مدى جواز إعادة المحاكمة عن الجرائم التعزيرية الواقعة من السعوديين في الخارج أمام القضاء الوطني

د. أحمد لطفي السيد مرعي

كلية الحقوق والعلوم السياسية – جامعة الملك سعود

تمهيد :

لاشك أن الخصوصية التي تلازم النظام الجزائي السعودي؛ في شقيه الموضوعي والإجرائي، وتفرده بحلول خاصة في شأن الدعاوى الجزائية، كثيراً ما توقع هذا النظام في صدام مع النظم الوضعية الأخرى. وهنالك يغلب أن يخلف هذا الصدام الكثير من النقد الموجه للسلطات القائمة على أمر هذا النظام، وإلصاق تهم الاعتداء على حقوق الإنسان بحقها.

ومن بين ما قد يوقع هذا الصدام هو قبول المحاكم الوطنية السعودية أحياناً نظر الدعوى الجزائية عن الجرائم الواقعة في الخارج من سعوديين رغم سبق صدور حكم بات بالبراءة عنها من المحاكم الأجنبية، أو حكم بات بالإدانة واستيفاء العقوبة أحياناً لدى جهات التنفيذ التابعة للدولة التي صدر الحكم عن محاكمها.

في رأينا أنه يجب احترام خصوصية النظام الجزائي السعودي إذا أعمل هذا المبدأ في شأن الجرائم الحدية، بحسبان اتصالها بنوع من العقوبات التي فرضتمن قبل المولى عز وجل مقدرة وواجبة لعدوانها على حق من حقوق الله خالص أو على حق مشترك بين الله والعبد ولكن حق الله فيه غالب[1].فالحدود “محظورات شرعية زجر الله عنها بعقوبة مقدرة تجب حقاً لله تعالى”[2]فإنه لا يجوز فيها التبديل لا بالزيادة ولا بالنقص، كما لا يجوز تشديد عقابها أو التخفيف منه، ولا تقبل بطبيعتها السقوط بالعفو لا من قبل الأفراد ولا من الجماعة ولا من القاضي ذاته، وهذا هو عله تعلقها بحق من حقوق الله[3]. فهي ما شرعت من الله إلا لمصلحة المجتمع والناس كافة، ودرءً للفسادعن دار الإسلام عامة.وما يندرج ضمن تلك الطائفة سبع جرائم: حد الزنا، وحد السرقة، وحد الحرابة، وحد القذف، وحد شرب الخمر، وحد الردة، وحد البغي[4]. وتتنوع العقوبات المقررة لهذا النوع من الجرائم بين الرجم، والقتل، والجلد، وقطع الأطراف، والنفي، وعدم قبول الشهادة.

وحيث إن جل الأنظمة الوضعية قد لا تعاقب عن تلك الجرائم بذات النسق الذي تراعيه الشريعة الإسلامية؛ فإنه ليس هناك ما يمنع من إعادة محاكمة السعودي الذي يرتكب جريمة حدية في الخارج، رغم سبق محاكمته عنها في الخارج، وتبرئته منها، أو إدانته واستيفاءه العقوبة الوضعية عنها.

ولدينا أنه يجب تقبل ذات الحل في صدد جرائم القصاص[5]والديه[6]، بحسبانها أيضا نوع من الجرائم المقدرة شرعاً، وهى أيضاً لفظ دال على عقوبات يطلب توقيعها المجنيعليه أو ولي دمه، إذا انصب الاعتداء على حق خالص للعبد أو على حق مشترك بين الله والعباد ولكن حق العبد فيه غالب. وتعلق هذه العقوبات بحقوق العباد يعطيللمجنيعليه أو وليه حق العفو بإسقاط العقوبة[7]. وحيث لا تعرف النظم الوضعية ذات النسق الشرعي عن تلك الجرائم فلنا أن نقبل الخروج على مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين، ولو تمت تبرئة السعودي في الخارج عن تلك الجرائم، أو تمت إدانته واستوفى عقوبته الوضعية.

على أنه مما يتعين إثارته هو مدى اتساق موقف القضاء السعودي في إعادة المحاكمة عن الجرائم التعزيرية التي يرتكبها المواطن السعودي في الخارج، رغم سبق الحكم لصالحه بالبراءة، أو سبق الحكم عليه نهائياً بالإدانة واستيفاءه عقوبته، مع مبادئ المحاكمة المنصفة التي تعارفت عليها النظم الجنائية في عالمنا المعاصر[8]، وسجلتها أيضاً المواثيق الدولية، والتي يأتي في مقدمتها مبدأ حظر محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين Non bis in idem[9].

للإجابة عن هذا التساؤل يتعين أولاً تبيان مفهوم الجرائم التعزيرية، قبل أن نناقش مدى جواز إعادة المحاكمة عن تلك الجرائم، وقبل أن نختتم ببيان رؤيتنا حول ضوابط إعمال مبدأ عدم جواز المحاكمة عن الجرائم التعزيرية المرتكبة من السعوديين في الخارج.

أولاً : مفهوم الجرائم التعزيرية :

في البدء نشير إلى أن التعزير لغة من ألفاظ الأضداد؛ فقد يأتي بمعنى التعظيم والنصرة، ومنه قوله تعالى “لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه”[10]. وقد يقصد به اللوم والمنع والردع، وهو أيضاً بمعنى الإهانة بأشد الضرب ونحوه زجراً وتأديباً، ولذا سمي ضرب ما دون الحد تعزيراً. والتعزير اصطلاحاً يعني نوع الجرائم التي لا حد فيها ولا قصاص ولا كفارة[11]. وسميت عقوبات هذا النوع تعزيراً لأنها من شأنها أن تدفع الجاني وترده عن ارتكاب الجرائم أو العودة لاقترافها[12]. وهى بالجملة عقوبات غير مقدرة تجب حقاً لله تعالى أو لأدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة.

ويقع على ولي الأمر أو القاضي تحديد الجرائم التي يجب فيها التعزير، وتقدير العقاب المناسب لكل منها حسب ظروف المجتمع الإسلامي وما يطرأ على أوضاعه من تطور، ومدى الحاجة لحمايته من أنماط الإجرام الحديث[13].ولعل هذا الدور الذي ترك لولي الأمر أو القاضي في تحديد التطبيقات الأخرى لجرائم التعزير هو الذي أعطى للنظام الجنائي الإسلامي مرونته كي يستوعب كل الاتجاهات الجنائية المعاصرة ويظل صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، وهذا أبلغ دليل على أن هذا النظام إنما وضع في أسسه من لدن عليم حكيم[14].

ولا يفهم من ذلك أن سلطة ولي الأمر أو القاضي مطلقة في تحديد جرائم التعزير. فتلك السلطة تظل مقيدة بما تفرضه مقتضيات المصلحة العامة ومصالح الأفراد. فتلك السلطة يجب ألا تنسحب إلا للعقاب على معصية، أو للعقاب على أفعال تعرض مصلحة الجماعة أو مصلحة آحاد الناس للخطر[15].

والتعزير على المعاصي يوقع لإتيان ما حرمته الشريعة من المحرمات أو لترك ما أوجبته من الواجبات. والمحرمات لها أبواب ثلاثة : فمنها ما فيه حد وقد يلحقه التعزير، كتعليق يد السارق في عنقه ؛ ومنها ما فيه كفارة ويجوز أن يضاف إليها التعزير، كتعزير من وطئ في نهار رمضان أو في الإحرام ؛ ومنها أخيراً ما ليس فيه حد ولا كفارة، وهنا وجب – حسب رأي غالب الفقهاء جوازاً عند الشافعية – على ولي الأمر أن يعزر سواء أكانت معصية لله تعالى أو لحق آدمي[16]، كتعزير من قبل مرأة أجنبية أو اختلى بها، أو شرع في السرقة، أو شرع في الزنا، أو من أتى ما شرع في جنسه حد وسقط لعدم توافر شروط إقامته أو توافرت شبهة درأته، أو أكل ميتة أو لحم خنزير، أو شهد زوراً، وآكل الربا والمقامر، أو من قذف بغير الزنا أو نفي النسب، ومن غش في الموازين، ومن زيف العملة، والراشي والمرتشي والرائش…الخ مما ورد بتجريمه نص قرآني أو سنة مؤكدة. أما التعزير على ترك الموجبات فيتفق الفقه على وجوب تعزير المكلف، كتعزير تارك الصلاة أو الزكاة، أو كحبس المدين المماطل مع القدرة…الخ[17]. يبين من ذلك أن السلطان أو من ينيبه ليس مطلق السلطة في التجريم، بل هو مقيد في ألا يعزر إلا على الأفعال التي اعتبرها الشارع الحكيم من قبيل المعاصي[18].

أما التعزير للمصلحة العامة؛ فقد فرض لأفعال لم تحرم لذواتها وإنما حرمت لأوصافها، دون أن يشترط في الفعل المحرم أن يصل لحد المعصية. ولذلك لا يكون الفعل جريمة إلا إذا توافر فيه وصف معين وإن تخلف عنه هذا الوصف فيظل مباحاً. ويتصل هذا الوصف بالإضرار بالمصلحة العامة (مخالفة النظام العام). ولاشك أن الأفعال التي تدخل تحت هذا الوصف لا يمكن حصرها مقدماً، ومنها الجرائم السياسية وتقليد العملة والتهريب الجمركي والجرائم الاقتصادية والاتجار بالمخدرات. بيد أن سلطة ولي الأمر في تحديد ما يعتبر جرائم في هذه الحالة والتعزير عليها ليست مطلقة هى الأخرى، بل يقيدها وجوب اتصاف الفعل بأنه ماس بالنظام العام أو المصلحة الاجتماعية، ويستقى ذلك من ضرورات الإسلام الخمس التي شرعت العقوبات كافة من أجل الحفاظ عليها وهى : حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العقل، وأخيراً حفظ النسل[19].

واستطلاع جل ما يوصف في النظام الجنائي السعودي بالجرائم التعزيرية يجعلنا نوقن بتماثلها مع التجريمات التي تسود الأنظمة الجنائية الوضعية، بل لا نغالي إذا قلنا أن السلطة التنظيمية في المملكة أصبحت تستقي الأنماط العقابية المتعارف عليها في التشريعات الوضعية بين أنظمتها المتعلقة بالجرائم التعزيرية. وهنا يجب السؤال حول مدى وجوب تقييد القاضي السعودي بمبدأ عدم جواز نظر الدعوى بشأن الجرائم التعزيرية التي تقع من السعوديين في الخارج، إذا ما ثبتت براءتهم مما أسند إليهم بحكم نهائي، أو تمت معاقبتهم نهائياً واستوفوا عقابهم في الخارج ؟

ثانياً : مدى جواز إعادة المحاكمة عن الجرائم التعزيرية :

الحق أن إشكالية إعادة نظر الدعوى الجزائية عن ذات الجرم التعزيري رغم سبق صدور حكم نهائي بشأنه ليست قاصرة على الجرائم التي تقع من سعوديين في الخارج، ذلك أنه قد أطلت علينا حالات تم فيها ذلك عن جرائم وقعت على الإقليم السعودي بين الوطنين. فقد طالعتنا الصحف منذ أشهر قليلة[20]بخبر يفيد أن محكمة الرس العامة كانت قد أصدرت في قضية حق عام (جريمة أخلاقية مع حدث) حكماً ضد شخص بالسجن أربعة أشهر والجلدتسعين جلدة، وبعد استيفاء الحكم ومرور سنة من ممارسة المحكوم عليه لحياته الطبيعية واستقامة سلوكه استدعته المحكمة مرة أخرى، ولنفس القضية، وأصدرت بحقه حكماًآخر تمثل في سجنه أربع سنوات وجلده سبعمائة جلدة.

إن هذه الإشكالية على المستوى الوطني، وعلى ما فيها من مساس عظيم بقواعد العدالة، قد لا تثير إزعاجاً شديداً بحسبان أن حلولها تتجسد في ضرورة التزام المحاكم بالقواعد التي تضمنها نظام الإجراءات الجزائية، وخاصة ما جاء بالمادة الثانية والعشرين، التي نصت على حالة صدور حكم نهائي كإحدى الحالات التي تنقضي بها الدعوى الجزائيةالعامة. مما مؤداه أن صدور حكم قضائي بات واستكماله كافة مراحل الطعن القضائية ينهي الدعوى برمتها ويعطي الحكم ما يعرف بحجية الأمر المقضي، بحيث تمتنع ملاحقة المتهمقضائياً بذات التهم التي حوكم عليها[21]. وهذا ما كشفت عنه أيضاً المادة السابعة والثمانون بعد المائة من نظام الإجراءات الجزائية بقولها “متى صدر حكم في موضوع الدعوى الجزائية بالإدانة، أو عدم الإدانة بالنسبة إلىمتهم معين فانه لا يجوز بعد ذلك أن ترفع دعوى جزائية أخرى ضد هذا المتهم عن الأفعالوالوقائع نفسها التي صدر بشأنها الحكم. وإذا رفعت دعوى جزائية أخرى فيتمسك بالحكم السابق في أي حالة كانت عليها الدعوىالأخيرة، ولو أمام محكمة التمييز، ويجب على المحكمة أن تراعي ذلك ولو لم يتمسك بهالخصوم، ويثبت الحكم السابق بتقديم صورة رسمية منه أو شهادة من المحكمة بصدده”[22].

وليست خافية تلك العلة التي من أجلها شرعت قاعدة حجية الشيء المحكوم فيه وكون الحكم عنواناً للحقيقة كما ثبتت أمام القضاء، وهى بلا شك حماية الحرية الفردية والاستقرار القانوني. فهدم حجية الأحكام بعد سبق صدور حكم نهائي بالبراءة أو الإدانة لا يمكن معه تصور أي حكم قضائي جنائييتصف باللانهائية، الأمر الذي يزعزع الاستقرار القضائي ويطيل أمد الخصومة القضائية.

ومن المعلوم أن نطاق تلك القاعدة يقتصر على الأحوال التي تكون فيها الواقعة التي سبق الحكم فيها على الشخص هى بعينها الواقعة المطروحة أمام الدائرة سبباً وخصوماً وموضوعاً. ولا يجوز بحال إعادة المحاكمة مرة أخرى عن ذات الواقعة ولو تحت وصف جرمي آخر، ويتعين القضاء بعدم جواز نظر الدعوى لسبق الفصل فيها إذا ما توافرت شروط الحجية تلك.

غير أن التساؤل يظل قائماً بشأن مقبولية الدعاوى التي ترفع أمام القضاء الوطني عن تلك الجرائم التعزيرية التي تقع من السعوديين في الخارج، والتي يكون قد صدر من القضاء الأجنبي بشأنها حكم نهائي ببراءة المتهم، أو بإدانته ويكون قد استوفى عقوبته في الخارج.

أولاً يتعين الإشارة إلى أن مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين لا يسري – وفقاً لبعض القواعد الدولية – إلا بشأن الجرائم الخاضعة لذات الولاية القضائية، أي الجرائم الواقعة في الداخل، مما مؤداه أنه لا معقب على قضاء المملكة إن هو نظر من جديد في أي دعوى يكون قد صدر عنها حكم بالبراءة أو الإدانة من قضاء أجنبي، متى كانت تلك الدعوى خاضعة لولايته طبقاً لقواعد الاختصاص المعمول بها في المملكة. ودليلنا في ذلك نص الفقرة الأولى من المادة الرابعة من البروتوكول السابع للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان[23]القائل بأنه “لا يجوز تعريض أحد للمحاكمة أو العقاب مجدداً في إجراءات جنائية في نطاق الولاية القضائية لنفس الدولة على جريمة سبق أن برئ منها أو أدين بها بحكم نهائي وفقاً للقانون والإجراءات الجزائية في الدولة”[24].

وتلمح لذات القاعدة المادة 14(7) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تنص على أنه “لا يجوز تعريض أحد مجدداً للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برئمنها بحكم نهائي وفقا للقانون وللإجراءات الجنائية في كل بلد”.

ووفقاً للقواعد التي أقرتها اللجنة المعنية بحقوق الإنسان بشأن قواعد المحاكمة المنصفة فإن حظر تكرار المحاكمة لا يسري إلا بعد صدور حكم نهائي بالإدانة أو البراءة طبقاً لقوانين الدولة والإجراءات المعمول بها فيها، أي بعد الاستنفاد النهائي لجميع المراجعات والاستئنافات القضائية وانقضاء المهلة الزمنية المحددة لإجراء هذه المراجعة القضائية ورفع دعاوى الاستئناف. ولا يُنتهك هذا المبدأ عند محاكمة نفس المتهم فيما بعد عن جريمة أخرى، أو عن ذات الجريمة ولكن في ظل ولاية قضائية أخرى.

وهكذا اعتبرت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان أن هذا المبدأ لم يُنتهك في حالة مواطن إيطالي حاكمته السلطات الإيطالية بعد أن صدر عليه حكم إدانة نهائي في سويسرا على نفس الأفعال ؛ لأن “اللجنة قد لاحظت أن هذا الحكم لا يحظر إلا تكرار المحاكمة على نفس التهمة في نفس الدولة[25]”.

كما أن استطلاع المادة العاشرة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة، والمادة التاسعة من النظام الأساسي للمحاكمة عن الجرائم ضد الإنسانية الواقعة على الإقليم الرواندي، وكذلك المادة العشرون من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، تقطع بأن القضاء الجنائي الدولي يجيز مسالة إعادة المحاكمة عن ذات الفعل مرتينطالما تم ذلك في إطار ولاية قضائية مغايرة . فتلك النصوص تسمح بتقديم الأشخاص الذين حوكموا بالفعل أمام المحاكم الوطنية على أفعال تشكل انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني مرة أخرى للمحاكمة أمام المحاكم الدولية، إذا كان الفعل الذي حوكم بسببه المتهم أمام المحكمة الوطنية موصف بأنه جريمة عادية (في مقابل توصيفها كانتهاك خطير للقانون الإنساني)، أو إذا لم تكن إجراءات نظر الدعوى أمام المحكمة الوطنية مستقلة أو محايدة، أو إذا كانت الإجراءات المتبعة في المحكمة الوطنية معدة لحماية المتهم من المساءلة الجنائية الدولية، أو في حالة الإبطاء في نظر الدعوى أمام المحكمة الوطنية.

إلا أننا نرى وجوب انتهاج القضاء السعودي لمبدأ عدم جواز نظر الدعاوى التي ترفع بشأن جرائم تعزيرية وقعت في الخارج وقضي في شأنها بحكم نهائي بالبراءة، أو قضي بالإدانة واستوفى الجاني عقوبته في الخارج، وذلك للأسباب التالية :

1- مبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين هو مبدأ إسلامي النسب ولا ينفك عن صحيح الشرع؛ فقد جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “من أذنب في الدنيا ذنباً فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده”[26]. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال “ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فلأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”[27].وقد جاء في كتاب أدب القاضي للخصاف أن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة كانوا لا يردون القضاء الأول إذا أدى اجتهادهم في الثاني إلى خلافه[28].

2- أن من الفقهاء المسلمين، وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة[29]، من أجاز تعطيل تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على الجرائم، ولو كانت حدية، التي يرتكبها المسلم أو الذمي خارج دار الإسلام، سواء وقعت من شخص مقيم في دار الإسلام ثم سافر إلى دار الحرب وعاد، أو وقعت من شخص كان يقيم في دار الحرب ثم أقام بعد ذلك في دار الإسلام. لأن المسالة عند هذا الجانب من الفقه ليست مسالة التزام المسلم أو الذمي بأحكام الإسلام أينما كان مقامه، وإنما هي واجب الإمام في إقامة الحد ولا يجب على الإمام أن يقيم الحد أو العقوبة إلا وهو قادر على الإقامة ؛ لأن الوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على من يرتكب جريمة في دار الحرب أثناء ارتكابها؛ فإذا انعدمت القدرة لم تجب العقوبة. معنى ذلك أن القضاء بالعقوبة يقتضي الولاية على محل الجريمة وقت ارتكاب الجريمة.

3- توافق هذا المبدأ – حال صدور حكم نهائي بالبراءة – مع القاعدة الشرعية التي توجب أن الأصل براءة الذمة، تلك القاعدة التي يتسع مجال تطبيقها ليشمل ليس فقط المجال الجنائي، بل كافة فروع القانون المختلفة[30]. واستمرار في ملاحقة الشخص مرة أخرى أمام القضاء الوطني بعد سبق تبرئته أمام القضاء الأجنبي هو تغليب للظن على حق تأكد، بما يعارض قول ربنا عز وجل “وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ “[31]، وقوله عز من قائل “وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا”[32]. والأصل إذاً استدامة إثبات ما كان منفياً أو نفي ما كان منفياً، أي بقاء الحكم إثباتا ونفياً حتى ينهض الدليل المغير[33].

4- أن اتخاذ إجراءات جنائية من جديد بشأن الفعل الذي تمت عنه المحاكمة في الخارج يحتاج إلى اتخاذ تدابير إجرائية مكلفة؛ فقد يحتاج الأمر إلى انتقال المحققين والخبراء لمعاينة موقع الجريمة في الخارج، وقد تتلف الأدلة بمرور الوقت على المحاكمة السابقة.

5- اتساق هذا المبدأ مع بعض الاتفاقيات الدولية التي تأخذ بهذا المبدأ على إطلاقه حتى في حالة اختلاف الولاية القضائية. فالمادة الثامنة من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان تقرر في فقرتها الرابعة حكماً يغاير ما جاء في “العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية” و”البروتوكول السابع للاتفاقية الأوروبية” إذ تنص على أنه “لا يجوز تعريض أحد لمحاكمة جديدة على نفس السبب إذا صدر حكم ببراءته غير قابل للاستئناف.” أي أن تلك الاتفاقية تحظر إجراء محاكمة جديدة “لنفس السبب”.

ومعنى هذا أن الحظر ينطبق عندما تتصل التهم بنفس الموضوع أو نفس الوقائع، حتى وإن كانت التهم الجديدة مختلفة عن التهم السابقة. وبموجب الاتفاقية الأمريكية؛ فإن حق الفرد ينتهك بموجب المادة 8(4)، حتى وإن صدر عليه الحكم بالبراءة لمجرد أن الدعوى القضائية أقيمت عليه من جديد حتى ولو كانت أمام جهة قضائية في بلد أخر.

وكذلك فإن المادة السادسة عشر من الميثاق العربي لحقوق الإنسان تقضي بأنه “لا تجوز محاكمة شخص عن جرم واحد مرتين ولمن تتخذ ضده هذه الإجراءات أن يطعن في شرعيتها ويطلب الإفراج عنه ولمن كان ضحية القبض أو الإيقاف بشكل غير قانونيالحق في التعويض”.

6- أن الوطني في الخارج – وخاصة في شأن الجرائم التعزيرية – مكلف بإتباع ما تأمر به القوانين التي يعيش في كنفها، وإلزامه بمراعاة سلم القيم الخاص بوطنه والبلد التي يعيش في رحابها معاً قد يكون فيه من المشقة والعسر.

7- إن الجزاء الجنائي يستهدف وفق النظم العقابية المعاصرة الإصلاح والتهذيب قبل أن يرمي إلى الردع والإيلام، ويتعذر الوصول لهذه الغايات إذا ألصقنا اتهاماً جديداً بشخص سبقت تبرئته عن ذات الجرم، أو كان قد أدين واستوفى العقاب الذي يراه القاضي كافياً لإصلاحه وتهذيبه.

8- اتساق هذا التوجه مع ما أخذت به التشريعات العربية[34]والغربية[35]من وجوب تقييد مبدأ الشخصية الإيجابية، والذي مؤداه جواز إقامة الدعوى الجزائية عن الجرائم التي يرتكبها الوطني في الخارج إذا عاد إلى البلاد وكان الفعل معاقباً عليه بمقتضى أحكام القانون الوطني وقانون الدولة التي وقع الفعل على أراضيها[36]، بضرورة ألا يكون قد سبقت تبرئة الوطني من قبل المحاكم الأجنبية مما أسند إليه أو أنها حكمت عليه نهائياً واستوفى عقوبته.

ثالثاً : ضوابط إعمال مبدأ عدم جواز إعادة المحاكمة عن الجرائم التعزيرية :

إن تقييد القضاء السعودي – سيراً على نسق النظم الوضعية – بعدم جواز إقامة الدعوى الجزائية عن الجريمة التعزيرية الواقعة من السعودي في الخارج، والذي يثبت أن المحاكم الأجنبية قد برأته مما أسند إليه، أو أنها حكمت عليه نهائياً واستوفى عقوبته، لا ينطوي في الحقيقة على اعتراف للحكم الجنائي الأجنبي بأية قوة تنفيذية، وإنما ينحصر أثره في مجرد منع إقامة الدعوى الجزائية ثانية ضد مرتكب الجريمة في الخارج، إذا حوكم أمام المحاكم الأجنبية وقضت نهائياً ببراءته أو بإدانته واستوفى عقوبته.

ويلاحظ أن هذا القيد لا ينطبق إلا بشأن الجريمة المرتكبة في الخارج، أما إذا كانت الجريمة قد ارتكبت في المملكة وفر مرتكبها إلى الخارج، وحوكم هناك، وقضي ببراءته، أو قضي عليه بالعقوبة واستوفاها؛ فإن هذا الحكم يجب ألا يكون له أي مفعول، بحيث لا يحول بين السلطات القضائية وبين إقامة الدعوى الجزائية ثانيةً ضد مرتكب تلك الجريمة، وطنياً كان أو أجنبياً، وذلك احتراماً لمبدأ إقليمية القوانين الجنائية، الذي تفرضه أصول السيادة الوطنية.

على أنه يستوي في رأينا لإعمال هذا القيد أن يصدر الحكم في الخارج من ذات محكمة الدولة التي وقعت الجريمة على أراضيها، أو أي محكمة أجنبية أخرى، ولو لم تكن هي صاحبة الولاية الأصلية في نظر الجريمة من حيث مكان ارتكاب الجريمة.

على أنه يجب أن يشترط في الحكم الصادر من المحاكم الأجنبية، الذي يكون مانعاً من رفع الدعوى الجنائية أمام المحاكم السعودية، أن يكون “نهائياً”، أي غير قابل للطعن بأي طريقة من طرق الطعن وفقاً لقانون الدولة التي أصدرت محاكمها هذا الحكم. ويتعين أن يكون الحكم “نهائياً” سواء أكان الحكم ببراءة المتهم أو الحكم بإدانته. ويشترط أيضاً أن يكون الحكم فاصلاً في الموضوع صادراً بالبراءة أو بالإدانة؛ فإذا كان الحكم صادراً قبل الفصل في الموضوع، كالحكم بعدم الاختصاص أو بعدم القبول، أو بانقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة أو بالعفو الشامل؛ فإنه لا يحول دون تحريك الدعوى الجنائية من جديد في المملكة. وكذلك الشأن إذا حفظت الدعوى أو صدر فيها أمراً بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية أياً كان سببه. وبناء على ذلك ينحصر المنع من إقامة الدعوى حالما يحكم ببراءة المتهم أو بإدانته.

ولا صعوبة إذا كان الحكم بالبراءة مؤسس على أسباب موضوعية، كعدم ثبوت الواقعة أو عدم نسبتها إلى المتهم أو عدم كفاية الأدلة؛ ففي هذه الحالات يكون لحكم البراءة أثره في عدم جواز محاكمة المتهم. إنما تثور الصعوبة إذا كانت البراءة مؤسسة على أسباب قانونية كعدم العقاب على الفعل، أو لعدم توافر أركان الجريمة، أو لقيام مانع من موانع العقاب. ولدينا أن الحكم الصادر بالبراءة لعدم النص على الفعل طبقاً للقانون الأجنبي لا يحول دون إعادة محاكمة المتهم عن الجرائم التعزيرية التي تمس المملكة بذاتها، كجرائم تزييف العملة وخاتم الدولة وجرائم العدوان على أمن المملكة؛ فالأعراف القانونية لا تشترط لإمكان العقاب على تلك الأفعال أن يكون الفعل معاقباً عليه في الخارج. ويرجع عدم الاعتداد بالبراءة أن تلك الجرائم قد لا تكون جريمة في التشريعات الأجنبية. أما إذا كانت محاكمة المتهم استناداً إلى مبدأ الشخصية فإن الحكم الأجنبي بالبراءة يجب أن يحول دون إعادة محاكمة المتهم، إذ أن مما تتعارف عليه القوانين للعقاب وفق هذا المبدأ أن تكون الجريمة معاقباً عليها في القانون المصري والأجنبي، وبراءة المتهم تعني تخلف شرط من شروط تطبيق الأحكام العقابية.

ونرى أنه إذا كان الحكم في الخارج صادراً بالإدانة؛ فلا يؤثر أن يكون الجزاء الجنائي المقضي به، سواء كان عقوبة أو تدبيراً عقابياً، مما لا يعرفه النظام الجزائي السعودي، أو بدرجة جسامة لا تتناسب والجزاء المقرر فيه، أو أن يكون وصف الجريمة في القانون الأجنبي أقل خطورة من وصفها في القانون السعودي. وعلة ذلك أن غاية العقاب التعزيري هو الزجر والإصلاح، وهذه أهداف تراعيها النظم الوضعية وفق حالة كل جاني وظروفه الشخصية والاجتماعية.

على أننا نرى – واتساقاً مع المعمول به في النظم الوضعية – أنه لا يكون للحكم الصادر بالإدانة هذه القوة المانعة من رفع الدعوى الجزائية في المملكة من جديد إلا إذا كان المحكوم عليه قد استوفى العقوبة المحكوم بها عليه كاملة. وعلة استلزام هذا الشرط هي عدم تمكين المحكوم عليه من الإفلات من العقاب. فإذا لم تكن قد نفذت عليه، أو كان قد نفذ جزءاً منها فقط؛ فلا يتوافر شرط استيفاء العقوبة، ويجوز إعادة محاكمته، والحكم عليه في الجريمة ثانيةً في المملكة.

ويجب في رأينا تقدير ما إذا كان المحكوم عليه قد استوفى العقوبة أم لا وفقاً لأحكام القانون الأجنبي الذي صدرت العقوبة ونفذت بالتطبيق لأحكامه. كما نرى أنه لا يحول دون هذا الاستيفاء أن يفرج عن المحكوم عليه طبقاً لقواعد الإفراج الشرطي.

ولدينا كذلك أن تقادم العقوبة أو العفو عنها، هو في حكم تنفيذها قانوناً، ومن ثم يعتبر مانعاً من رفع الدعوى ثانيةً في المملكة، استناداً إلى جواز القياس فيما هو في صالح المتهم . كذلك إذا كان الحكم صادراً بالعقوبة مع وقف التنفيذ وانقضت فترة وقف التنفيذ دون إلغاء الحكم، ذلك أن انقضاء تلك المدة يؤدي إلى اعتبار حكم الإدانة كأن لم يكن مما يتعين معه قياسه على حكم البراءة، وهو قياس مباح في مجال الإباحة والتخفيف.

“اللهم اجعل هذا العمل خالصاً لوجهك الكريم،

[1]راجع في تعريف جرائم الحدود، الإمام محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، دار الفكر العربي، 1976، ص 55 وما بعدها، عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، ج5، المكتبة العصرية، بيروت، ص1107 وما بعدها، شرح فتح القدير لابن الهمام، المرجع السابق، ج4، ص 112، البحر الرائقشرح كنز الدقائق، لزين العابدينبن إبراهيم بن محمد بن نجم المصري، ج5، دار الكتب العربية الكبرى، القاهرة، بدون تاريخ، ص2 وما بعدها.

[2]بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي (الشهير بالكاساني)، دار الكتاب العربي، بيروت، ط2، 1402هـ، ج7، ص33، ص56.

[3]د. عبد الرحمن عبد العزيز الداود، العقوبات في الإسلام، الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، كلية العلوم الشرعية، الرياض، 1392-1393 هـ، ص140 وما بعدها.

[4]وهناك خلاف حول طبيعة جرائم البغي والردة وشرب الخمر؛ فهناك من يرى أنها من جرائم التعزير دون الحدود، غير أن مذهب الجمهور يرى اعتبارها من النوع الأخير راجع، عبد القادر عودة، المرجع السابق، ج1، ص79، الشيخ محمود شلتوت، المرجع السابق، ص300 وما بعدها، د. محمد سليم العوا، المرجع السابق، ص155 وما بعدها، عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة، المرجع السابق، ص1112. وقد بوب هذا المرجع الأخير البغي والحرابة والردة في قسم مستقل أعقب الحدود المتفق عليها والقصاص سابقاً ذلك على تناوله للتعازير، كما جعل شرب الخمر من قبيل الحدود.

[5]القصاص لغة يقصد به التتبع آت من قص الأثر، ومنه قوله تعالى “فارتدا على أثارهما قصصًا”، سورة الكهف، الآية 64. ويسمى أيضاً قوداً؛ فيقال أقاد القاتل (بفتح اللام) أي قتله به، واستقاد ولي الدم الحاكم، أي سأله أن يقيد القاتل بالقتيل. راجع مختار الصحاح، مادة قود. والقصاص أيضاً المساواة بين جانبي الشيء، ومن هذا جاء معناه الاصطلاحي الذي يقصد به المساواة بين الجريمة والعقوبة، أي إنزال عقاب بالجاني مكافئ لجنايته. راجع، د. محفوظ إبراهيم فرج، العقوبة في التشريع الإسلامي، دار الاعتصام، القاهرة، 1983، ص113 وما بعدها، الشيخ أحمد الشرباصي، القصاص في الإسلام، القاهرة، 1954، ص 13 وما بعدها. والقصاص عقوبة مقدرة حال توافر إحدى الحالتين الآتيتين : 1- القتل العمد :أي الاعتداء الذي يقصد به الجاني إزهاق روح إنسان أخر وذلك باستعمال أداة من شأنها أن تؤدي إلي ذلك في الغالب كالسكين والرمح…الخ.وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة في تعريف القتل العمد، بحيث إذا لم تكن الآلة مما يقتل غالباً فالقتل شبه عمد. أما المالكية فيعرفونه بأنه تسبب الشخص في إزهاق روح آخر بفعل أو ترك متعمد، موجه إلى شخص حي، سواء أكان بقصد العدوان عليه أم كان الفعل أو الترك من شأنه بالضرورة إحداث الموت. فلا اعتبار في الأصل لديهم للآلة التي أزهقت الروح. انظر المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج9، ص400، عبد القادر عودة، المرجع السابق، ج2، ص26 وما بعدها، د. محمد سليم العوا، المرجع السابق، ص291، السيد سابق؛ فقه السنة، ج3، المكتبة العصرية، بيروت، ص17.لمزيد من التفصيل، عبد الرحمن الجزيري، المرجع السابق، ص1234 وما بعدها.2- الجناية على ما دون النفس عمدا :ويقصد بذلك كل أنواع الضرب والإيذاء المقصود والتي تصل إلى حد القتل العمد أو شبه العمد.مثال ذلك حالات بتر الأطراف أو فقد عضو بالجسم كالأذن أو العين أو التذوق …الخ.

[6]الديةعبارة عن المقدار المالي الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها يؤدى على سبيل العقوبة والتعويض.فالدية عقوبة لأن الحكم بها غير متوقف على طلب المجني عليه ولا وليه. وللدية صبغة التعويض لكونها تدخل ذمة المجني عليه أو ورثته لا خزانة الدولة أو بيت المال، ولكونها تسقط بتنازل المجني عليه، ولكون مقدارها يتوقف على جسامة الضرر[6].وقد ثبت مقدار الدية بالسنة النبوية. وأصول هذا المقدار المالي في أغلب الفقه الإسلامي واحد من ستة أجناس، هي الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، والحلل. راجع، المغني والشرح الكبير لابن قدامة، ج9، ص481، بداية المجتهد ونهاية المقتصد للقرطبي، المرجع السابق، ص531. والدية قد تكون عقوبة بديلة، وقد تكون هي العقوبة الأصلية. فهي عقوبة بديلة في حالة القتل العمد الذي لا قصاص فيه لتنازل أولياء المجني عليه عن طلبه واتفاقهم على الدية. ويعدل إلى الدية، ولو كان القصاص ممكنناً، إذا نزل المجني عليه أو وليه عن القصاص في حالة الاعتداء عمداً على ما دون النفس. ويعدل كذلك إلى الدية إذا صعب القصاص لتعذر المساواة أو المماثلة في الجروح بسبب طبيعة الجرح الذي أصاب المجني عليه والخشية إذا ما طبق القصاص أن يتم تجاوز مقداره المطلوب. وتكون الدية عقوبة أصلية في الجرائم الآتية : 1- القتل شبه العمد :أي الاعتداء بما لا يقتل عادة والذي يقصد به الجاني الضرب أو الجرح دون إزهاقالروح ولكنه يفضى إلى ذلك. 2- القتل الخطأ :وهو الذي لا تنصرف فيه إرادة الجانيإلى العدوان إطلاقاً. وهو على ثلاثة أنواع : إما الخطأ في القصد، كأن يرمى إنسان شيئاً يظنه صيداًأو نحوهفإذا هو إنسان، وإما الخطأ في الفعل، كأن يرميإنسان صيداً فيخطئه ويصيب إنسان، وإما الخطأ بالتسبب، كمن يحفر حفره في طريق للأغراض الصرف مثلاًفيسقط فيها أحد المارة فيموت. 3- الجناية على ما دون النفس خطأ : ويقصدبهذا النوع من الجرائم كل إيذاء بالضرب ونحوه يمس بسلامة الجسم أو عضو من أعضائه دون توافر القصد في الإيذاء.ولا قصاص في تلك الأفعال من الإيذاء، مما يوجب الدية فقط، والتي يختلفمقدارها حسب جسامة الضرر الناشئ عن الجناية.

[7]د. محمد سليم العوا، المرجع السابق، ص281، د. عبد الرحمن عبد العزيز الداود، المرجع السابق، ص168.

[8]في بيان لتلك القواعد، د. محمد محي الدين عوض، الحق في العدالة الجنائية، مقال منشور بين أعمال أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية حول “حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، ج2، الرياض، 1422هـ، ص508 وما بعدها.

[9]وهكذا يخرج من سياق العرض تلك الجرائم التي تقع بين السعوديين دون أن تتم عنها في الخارج، أو تتم عنها المحاكمة دون أن يصدر حكماً نهائياً، أو يصدر هذا الحكم بالإدانة ولا يستوفي الجاني عقوبته في الخارج.

[10]سورة الفتح، الآية 9.

[11]راجع في تقسيم جرائم التعزير، د. عبد الفتاح خضر، التعزير، ضوابطه وتطبيقاته في المملكة العربية السعودية، مجلة الإدارة العامة، مجلد 34، ع1، محرم 1415 هـ، ص100 وما بعدها. وفي مزيد من التعريفات بشأن التعازير محمد عبد الله الشهراني، التعزير : نشأته وتطوره وبعض تطبيقاته في المملكة العربية السعودية، رسالة ماجستير، جامعة الملك سعود، الرياض، 1981.

[12]في ذات المعنى، الشيخ محمود شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، ط4، دار الشروق، القاهرة، 1964، ص211 وما بعدها، عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الربعة، ج5، المكتبة العصرية، بيروت، ص1327 وما بعدها. ويقول كمال الدين بن محمد بن عبد الواحد السيواسي (الشهير بابن الهمام)في مؤلفه شرح فتح القدير:”العقوبات موانع قبل الفعل زواجر بعده”، المرجع السابق، جـ4، ص12؛ فتح القدير ،المرجع السابق، ج7، ص119، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، المرجع السابق، ج7، ص172، الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي، المرجع السابق، ص224، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية، ص132 وما بعدها، د. علي أحمد مرعي ود. المرسي عبد العزيز السماحي، من هدي الفرقان في تفسير آيات الأحكام، مطبعة أخوة الأشقاء، القاهرة، 1995، ص356.

[13]ولا يمكن الافتئات على الشريعة الإسلامية بالقول بأنها قد أهدرت مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات في باب التعزير حين سمحت لولي الأمر أو القضاء بقدر من السلطة في مقام التجريم والعقاب وفقاً لتبدل ظروف الزمان والمكان. فالحق أن ولي الأمر أو القاضي حين منح تلك السلطة فهو غير طليق من قيد، وإنما يحده المبادئ الكلية للشريعة، المستقاة من القرآن أو السنة. ويحده أيضاً ما اتفق عليه أهل الفقه من أن التعزير من قبل السلطة التنظيمية أو القضاء لا يتقرر إلا على المعاصي، أو على الأفعال الماسة بالمصلحة العامة أو مصالح الأفراد. كما أن على السلطة التنظيمية حين تتدخل بالتجريم في مقام التعزير فإن عليها أن تلتزم بما يجب للقاعدة النظامية من عمومية وتجريد.

[14]في هذا المعنى، عبد الرحمن الجزيري، المرجع السابق، ص1328.

[15]وهناك قسم ثالث محل خلاف في الفقه وهو التعزير على المخالفات، أي التعزير على ترك المندوب وإتيان المكروه. ومن الفقهاء من يرى التعزير في تلك الحالة استناداً إلى أن المندوب أمر لا تخيير فيه فهو إذن تكليف، وأن المكروه نهي لا تخيير فيه فهو أيضاً كذلك. وممن يرون وجوب التعزير في تلك الحالة يؤكدون على وجوب الإصرار على المخالفة والاعتياد عليها من أجل استحقاق التعزير، ومنهم من يوجب أن يكون في المخالفة مساس بالمصلحة العامة. راجع الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي، المرجع السابق، ص312. وراجع في تفصيل ذلك، عبد القادر عودة، المرجع السابق، ج1، ص126 وما بعدها، ص153 وما بعدها، د. عبد الفتاح الصيفي، الأحكام العامة للنظام الجنائي، ط1، الرياض، 1995، ص93-94.

[16]راجع، المهذب، للأبي اسحق الشيرازي، ج2، القاهرة، مطبعة عيسى الحلبي، 1389هـ، ص306 وما بعدها، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لبرهان الدين إبراهيم بن الأمام شمس الدين علي بن محمد (الشهير بابن فرحون)، ج2، بيروت، دار المعرفة، 1398، ص293 وما بعدها.

[17]راجع، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية، المرجع السابق، ص132 وما بعدها، د. عبد العزيز عامر، التعزير في الشريعة الإسلامية، القاهرة، 1955، ص36 وما بعدها، أ. محمد الحسيني حنفي، أساس حق العقاب في الفكر الإسلامي والفقه الغربي، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، يناير، 1971، ص495 وما بعدها.

[18]في ذات المعنى، عبد القادر عودة، المرجع السابق، ج1، ص133 وما بعدها.

[19]الشيخ محمد أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، ج1، المرجع السابق، ص20.

[20]جريدة الرياض، ع 14107، الأربعاء 19 محرم 1428هـ.

[21]والبين أن قضاء ديوان المظالم يبدي تمسكاً شديداً بتلك القاعدة، راجع على نحو خاص القرار رقم هـ/1/65 لعام 1402هـ القضية رقم 213/1/ق لعام 1402هـ، جلسة 20/5/1402هـ، مظالم الرياض، مجموعة القرارات الجزائية لديوان المظالم، 1402هـ، الإصدار الجزائي الثالث، ص91 (بشأن قضية تزوير وثائق سفر)، القرار هـ/3/21 لعام 1401هـ القضية رقم 130/1/ق لعام 1401هـ، جلسة 25/5/1401هـ، مظالم الدمام، مجموعة القرارات الجزائية لديوان المظالم، 1401هـ، الإصدار الجزائي الثاني، ص249.

[22]في ذات المعنى المادة 454 إجراءات جنائية مصري.

[23]تم تعديل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، الصادرة عن المجلس الأوروبي والموقعة بروما في الرابع من نوفمبر عام 1950 وأصبحت نافذة في 3 سبتمبر عام 1953، بالعديد من البروتوكولات، كان أخرها البروتوكول رقم 12 الصادر في روما في الرابع من نوفمبر عام 2000 . لمزيد من التفصيل حول الاتفاقية وتعديلاتها راجع موقع وزارة العدل الفرنسية على شبكة الانترنت

www.justice.gouv.fr

[24]وتشير الفقرة الثانية من ذات المادة إلى أنه لا تمنع أحكام الفقرة الأولى من إعادة فتح ملف أية قضية وفقاً للقانون والإجراءات الجزائية في الدولة المعنية إذا ظهرت أدلة جديدة أو اكتشفت وقائع جديدة أو إذا شاب الإجراءات السابقة خلل جوهري، من شأنه أن يؤثر على نتيجة الدعوى.

[25]راجع، دليل المحاكمات العادلة الذي أعدته منظمة العفو الدولية، والمنشور على موقع المنظمة على الشبكة الدولية للمعلومات.

www.amnesty-arabic.org/ftm/text/section_b

/chapter18.htm#18-2-1

[26]رواه الإمام أحمد في مسنده، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد، ج16، ص65.

[27]رواه الترمذي، راجع الجامع الصحيح المشتهر بسنن الترمذي، دار الفكر للطباعة، بيروت، ص133. نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار لمحمد بن علي بن محمد (الشهير بالشوكاني)، ج7، دار الجيل، بيروت، 1973، ص271.

[28]راجع، كتاب أدب القاضي للخصاف المتوفى عام 261هـ، ص366، مشار إليه لدى د. محمد محي الدين عوض، الرشوة شرعاً ونظاماً، موضوعاً وشكلاً، ط1، 1419هـ، ص409، هامش2.

[29]الأستاذ عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي، ج1، مكتبة دار التراث، القاهرة، بدون تاريخ، ص281.

[30]الشيخ محمد أبو زهرة، أصول الفقه، دار الفكر العربي، 1957، ص291 وما بعدها، أ. محمد الحسيني حنفي، أساس حق العقاب في الفكر الإسلامي والفقه الغربي، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، يوليو 1971، ص404 وما بعدها، د. زكريا البري، أصول الفقه الإسلامي، دار النهضة العربية، 1977، ص169 وما بعدها.

[31]سورة يونس، الآية 36.

[32]سورة النجم، الآية 28.

[33]أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، ج1، مطبعة ومكتبة عبد السلام بن محمد بن شعرون، 1968، ص339 وما بعدها.

[34]تنص المادة الثالثة من قانون العقوبات المصري على أنه “كل مصري ارتكب في خارج القطر فعلاً يعتبر جناية أو جنحة في هذا القانون يعاقب بمقتضى أحكامه إذا عاد إلى القطر وكان الفعل معاقباً عليه بمقتضى قانون البلد الذي ارتكبه فيه”. كما تنص المادة الرابعة من ذات القانون على أنه “ولا تجوز إقامتها (أي الدعوى العمومية) على من يثبت أن المحاكم الأجنبية برأته مما أسند إليه، أو أنها حكمت عليه نهائياً واستوفى عقوبته”. وتنص المادة 12من قانون الجزاء الكويتي على أن “تسري أحكام هذا القانون أيضا على كل شخص كويتي الجنسية يرتكبخارج الكويت فعلا معاقبا عليه طبقا لأحكام هذا القانون وطبقا لأحكام القانون الساريفي المكان الذي ارتكب فيه هذا الفعل، وذلك إذا عاد إلى الكويت دون أن تكون المحاكمالأجنبية قد برأته مما اسند إليه”. كما تنص المادة 13من ذات القانون على أنه “في جميع الأحوال لاتقام الدعوى الجزائية على مرتكب جريمة في الخارج إذا ثبت أن المحاكم الأجنبية حكمتعليه نهائيا واستوفى عقوبته”.وأنه استوفى عقوبته في حالة الإدانة.

[35]تنص الفقرة الأولى من المادة 113-6 من قانون العقوبات الفرنسي الجديد على أن “ينطبق قانون العقوبات الفرنسي على كل جناية يرتكبها فرنسي خارج الإقليم الفرنسي”. وتنص الفقرة الثانية على أن يسري قانون العقوبات على الجنح المرتكبة بواسطة الفرنسي في الخارج متى كانت الوقائع معاقباً عليها بمقتضى أحكام تشريع البلد الذي وقعت فيه. كما تقضي الفقرة الثالثة بسريان هذه الأحكام حتى ولو اكتسب الجاني الجنسية الفرنسية بعد ارتكابه الفعل المنسوب إليه. وتنص المادة 113-9 من ذات القانون على أن الملاحقة الجنائية عن الجرائم الواقعة في الخارج لا يجوز مباشرتها قبل من يثبت أن قد حوكم نهائياً في الخارج عن ذات الوقائع.

[36]تم الأخذ بمبدأ الشخصية الإيجابية لأنه قد يرتكب أحد رعايا الدولة جريمة في خارج إقليمها ثم يعود إليها؛ فيفر بذلك من العقاب لعدم إمكان تطبيق قانون العقوبات الوطني عليه، إعمالاً لمبدأ الإقليمية، لأن الجريمة ارتكبت خارج الإقليم الوطني، ولعدم إمكان تسليمه إلى الدولة التي ارتكب الجريمة في إقليمها، عملاً بقاعدة عدم جواز تسليم الدولة لمواطنيها إلى الدولة الأجنبية التي ارتكبوا الجريمة في إقليمها، هذا فضلاً عن أن من رعايا الدولة من يتمتع في الخارج بحصانة رجال السلكين السياسي والقنصلي، مما يمنع من محاكمتهم عن الجرائم التي تقع منهم في إقليم الدولة المعتمدين لديها، لذلك فإن من مقتضيات العدالة والتعاون الدولي في مكافحة الجريمة أن يحاكم هؤلاء في وطنهم إذا ما عادوا إليه عن الجرائم التي يرتكبونها في الخارج.