تطبيقات مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات في المواثيق الدولية الجنائية قبل الحرب العالمية الثانية :

لقد جاءت المواثيق الدولية المهمة التي رسمت السياسة الجنائية متأثرة بنظرية السيادة التقليدية، لكن التطور الذي حصل بمفهوم مبدأ المسؤولية الدولية الجنائية، كان بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تم تجسيد هذا المبدأ بإنشاء لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات لعام ومما خلصت اليه اللجنة، هو النص على جزاءات جنائية لمخالفات القانون الدولي في المستقبل(1) وأوضحت عددا من الوقائع التي تعد انتهاكات لقوانين وعادات الحرب ومبادئ الإنسانية ووضعت في هذا السياق (جريمة) (2). وقررت أن المحاكم الوطنية هي المختصة بالمحاكمة على ارتكاب هذه الجرائم وتطبق عليها قانونها الوطني، ونوهت إلى ضرورة إنشاء محكمة جنائية دولية تسترشد في أحكامها بمبادئ قانون الشعوب ومقتضيات الضمير العام الدولي، إلا أن التقرير المقد من هذه اللجنة تعرض لعدة تحفظات ابرزها جاءت من الوفدين الامريكي والياباني ومن هنا تتجلى نظرية تدخل السياسة بالقانون الدولي(3) ومن هذه التحفظات اعتبارها تنطوي على اهدار صارخ لمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ولقاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية المتولدة عنه، وإنها تنطوي على اخلال بمبدأ السيادة المعترف به لرئيس الدولة والذي يحول اطلاقا دون مساءلته اما هيئة قضائية اجنبية، كما أن حكومة فايمر الالمانية دعمت وجهة نظرها باعتبار أن المحكمة الدولية التي تقرر انشاءؤها تفتقر إلى اساس قانوني دولي يدعمها فهي محكمة استثنائية تطبق بأثر رجعي قانونا استثنائيا (4) يتضح مما تقد أن مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات لم يراعى في هذه المواثيق الدولية بالمفهوم الوارد لهذا المبدأ والِاثار المترتبة عليو في القوانين الجنائية الوطنية والتمسك بمبدأ السيادة التقليدي للدول، وأن جميع محاكمات الحرب العالمية الأولى كانت محاكمات داخلية بحتو ولا تشكل سابقة في القضاء الدولي الجنائي بالمعنى الصحيح .

___________________

1- المحامي اجراءات متابعة مجرمي الحرب في القوانين الداخلية والقانون الدولي الطبعة الأولى منشورات الحلبي الحقوقية بيروت -2014 ص162 وما بعدها.

2- لقد عدت هذه اللجنة (32) جريمة حرب ارتكبها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى وهي (أفعال النصب، وقتل الرهائن، قتل المدنيين، تخريب المراكب التجارية، إغراء الفتيات، الاغتصاب، إبعاد المدنيين وإجبارهم على الإقامة في ظروف غير انسانية، إجبار المدنيين على القيام بعمليات عسكرية، مصادرة الأموال تحصيل الضرائب، الحط من قيمة الأوراق النقدية، الإصدار غير الشرعي للنقد، تخريب المباني الدينية أو التعليمية أو الِاثار التاريخية، تخريب السفن أو قوارب النجدة، ضرب المستشفيات، مخالفة لوائح الصليب الأحمر، استعمال الغازات السامة أو الخانقة، استعمال الرصاص المتفجر، سوء معاملة الأسرى، تسميم الِبار، فرض عقوبات جماعية، تخريب و إتلاف الأموال العامة( ينظر –

د.سليمان عبد الله سليمان المقدمات الأساسية في القانون الدولي الجنائي ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر -1992ص 35.

3- المحامي غضبان حمدي مصدر سابق – ص 167.

4- د. زياد عيتاني المحكمة الجنائية الدولية وتطور القانون الدولي الجنائي منشورات الحلبي الحقوقية بيروت 2009 ص 84وما بعدها.

تطبيقات مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات في المواثيق الدولية الجنائية بعد الحرب العالمية الثانية :

على الرغم من تخلي الحلفاء عن فكرة محاكمة الأشخاص المتهمون بارتكاب جرائم حرب وفكرة المحاكم الجنائية الدولية إلا أن هذه الجهود اسفرت لأول مره عن قاعدة المسؤولية الدولية الجنائية الفردية بإقرار معاهدة فرساي عام 1919 لكنها لم تصبح جزءًا فعليًا من القانون الدولي إلا في الحرب العالمية الثانية لتصبحَ ملاحقةُ مرتكبي الانتهاكات ومحاسبتُهم جزءا من القانون الدولي، ومع النمو المضطرد للتعاون الدولي ضيق كثيرا من نظرية السيادة الوطنية وفي مجال حقوق الإنسان خاصة، بحيث لم تعد هذه الانتهاكات محصنة بمبدأ السيادة (1) ولبيان مدى تطبيق هذه المواثيق لمبدأ قانونية الجرائم والعقوبات يمكن استعراضها بالاتي :

أولاً : اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948: حددت هذه الاتفاقية الافعال التي تم تأثيمها بالقتل أو الحاق اذى جسدي وروحي خطير بأعضاء من الجماعة أو اخضاعهم عمدا لظروف معيشية يراد منها تدميرها كليا أو جزئيا أو فرض تدابير يراد منها الحول دون انجاب الاطفال داخل الجماعة أو نقلهم عنوة إلى الجماعات الاخرى، ويحاكم الاشخاص المتهمون بارتكاب هذه الجرائم اما محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على ارضها أو اما محكمة جزائية دولية(2)

ثانياً : اتفاقيات جنيف لعام1949 لقد تضمنت هذه الاتفاقيات لأول مرة تعدادا لثلاثة عشرة جريمة خطره وكانت على بيل التمثيل وليس الحصر، فهناك جرائم نصت عليها الاتفاقيات الاربعة وهي (القتل العمد، التعذيب، التجارب البيولوجية، احداث الا كبرى مقصودة، الايذاءات الخطيرة ضد السلامة الجسدية والصحية، المعاملة غير الإنسانية) وجريمة اخرى وردت في الاتفاقيات الثلاث الأولى وهي)تخريب الاموال التي لا تبررها الضرورات العسكرية( وجرائم وردت فقط في الاتفاقيتين الثالثة والرابعة وهي )اكراه شخص على الخدمة في القوات المسلحة لدولة عدو، وحرمان الشخص المحمي من حقه في محاكمة قانونية عادلة، وإقصاء الاشخاص ونقلهم من اماكن تواجدهم بصورة غير مشروعة، والاعتقال غير المشروع، وأخذ الرهائن( وجريمة واحدة وردت في الاتفاقيتين الأولى والثانية وهي)سوء استعمال اشارات و علم الصليب الاحمر(3) وأشار البروتوكول الاول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949 إلى تسع جرائم خطيرة لتصبح (22) جريمة خطيرة، وقد اعتبر البروتوكول الانتهاكات الجسيمة للاتفاقيات وهذا البروتوكول جرائم حرب مع عدم الاخلال بتطبيق هذه المواثيق(4) أما ما يتعلق بالأفعال المؤثمة التي تقع اثناء النزاعات المسلحة غير الدولية فقد نصت عليها المادة الثالثة المشتركة والبروتوكول الاضافي الثاني لاتفاقيات جنيف 1949 (5) نلاحظ أن هذه النصوص وردت عامة فلم تشير إلى العقوبات الواجب توقيعها على من ينتهكونها لذلك الزمت هذه الاتفاقيات الدول بسن تشريع يلزم لفرض عقوبات رادعة على الاشخاص الذين يرتكبون أو يأمرون بارتكاب أي من هذه الانتهاكات الخطيرة التي حددتها الاتفاقيات ومن الدول من فعل ذلك ومنها ما لم يفعل لحد الان (6) .

_______________

1- ينظر السفير إبراهيم يسري المراحل والتطورات القضاء الجنائي الدولي والجرائم ضد الإنسانية المركز الدبلوماسي للدراسات وفض المنازعات على الموقع http://rawabetcenter.com/archives/7251 – تاريخ الزيارة 2/6/2015

2- تراجع المواد (2-3-4-7) اتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 .

3- تنظر المادتين(50و 53) من الاتفاقية الأولى والمادتين(44 و 51)ٔ٘ من الاتفاقية الثانية والمادة(130) من الاتفاقية الثالثة والمادة (147) من الاتفاقية الرابعة. وللمزيد ينظر مفيد شهاب دراسات في القانون الدولي الانساني الطبعة الأولى دار المستقبل العربي القاهرة -2000 ص 24.

4- لقد نصت المواد(11و85) من البروتوكول الاول الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949على الجرائم الخطيرة وهي(جعل السكان المدنيين هدفا للهجوم، شن هجوم عشوائي يصيب السكان المدنيين أو الاعيان المدنية، شن هجوم على الاشغال الهندسية أو المنشآت التي تحوي قوة خطرة، اتخاذ المواقع المجردة من وسائل الدفاع أو المناطق المنزوعة السلاح هدفا للهجوم، اتخاذ شخص ما هدفا للهجوم عن معرفة بأنه عاجز عن القتال، قيام دولة الاحتلال بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الاراضي التي تحتلها أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكاف الاراضي المحتلة داخل نطاق تلك الاراضي، كل تأخير لا مبرر له في اعادة اسرى الحرب أو المدنيين إلى اوطانهم، ممارسة التفرقة العنصرية وغيرها من الاساليب المبنية على التمييز العنصري والمنافية للإنسانية والمهينة والتي من شانها النيل من الكرامة الشخصية، شن الهجمات على الاثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي يمكن التعرف عليها بوضوح والتي تمثل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب مما يسفر عنه تدمير بالغ لهذه الاعيان في الوقت الذي لا تكون فيه هذه الاثار وأماكن العبادة في موقع قريب بصورة مباشرة من اهداف عسكرية). وللمزيد يراجع حسين شكر – الفلوجي اتفاقية جنيف الرابعة بشاف حماية الاشخاص المدنيين في وقت الحرب والبروتوكولين الاول و الثاني لسنة 1977 العاتك لصناعة الكتاب الطبعة الثانية القاهرة -2009 ص 145.

5- نصت المادة الثالثة المشتركة(….. ولهذا الغرض تحظر الافعال التالية وتبقى محظورة في جميع الاوقات والأماكن أ. الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وبخاصة القتل بجميع اشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب. ب. اخذ الرهائن. ج. الاعتداء على الكرامة الشخصية وعلى الاخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة. د. اصدار الاحكام وتنفيذ العقوبات دون اجراء محاكمة سابقة اما محكمة مشكلة تشكيلا قانونيا وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة….) ينظر المصدر نفسه ص .٘ والمادة الرابعة الفقرة ثانياً من البروتوكول الاضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف لعام 1949

6- د. مفيد شهاب مصدر سابق ص 76،28.

تطبيقات مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية المؤقتة :

أولاً : ميثاق محكمة نورمبرغ وطوكيو : لقد اشار ميثاق محكمة نورمبرغ إلى محاكمة ومعاقبة الاشخاص الذين ارتكبوا فعلا يدخل في نطام الجرائم ضد الإنسانية وضد السلام وجرائم الحرب واف للمحكمة أف تحكم بعقوبة الاعدام أو في أي عقوبة اخرى تراها مناسبة ومصادرة الاموال المتعلقة بالجريمة(1) وقد واجهت هذه المحكمة العديد من الانتقادات منها تشكيلها من الدول المنتصرة فقط وهذا يعني أن القاضي والخصم واحد كما لا يجوز رد القضاة ومخاصمتهم من قبل المتهمين وهذا يخل بمبادئ العدالة الدولية(2)وكان من بين الدفوعات التي تقد بها الدفاع عن المتهمين أن الدولة صاحبة السيادة هي المسؤولة عن الجرائم الدولية وليس الافراد لأنهم ليسوا من اشخاص القانون الدولي، وكذلك الدفع بعد احترام مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الذي يوجب تطبيقه في القانون الدولي الجنائي وعلى المحكمة احترامه وان الافعال التي وجهت للمتهمين كانت مباحة قبل اتفاقية لندن ولم يكن لها عقوبة محددة، وقد رد هذه الدفع وان كان هذا المبدأ واجب احترامه في القانون الدولي الجنائي إلا أنه يطبق بمرونة اكثر فيما يتعلق بمصادر هذا القانون خصوصاً وأنه حديث النشأة فلا تختصر مصادره على المعاهدات والاتفاقيات الشارعة بل مازال العرف يعتبر أحد مصادره الاساسية، وكذلك الدفع بعد جواز تطبيق قواعد التجريم والعقاب بأثر رجعي واف تطبيقها على افعال ارتكبت قبل نفاذها لا يجوز(3) أما فيما يخص محكمة طوكيو عام 1946فقد واجهت نفس الانتقادات والدفوع التي واجهتها محكمة نورمبرغ ونرى لا ضرورة للتكرار. لا سيما وان الميثاق قد أشار إلى الافعال التي تعد جرائم بنفس النص الوارد في المادة (6ج) من ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية لسنة 1945 (4)

ثانياً : النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا: لقد تجنب واضع والنظام ألأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا صراحةً ، أن يجعلوا منه قانوناً جنائياً مستقلا بذاته، فقد استعاضوا عن ذلك بأن منحوا المحكمة اختصاصاً قضائياً يغطي مجموعة من الجرائم معارفة بصورة عامة، وهي جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وتركوا تحديد مضمون هذه الجرائم إلى القانون الدولي العرفي، وحددت العقوبة بالسجن فقط كما اخذت بمبدأ العفو وتخفيف الاحكام، وأن تنظر المحكمة في تقريرها للحكم الممارسات العامة في محاكم يوغوسلافيا السابقة(5).

أما ما يخص المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا فأن المحكمة تختص بالنظر في جرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والجرائم المنطوية على انتهاك للمادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف لعام 1949والبروتوكول الاضافي الثاني لان نزاع رواندا كان نزاعا داخليا وليس دوليا(6) وأي كاف من امر فإنها محاكم خاصة ومؤقتة تختص بجرائم معينة وتزول ولايتها بعد الانتهاء من مهمتها ويبقى إنشاء مثل هذه المحاكم للمعاقبة عن جرائم انتقائية حصلت قبل انشائها(7) يتضح مما تقد أف مواثيق المحاكم الدولية الجنائية الخاصة أيضاً لم تراعي مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات ودليل ذلك ىو احتجاج الدفاع بهذا المبدأ وآثاره اما محكمة نورمبرغ وكذلك ما يتعلق بمحكمة يوغسلافيا السابقة ورواندا فهما محاكم خاصة مؤقتة انشات للمعاقبة على جرائم وقعت قبل انشائها وهذا يتعارض مع مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات.

________________

1- تنظر المادة(6ج) من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية (نورمبرغ ) اتفاقية لندن المؤرخة في 6 اب 1945

2- د. علي يوسف الشكري القانون الجنائي الدولي في عالم متغير الطبعة الأولى ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع مصر-2005 ص 29 وما بعدها.

3- د. زياد عيتاني المحكمة الجنائية الدولية وتطور القانون الدولي الجنائي منشورات الحلبي الحقوقية بيروت- 2009 ص 95 وما بعدها.

4- تنظر المادة(5ج) من ميثاق المحكمة العسكرية الدولية للشرق الاقصى (طوكيو)لسنة 1946.

5- د. يوسف حسن يوسف المحكمة الدولية الطبعة الأولى المركز القومي للإصدارات القانونية- 2011-ص43 وللمزيد ينظر فاوستو بوآر النظام الأساسي للمحكمة الدولية الجنائية ليوغوسلافيا السابقة مقام منشور على الموقع http://legal.un.org/avl/pdf/ha/icty/icty_a.pdf .

6- ابراهيم محمد العناني المحكمة الجنائية الدولية الطبعة الأولى المجلس الاعلى للثقافة القاهرة 2006ص 19 .

7- د. زياد عيتاني مصدر سابق ص134.

تطبيقات مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات وفقا للنظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة :

يستند اختصاص المحكمة على الجرائم الاشد خطرا، وهي جرائم الابادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية دون أن يشترط ارتباطها بغيرها من الجرائم الدولية كما كانت تشترط لائحة نورمبرغ، أما جرائم العدوان فقد اجل النظر فيها لحين وضع تعريف لهذه الجريمة مع العلم أف الأمم المتحدة قد توصلت إلى التعريف للعدوان بموجب قرار لها صدر عام1977 (1) ونص الميثاق على أن يتم تحديد اركان الجرائم وتعتمد بأغلبية ثلثي اعضاء جمعية الدول الاطراف كما اجاز اقتراح التعديلات على هذه الاركان، وأشار الميثاق ليس للمحكمة اختصاص إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام، وحدد الميثاق القانون الواجب التطبيق في المقا الأول النظام الأساسي للمحكمة، وفي المقام الثاني المعاهدات الواجبة التطبيق ومبادئ القانون الدولي والقانون الدولي للمنازعات المسلحة، وكذلك المبادئ العامة التي تستخلصها المحكمة من القوانين الوطنية في العالم شريطة ألا تتعارض مع النظام الأساسي ولا مع القانون الدولي ولا مع القواعد والمعايير المعترف بها دولياً وأوجب أن يكون تطبيق وتفسير القانون متسقين مع حقوق الإنسان المعترف بها دولياً(2)

وفي الباب الثالث اشار إلى المبادئ العامة للقانون الجنائي مبينا فيه أنه لا جريمة إلا بنص ولا يعاقب أي شخص أدانته المحكمة إلا وفقاً لهذا النظام الأساسي وعد رجعية الأثر على الأشخاص، ومن ثم بين هذا النظام العقوبات الواجبة التطبيق وحددها بالسجن لفترة أقصاها (30) سنة والسجن المؤبد عندما تكوف الجريمة بالغة الخطورة وفرض الغرامة ومصادرة العائدات والممتلكات والأصول المتأتية بصورة مباشرة أو غير مباشرة من الجريمة، وأوضح على المحكمة عند تقريرها للعقوبة أن تراعي خطورة الجريمة والظروف الخاصة للشخص المدان(3) ولم يتم الاشارة صراحة إلى العرف الدولي في نص المادة (21) من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية ولكن عبر عنه (بمبادئ القانون الدولي وقواعده)كما انها أضافت عبارة (بما في ذلك المبادئ المقررة في القانون الدولي للمنازعات المسلحة)وهذه إشارة واضحة للأحكام المقررة في القانون الدولي الإنساني، والعرف الدولي بالطريقة التي ذكر فيها لا يمكن أف يكوف مصدراً للتجريم والعقاب في إطار المحكمة الجنائية الدولية نظراً لأن النظام الاساس حرص على احترام مبدأ الشرعية والنتائج المترتبة عليه، وإنما يمكنها أن تستند عليه في تفسير بعض النصوص الغامضة، ويرى بعض الفقهاء بأن غياب التشريع يجب أن لايجعلنا نتنكر لمبدأ الشرعية في القانون الدولي الجنائي، فالطبيعة العرفية لهذا القانون تعتبر عقبة هامة في وجه المبدأ ولكنها عقبة يمكن التغلب عليها خاصة بعد صدور العديد من المعاهدات الدولية التي تحدد الجرائم الدولية ما جعل البعض يقوم أننا اقتربنا من مبدأ الشرعية المكتوبة حيث بدأ العرف ينكمش ليفسح مجالا واسعاً للمعاهدات و المواثيق التي أخذت تكشف عن هذا العرف الدولي و تقننه. ومما سبق نخلص إلى القول أن الركن الشرعي للجريمة الدولية هو الصفة غير المشروعة للفعل المرتكب في حق الجماعة الدولية، و يشترط لقيامه عنصرين هما وجود مصدر قانوني يجر الواقعة (الفعل أو الامتناع)، و يحدد العقوبة المقررة لهذا الفعل المجر سواء كان هذا المصدر نصاً مكتوباً أو معاهدات أو أعرافاً دولية، أو مبادئ عامة للقانون والعنصر الثاني هو عد خضوع هذا الفعل لأي سبب من الأسباب الإباحة التي تنتفي معها مسؤولية الفاعل(4)

يتضح مما تقدم أن مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات يعتبر من المبادئ الجنائية الأساسية الوطنية والدولية والإقليمية لحماية حقوق الإنسان في الوقت الحاضر، لذلك فمن غير المنطقي استبعاد تطبيقه في مجال القانون الدولي، وتطبيقا لهذا المبدأ، تحصر معظم القوانين الوطنية مصادر التجريم والعقاب في النصوص القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية، أما على المستوى الدولي فلا توجد سلطة تشريعية، تتولى إصدار القوانين، لذلك فإن أحكام القانون الدولي بما فيها احكا القانون الدولي الجنائي تنشأ اما صراحة عن طريق الاتفاقيات أو ضمناً عن طريق العرف، وهذا ما قامت عليه مواثيق المحاكم الدولية المؤقتة، أما النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية فقد جاء اكثر اتساقا مع المبادئ العامة للقوانين الوطنية ولكن لم يصل بعد إلى ما ىو مقرر من مبادئ عامة جنائية في هذه القوانين التي عرفتها الإنسانية وقننتها في قوانينها الداخلية فيما يخص موضوع بحثنا مبدأ قانونية الجرائم والعقوبات لأنها مرت بفترات طويلة من التطور لتصل إلى هذا الحال اما القانون الدولي الجنائي لم يصل بعد إلى هذا المستوى، والذي يعد حديث النشأة قياسا إلى القوانين الجنائية الوطنية للدول.

_____________

1- تراجع المواد(5-6-7-8) من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وللمزيد ينظر د. يوسف حسن يوسف المحكمة الدولية الطبعة الأولى المركز القومي للإصدارات القانونية القاهرة – 2011 – ص 61.

2- راجع المواد (9-11-21) من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

3- راجع المواد (22-77) من النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

80- لعطب بختة المسؤولية الجنائية الدولية لممثلي الدولة اثناء النزاعات المسلحة مذكرة مقدّمة إلى كلية العلوم الإنسانية و العلوم الاجتماعية جامعة ابن خلدون لنيل شهادة الماجستير في العلوم القانونية و الإدارية الجزائر-2007- ص54.

المؤلف : جبار محمد مهدي السعيدي
الكتاب أو المصدر : مجلة العلوم القانونية والسياسية المجلد الرابع – العدد الثاني / 2015

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .