مقال عن خيار أم إكراه؟ الجمهورية الموسعة في المغرب

يحتل الفضاء الجهوي مكانة متميزة على المستوى الترابي في تحقيق التنمية سواء في الدول التقليدية من حيث تنظيمها (الدول البسيطة) أو العصرية) الدول المركبة(، هذه الاخيرة التي وصلت في نظامها إلى الجهوية السياسية والنظام الفدرالي، والذي تستفرد فيه كل ولاية بالسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك بإعتراف دستوري يتمثل في الدستور الإتحادي الذي يترك للإدارة المركزية سلطات السيادة داخل الدولة وخارجها والسلم والحرب، ويكفل عدم الإستقلال التام لأي فدرالية وإعلانها للتمرد، وذلك بمقتضيات دستورية ضابطة تهدد وتمنع كل فدرالية من التفكير في الاستقلال التام عن الدولة.

أما الدولة البسيطة كالمغرب فتعرف اللامركزية على المستوى الإداري فقط، والتي تسعى فيها الدولة إلى تحديث وسائلها وبناء مقوماتها، وذلك في أفق الوصول إلى اللامركزية السياسية التي يبقى طموحا مشروعا، وتعرف الدولة البسيطة التنظيم الإداري المزدوج (المركزية واللامركزية) فقط على مستوى السلطة التنفيذية، في حين تعمل السلطة التشريعية بالمركزية والسلطة القضائية بالمركزية مع صورتها الإيجابية وهي اللاتمركز أو المصالح الخارجية الخاضعة لها التي تربطها علاقة التبعية والسلطة الرئاسية بالادارة المركزية (السلطة التنفيذية)، وذلك إستنادا للقاعدة الإدارية التي تجعل من السلطة المعينة هي التي لها سلطة التأديب والعزل، وذلك في أفق تحقيق إستقلال السلطة القضائية وفق مقتضيات الدستور الحالي، وهو الإتجاه الذي ذاهب فيه المغرب بخطى تابثة، قد تكون كثرة الخلافات داخل هذا الإتجاه ظاهرة صحية لتنزيل المقتضيات الدستورية بصورة فعلية تكفل التحقيق الأنجع لإستقلال السلطة القضائية.

ويتم العمل في الدولة البسيطة بالإدارة الترابية أو اللامركزية الإقليمية (الجماعات “الحضرية والقروية”- العمالات والأقاليم– الجهات) كهيئة منتخبة تربطها بالإدارة المركزية علاقة الوصاية، وتحتل داخلها الإدارة الجهوية موقعا بارزا عملت مختلف الدول على تدعيمه، ذلك أن الجهة تعد الإطار الأنسب لتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية المحلية، كما تعد البنية الملائمة لإستيعاب المشاكل الإقتصادية وتجاوز مختلف الإكراهات وتحقيق التنمية، وقد تم الإعتراف بها كجماعة محلية في دستور 1992، لتتدعم هذه المؤسسة في ظل دستور 6199 بإطار قانوني خاص في سنة 1997، وهو القانون رقم 47.96 المنظم للجهات ، لتصبح الجهة في الدستور الحالي لسنة 2011 تتبوأ مكانة الصدارة بين باقي الجماعات الترابية المنصوص عليها في الباب التاسع منه، ويمكن تعريف الجهة إستنادا للمادة الأولى من ظهير التنظيم الجهوي بكونها: “جماعة محلية تتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي والإداري تمارس مجموعة من الإختصاصات المسندة لها بموجب القانون، وهي معنية بتحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية الجهوية”.

وقد كانت الجهة في ظل دستور 1996 تفتقر لأبرز المقومات المعترف بها للامركزية الإقليمية المدعمة لمجال إستقلالها عن الإدارة المركزية، إذ ليس لها طاقم موظفين خاص بها ينظمهم إطار قانوني خاص بموظفي الجهات على غرار مرسوم 1977 المنظم لموظفي الجماعات ، إذ يبقى موظفوها تابعين للإدارة المركزية ملحقين بالجهات في إطار وضعية الإلحاق، وهي إحدى الوضعيات التي يكون عليها الموظف العمومي المنصوص عليها في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، كما لا تتوفر على إطار قانوني خاص ينظم مالية الجهات على غرار القانون 45.08 المتعلق بالتنظيم المالي للجماعات المحلية ومجموعاتها ، وذلك في ظل ضعف موارد الجهة والذي يحول دون ممارسة إختصاصاتها بالنجاعة المطلوبة، على إعتبار أن الموارد البشرية والمالية هما المتحكمين في الوصول إلى تحقيق التنمية، وهذا الضعف والقصور يجعل مداولاتها تنفذ من طرف الوالي أو العامل، وهو سلطة لا ممركزة تمثل سلطة وصائية على الجماعات الترابية ومنها الجهة على المستوى المحلي، وهذا القصور تجاوزته الوثيقة الدستورية لسنة 2011، في إنتظار صدور القوانين التنظيمية الخاصة بهذا الإطار.

إن هذه الوضعية السلبية التي كانت تعوق تحقيق التنمية الجهوية شكلت دافعا لبلورة مرتكزات جهة قوية بمقومات عصرية،ـ تضاهي من حيث الإختصاصات والإستقلال بعض النمادج المتقدمة في مجال الجهوية الإدارية، لينتقل المغرب إلى مفهوم جديد وهو الجهوية المتقدمة أو الموسعة، والتي ليست إلا تطوير لإختصاصات الجهة كوحدة ترابية لامركزية فهي لم تخرج بذلك عن هذا الإطار.

لقد وجدت فكرة الجهوية الموسعة موقعا بارزا في العديد من الخطب الملكية، إلا أن خطاب 6 نونبر 2008 يعد مرجعية أساسية للجهوية الموسعة بالمغرب، وترسخت هذا الفكرة أكثر في خطاب تنصيب اللجنة الإستشارية للجهوية في 3 يناير 2010، والتي تمحور دورها في وضع تصور عام حول الجهوية بالمغرب وسبل تحقيقها، فوضعت تقاريرها الموضوعاتية المحددة للإختلالات وأوجه القصور بالجهة والمقدمة لإقتراحات لتجاوزها، وقد تم تضمين العديد منها في الدستور الحالي في إنتظار صدور قوانين تنظيمية تمنحها القابلية للتنزيل على أرض الواقع.

وتزامنت هذه الإصلاحات مع تبني المغرب لمقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة كمبادرة شجاعة وجريئة وتؤكد حسن النوايا التي أبان عنها دائما المغرب في النزاع المفتعل حول صحرائه، وهي البادرة التي لاقت تنويها دوليا وصل لدرجة إعتراف المنتظم الدولي بأن المقترح المغربي جدي وذو مصداقية، لذلك إعتبر إتجاه من المهتمين بمسلسل الإصلاحات بالمغرب بأن تبني المغرب لمقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية هو الذي تحكم في تبني مشروع الجهوية الموسعة في باقي التراب الوطني، وذلك لتفادي وجود شرخ في الاصلاحات بين أقاليم جنوبية للمملكة تتمتع بالحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وأقاليم في باقي التراب الوطني تعرف فيها الجهة مشاكل بنيوية وعميقة، لكن هذا القول يفقد مصداقيته بوجود مسلسل إصلاحات ورغبة ملحة لتبني الجهوية الموسعة منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، وتدعم هذا الإصرار بترقية الجهة وتدعيم موقعها في عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، وكل ذلك قبل تبني مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة، وهذا ما يذهب إليه الإتجاه الثاني الذي يرى بأن تبني مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب جاء نتيجة تراكمات ومسلسل إصلاحات كبرى.

إعتمادا على ذلك فهل الجهوية الموسعة بالمغرب خيار أم إكراه؟
سنقوم بدراسة هذا الموضوع من خلال فرضيتين، نعتبر في الأولى بشكل أولي أن مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب خيار للسلطات العمومية، ونعمل خلالها على توضيح الدعامات الموضوعية المؤكدة لهذه الفرضية، فيما في الفرضية الثانية نعتبر بشكل أولي كذلك أن تبني مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب إكراه على السلطات العمومية، وخلالها أيضا نتحدث عن الدعامات المؤكدة لهذه الفرضية، على أن ندرس كل فرضية في محور مستقل بها، لنخلص في الأخير من دعامات كل فرضية إلى الحكم وترجيح إحدى الفرضيتين على الأخرى.

المحور الأول: مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب خيار للسلطات العمومية في مسلسل تحديث البنيات الإدارية للدولة
لقد شكل مسلسل الإصلاح الجهوي بالمغرب هاجسا للسلطات العمومية، انجلى هذا الهاجس بالإعتراف بالجهة في دستور 1992 كجماعة ترابية تتمتع بالشخصية المعنوية (الإستقلال المالي والإداري)، وتدعم هذا الهاجس من خلال دستور 1996 الذي أكد على هذه المكانة، وفي ظله صدر القانون 47.96 المنظم للجهات سنة 1997.

لقد عرفت هذه المرحلة بداية لتنامي التفكير في تبني الجهوية بالمغرب القائمة على التدرج في منح الإختصاصات، حيث أكد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه في كلمة ألقاها أمام البرلمان بتاريخ 5 نونبر 1996 على أنه”: إذا وافقنا على كل شيء منذ البداية سيكون من الصعب التراجع عن القرارات المتخذة وإسترجاع ما تم منحه…، فإذا تبين بعد سنة أنه من المستحب توسيع إختصاصات الجهة، ستواكب النصوص هذه الإختصاصات كلما كانت الحاجة ماسة لذلك. “

وفي بداية عهد العاهل المغربي محمد السادس نصره الله عرفت البلاد سلسلة من الإصلاحات القانونية والمؤسساتية دشنت بتبني المفهوم الجديد للسلطة في الخطاب الملكي ل12 أكتوبر 1999 ، والذي إنتقل من المفهوم التقليدي للسلطة القائم على القوة والترهيب إلى مفهوم الإقناع والحوار والقرب و”…فضيلة التشاور وإتاحة فرصة المساهمة والاندماج للمواطنين كافة بدون أي إعتبار أو تمييز وبما يوفر لهم ظروف الحياة السعيدة”، مؤكدا جلالته في مجال تدعيم مكانة الجهة على أن “: الجهة التي كرسها دستور مملكتنا تعتبر حلقة أساسية في دعم الديمقراطية المحلية ، ومجالا خصبا للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، وفضاءا فسيحا للتفكير والتخطيط في إطار واسع لمستقبل أفضل في تعاون وإنسجام مع الوحدات الترابية الأخرى، بإعتبارها أداة توحيد وعنصر إلتحام…” .

إن هذا المفهوم الجديد للسلطة إعتبر أنه لكي تحقق الجهة وباقي الوحدات الترابية المركزية الاهداف المتوخاة منها لابد أن يواكبها تدعيم مسلسل عدم التركيز الإداري، وهو الصورة الإيجابية للمركزية القائمة على تفويض هذه الأخيرة لبعض الإختصاصات للمصالح الخارجية التابعة لها، لكن هذا التدعيم لا ينبغي أن يقتصر على هذا التفويض، بل يقضي بنقل إختصاصات الإدارة المركزية إلى مندوبيها المحليين (المصالح الخارجية للوزارات على المستوى المحلي).

كما شكلت الجهوية الموسعة في خطب جلالة الملك محمد السادس مرجعية شبه دائمة، لعل أبرز خطاب في هذا المجال هو خطاب 6 نونبر 2008 ، والذي يعد مرجعية أساسية لتبني مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب، فقد حدد تصورا عاما حول هذا المشروع، إذ يؤكد صاحب الجلالة في هذا الخطاب على ما يلي “: لذلك قررنا بعون الله فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية… “، وقد حدد هذا الخطاب أيضا مجموعة من المبادئ التوجيهية للجهوية، وهي مبادئ الوحدة والتضامن والتوازن، و التي تستهدف بشكل خاص القرب من حاجيات المواطن وهمومه.

وتعد الجهوية نوعا متطورا من اللامركزية الإدارية وأبرز آليات تجسيد الحكم المحلي وتفعيل مبدأ المشاركة المباشرة للمواطنين في تدبير شؤون إقليمهم الترابي، وقد تدعم توجه المغرب في تبني هذا الإصلاح الإداري بتعيين جلالة الملك للهيئة الإستشارية للجهوية في خطاب 3 يناير 2010، وذلك من أجل قيامها بوضع تصور عام ينتقل من اللامركزية التقليدية إلى لامركزية عصرية تتبوأ فيها الجهة مكانة الصدارة، وجعلت اللجنة من الخطابات الملكية على العموم التي تطرقت للجهوية وخطاب 3 يناير 2010 على وجه أخص- لأنه الخطاب الذي منح التصور الدقيق إلى حد ما للجهوية بالمغرب- منطلقا للبحث والمشاورات التي أجرتها مع مختلف أطياف المجتمع ليعبروا عن طموحاتهم وآمالهم في الجهوية بالمغرب وأوجه القصور التي تعانيها الجهة، فقدمت تقاريرها الموضوعاتية لجلالة الملك، وقامت بنشرها أيضا ليطلع عليها العموم، ومن أبرز مقترحاتها في مجال التقسيم الجهوي هو تبني مقترح 12 جهة بدل 16 جهة حاليا، ومنح السلطة التنفيذية لرؤساء المجالس الجهوية، وأيضا اقتراح إحداث صندوق التأهيل الإجتماعي للجهات والرفع من الموارد المرصودة من طرف الدولة للجهة…

وإعتبارا لتوجيهات جلالة الملك للحكومة في خطاب 20 غشت 2010 بشأن وضع ميثاق للاتمركز الإداري ، فقد قدمت اللجنة في تقريرها مقترحات في هذا المجال، وذلك على إعتبار أن اللاتركيز الإداري يعد الدعامة الضرورية لكل سياسة تستهدف إنجاح تجربة اللامركزية، كما يشكل إصلاح عدم التركيز الإداري أو المصالح الخارجية للوزارات، وكلها مفاهيم تطلق على ممثلي الادارة المركزية على المستوى الترابي وعلى رأسهم رجال السلطة (الوالي-العامل-الباشا…) نجاحا لمفهوم الإلتقائية بين اللامركزية واللاتركيز ومختلف الفاعلبين الغير الحكوميين على المستوى الترابي .

إن هذا الإهتمام المتدرج للجهوية بالمغرب تأكد مع تبني دستور جديد للبلاد، والذي تضمن مجموعة من الدعامات القانونية والمؤسساتية المدعمة لدولة الحق والقانون، والتي جاءت كصيرورة للاصلاحات والمشاريع الضخمة التي تبناها المغرب منذ تولي جلالة الملك الحكم، بالرغم من وجود إتجاه يربط تبني هذا الدستور بأحداث “الربيع العربي” أو “الربيع الديمقراطي” وضغط الشعوب على حكامها لتقديم إصلاحات ومحاربة للفساد بمختلف مظاهره وتجلياته، لكنهم لن يستطيعوا ربط مستجدات اللامركزية الجهوية التي تبناها المشرع الدستوري في دستور 2011 بتلك الأحداث التي ساهمت في الإنتقال الديمقراطي للعديد من الأنظمة العربية، وذلك بالنظر إلى المسار الذي قطعته تلك الإصلاحات منذ عهد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه إلى الآن، وهو المسار الذي رسمنا معالمه بإختصار دقيق يركز على أهم المحطات التي مر منها الإصلاح الجهوي منذ الإعتراف بالجهة كجماعة ترابية.

إن من أهم المستجدات والإصلاحات التي تضمنها الدستور الحالي هو تدعيم مكانة اللامركزية الجهوية، ويتضح ذلك من خلال الفصل الأول منه في فقرته الرابعة، والتي تنص على أن: ” التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لامركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، وهي دلالة قوية على مستوى البناء الدستوري من خلال النص على الجهوية المتقدمة من أول فصل، وهذا يبرهن على جدية تبني السلطات العمومية للجهوية المتقدمة من حيث الإختصاصات الممنوحة للجهة، وبمقومات وبمبادئ تراعي الخصوصية المحلية وتنفتح على التجارب المقارنة، كما تتدعم هذه الرغبة من خلال عنونة الباب التاسع بالجهات والجماعات الترابية الأخرى، والذي من خلاله أصبح مجلس الجهة ينتخب بالإقتراع العام المباشر (الفصل 135 الفقرة الثانية)، وهو ما سيخلق جوا من الديمقراطية التداولية من خلال الإستشعار بأهمية المواطنين، وبالتالي السعي لتحسين سبل إستفادتهم من الخدمة العمومية وإلى البحث عن كيفية إدماجهم في تنمية ترابهم المحلي.
وقد إستفاد الدستور الحالي من العمل الذي قامت به اللجنة الإستشارية للجهوية، فتضمن أغلب مقترحاتها في مجال ترقية الجهة، مثل صندوق التأهيل الإجتماعي للجهة وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في الفصل 142، كما رقى تدبيرها، وهو ما نص عليه الفصل”136 يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم…”، وغيرها من المقترحات المهمة المضمنة في هذا الباب، والتي يبقى تفعيلها رهين بصدور القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الفصل 146 من هذا الدستور.

المحور الثاني: مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة وضرورة تبني مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب
قامت المملكة المغربية بعد حصولها على الإستقلال سنة 1956 بطلب الدخول في مفاوضات عاجلة مع المحتل الإسباني لإستكمال وحدتها الترابية، وبتلاحم الملك والشعب تمكن المغرب في هذه المفاوضات من إسترجاع بعض المناطق في جنوب المملكة، فتم بذلك إسترجاع كل من طرفاية 1958 وسيدي إفني سنة 1969، ثم جهة الساقية الحمراء ووادي الذهب، وذلك بموجب معاهدة مدريد، لكن بقيت مناطق من التراب الوطني خاضعة للاحتلال الإسباني، وعرفت مناطق أخرى نزاعات مفتعلة من أجل إحباط كافة مجهودات المملكة المرتبطة بحقوقها المشروعة في إستكمال وحدتها الترابية.

وقد عرفت منطقة الصحراء المغربية نزاعا مفتعلا بين هذا الأخير وجبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر ، هذه الأخيرة التي إعتمدت سياسة ممنهجة من أجل إحباط كافة جهود المغرب في إستكمال وحدته الترابية، ودخل المغرب عبر المراحل التي قطعتها قضية وحدته الترابية سلسة من المفاوضات، وصدرت فيها العديد من المقترحات للتسوية من طرف الأمم المتحدة وعقدت العديد من الاتفاقات والتعهدات، لكن تلك المقترحات كانت تلقى رفضا من أحد الطرفين أو بتدخل واضح للجزائر لتحويل الإتفاق وعرقلة المفاوضات، وفي سنة 2003 ستعرف القضية مسارا إيجابيا لصالح المغرب، وذلك من خلال إقتراح المبعوث الأممي آنداك في الصحراء يقضي أن تظل الصحراء “الغربية” جزءا من المغرب وأن تتمتع بحكم شبه ذاتي لفترة إنتقالية بين 4 و 5 سنوات ثم يتقرر ما إذا كانت ستبقى خاضعة للمغرب أم لا بواسطة إستفتاء، إذ لاقى هذا المقترح قبولا وترحيبا من طرف المغرب، رافضا أن يكون ذلك لفترة الإنتقالية ولمقترح الإنفصال.

وفي هذا الإطار قدمت المملكة المغربية بتاريخ 11 أبريل 2007 للأمين العام للأمم المتحدة المبـادرة المغـربيـة للتفـاوض بشـأن نظـام للحكـم الذاتـي لجهـة الصحـراء المغربية، وجاءت هذه المبادرة ثمرة لمسلسل تشاوري موسع على المستوى الوطني والمحلي انخرطت فيه كافة الأحزاب السياسية والمواطنين والمنتخبين بالمنطقة، من خلال المجلس الإستشاري للشؤون الصحراوية، وذلك بهدف الوقوف على مختلف وجهات النظر المتعلقة بصياغة مشروع للحكم الذاتي في الصحراء، واستكمل هذا المسلسل بإجراء مشاورات على المستويين الإقليمي والدولي حول المبادرة المغربية من أجل الإطلاع على وجهات نظر البلدان المعنية والمهتمة بهذا النزاع الإقليمي .

وقد إلتزم المغرب أمام المنتظم الدولي بالجدية وحسن النية من أجل تخطي المأزق وإنهاء الوضع الحالي، والتوصل إلى حل سياسي و واقعي ودائم ومقبول من الطرفين مرتكز على المبادرة المغربية للحكم الذاتي، وعلى الاحترام الكامل لسيادة ووحدة تراب المملكة .

ويرتكز المقترح المغربي القائم على منح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية من التراب الوطني على قواعد القانون الدستوري، فهو في هذا الإطار نظام لا مركزي مبني على أساس الاعتراف لإقليم مميز قومياً أو عرقيا داخل الدولة بالإستقلال في إدارة شؤونه تحت إشراف ورقابة السلطة المركزية، ولهذا فهو في هذا النطاق أسلوب للحكم والإدارة في إطار الوحدة القانونية والسياسية للدولة، وهو المقترح الذي لاقى ترحيبا دوليا إلى حد وصفه بالمقترح الجدي والفعال.

وقد جاء في تقرير للأمين العام في هذا الصدد ما يلي: ” … وضع المجلس الإقتصادي والإجتماعي والبيئي المغربي نموذج بإسم – نموذج التنمية الإقليمية للمقاطعات الجنوبية – بهدف السماح للسكان المحليين بالتمتع الكامل بحقوق الإنسان في أبعادها الإقتصادية والإجتماعية والثقافية” و ” تمهيد … الطريق لإنجاح مبادرة الحكم الذاتي المغربية،…” .

إن هذا المقترح أكد جدية المملكة المغربية في البحث عن حل لنزاع الصحراء، وقد تضمن تخويل هذه الأقاليم سلطة تدبير شؤونهم بإستقلال تحت السيادة الوطنية، وهذا دفع إلى ضرورة تبني إصلاحات تقترب من هذا النوع في باقي أقاليم المملكة وجهاته، وذلك من أجل تجاوز ما يمكن أن تسفر عنه الهوة بين منطقة الصحراء التي تخضع للحكم الذاتي وباقي أقاليم المملكة التي تخضع لتنظيم لا مركزي تقليدي تحوطه الإختلالات من كل جانب، وبالتالي تفاديا لكل توثرات محتملة في أقاليم تطالب بالحكم الذاتي على غرار جهة الصحراء المغربية، وكل ذلك دفع السلطات العمومية موازاة مع مقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية للمملكة المفتعل النزاع حولها، إلى تبني مشروع الجهوية الموسعة بالشاكلة التي تطرقنا إليها في المحور الأول، ونحن بصدد تحليل الفرضية الأولى المتعلقة بالجهوية المتقدمة كخيار للسلطات العمومية من أجل تحديث البنيات الإدارية اللامركزية.

لقد تحكمت ظروف إقليمية وداخلية في تبني الجهوية الموسعة، فبعدما عجزت الجهة كجماعة ترابية إستنادا لمقوماتها التقليدية وأوجه قصورها، والتي تحكمت بالنظر للتطور الذي تعرفه دول مجاورة للمغرب في تنظيمها الاداري دفعه لتبني إصلاحات في هذا المجال، كما أن المغرب بموقعه الإستراتيجي دفع العديد من الدول المتقدمة إلى منحه وضعا متقدما في علاقاتها ومبادلاتها، وهو ما يفرض علىيه دائما بضغوط خارجية إلى تبني إصلاحات هيكلية وتحديث ترسانته القانونية، وكذا الإنفتاح ونهج سياسة متقدمة في العلاقات الخارجية لكسب ثقة المستثمرين والمتعاملين معه لترسيخ وترقية أكثر لمستوى الثقة والعلاقات المتبادلة.

وبإعتبار المجال الجهوي مرتكز ومحور كل تنمية للدولة، فإن إهتمام المغرب بهذا المجال فرضته التطورات الاقتصادية والسياسية بعدما أصبح العالم قرية صغيرة لها إرتباطات وعلاقات تأثير وتأثر فورية بكل الأحداث الدولية، سواء على المستوى الإقتصادي أو الإجتماعي أو السياسي، وهذا يفرض كسب علاقات جديدة وحلفاء آخرين لاسيما أن البلد لازال يكابد ويعاني من تعنت الجزائر وموقفها السلبي من قضية الصحراء المغربية وعملها الخفي لعرقلة كل خيار يخدم المغرب لإستكمال وحدته الترابية.

إن إعتبار مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب خيار بشكل مطلق لا يقدم الحقيقة كلها، كما أن إعتبار تبني مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب إكراه فيه حيف وتنكر لمجهودات وإرادة قوية للدولة في تحديث هياكلها منذ عهد جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، وذلك بالنظر لمسلسل الإصلاحات التي عرفها المغرب على مختلف المستويات، لذلك يمكن إعتبار أن الجهوية الموسعة خيار للسلطات العمومية في تحديث البنيات اللامركزية وتدعيم مجال اللاتركيز الذي يعتبر قاطرة لكل إصلاح يهم اللامركزية الإدارية.

لكن الجهوية الموسعة إكراه بالشاكلة المتقدمة نوعا ما، والتي رسم معالمها الدستور الحالي، والتي قد تكون ظروف إقليمية سرعت بتبنيها بالمقومات التي رسمتها الخطب الملكية خصوصا خطاب 6 نونبر 2008، وأيضا بشكل كبير خطاب 3 يناير 2010 والذي على إثره تم تنصيب اللجنة الإستشارية للجهوية، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية مشروع الجهوية الموسعة بالمغرب بالنظر إلى أن كل الدول تراعي وتستجيب للمطالب والضغوط من أجل تحقيق رفاهية مواطنيها.

وقد أبان المغرب في هذا الصدد من خلال المراحل التي قطعها إهتمامه بترقية المجال الجهوي للوصول لتبني مشروع الجهوية الموسعة عن جدية كبيرة وعن بالغ إهتمامه بتدعيم هيآت اللامركزية واللاتركيز الإداريين وتوسيع مجال إختصاصهما، وأيضا من خلال إعتماده على المقاربة التشاركية في بلورة ملامح هذا المشروع الإستراتيجي الذي سيعمل على ترقية الدولة لمصاف الدول العصرية الساعية لتطوير مجال تنظيمها الاداري بإستمرار لتدعيم البناء الإداري للدولة المدعم لمجال الحقوق والضامن لمجال الحريات .

إعادة نشر بواسطة محاماة نت