الديمقراطية والقانون

كثيراً ما يقترن القانون بالديمقراطية، ودائماً نردد ونصف دولة القانون بالديمقراطية، لكن ما يثير الجدل هل ان الديمقراطية هي التي تنتج القانون الذي يحمي الحقوق ويوفر العدل، أم القانون هو الذي ينتج الديمقراطية ويحصنها من تجاوز الديكتاتورية والفردية والشمولية؟ وللوقوف على الإجابة أو المقاربة منها لابدّ وأن نتعرف على المفهومين القانون والديمقراطية حتى نتمكن من معرفة أي منهم منتج للآخر وأي منهم يحمي الآخر، وعلى وفق ما يلي:

1. الديمقراطية

مفهوم الديمقراطية يعد من أكثر المفاهيم مرونة، فهو كمفهوم واضح لا لَبس فيه من حيث دلالته أي من حيث الشكل، إلا أنه يطرح إشكاليات متعددة عندما يوظف تجاه المصالح الفردية أو الفئوية، كذلك من حيث البنية الثقافية والمعرفية والاجتماعية لكل مجتمع أو أمة أو شعب. والمؤسس لهذا الخلاف هو تعدد المرجعيات الأيديولوجية لكل فئة، فالديمقراطية الإسلامية تعد جوهر الإسلام لأنه يتضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكن بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، حتى وان تعارضت هذه المبادئ الإسلامية مع الآخر وانتهكت حقوقه وهو الحق الأول الذي يجب أن يكفله نظام الحكم الديمقراطي.
بينما نجد في الديمقراطية المطبقة في الغرب انّ الحرية الفردية مصانة ومحترمة بموجب القانون، ومصطلح الديمقراطية هو مصطلح يوناني مكوّن من كلمتين الأولى من الكلمة Demos وتعني عامة الناس والثانية من الكلمة Kratia وتعني حكم فتصبح Democratia بمعنى حكم الشعب، وتعد شكل من أشكال وأساليب الحكم في البلدان، ويكون الشعب بموجبها حاكما لنفسه بواسطة الأغلبية البرلمانية المنتخبة لإدارة شؤونه من قبل الشعب، لكن يوجد تصور آخر للديمقراطية في المجتمع الحر، الذي يعني أن يتمتع الفرد بحق المكية الفردية الخاصة والعامة والحقوق والواجبات المدنية والسياسية، وللديمقراطية أنواع منها:
‌أ) الديمقراطية المباشرة: وهي الوسيلة التي يمارس الشعب بموجبها المصادقة على القوانين أو رفضها وسميت بالمباشرة لأنّ الناس يمارسون بموجبها وبشكل مباشر سلطة صنع القرار من دون وسطاء أو نواب ينوبون عنهم.ومن الأمثلة على ذلك الاستفتاء على الدساتير فان الشعب هو صاحب الكلمة في قبول الدستور أو القانون المستفتى عليه.
‌ب) الديمقراطية النيابية: وهو أسلوب يصوت فيه أفراد الشعب على اختيار أعضاء البرلمان الذين سوف يقومون بتشريع القوانين والقرارات التي تتفق ومصالح الناخبين، وتسمى بالنيابية لأنّ الشعب لا يصوت على القوانين والقرارات بل ينتخب نواباً يقررون عنه ذلك.

2. القانون

كلمة القانون وعلى وفق ما ذكره بعض الكتاب في الفقه القانوني ومنهم الدكتور منير الوتري في كتابه الموسوم (القانون) ص5 الطبعة الثانية عام 1989، إذ بيّن بأن كلمة القانون ليست عربية وإنما هي مأخوذة من كلمة kanon اللاتينية، ومعناها القاعدة أو التنظيم ومنها أخذت canon الفرنسية التي كانت تطلق في العصر المسيحي على القرار التي تصدرها المجامع الكنسية.
ويضيف الكاتب المذكور: “انّ الأوربيين كانوا أولى من العرب باستعمال هذا اللفظ للتعبير عن معنى القواعد العامة، إلا إنهم لم يستعملوه إلا بالنسبة للقرارات الدينية وإنما استعمل الإنكليز كلمة jurisprudence واستعمل الفرنسيون كلمة Driot للدلالة على القانون بوجهه العام وللدلالة على القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية”.

لذلك نرى ان كلمة قانون ليست من مشتقات اللغة العربية ولم تكن ذات استعمال في كل اللغات الأخرى، وإنما اعتقد بها العرب واستعملوها. وأصبحت وسيلة المتمردين على الواقع وجعلوها رديف الديمقراطية من أجل الرفاهية مثلما اعتبرتها الأنظمة الحاكمة الوسيلة لتعزيز الديمقراطية التي يعتقدون بها ويظنون إنهم رعاتها وقادتها. كما انّ القانون أخذ أوصاف متعددة وأشكال متباينة من منظومة قانونية إلى أخرى لكن المشترك بينهم هو قوة الإلزام التي يتمتع بها، وكل قاعدة حتى تكون قانونية وتشكل مع مثيلاتها قانون، يجب أن تقترن بالإلزام الذي يترتب على مخالفته العقاب بالإضافة إلى أن القانون الذي يجب إن يطبق ويخضع له جميع الأفراد في الدولة، أن يحتوي على ثلاثة عناصر أو أركان وكما يلي:

الركن الأول القاعدة القانونية: التي تواتر العمل بها وتتصف بالعمومية.
والركن الثاني أن ينظم العلاقة بين الأفراد بعضهم مع البعض أو بين الأفراد والمؤسسات أو بين الدول وما يماثل ذلك.
الركن الثالث وهو الإلزام الذي يتبعه المواطن ويلتزم بالقانون سواء طوعاً أو كراهية.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى إنّ الموضوع يتعلق بالقوانين الوضعية التي هي من وضع البشر حصراً ولا علاقة لنا بسواها من القواعد.
وبعد التعريف بالمفهومين (الديمقراطية والقانون) نجد إنّ الترابط بينهم قائم ومتداخل وهم يشكلان حلقة متداخلة يبدأ الأول من حيث ينتهي الآخر مما يصعب فرز حقيقي لأي منهم عن الآخر، فالديمقراطية لا يمكن تلمسها إلا من خلال المؤسسات الديمقراطية المتمثلة بالبرلمان أو المجالس النيابية بغض النظر عن مسمياتها، وهذه المؤسسات لا يعتد بها إلا إذا كانت مشكلة بموجب القانون، حيث أن بعض الأنظمة الحاكمة تسلمت السلطة والحكم تحت قوة السلاح ورغم أنف الشعوب المغلوبة على أمرها، ولم تكن بموجب آليات الأنظمة والأساليب الديمقراطية المتعارف عليها بواسطة الانتخابات الحرة والديمقراطية، كما إنّ القانون لا يعتد به إلا إذا كان صادر من قبل جهة تملك حق إصدار التشريع بغض النظر عن كون هذه الجهة التي أصدرته مكتسبة الشرعية الدستورية أو مفوضة من قبل الشعب أم إنها استولت على الحكم بواسطة قوة السلاح والأساليب البوليسية، لذا فان مجرد صدور القانون من قبل السلطة القابضة على مقادير الحكم يكون ملزم وواجب التطبيق من قبل أجهزة السلطة وواجب التنفيذ من قبل المواطن، وكل من يخالف هذه الأحكام يصبح مجرم ويستحق العقاب فيما يتعلق بالقوانين الجزائية.

كما إن بعض السلطات القابضة على مقادير الحكم في البلاد تسعى لأن تتشبث بأهداب القانون لإضفاء الصفة الديمقراطية عليها، وتدبج قوانينها ودساتيرها بكلمات تقارب وصف الديمقراطية وهي بعيدة عنها تماماً مثلما كان سائد في العراق خلال الفترة التي سبقت عام 2003، لكن حتى في ظل الأنظمة الديمقراطية نرى إنّ القانون يخرق الديمقراطية، من خلال سن القوانين التي لا تمثل مصلحة الأغلبية بل المصلحة الحزبية الضيقة، ومثال ذلك قانون الانتخابات النافذ الذي لم يسن من قبل ممثلي الشعب، واعتمد أسلوب القائمة المغلقة على خلاف رغبات الشعب ومناداته المستمرة بالتحول إلى نظام القائمة المفتوحة، التي تتيح للناخب العراقي حرية اختيار ممثليه، لكن المصالح الفئوية والحزبية الضيقة التي يرى بعض قادة الأحزاب إن القائمة المفتوحة سوف تلفظهم خارج التشكيل البرلماني، فهذه صورة من صور خرق القانون للديمقراطية.

كما توجد صورة أخرى تشكل مثال على إن القانون ليس بالحارس الأمين على الديمقراطية، حتى لو صدر عن برلمان منتخب، عندما يؤدي إلى الاعتداء على المصالح العامة مثلما حصل في قانون العفو الذي أصدره مجلس النواب العراقي وأخلى سيبل الكثير ممن ارتكب الجرائم بحق المصالح المالية للشعب، وممن كان مرتكب ومدان بارتكابه لجرائم الفساد الإداري والمالي وتبذير واختلاس المال العام، كذلك عندما يبقي المجلس النيابي على القوانين التي صدرت في ظل نظام شمولي ديكتاتوري لا يرى في القانون إلا وسيلة من وسائل الحفاظ على سلطته الديكتاتورية، ومنها القوانين التي تشجع على الفساد مثل الإبقاء على نص المادة (136/ب) من قانون أصول المحاكمات الجزائية، التي تمنح الموظف المختلس أو المتهم بجرائم تتعلق بوظيفته وتوفرت عليه أدلة الإدانة، حصانة من أن يطاله حكم القانون.

كما إنّ الديمقراطية التي تتمثل بتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويعتبر استقلال القضاء من أهم مظاهر تحققها، نجد أحياناً إن بعض التطبيقات القضائية للقوانين النافذة تتقاطع مع مضمونه، حيث إن بعض القوانين التي تنظم العلاقات داخل المجتمع تحكمها بقواعد قانونية ظاهرها المصلحة العامة إلا أن واقعها التطبيقي يساهم في انتشار ظاهرة الفساد ومنها وضع القيود، من باب الوصاية على المواطن وافتراض النقص فيه، وجعله دائماً محل ريبة وشك وعليه أن يثبت صحة قوله وصدق ادعائه وأن يقدم الأدلة على ذلك، مما يدعوه أحياناً إلى الالتفاف والاحتيال بمساعدة المفسدين من الموظفين أو العاملين في الوظائف العامة وبدون استثناء لنوع معين من هذه الوظائف، إذ نجد المفسد يكون موجود في أغلب الوظائف حتى وإن كان لا يشكل نسبة كبيرة في عدد العاملين فيه، وأضرب مثلاً في ما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية في عقود الزواج، وما ورد في الفقرة (5) من المادة 10 من قانون الأحوال الشخصية النافذ رقم 188 لسنة 1959 المعدل التي تنص على ما يلي: (يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد على سنة، أو بغرامة لا تقل عن ثلاثمائة دينار ولا تزيد على ألف دينار، كل رجل عقد زواجه خارج المحكمة، وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على خمس سنوات، إذا عقد خارج المحكمة زواجاً آخر مع قيام الزوجية).

ففي نص هذه الفقرة نجد إنّ المشرع العراقي قد جعل من الزوج الذي يتزوج خارج المحكمة محل للاتهام ويخضع للمسائلة القانونية ويكون مجرماً إذا أدين بارتكاب هذه المخالفة. لكن هل يبطل هذا النص عقد الزواج الذي تم خارج المحكمة؟ الجواب لا يؤثر ولا يبطل العقد ويكون العقد صحيح ويرتب آثاره الشرعية وإنما يخلق حالة من الإطالة والتعقيد تجاه المواطن وانشغال القضاء في أمور لا تشكل خطراً على المجتمع وبعيدة عن ساحة القضاء وان عقوبة الغرامة لا تكفي لثمن الأوراق التي تستهلك لتدوين الأقوال وكتابة المخاطبات، بالإضافة إلى أن أسباب وضع هذه الفقرة في حينه كانت لدوافع سياسية يسعى من خلالها واضع النص إلى جعل المواطن محل اتهام ومتابعة ومراقبة وذلك تعبيراً عن فلسفة النظام القائم آنذاك وإنما خلق أجواء وبيئة حاضنة ومنتجه للفساد الإداري ومنح الفرصة لضعاف النفوس أن يبتزوا المواطن عند مثولهم أمامهم بصفة متهم.
ومما تقدم فان مجرد وجود القانون لا يكفي لتحقيق الديمقراطية وحمايتها، مثلما لا يكفي أن ننادي بشعار الديمقراطية دون أن نوفر لها وسائل الحماية، التي لا تتوفر إلا بجمع كلا المفهومين معاً (الديمقراطية والقانون)، ومجرد تحقق أحدهم دون الآخر فانه لا ينتج قانون صحيح في جو ديمقراطي، والرابط الوحيد للمفهومين هو الإرادة الشعبية، فان تلك الإرادة هي التي تمزج بينهم فتنتج نظام ديمقراطي يحترم الحقوق ويمنح الفكر الحصانة من الاعتداء بالتضييق أو التكميم، وعند ذاك سنصل إلى المدينة الفاضلة التي نادى بها الفارابي أو جمهورية أفلاطون المثالية.