نفاذ الإجراء الصحيح وفقاً لنظام المرافعات الشرعية السعودي .

نفاذ الإجراء الصحيح
فضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن سعد آل خنين

نفاذ الإجراء الصحيح

الحمد لله وحده، والصلاةُ والسلام على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِه.

أما بعد:

فهذا شرحٌ للمادة الثالثة من نظام المرافَعات الشرعية، ونصُّها:

(كل إجراءٍ من إجراءات المرافَعات تم صحيحًا في ظلِّ نظامٍ معمول به، يبقى صحيحًا، ما لَم يُنصَّ على غيرِ ذلك في هذا النظام).

الشرح:

الإجراء في اللغة:

مصدر من الفعل (أجرى)، وأصله (جري) – الجيم والراء والياء – وهو انسياحُ الشيءٍ، ومنه: جرَى الماءُ؛ أي: سال[1].

والمراد به هنا: التصرُّفُ الذي يتَّخذه القاضي، أو أعوانه، أو الخصوم، أو غيرهم ممن لهم تعلُّق بالدعوى لأجل تسييرها وَفْقًا لأحكامها المقرَّرة في المرافَعات، شرعية أو نظامية.

والإجراء هنا ليس هو الشكل، بل الإجراءُ أوسعُ؛ ذلك بأن الإجراءَ عملٌ يجبُ أن تتوفر فيه شروطٌ معيَّنة – كل إجراء بحسَبه – منها الشكلُ الذي يحدِّدُه الشرع أو النظام.

مثال ما يتخذُه القاضي: ضرب مدَّة للخَصم لإحضار بيِّنته.

ومثال ما يتخذُه أعوان القاضي: تبليغ المحضر للخَصم بموعد الجلسة.

ومثال ما يتخذُه الخصوم: حلفُ اليمين؛ فلها إجراءاتٌ شكلية لا بد من الالتزام بها؛ ككونِها في مجلس الحكم، وبطلَبِ الخَصم، وحضوره.

ومثال ما يتخذه غيرُ هؤلاء: شَهادةُ الشاهد؛ فلأدائها إجراءاتٌ شكليَّة لا بد من اتباعها، كأن تكونَ في مجلس الحكم، وإذن القاضي في سماعِها عند البداءة في إلقائِها عليه.

وهذه المادة تعني: أن كلَّ إجراءٍ من إجراءات الدعوى منذ رفعها حتى تمامها بحُكم نهائي، تمَّ صحيحًا في ظلِّ الأنظمةِ السابقة – فإنه يبقى صحيحًا، ولا يبطُلُ شيءٌ منه؛ لأن الأحكامَ لا تنعطفُ، بل يكونُ جريانُها اقتصارًا من نفاذِها.

ودليل ذلك: قولُه – تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، فهذه الآيةُ نزلَتْ بعد نَسْخ القِبْلة من بيتِ المقدس إلى مكةَ المكرمة، وأخبر اللهُ – عز وجل – بأن ما تمَّ مِن صلاة المؤمنين قبْل نَسْخ القِبْلة فهو صحيحٌ معتدٌّ به[2].

وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه قال: “بينما الناسُ بقُبَاء في صلاة الصبحِ، إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قد أُنزِل عليه الليلة قرآنٌ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبةَ فاستقبِلوها، وكانت وجوهُهم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة”[3].

فقد استدار المصلون لَمَّا بلَغهم خبرُ تغيير جهة الكعبة، وبنَوْا على ما مضى من صلاتِهم، فدلَّ ذلك على نفاذ ما تم صحيحًا من أقضيةٍ وإجراءات، وأن ما يستجدُّ من أحكامٍ لا ينعطفُ على ما مضى بالبطلان، بل يقتصر العملُ به على ما يستأنف منها؛ يقول النووي (ت: 676هـ) تعليقًا على هذا الحديث: “وفيه دليلٌ على أن النسخَ لا يثبُتُ في حقِّ المكلَّف حتى يبلُغَه”[4].

وبالله التوفيق، وصلى اللهُ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نُشرت هذه المادة في (مجلة العدل)، العدد (25)، السنة (1426هـ)

لتحميل المادة (PDF) إضغط هنا

[1] مقاييس اللغة 1/448، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 1/97.

[2] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 1/151، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/150.

[3] متفق عليه؛ فقد أخرجه البخاري، واللفظ له 1/157، كتاب الصلاة، باب ما جاء في القِبلة ومن لا يرى الإعادة فصلى إلى غير القبلة 4/1633، كتاب التفسير، باب: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ﴾ [البقرة: 145]، إلى قوله: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145]، 4/1633، وباب: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ﴾ [البقرة: 146]، إلى قوله: ﴿ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [البقرة: 147]، 4/1634، وباب:﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 149]، 6/2648، كتاب التمني، باب ما جاء في إجازة خبرِ الواحد الصَّدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض، وأخرجه مسلم 1/375، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القِبْلة من القُدس إلى الكعبة.

[4] شرح صحيح مسلم 1/90.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت