استيفاء الحق بالذات

أن ما توصل إليه الإنسان من تقدم علمي سواء على صعيد الدول المنتجة أو المستهلكة التي أصبح لمواطنيها القدرة على التعامل مع وسائل التقنية الحديثة في مختلف المجالات وخاصة الاتصالات والمواصلات التي يسرت انتقالنا وقربت المسافات بين الشعوب ، كان يجب أن يكون لها أثرا مباشرا على سلوكنا وتصرفاتنا لتصبح أكثر حضارية ورقيا ، إلا أن القرب المادي الذي أسهمت فيه تلك الوسائل التقنية لم ينعكس على سلوك الإنسان- من وجهة نظري – ؛ لأن البعض منا يدعون التحضر من حيث الشكل سواء في اللباس أو طرق الأكل أو الحديث أو التباهي بتمسكهم بالمنظومة الحقوقية ، إلا أن نظرة تقييميه تبين الفراغ الذي يعانونه في منظومة القيم الأخلاقية والإنسانية ، ويصدق ذلك على سلوكيات بعض الدول ككيان قانوني أو الأفراد ، فالجميع يسلك في الكثير من الأحيان أساليب لا تتفق مع التقدم الحضاري .

ورغم أننا كمسلمين نعلم يقينا بأن الدين الحنيف وهو دين وثيق الصلة بالحضارة ؛ لتطلبه أن يكون هناك انسجام وتجاوب بين ما يعتقده الإنسان ويؤمن به وبين الحياة التي يعيشها ، إلا أن الفجوة فيما بين العقيدة وبين الحياة لازالت عميقة ، ولذلك أسباب متعددة لامجال للتعرض لها فى هذا الموضع ؛ وأن تمسكنا بالشكليات لا إرضاء لله ولخشيته بل للخوف من البشر وردود أفعالهم تجاهنا ، مما أدى إلى انهيار القيم وموازينها لدينا ، وهو ما يصدق على تمسكنا بالتطور المادي والرفض الضمني للتطور الثقافي من المنظور المعنوي والذي لا يتعارض مع القيم التي نادت بها الشريعة الإسلامية ، مما أربك حياة الكثيرين ودفعهم للانقياد وراء رغباتهم ، فباتت ثقافة الفساد وسيلة للنجاح ، وازدادت معدلات الطلاق لأننا لم نقبل وضع شروط بعقد الزوجية تحدد التزامات الطرفين باسم العيب واتفاقا مع الأعراف والعادات ، مع أن ذلك كان سيحول دون حدوث مشاكل أكبر ، وبالنظر لرفضنا للاعتراف بحالة الفصام التي نعيشها ، فأنه لاغرابة فى أن تندفع سيدة وأبنائها إلى الاعتداء على الزوجة الثانية بعد وفاة الزوج ، وطردها من البيت بحجة أن هناك قرارا بتمكينها من بيت الزوجية ، فهل لهذا القرار حجية بعد وفاة الزوج ؟ تلك مفارقة تدمي القلب ، وهل عقد الانتفاع من الأدلة التي ثبت ملكية المرحوم للعقار ليتنقل للورثة ؟ ليطول أمد نظر النزاع أمام القضاء ، وهو ما دفع بتلك العائلة إلى تطبيق القانون باليد لبطء العدالة من جهة ، أو لعلمهم بأن عقد الانتفاع لا يكسب حق ملكية ، حيث أن العقار لازال مملوكا للدولة ، فسارعوا إلى اغتصابه ليكون للمتضرر أن يلجأ للقضاء وهو منطق قانون الغاب .

لذلك أردت في هذه المداخلة تسليط الضوء على الأحكام القانونية لجريمة استيفاء الحق بالذات دون انتظار لأحكام القضاء أو دون اللجؤ إليه للاقتضاء الحق أو للاقتصاص من الجناة ، لنعود إلى الفكرة التي بدأت بها الحديث من أن التقدم المادي وكذلك التقدم في المجال الحقوقي لم يرتق ِبسلوك البعض منا ، مما يوجب ضرورة تطبيق قانون العقوبات وتحديدا أحكام المادة 287 منه التي قررت فرض غرامة لاتجاوز مائة دينار على من يعمل على انتزاع حق مزعوم له بيده باستعمال العنف ، وشدد العقاب إذا كان النشاط مصحوبا بتهديد للأشخاص أو باستعمال العنف ضدهم ، وهذه الجريمة من جرائم الشكوى بمعني أن السلطة المختصة سواء كانت سلطة مأموري الضبط القضائي أو النيابة العامة لن تبدأ في مباشرة اختصاصها مالم يتقدم إليها المجنى عليه بشكواه.

كما شدد العقاب بموجب نص المادة 288 عقوبات بزيادة الغرامة المشار إليها بمقدار لا يجاوز الثلث ، إذا ارتكب الفعل بعد اللجؤ للقضاء وقبل النطق بالحكم ، أو كان التهديد أو العنف الموجه للمجني عليه مقترنا بحمل الفاعل لسلاح .

ويلاحظ من استقراء النص المشدد للعقاب عدم رفع المشرع لقيد الشكوى منذ ثلاثينات القرن لأن النصين المشار إليهما مصدرهما قانون العقوبات الإيطالي ولازلنا نحتاجهما ، لديمومة القيم الإنسانية واستمررايتها بوجود الحياة ، لذلك فأن الغرامة متدنية القيمة لاختلاف قيمة النقود بين تلك الحقبة الزمنية والآن ، وهو ما يوجب التدخل التشريعي لإقرار غرامة مشددة تحقق الردع العام لمنع ارتكاب هذه السلوكيات من جهة ، والنص على إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل الاعتداء لضمان ألا يحقق المعتدى غايته بوجود عدالة عرجاء .

ونأمل مستقبلا ألا نحتاج إلى تطبيق نصوص قانون العقوبات لضمان حماية الحقوق فى حال ارتقاء وسائلنا فى التعاطي مع الأمور ومن بينها قدرتنا على الحوار بصورة عقلانية واكتساب وسائل مرنة لإدارة مشاكلنا غير تلك التي كان يستخدمها الإنسان البدائي ، وهو ما نأسف عليه لأن البعض يلبس ثوب الألفية الثالثة ويعيش فى زمن العصور المظلمة ، لا الزمن الأول للرسالة المحمدية لصلوات الله وسلامه عليه حيث ينصف المظلوم من حاكمه ولا حصانة لابنته فاطمة إعمالا لمبدأ المساواة أمام القانون ؛ مما اثر على الفرد الذي بات غير قادر على استيعاب الآليات الحضارية التي هي من نعم الله عليه ، وعلى التمسك بقيم العدل والنزاهة والتسامح والعطاء كأسلوب حياة …. الخ .