المحكمة المالية… بين الريادة والسيادة!
بكر بن عبداللطيف الهبوب
الأمين العام للهيئة السعودية للمحامين – مستشار قانوني

قال تعالى: «إلاَّ أنْ تكونَ تجارةً حاضرةً تُديرونها فليس عليكم جناح ألاَّ تكتبوها»، تحكي هذه الآية مرونةَ التشريعِ الإسلاميِّ في مراعاةِ طبيعةِ المعاملات التجارية التي تتطلب سرعةً وثقةً تتناسب مع مقتضيات الأعراف التجارية المتغيرة والتي يصعب على القانون المدني اللحاق بها، وتتطلب أيضاً تخصصاً في مقر المحكمة، وإجراءات نظر الدعوى، والكوادر البشرية التي تستكمل المنظومة الاحترافية للتحاكم التجاري. والمستعرض لما صنَّفه فقهاء الشريعة من مسائل تتعلق بالأمور التجارية من حوالات، وسفاتج، وشركات، وبيوع وقروض، وإفلاس؛ ليدركُ أنهم يُحاكون وَقْعَ معاملات العصر لإيجاد قاعدة تشريعة لها، حتى إنِّ المستشرق المسيو ساتبلانا أقرَّ في كتابه تراث الإسلام «The legacy of Islam» أنَّ أوروبا أخذت بعض قواعدها في القانونين المدني والتجاري عن الشريعة الإسلامية. وبالمقابل فإنَّ كتب الفقه مليئةٌ بالحديث عن تخصص القضاء، فقد قال ابن قدامة: «يوُلي الحاكم قاضيين وثلاثة في بلد واحد، يجعل لكل واحد عملاً، فيولي أحدهم عقود الأنكحة، والآخر الحكم في المداينات، وآخر النظر في العقار».

واحتاجت نهضة أوروبا إلى تخصصٍ في المحاكم فكانت أول محكمة تجارية عرفها تاريخ فرنسا هي محكمة باريس التجارية التي أنشأها شارل التاسع عام 1563م، كما أن الدول الاستعمارية أنشأت محاكماً في البلد المستعمَر تُسمى «بالمحاكم المختلطة»، كما في مصر حيث شُكلت محاكم تجارية مختلطة يجلس فيها ثلاثة من القضاة الفنيين، اثنان من الأجانب وقاضٍ وطني، ويترأسها أجنبي يستعين باثنين من المحلفين التجار أحدهما وطني والآخر أجنبي. وقد نضجت تجربة تخصيص محاكم للمعاملات التجارية في العهد الحديث على نحوٍ يمكن أن يُصَّنفَ على خمسة مناهج:

الأول: محاكم مالية على المستوى الدولي، حيث خُصصت محاكم للنظر في حل الخلافات المالية بين الشركات العاملة في الأسواق العالمية، كما هو الحال في المحاكم الدولية العاملة في مدينة لاهاي الهولندية المسماة باسم «برايم فاينانس» «Prime Finance». والتي تضم حوالي 100 خبير في مجال الشؤون المالية من البلدان المختلفة ينظرون في الدعوى بعد رفعها بموافقة أطراف الخلاف. وكذلك هيئة تسوية المنازعات التابعة لمنظمة التجارة العالمية «Dispute Settlement Understanding»؛ للنظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق قانون منظمة التجارة العالمية. ويلاحظ أن المتخاصمين هم دول تلك الشركات الأعضاء في المنظمة.

الثاني: محاكم دولية على المستوى المحلي، ويُعد هذا النوع بمثابة الجهاز القضائي الدولي المزروع في جسد القضاء المحلي، وأشبه ما يكون بتطوير لمفهوم «المحاكم المختلطة» المنتشرة في الحقبة الاستعمارية

، ومن أبزر أمثلتها: «محاكم مركز دبي المالي العالمي» التي تتخذ من المركز مقراً لها هي سلطة قضائية عامة مستقلة تنظر في النزاعات المدنية والتجارية التي تنشأ في المركز أو تتعلق به، وفي الخلافات الناشئة بين الشركات العاملة في المركز. وكذلك «محاكم مركز قطر للمال»، والتي تستهدف تقديم آليات لتسوية النزاعات المدنية والتجارية بين شركات مركز قطر للمال والشركات التي تتعامل معها، وتوفير التحكيم أو التسوية الرسمية فيما يخص تلك النزاعات المدنية. وأغلب أنواع هذه المحاكم أُسس ليتبنى النظام الانجليزي قانوناً وقضاةً، والخضوع الاختياري لولاية المحاكم البريطانية للفصل في النزاعات، نظراً لأن فلسفة تلك المراكز التجارية تقوم أطراف دولية تثق بالنظام الأنجلوسكسون، نظراً لما تتحلى به المحاكم البريطانية من سمعة دولية ذات خبرة اقتصادية وتجارية تتمتع بأعلى درجات الحياد والاستقلالية، وقادرة على إدارة القضايا بكل فاعلية واحتراف، مما يضمن سرعة البت في النزاعات والقضايا المعروضة أمامها.

وقد أشادت دراسة لوزارة العدل البريطانية بالنظام القضائي الخاص بمحكمة قطر الدولية كواحد من أفضل ستة أنظمة قضائية شملتها الدراسة على المستوى الدولي لما يتمتع بالمصداقية الدولية، والقدرة التنافسية. وبالرغم من أن هذا النموذج أشبه ما يكون بإحالة نزاعٍ معينٍ إلى تحكيمٍ إلزاميٍّ إلا أنه قد يواجه انتقاداً لمساسه بسيادة قانون الدولة، فضلاً عن الإشكاليات التي قد تنشأ عند تنفيذ الأحكام الأجنبية.

الثالث: المحاكم المتخصصة المتفرِّعة عن القضاء العام، وهي تلك المحاكم أو الدوائر أو اللجان التي تجتمع تحت مظلة القضاء العام لكنها تحظى بتخصص وتميزٍّ في الإجراءات. ويأتي هذا التوجه متمشياً مع ما قامت به العديد من الدول من إعادةٍ لهيكلةِ المنظومةِ القضائيةِ فيها وتطويرها؛ لتكون عاملاً مسهِماً في استقطاب وجذب الاستثمارات وتلبية احتياجات المستثمرين، كالمحاكم الاقتصادية بمصر والتي تختصُ بالجانب الاقتصادي والجنائي خلالَ نظر الدعاوى المرفوعة أمامها والناشئة عن تطبيق القوانين المتعلقة بجرائم الإفلاس والإشراف والرقابة على التأمين والشركات المساهمة وغير ذلك من المسائل الاقتصادية. كما لجأ المشرّع المغربي إلى استحداث محاكم مالية من أجل مراقبة صرف المال العام؛ نظراً لوجود شركات مساهمة عامة تملكها الدولة انتشر فيها الفساد على نحوٍ لا يمكن للقضاء العام تحقيق التخصص الدقيق في مسايرة الأعمال مع المراقبة. وقريبٌ من ذلك النموذج الألماني الذي أنشأ محاكم مالية «Fiscal Court»؛ للنظر في النزاعات بين المواطنين فيما يتعلق بالضرائب.

الرابع: جهات فصل منازعات غير رسمية «Non-Governmental Organization»، لكنها تحظى بدعم حكومي ومؤسساتي، مثل هيئة تنظيم الصناعة الماليةFinancial Industry Regulatory Authority, Inc. «FINRA»، والتي تدير أكبر منتدى للتحكيم في أمريكا لتسوية المنازعات بين العملاء والشركات الأعضاء، وكذلك بين شراكات الوساطة وعملائها العاملين تحت مظلة بورصة نازداك في نيويورك «NASD»، وتعتمد على تضمينٍ «إجباريٍّ» لشرط التحكيم لهذا المركز في كل الاتفاقات المبرمة بين المستثمرين والسماسرة على نحوٍ يتنازل فيه الأطراف عن حقهم في المحاكمة في محكمة قانونية.

وتُجرَى تسويات ووساطة قبل اللجوء للتحكيم الذي يُلجئ إليه كملاذٍ أخيرٍ، حيث تشير الإحصائيات بأن نجاح التسويات تجاوز 80% من نسبة المنازعات المعروضة.

الخامس: لجان تفصل في المنازعات التجارية والمالية، لكنها غير خاضعة للقضاء العام. نشأت هذه اللجان رغبةً من المشرّع في إيجاد مسار سريع للأعمال بعيدًا عن بطء القضاء العام وبحثاً عن التخصص، لكن مع المحافظة على سيادة قانون الدولة. وعادةً يزدهر هذا النوع من القضاء في المنازعات التجارية ذات الصبغة المالية، فمثلاً لدى هيئة الخدمات المالية البريطانية لجنةٌ للتظلمات المالية «Financial Ombudsman Service» تُعنى بحل المنازعات المتعلقة بقانون الأوراق المالية والتأمين وشركات التمويل، وآلية عمل اللجنة يبدأ بمحاولة الوساطة خلال 8 أسابيع، ومن ثم تحال إلى لجنة التظلمات المالية التي تفتخر أنها تحقق حسماً للمنازعات وحفظاً لحقوق المستثمرين، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 58% من الأحكام صدرت لصالحهم. واللجنة تدار من قبل «شركةِ نفعٍ عام» يديرها مجلس إدارة يعيّن من قبل هيئة الخدمات المالية البريطانية كوسيط للمنازعات المالية.

يُذكر أن النموذج البريطاني عضو ضمن الشبكة الدولية للخدمات المالية لتسوية المنازعات «International Network of Financial Services Ombudsman Schemes» تضم كلاً من كندا، وإيرلندا، واستراليا، وجنوب أفريقيا. كما أن مصر قد خصصت لجنةً للتظلم من القرارات الإدارية الصادر من هيئة سوق المال.

أمّا المشرّع السعودي فقد أنشأ لجنةً قضائيةً تنظر في منازعات الأنظمة ذات الصبغة المالية «المصرفية، التأمين، الجمركية، الضريبية، الأوراق المالية» خارج مظلة القضاء العام. وبالرغم من أن المشرّع السعودي قد رَسَم رؤيةً بإعادة اللجان القضائية إلى القضاء العام، إلا أنَّه استثنى اللجان القضائية ذات الاختصاص المالي من آلية الضم الحالي على أن تجرى الدراسات اللازمة لعودتها لاحقاً. فالمحكمة المالية رؤيةٌ استراتيجيةٌ للتخلص من «بعثرة» اللجان القضائية في المسائل المالية، وتحديداً: لجان الفصل في المنازعات المصرفية، ولجان الفصل في منازعات الأوراق المالية، ولجان الفصل في منازعات التأمين، واللجان الجمركية، والضريبية. إنَّ عودةَ تلك اللجان إلى القضاء العام ليس متصوراً في العهد القريب خاصةً مع تأخر «سلخ» الدوائر التجارية من ديوان المظالم، وكذلك اللجان العمالية إلى القضاء العام، فعودةُ تلك اللجان للقضاء العام مرهونٌ بتأهيل مدروسٍ للكوادر البشرية، وتوحيدٍ لإجراءات نظر الدعاوى فيها، تحت مظلة أمانة عامة للجان القضائية، ووجود ممثل لها في المجلس الأعلى للقضاء يُشرف على أعمالها وتعيين أعضائها، ودائرة مختصة في المحكمة العليا معنيةٍ بضبط المبادئ القضائية المالية، من أجل ضمان أنْ يكونَ العودُ حميداً، والضمُ سديداً.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت