النزاعات القانونية في بيئة الأعمال “حلول ومقاربات”
عبدالعزيز محمد العبيد
باحث ومستشار قانوني
Alobid100 @
لم يعد اللجوء للمحاكم في النزاعات التي تندلع بين الشركات العملاقة خياراً محبباً ولا حتى مجدياً في كثير من الأحوال بسبب طول مدد التقاضي وإجراءاته بالرغم من سعي ديوان المظالم لتقليص تلك المدد في النزاعات التجارية، وما يتوقع أن يتبع ذلك من مبادرات سوف تتزامن مع انسلاخ القضاء التجاري من الديوان بشكل تام.

إلا أن ذلك لا يزال غير كاف في بيئة الأعمال التي تتسارع وتيرة العمل التجاري فيها وتتصاعد لتصل في كل حين إلى نقطة اللاعودة إذ إن التباطوء يفتح الشهية والفرصة للمنافسين لسحب البساط فعنصر السرعة وديناميكية التعامل مع الأطراف المختلفة في السوق (تاجر لتاجر، أو تاجر لمستهلك) يعني أن أي تلكوء في جلسات القضاء إزاء حل أي قضية عالقة يعتبر تهديداً لمركز التاجر وسمعته.

كما أن ضبابية الإجراء وضبابية ما سيحكم به القاضي أيضاً على حد سواء يعد مصدر قلق آخر للاستثمارات الأجنبية التي تقدم خطوة وتؤخر أخرى قبل الزج برؤس أموالها في السوق السعودي، وهو ما دعى كثيرين إلى ضرورة التقنين على اختلاف درجات المنادين به ما بين تقنين شامل يقيد سلطة القاضي مطلقاً ويلغي اجتهاده وصولاً إلى أدنى درجات التدوين القضائي لتقريب السوابق القضائية بين يدي القاضي لمساعدته في التعامل مع المستجدات دون أن يكون لها صيغة الإلزام، ولا مواربة في أن السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي كلما اتسعت حققت إبداعاً فكرياً مع خطورة على استقرار القضاء وتهديد للاستثمارات في الآن ذاته، وكلما ضاقت حققت نمطاً واحداً في الأحكام لا يتسم بالمرونة، مع وضوح لمآلات النزاعات واختصار للتقاضي في الآن ذاته أيضاً، من هنا قد نفهم بشكل مبسط نوع الاختلاف بين منظومة التجارة والاستثمار من جهة والمنظومة العدلية من جهة أخرى.

فمعايير السلطة القضائية ومعها بطبيعة الحال وزارة العدل لن تتنازل عن عرش العدالة مهما أبدت منظومة التجارة والاستثمار من مبررات حيث إن امتداد المعايير القضائية يتصل بحلقات متسلسلة من التأصيل العلمي والاختيارات الفقهية. كما أن استراتيجية منظومة الاستثمار تقوم على أسس أهمها تنويع مصادر الدخل وجذب الاستثمارات الأجنبية وتذليل العقبات والتعقيدات الإجرائية والإدارية وغيرها والتي تعد وزارة العدل في مرمى شباك التقارير الدورية المعنية بمؤشرات التنافسية وعوائق الاستثمار وتهديدات الأنشطة التجارية.

إزاء كل ذلك: ألا يمكن التوصل إلى حلول ومقاربات قانونية تقلص الفجوة وتعالج المشكلة دون الإخلال بمعايير القضاء واستقلالية القاضي، وبما يضمن للمستثمر تحقيق أعلى قدر من الاستقرار …؟

بنظري أن الكرة لا تزال في ملعبنا للفوز بهكذا مبادرات تحقق لنا الريادة القضائية والاستثمارية على المستويين العالمي والإقليمي.
ومن تلك الحلول التي تنتظر أن تكرسها الرعايةُ الهيكلية والتنظيمية، كما تنتظر أن تلحق بها أخواتها من المبادرات والمقاربات الثنائية بين منظومتي العدل والاستثمار: (إنشاء صندوق وطني لتسوية الخلافات التجارية) يعمل وفق ثلاثة مسارات، الأول: تمويل تسوية النزاعات التجارية التي تكون الدولة أو إحدى مشاريعها الحيوية طرفاً متأثراً فيها من خلال التحكيم أو الصلح.

والثاني: الاستثمار في النزاعات التجارية التي يكون سببها الخلافات في الدفعات المالية أو التعاقدية مع جدوى المشروع محل الخلاف، وأما الثالث: فهو إقراض المشاريع الوطنية والشركات المحلية التي تكون طرفاً في نزاع قضائي بسبب مطالبات مالية وتعثرات في السداد.

هذه التجربة الملهمة ليست ضرباً من محض الخيال الحالم بل يمثل جزءاً منها واقعٌ أثبت نجاحه لمبادرة (العثيم للاستشارات) @OthaimLaw من خلال تمويل وإدارة التقاضي والتحكيم والتسويات الودية كما يعبر عنه حساب المبادرة ، وإذ اعتقد أن هكذا تجربة بحاجة إلى المزيد من الخطوات التي تسهم في إقناع مجتمع الأعمال بنجاحها وتحفيز التجارب المشابهة، وأن لهذه التجربة أيضاً العديد من التطبيقات في الدول المتقدمة.

إلا أن بيئتنا المحلية لا تزال بحاجة –وحاجة ملحّة- إلى تكريسٍ لتلك الحلول والمقاربات التي لن تلغي مسؤولية القضاء إزاء المساهمة في خلق بيئات جاذبة للاستثمار لكنها مع الوعي وتقدم الزمن ستتخلق كجزر متناثرة تشكل دعومات مهمة لمنظومتي القضاء والتجارة كحلول مجدية ومقاربات فعّالة.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت