خصوصية المسؤولية الجنائية في جرائم الأعمال

بقلم الاستاذ عبد الله بوضاض

باحث في سلك الدكتوراه بكلية الحقوق (جامعة ابن زهر-اكادير)

تشكل المسؤولية الجنائية أحد أهم العناصر الجوهرية في العلوم الجنائية، وإن كانت تتأسس على الإدراك والتمييز وحرية الاختيار كأساس لقيامها، فإن ما استجد في ميدان الأعمال والمقاولات من أفعال تؤثر في النظام العام الاقتصادي للدولة استدعى تجريم تلك الأفعال، غير أن طبيعة هذا المجال تقتضي ابتكار بعض التقنيات القانونية، بل بالأحرى الخروج عن بعض المقتضيات التقليدية للقانون الجنائي، ومن هذه المقتضيات التي أصبغ عليها المشرع بعض الخصوصية، نجد مجال المسؤولية الجنائية.

فبالرجوع إلى القانون الجنائي العام نجد أن المشرع في الفصل 132 [45] حصر دائرة المسؤولية في قيام الشخص ماديا بالفعل ليساءل جنائيا، مع إدراكه وتمييزه لكون تلك الأفعال التي يقوم بها مجرمة، غير أنه جاء في نفس الفصل ليستثني من هذا المبدأ حالات ينص فيها القانون على خلاف ذلك، فالمشرع بهذا المقتضى ترك الباب مفتوحا للخروج عن القاعدة العامة، وهذا الاستثناء يجد مجاله بإلحاح في الجانب الزجري لقوانين الأعمال.

وتظهر خصوصية المسؤولية الجنائية في جرائم الأعمال باعتبارها خصوصية موضوعية من حيث أساس قيامها، فإن كان وجود الإرادة الحرة والإدراك والتمييز لدى الجاني أساس كافي بذاته لقيام المسؤولية وفق القواعد التقليدية للقانون الجنائي، والذي يوسمها بمبدأ شخصية المسؤولية، فإننا بصدد البحث في هذه النقطة في جرائم الأعمال وجدنا خروجا صريحا عن تلك المبادئ التقليدية، فالمسؤولية في القانون الجنائي للأعمال تقوم على عنصرين:
-الخطأ المفترض بغض النظر عن عنصر القصد[46].
-إسناد بعض جرائم الأعمال لغير مرتكبيها.
وسنتناول العنصر الثاني مع تركيز أبعاده على الجريمة الجمركية باعتبارها، جريمة أعمال، وذلك من خلال نقطتين:
أولا: إعمال المسؤولية عن فعل الغير
الأصل في المسؤولية الجنائية، أنها شخصية فلا يتم إيقاع الجزاء إلا على المرتكب الفعلي لجريمة أو المساهم أو المشارك فيها، وهذا أحد أهم مبادئ المسؤولية الجنائية[47].
غير أن المشرع المغربي أورد استثناءا من هذه القاعدة بالمسؤولية عن فعل الغير، بمقتضى نصوص خاصة، ويجد هذا الاستثناء مجاله بحدة في جرائم الأعمال، ونذكر في هذا الإطار بعض المبررات التي جاء بها الفقه [48] في هذا الإطار:
-حماية تنفيذ قوانين الأعمال.
-اتساع نطاق التجريم.
-خطورة جرائم الأعمال.
-خصوصيات الركن المعنوي في جرائم الأعمال.
ومن تطبيقات المسؤولية عن فعل الغير في قوانين الأعمال سنحاول التركيز على القانون الجمركي كأحد قوانين الأعمال.
فبالرجوع إلى الفصل 229 من القانون الجمركي الذي ينص على أنه:
” يعتبر الأشخاص الآتي ذكرهم مسؤولين مدنيا عن فعل الغير فيما يخص الرسوم والمكوس والمصادرات والغرامات والمصاريف:
أ) الأشخاص المبينون في الفصل 85 من قانون الالتزامات والعقود؛
ب) مالكو البضائع عن فعل مستخدميهم ؛
ت) مالكو وسائل النقل عن فعل مستخدميهم، إلا إذا أثبتت المسؤولية الشخصية للمستخدم المكلف بالسياقة”.

وفي الأخير فإن المسؤولية الجنائية عن فعل الغير تعتبر من الخصوصيات التي تميز المسؤولية في القانون الجمركي، لأنها تشكل خروجا عن المبادئ العامة للقانون الجنائي، بإسناد الجريمة لغير فاعلها، وهذه الخصوصيات في المسؤولية لا تقتصر على المسؤولية الجنائية عن فعل الغير، بل تتجاوزها إلى المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.

ثانيا: الاعتداد بالمسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
تعرف الشخصية المعنوية بأنها “تجمع الأشخاص أو مجموعة من الأموال تتكاثف وتتعاون لتحقيق هدف معين يعترف لها بالشخصية المعنوية”.
وقد ظلت مسألة تقرير المسؤولية الجنائية لشخص المعنوي محل نقاش فقهي لمدة طويلة، غير أن التحولات الاقتصادية كانت الحاسم الواقعي، و قد نص المشرع في القانون الجنائي[49] بشكل صريح على مسؤولية الشخص المعنوي الجنائية، كما هو الحال في مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة [50].
ويطرح التساؤل حول الأساس النظري والقانوني لإقرار تلك المسؤولية على الأشخاص المعنوية؟
1-اختلاف أساس المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
نجد أن هناك اختلاف حول تأصيل أساس المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي.
فالبعض يؤسس المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي على أنها مسؤولية مفترضة وليست مسؤولية جنائية عن فعل الغير، ذلك أن المشرع حينما ينص على مسؤولية الشخص الاعتبار في الإشراف والمراقبة، وسع وقوع الفعل المؤثر قانونا، فمسؤوليته لا تكون سوى مسؤولية شخصية.
ويرى البعض الآخر أن مسؤولية الشخص المعنوي الجنائية أساسها الاعتراف به كأحد أشخاص القانون الجنائي، وهو شخص يملك القدرة والاختيار مثل الشخص الطبيعي سواء بسواء.
في حين يذهب بعض الفقهاء الفرنسيين أن مسؤولية الشخص المعنوي في فرع من المسؤولية عن عمل الغير، ويؤسسها آخرون على أنها مسؤولية مادية تقوم على تجريم شكلي لأفعال مجردة من الركن المعنوي[51].
2– شروط المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي
لكي تقوم المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي لابد من توفر بعض الشروط:
أ-ارتكاب الفعل المجرم من طرف الممثل القانوني أو المسير الفعلي للشخص المعنوي.
ب-أن يكون ارتكاب الفعل باسم ولحساب الشخص المعنوي، لا لمصلحته الخاصة.
ونافلة القول بخصوص المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، هو أن إقرار هذه المسؤولية في مجال الأعمال والمقاولات لا يسقط المسؤولية الشخصية للمسير، بل هما متلازمتان لا تسقط أحدهما الأخرى[52].

ـــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:

[45] – ينص الفصل 132 من القانون الجنائي على أنه:
“كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن:
الجرائم التي يرتكبها.
الجنايات أو الجنح التي يكون مشاركا في ارتكابها.
محاولات الجنايات…”
[46]– الخطأ المفترض، إما أن يفترضه القضاء في الحالات التي تقتضي طبيعة بعض الجرائم ذلك في نطاق إثبات ركنها المعنوي، وإما أن يكون المشرع هو الجهة التي تقيم هذه القرينة، وفي الحالتين يترتب عليه الإعفاء من إقامة الدليل على ثبوت الخطأ بجانب الشخص المسؤول، مما يؤدي إلى القول بأن واقع الخطأ المفترض هو أن الافتراض يجب أن يقتصر دوره على نقل عبء الإثبات من الجهة المختصة أصلا إلى المتهم الذي عليه حينئذ أن ينفي ثبوت الخطأ في جانبه إن سمح القانون بذلك.
-إبراهيم المقرئ، مرجع سابق، ص 11.
[47] – الفصل 132 من القانون الجنائي.
[48] – نقلا عن:
-ابراهيم المقرئ، مرجع سابق، ص 22.
[49]– ينص الفصل 127 من القانون الجنائي:
“لا يمكن أن يحكم على الأشخاص المعنوية إلا بالعقوبات المالية والعقوبات الإضافية الواردة في الأرقام 5و6و7 من الفصل 36 ويجوز أيضا أن يحكم عليها بالتدابير الوقائية العينية الواردة في الفصل62.
وفيما يخص التشريع الفرنسي، فإن أهم ما استحدثه قانون العقوبات الفرنسي الصادر سنة 1992 والمعمول به منذ أول مارس 1994، إقرار المسؤولية الجنائية للشخص المعنوي، وهكذا نصت المادة 121 في فقرتها الثانية على أنه:”فيما عدا الدولة تسأل الأشخاص المعنوية جنائيا عن الجرائم التي ترتكب لحسابها بواسطة أجهزتها وممثليها وفقا للقواعد الواردة في المواد 121-4 إلى 121-7 وذلك في الحالات المنصوص عليها في القانون أو اللائحة ومع ذلك فإن المحليات وتجمعاتها لا تسأل جنائيا، إلا عن الجرائم التي ترتكب أثناء مزاولة الأنشطة التي يمكن أن تكون محلا للتفويض في إدارة مرفق عام عن طريق الاتفاق، والمسؤولية الجنائية للأشخاص المعنوية لا تستبعد معاقبة الأشخاص الطبيعيين الفاعلين أو الشركاء من نفس الأفعال.
-ابراهيم المقرئ، مرجع سابق، هامش ص 70.
[50]– ونفس الأمر فعله في مدونة الجمارك في الفصل 227، والذي نص على أنه:
“عندما ترتكب جنحة أو مخالفة جمركية من طرف المتصرفين أو المسيرين أو المديرين لشخص معنوي أو من طرف أحدهم العامل باسم ولحساب الشخص المعنوي، يمكن بصرف النظر عن المتابعات المجراة ضدهم أن يتابع الشخص المعنوي نفسه وأن تفرض عليه العقوبات المالية، وعند الاقتضاء التدابير الاحتياطية المنصوص عليها في 3 و4 و6 من الفصل 220 الذي ينص على أنه:
“التدابير الاحتياطية الشخصية في ميدان الجمارك هي:
3-سحب رخصة قبول المعترف الجمرك أو الإذن في الاستخلاص الجمركي.
4-الحرمان من الاستفادة من الأنظمة الاقتصادية الخاصة بالجمارك.
6-سحب رخصة استغلال مخازن وساحات الاستخلاص الجمركي…”.
[51] – انظر:
ابراهيم المقرئ، مرجع سابق، ص 26.
[52] – عبد المجيد غميجة، مرجع سابق، ص 33.
أنظر بخصوص الأشخاص المسؤولين جنائيا عن المخالفات المتعلقة بالشركات التجارية المادة 373 و 374 من القانون رقم 17.95 المتعلق بشركة المساهمة، والمادة 100 من القانون 5.96 المتعلق بباقي الشركات.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت