الترحال السياسي

بداية تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الترحال، بمعنى الانتقال من حزب إلى آخر، أو من فريق إلى آخر، أو من تحالف إلى آخر (معارضة/ حكومة) ، ليست بالظاهرة الجديدة بالمغرب، فقد لازمت ورافقت هذه الممارسة الحياة السياسية منذ أول انتخابات تشريعية عرفها المغرب سنة 1963، وامتدت واستمرت عبر مختلف المحطات الانتخابية التي عرفتها بلادنا سواء تعلق الأمر بالانتخابات التشريعية أو الجماعية، أو المهنية… وهذه الظاهرة أيضا لا تخص المغرب لوحده، بقدر ما هي ظاهرة يمكن أن نقول عالمية ولكن حدتها وتكرارها تختلف من دولة لأخرى.

وهذه الظاهرة، بما تعنيه من تغيير الانتماء السياسي، وبالتالي تغيير القناعات والاختيارات، تؤثر بشكل أو بآخر على السير العادي للمؤسستين الدستوريتين الحكومة والبرلمان، كما تؤثر على السير العادي للجماعات المحلية… حيث يكون عدد أعضاء كل من الأغلبية والمعارضة غير قار وغير ثابت، مما يفتح المجال أمام كل الاحتمالات.

وقبل أن نخوض في تحليل أسبابها والحلول اللازمة لمعالجتها، يجدر بنا أولا أن نحدد موقف كل من الدستور وقانون الأحزاب من الترحال السياسي.
فالدستور المغربي لا يتضمن أي مقتضى صريح أو ضمني يمنع هذه الممارسة، حيث أن الدستور ينص في الفصل التاسع منه على أن يضمن الدستور لجميع المواطنين مجموعة من الحقوق والحريات منها «حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أي منظمة نقابية وسياسية حسب اختيارهم»، وينص الدستور أيضا في نفس الفصل على أنه «لا يمكن أن يوضع حد لممارسة هذه الحريات، إلا بمقتضى القانون».

فحرية الانخراط مقرونة بحرية الاختيار، وهذا ما اعتمد عليه المجلس الدستوري الذي أقر بعدم دستورية أحد مقتضيات النظام الداخلي لمجلس المستشارين الذي وضعه المجلس سنة 1997 . فالنظام الداخلي يعرض وجوبا على أنظار المجلس الدستوري في إطار الرقابة الإلزامية على دستورية القوانين، ولما قام مجلس المستشارين بوضع نظامه الداخلي طبقا لدستور 1996 الذي نص على إحداث هذا المجلس، وضع في إطار مقتضياته بندا ينص على منع انتقال بمعنى ترحال المستشارين أثناء مدة انتداب المجلس، ولما عرض هذا النظام الداخلي على المجلس الدستوري قضى بعدم دستورية هذا البند الذي يقيد حرية الانتقال، لكونه يتناقض مع مقتضيات الفصل 9 من الدستور، وبناء على قرار المجلس الدستوري، وعلى المقتضيات الصريحة للمادة 9 من الدستور، يمكن القول بأنه لا مانع إطلاقا من الانتقال وتغيير الانتماء أثناء فترة الانتداب، وهذا هو المعنى الحقيقي لحرية الاختيار.
وبخصوص قانون الأحزاب، نجد المادة الخامسة والتي أثارت نقاشات عميقة وكبيرة تنص على ما يلي: «للمغاربة ذكورا وإناثا البالغين سن الرشد أن ينخرطوا بكل حرية في أي حزب سياسي مؤسس بصفة قانونية، غير أنه لا يمكن لشخص يتوفر على انتداب انتخابي ساري المفعول في إحدى غرفتي البرلمان تم انتخابه فيها بتزكية من حزب سياسي قائم، أن ينخرط في حزب سياسي آخر إلا بعد مدة انتدابه أو في تاريخ المرسوم المحدد، حسب الحالة، لتاريخ الانتخابات التشريعية العامة الخاصة بمجلس النواب أو بمجلس المستشارين بالنسبة لأعضاء البرلمان المؤهلين للترشيح لهذه الانتخابات».

وتنص المادة 26 من قانون الأحزاب على أنه «لا يجوز لأي شخص أن ينخرط في أكثر من حزب سياسي واحد». وتنص المادة 27 من نفس القانون بأنه «يمكن لكل عضو في حزب سياسي وفي أي وقت أن ينسحب منه مؤقتا أو بصفة نهائية شريطة الامتثال للمسطرة التي يقررها النظام الأساسي للحزب في هذا الشأن». وتنص المادة 55 دائما من نفس القانون على أن «يعاقب… بغرامة من 20.000 إلى 100.000 درهم الشخص الذي ينخرط في حزب سياسي دون مراعاة أحكام المواد 5 و6 و26 من هذا القانون…».

ومن خلال مقتضيات المواد 5 و26 و27 و55 من قانون الأحزاب، يمكن القول بأن نظرة بسيطة لهذه المقتضيات تؤدي بنا إلى التصريح بأن الانتقال «الترحال» ممنوع وخصوصا أثناء فترة الانتداب التشريعي وهذا اعتمادا على نص المادة 5 . ولكن المادة 27 تقر بحق كل فرد أن ينسحب من أي حزب سياسي في أي وقت شريطة احترام المسطرة المنصوص عليها في النظام الأساسي لهذا الحزب، وهذه المادة لا تحدد فترة معينة لهذا الانسحاب، فإذا قدم الشخص استقالته من حزب معين، يمكن أن يلتحق بحزب جديد ولو أنه له انتداب تشريعي، وهذا يدل على أن المادة 27 تناقض إلى حد ما المادة 5 .

كما أن المادة 55 التي تنص على عقوبات مالية فقط في حالة مخالفة مقتضيات المواد 5 و6 و26 من قانون الأحزاب، تدل بشكل قاطع على أن الانتقال والترحال من حزب إلى آخر ولو أن الشخص المعني بهذا الترحال له انتداب تشريعي، لا يترتب عنه إلغاء أو إيقاف انتدابه، حيث أن العقوبة هنا هي فقط مجرد غرامة مالية تتراوح قيمتها بين 20.000 و100.000 درهم.
هذا مع العلم بأن مقتضيات قانون الأحزاب الخاصة بمحاربة الترحال، تخص فقط الأشخاص المنتخبين في مجلسي البرلمان، دون الأشخاص المنتخبين في إطار الجماعات المحلية والغرف المهنية.

واعتمادا على ما سبق يمكن القول بأن الترحال السياسي بالمغرب، مسألة قانونية، تندرج في إطار حرية الاختيار المنصوص عليها في المادة التاسعة من الدستور. ولهذا تصدت المحاكم الإدارية لقرارات السلطات المحلية القاضية برفض ترشيح نواب برلمانيين في إطار الانتخابات الجماعية الأخيرة بدعوى أنهم منتخبون في البرلمان باسم أحزاب أخرى وفي هذا مخالفة لمقتضيات المادة الخامسة من قانون الأحزاب. وبعد نظر المحاكم الإدارية التي عرضت عليها هذه القضايا، في محتويات هذه القرارات الإدارية، قضت بإلغائها. وبهذا تكون المحاكم الإدارية بالمغرب اتجهت في منحى قانوني صحيح، حيث أن في اجتهاداتها في هذا المجال احترام تام لمقتضيات قانون الأحزاب الذي لا يخول إطلاقا للسلطات المحلية منح الحق في الترشيح من عدمه اعتمادا على قانون الأحزاب، حيث أن الترشيح منظم في إطار مدونة الانتخابات وليس في إطار قانون الأحزاب السياسية.

إن الترحال، وإن كنا نقر بأنه لا يخالف الدستور ولا القوانين الجاري بها العمل، ولا يترتب عنه قانونا إنهاء أو إيقاف الانتداب الانتخابي للأشخاص المعنيين به، يعد أمرا غير أخلاقي وإن كان قانونيا. فالشخص المنتخب يفترض فيه أن يحترم أصوات الناخبين، فهؤلاء حينما صوتوا عليه يفترض فيهم أنهم اختاروه لانتمائه لحزب معين ولكونه يمثل برنامجا سياسيا معينا، ويحمل قيما معينة… لهذا فكل تغيير لهذا الانتماء يعني بشكل صريح التنكر لكل ما تم تقديمه للناخبين، من وعود وبرامج أثناء الحملة الانتخابية…
إن الترحال يبين عدم الالتزام السياسي والأخلاقي وهشاشة القناعات، كما يكشف أحيانا عن طابع انتهازي مصلحي، وأحيانا أخرى يبين عدم الوعي بالمفهوم الحقيقي للممارسة السياسية النزيهة…

ولكن في مقابل كل هذه المظاهر السلبية للترحال السياسي، فقد يكون أحيانا واعيا، يعبر عن ضيق الأفق السياسي داخل تنظيم سياسي معين، وسيطرة أقلية على القرارات السياسية، وعدم تعميم المنافع السياسية، وغياب الشفافية والديمقراطية والالتزام في إدارة شؤون بعض الأحزاب… الأمر الذي يشكل عاملا أساسيا نحو هجرة حزب معين والانتقال إلى حزب آخر.

وقد يكون أحيانا نتيجة منطقية للاقتناع التام بأن الثقافة السياسية للحزب، وتوجهاته الإيديولوجية، وبرامجه الانتخابية، ومواقفه السياسية، أصبحت لا تتماشى مع قناعات بعض الأشخاص، الشيء الذي يدفعهم إلى البحث عن تنظيم سياسي آخر يجدون فيه ذواتهم بدلا من اختيار الركون إلى الوراء وهجر السياسة بشكل عام.
وبالنظر لكل العوامل المؤدية إلى الترحال، يمكن القول بأنه أحيانا قد يكون مفهوما ومقبولا، ولكن في أحيان كثيرة وهذا هو غالب الواقع السياسي بالمغرب غير مقبول، لأن الترحال في المغرب في غالبيته هو تغيير للمواقع فقط، ولا يرتبط إلا قليلا بتغيير المواقف والقناعات.
وأمام كل هذه الإشكاليات الدستورية، القانونية والأخلاقية التي يثيرها موضوع الترحال السياسي بالمغرب، لابد من البحث عن حلول جذرية، وهذه الحلول ترتبط أولا وأخيرا بضرورة تغيير الثقافة والممارسة السياسية السائدتين، حيث أن الأحزاب يجب أن تعتمد في المحطات الانتخابية على ترشيح مناضليها، وليس على استقطاب الأعيان الذين لا علاقة لهم بالحزب، والذين أصبحت تتهافت عليهم جل بل كل الأحزاب بالمغرب من أجل الفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد. أيضا يجب إعمال الديمقراطية في تدبير الشؤون الداخلية للأحزاب، كما يجب أن تتم عقلنة المشهد الحزبي بالمغرب والذي أصبح مائعا لدرجة كبيرة، بهذا التعدد الحزبي المفرط الذي لا يعبر نهائيا عن تعددية سياسية حقيقية… هذا مع العلم بأن الوضع الحزبي والسياسي عموما بالمغرب يعد من بين أهم أسباب العزوف السياسي.

وإلى جانب ذلك، يجب أن يتضمن القانون وبالخصوص مدونة الانتخابات مقتضيات تنص على أن من موانع الترشيح تغيير الانتماء الحزبي أثناء فترة الانتداب الانتخابي التشريعي والجماعي، إضافة إلى ضرورة إعادة النظر في مقتضيات المادة الخامسة من قانون الأحزاب، والنص في مقتضيات المادة 55 منه على عقوبات أخرى يترتب عنها فقدان المقعد الانتخابي وليس فقط الغرامة المالية. وكذلك يجب رفع التناقض الوارد بين المادتين 5 و27 من قانون الأحزاب.

وبطبيعة الحال، فكل التعديلات التي يمكن إدخالها على مدونة الانتخابات وقانون الأحزاب السياسية يجب أن لا تقع في مخالفة الدستور، ولهذا فالدستور المغربي أيضا يجب أن يتضمن النص على منع الانتقال من حزب إلى آخر أثناء فترات الانتداب الانتخابي ماعدا في الحالات الاستثنائية التي ينبغي أن يحال تحديدها إلى القانون، والذي سيتولى أيضا تحديد ما سيترتب عنها من آثار يمكن أن تصل إلى حد إلغاء انتخاب شخص معين كما هو معمول به في مجموعة الدول.
إن الحقل السياسي بالمغرب يتميز بعدم الثبات، فالمعارضة غير قارة كما أن الأغلبية غير ثابتة، وكذلك أعضاء كل فريق بمجلسي البرلمان يبقى مفتوحا على كل الاحتمالات، ونفس الأمر يسجل على مستوى الجماعات المحلية والغرف المهنية… ولذا يمكن القول بأن الممارسة السياسية بالمغرب كل شيء فيها متحول ومتقلب وهذا ما يؤثر سلبا على مستوى العمل السياسي ببلادنا التي هي حاليا في أمس الحاجة لأحزاب قوية، ولمشهد حزبي معقلن، ولتحالفات سياسية استراتيجية وليست مرحلية، ولنخبة سياسية قادرة على طرح حلول وبدائل لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعوق تقدم المغرب.
إن الترحال السياسي، يشكل إلى جانب الغياب الكبير عن حضور جلسات مجلسي البرلمان، والعدد الضخم من الأحزاب، وضعف نسب المشاركة السياسية، ومستوى أداء المؤسسات المنتخبة… أوراش أساسية، ينبغي أن يفتح العمل بخصوصها، وذلك من أجل إصلاح المشهد والوضع السياسي عموما ببلادنا، بالنظر لحجم الرهانات المطروحة عليه.
* أستاذ باحث بكلية الحقوق بفاس