكم التسلطي هوشرف منوط بالقضاة العدول باعتباره كلمة حق في مواجهة سلطان غاشم، وهو أفضل الجهاد كما يقال.

ولكن المهم هنا التحذير من سعي أساطين الحكم الاستبدادي إلي إبعاد القضاة عن المساهمة في مهمة الإصلاح التاريخية بدعوي عدم تسييس القضاء، أو توظيف بعض القضاة لخدمة الحكم التسلطي والتحالف غير المقدس للسلطة والثروة، عبر إصدارأحكام تخدم في النهاية احتكار السلطة والثروة، وتضر من ثم بميزان الحرية والعدل،وهو شر ما يقع فيه بعض القضاة في ظل حكم الفساد والاستبداد.ومن ثم عنوان المقال، فالقضاء مقدس كمؤسسة وكقيمة، خاصة إن كان نزيها، منصفا ومستقلا تمام الاستقلال.

غير أن القاضي الفرد ليس معصوما من الزلل، فهو بشر يخطئ ويصيب. ويزيداحتمال زلل القاضي عندما ينتقص الحكم التسلطي عمدا من استقلال القضاء، ويخضع القضاة لإمكان الثواب والعقاب من السلطة التنفيذية، ويتفشي الفساد في المجتمع، والقضاة منه مكون عضوي.

ولهذا فإنه وإن كان من حق مصر أن تفخر بشوامخ القضاة المصريين العدول، فإن هذا لا ينفي أن في تاريخ مصر الطويل قضاة لطخوا ثوب القضاء المصري الناصع بزلات يترفع عنها القضاة عند صلاح الأحوال، ويربأ بنفسه عن الوقوع فيها القضاة الشوامخ القابضون علي جمر الحرية والعدل، حتي في ظل نظم الفساد والاستبداد والعبث باستقلال القضاء.ولا ريب في أن الأحكام المنصفة والمشرفة لقضاة مصرالأفاضل، خاصة في المحكمة الإدارية بمجلس الدولة، والتي تتالت في الأسابيع الأخيرة،هي من ألمع بوارق الضوء والأمل في الخريطة السياسية البائسة في مصر.

ولكن لشديدالأسف، خيب قاض في المحكمة نفسها آمال جميع المصريين الشرفاء بإصدار أحكام قد تنتهي بإبطال الأحكام الرائعة التي قضي بها المستشار محمد أحمد عطية بوقف تصدير الغازلإسرائيل وإخلاء الحرم الجامعي من قوات الشرطة واحترام حرية التنقل في جميع أنحاء مصر وإجازة إغاثة أهلنا في غزة المحاصرة. وتقاطرت الأنباء من إسرائيل المعتدية والغاصبة أن الحكم المصري قد طمأن مجرمي الحرب قادة إسرائيل،علي استمرار تدفق الغاز المصري لآلة العدوان الإسرائيلي حتي من قبل صدور حكم قبول طعن الحكومة علي حكم وقف التصدير، وظهرت حيثيات الحكم وكأن قد كتبها ناطق باسم السلطة التنفيذية، مايشي بنفاذ يد السلطة التنفيذية المغتصبة للحكم والفاسدة إلي محراب القضاء.

وليس غريبا أن يصدر مثل هذا من قاض يعمل مستشارا لرأس السلطة التنفيذية الغاصبة والفاسدة.ولا يجب أن ننسي مثلا أن من أصدر الأحكام التعسفية علي الضحايا المصريين في مذبحة دنشواي مثلا كان قاضيا مصريا وأن من تصدي للدفاع عن الجناة المجرمين كان أيضا محاميا مصريا. وإن كان لا يجب ِأن يحتج بمثل هؤلاء علي جموع قضاة مصر الأفاضل، فالمؤكد أن الاثنين انتهيا إلي مزبلة التاريخ ولقيا من النبذ والعقاب الشعبي ما يستحقان