مقالة قانونية حول مَاهِيَة القَرائِن كَوَسِيلَة إثْبات

أ / مصطفي عبد الهادي

الإثْبات لَهُ كَثيراً مِن الطَرائِق مِثْل الأدِلَة الكِتَابِيَة ” رَسٌمِيَة و عُرْفِيَة ” و شِهادَة الشُهود و القَرائِن و حَديثُنا هُنا عَن الأخِيرَة كَوَسِيلَة إثْبات , و نَستَهِل ذَلِكَ بِالتَعْرِيف بِها و مِن ثَم ماهِيَتُها و أنواعِها

تَعْرِيف القَرِينَة :

القَرِينَة في اللُغَة : مِن المُقَارَنَة أي المُصَاحَبَة , يُقال فُلان قَرِين فُلان بِمَعْنَى مُصاحِب لَهُ , كَما يُقال أيضَاً قَرَنْتُ الشَئ بِالشَئ أي وَصَلْتُهُ بِهِ , كَما تُطْلَق عَلى نَفْس الإنْسَان و ذَلِكَ لِإقْتِرانِها بِهِ , و أيضَاً هِي مُرادِف مُتَعَرَف عَلِيها لِلْزَوج أو لِلْزَوجَة , فَيُقال فُلانَة قَرِينَة فُلان أو فُلان قَرِين فُلانَة
و قَد سُمِيَت قَرِينَة لأنْهَا تَعْنِي صِلَة بِالشَئ الذي يُسْتَدَل بِها عَليهِ

القَرِينَة في الإصْطِلاح : لا يُوجَد تَعرِيفاً مُحَدَداً لَها و ذَلِك أنَها واضِحَة الدِلالَة في اللُغَة , و دالَة عَلى مَقْصُودَها بَيد أن البَعْض وَصَفَهَا بِكَلِمات و ألْفَاظ مُترادِفَة مَعَها مِثْل العَلامات و الأمارات , و وَسَع البَعْض في وَضْعَها في عِبارَة مِثْل ” أمْر يُشِير إلى المَطلُوب ” أو ” كُل أمارَة تُقارِن شَيئاً خَفِياً فَتَدُل عَليِهِ “

القَرِينَة في القَانُون : عُرِفَت القَرِينَة في القَانُون بأنْها ما يَسْتَنْبِطَهُ المُشَرِع أو القَاضِي مِن أمْر مَعْلُوم لِلْدَلالَة عَلى أمْر مَجُهول , و قَد عَرَفَتَها مَحْكَمَة النَقْض بأنَها:
” أسْتِنباط أمْر مَجهُول مِن واقِعَة ثابِتَة بِحَيثُ إذا كانَت هَذه الواقِعَة مُحْتَمَلَة و غَير ثابِتَة بِيَقِين فإنْها لا تَصْلُح مَصْدَراً لِلْإسْتِنْباط “

*و مِما سَبَق يَتَضِح ماهِيَة القَرِينَة كَوَسِيلَة غَير مُباشِرَة لِلْإثْبات بِإعْتِبار أن المَحْكَمَة لا يَتَوَفَرَ لِدَيها أدِلَة إثْبات عَلى واقِعَة ما و إنَما تَسْتَنْبِط حُدوثَها مِن وقائِع أخْرى أحاطَت بِها و تُؤَدِي إلى هَذا الإسْتِنتاج أو الأسْتِنباط بِحُكم لازِميَة العَقْل و أما أدِلَة الإثْبات الأخْرى فَهِي فَهِي وَسائِل مُباشِرَة لِلْإثْبات إذ يُمْكِن لِلْمَحْكَمَة أن تُدْرِكَها مُباشَرَة و لا حاجَة فِيها لِإسْتِخْلاص مِن وَقائِع أخْرى مُحِيطَة

أنْواع القَرائِن :

* قَرائِن قَانُونِيَة :

و قَد نُصَ عَليها في المادَة 99 مِن قانُون الإثْبات :

[frame=”7 80″] “القرينة القانونية تغنى من قررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات ، على أنه بجوز نقض هذه القرينة بالدليل العكسي ما لم يوجد نص يقضى بغير ذلك “[/frame]

و هِي تَلْكَ التِي تَكُون مِن عَمَل الشَارِع أي القَانُون و هِي قِسْمان :
1- قَرِينَة بَسِيطَة : و هِي تِلْكَ التَي يُمْكِن نَقْض دَلَالَتُها بِإثْبات عَكٌسُها بِدُون إحْتِياج إلى نَصاً خاصَاً , و مِن أمْثِلَتُها في القَانُون الجِنائِي قَرِينَة إفْتِراض بَراءَة الذِمَة في المُتَهَم , و كَذَلِكَ مِن أمْثِلَتُه في قَانُون الإجْراءات الجِنائِيَة ما وَرَد في المادَة30:

” تكون الجريمة متلبسا بها حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة.
وتعتبر الجريمة متلبسا بها إذا اتبع المجني عليه مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح أثر وقوعها ، أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه فاعل أو شريك فيها ، أو إذا وجدت به فى هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك”

و كَما سُطِر أعْلاه في المادَة فَقَد قَسَم المُشَرِع التَلَبُس إلى نَوعَيِن حَقِيقي و هُو رُؤيَة الجانِي حَال إرْتِكاب الجَرِيمَة بِالفِعْل أو بَعْد إرْتِكَابُها بِبُرهَة يَسِيرَة و أخَر إعْتِبارِي و هُو مُشاهَدَتُهُ عَقِب إرْتِكابُهُ الجَرِيمَة بِزَمَن قَرِيب و قَد تَبِعَهُ المَجْنِي عَلِيهِ أو تَبِعَهُ العامَة بِالصِياح , و بِالطَبْع فإن القَرائِن في التَلَبُس الإعْتِباري قَويَة في دَلالَتِها و تُؤَيِد التُهْمَة مِما حَذى بِالقَانُون إضِفاء حُكْم التَلَبُس عَلَيها

+إلا أن جُل ما سَلَف في خُصُوص القَرائِن البَسيِطَة تَقْبَل نَقْضُها بِالدَلِيل العَكْسِي

2- قَرِينَة قاطِعَة : و هِي تِلْك التِي لا تَقْبَل دَلالَتُها إثْبات عَكْسُها و مِن أبْرَز أمْثِلَتُها ” حُجِيَة الأمْر المَقْضِي بِهِ ” , فإذا صَدَر حُكْم قَضائِي و لَم يَعُد قابِلاً لِلْطَعْن فِيهِ بأي طَريقَة مِن طُرُق الطَعْن اُعْتُبِرَ ذَلِكَ قَرِينَة عَلى صِحَة الحُكْم بِحَيثُ لا يَجُوز لأحَد أن يُحاوِل إثْبات مُخالَفَتُهُ لِلْحَقِيقَة حِفاظَاً عَلى إسْتِقْرار الأحْكام القَضائِيَة و مَنْع تَجَدُد النِزاع بِلا حَد لَهُ أو نِهايَة, كَما وَرَد في المادَة 101 مِن قانُون الإثْبات:

[frame=”7 80″] ” الأحكام التي حازت قوة الأمر المقضي تكون حجة فيما فصلت فيه مـن الحقوق ، ولا يجوز قبول دليل ينقض هذه الحجية ، ولكن لا تكون لتلك الأحكام هذه الحجية إلا فى نزاع قام بين الخصوم أنفسهم دون أن تتغير صفاتهم وتتعلق بذات الحق محلاً وسبباً .
وتقضى المحكمة بهذه الحجية من تلقاء نفسها ” [/frame]

و مِن أمْثِلَتُها كَذَلِكَ, عَدَم تَمِيِيِز الطِفْل إذا لَم يَبْلُغ السابِعَة

و لِلْأخْذ بِهَذا النَوع مِن القَرائِن ” القانُونيَة ” حِكْمَة و هي :

1- مُراعاَة المَصْلَحَة العَامَة : كَما هُو حال حُجِيَة الأمْر المَقْضِي بِهِ , كَما وَرَد أعْلاه
2- تَضِيق السَبيل أمام مَن يُريِد أن يَتحايَل عَلى الأحْكام المُقَرَرة في القَانُون
3- الأخْذ بِما تَعَارَف عَليهِ النَاس تَيسيراً عَليِهِم مِثل إعْتِبار المُشَرِع قِيام المُستأجِر بِالوَفاء بِقسِط مِن الأجْرَة قَرِينَة عَلى وَفاءُهُ بِالأقْساط السابِقَة عَلى هَذا القِسْط

* قَرائِن قَضائِيَة :

و قَد نُص عَليها في المادَة 100 مِن قانُون الإثْبات :

[frame=”7 80″] “يترك لتقدير القاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ، ولا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا فى الأحوال التى يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود ” [/frame]

و هِي تِلْكَ التِي يأخُذَها القاضِي مِن وَقائِع مَعْرُوضَة عَلِيهِ في دَعوى ما , فَيَصِل مِنها بِطَرِيق الإسْتِنْباط إلى قَناعَة بِصِحَة الواقِعَة , و هَذا النَوع مِن القَرائِن يَقُوم عَلى الظَن و التَرْجِيح و لَهُ مَساحَة بِشَكْل أو بأخَر مِن الحُرِيَة و شَيئاً مِن الفِراسَة , و يُمْكِن أن يَتَعَرَض هَذا الإسْتِدْلال لِلْخَطأ , لِهَذا لَم يَعْتَد بِها القانُون أو يَعْتَبِرَها وَسِيلَة إثْبات إلا حِين يَتَعَذَر أو لا يَلْزَم تَطَلُب دَلِيل أقوى في الدَعوى كَالكِتابَة عَلى سَبِيل المِثال , فَلَم يُجِز القانُون الإثْبات بِالقَرائِن القَضائِيَة إلا حَيثُ يُجَوِزَ الإثْبات بِشِهادَة الشُهود , و الأخِيرَة بِدَورُها لا تَجُوز إلا فِي حَالات مُعَيَنَة

و مِن أمْثِلَتُها في القانُون الجِنائِي , إدانَة المُتَهَم في جَرِيمَة إحْراز مُخَدِر مِن ضَبْط وَرَقَة مَعَهُ لَم يَكُن بِها إلا رائِحَة جَوهَر الأفٌيُون المُخَدِر عَلى إعْتِبار أن الوَرَقَة لابُد أن كان بِها مادَة الأفٌيُون , و كَذَلِكَ وُجُود بُقْعَة دَمَوِيَة مِن نَفْس فَصِيلَة دِماء القَتِيل عَلى مَلابِس المُتَهَم , و كَذا مُشاهَدَة الجَانِي يَخْرُج مِن مَنْزِل المَجْنِي عَلِيهِ في سَاعَة مُتأخِرَة مِن اللَيِل بَعْد سَماع صَوت إسْتِغَاثَة , أو إسْتِعْراف الكَلْب البُولِيسي , أو وُجود بَصْمَة المُتَهَم أو أثَر قَدَمَيِهِ في مَكان الجَرِيمَة فَهذا دَلِيل عَلى وُجودِهِ فِي مَسْرَح الجَرِيمَة ….. و غَير ذَلِكَ الكَثِير …..

فَقَد تَرَكَ المُشَرِع لِلقاضِي الحُرِيَة في إسْتِنْباط القَرائِن القَضائِيَة , فَالقاضِي حُر في إخْتيار واقِعَة مِن الوَقائِع الثابِتَة – شَرِيطَة أن تَكُون ثَابِتَة قَاطِعَة – أمامُهُ لِكَي يَسْتَنْبِط مِنها القَرِينَة , و كَذَلِكَ فَللْقاضِي َسُلْطَة واسِعَة في إسْتِنْباط ما يُمْكِن أن تَحتَمِلُهُ الوَاقِعَة مِن دَلالَة , كَما أنهُ لَهُ حُرِيَة في تَكْوِين قَناعَتُهُ سَواء إقْتَنَع بِقَرِينَة واحِدَة قَوِيَة و قَد لا يَقْتَنِع مِن قَرائِن عِدَة أضْعَف فِي دَلالَتُها

* الفَرْق بَين القَرِينَة القَانُونِيَة و القَضائِيَة :

1- القَرِينَة القانُونِيَة مَصْدَرُها القانُون عَلى سَبيل الحَصْر و لا يُمْكِن التَوسُع فِيها أو القِياس عَلِيها ,و أما القَرِينَة القَضائِيَة فَهِي مِن عَمَل القَاضِي و لَهُ سُلْطَة وَاسِعَة في إسْتِنْبَاطِها

2- القَرِينَة القَانُونِيَة هي إعْفاء مِن الإثْبات فَلا يُكَلَف الخِصْم بإثْبات الأمْر المُدَعى بِهِ , و أما القَرِينَة القَضائِيَة فَتُعْتَبَر دَلِيلاً لِلإثْبات فِيه بِشِهادَة الشُهود , فَيْلزَم الحَصْم المُكَلَف بِالإثْبات بِإسْتِجماع الأمارات أو العَلامات مِن وَقائِع الدَعوى

3- القَرِينَة القَانُونِيَة تُلْزِم القاضِي فَلا يَسَعُهُ مُخَالَفَتِها , أما القَرِينَة القَضَائِيَة فَلَيسَت مُلْزِمَة لِلقاضِي فَيُمِكِن لِلقاضِي أن يُقَرِر قَرِينَة ثُم يَعْدِلَ عَنها في دَعوى أخْرى حَتى و إن تَماثَلَت الظُروف

* قَرائِن طَبيعيَة و مادِيَة :

و هُناكَ نَوعَيِن أخَرَيِن مِن أنُواع القَرائِن و هِي الطَبيعيَة التي لَم يَنُص عَليها القَانُون و لا تَنْدَرِج تَحْت بَنْد القَرائِن القَضائِيَة , مِثْل ثُبوت حَياة إنْسان في تارِيخ مُعَيَن , فَهَذه قَرِينَة عَلى أنهُ كان حَياً قَبْل هَذا التَارِيخ
و أخْرى مادِيَة و هي وَسائِل كَشْف الجَرِيمَة و قَد أستحْدِثَ هَذا النَوع و قُطِع شَوطاً كَبيراً في التَقَدُم فِي مَجالُهُ , فَقد بات سَهْلاً مَعْرِفَة البَصمات و التَمِيِيز بَين أثار الأقْدام بَل و إكْتِشاف ما إذا كان المُتَهَم وَقْت إرْتِكابُها واقِفاً أم سائِراً أو عادِياً … و كَذا تَحْلِيل الدَم

و أخيراً فإن القَرِينَة بِصِفَة عامَة مُهِمَة جِداً في مَجال الإثْبات فَقَد لا يَستَطِيع صَاحِب الحَق إثْبات حَقُهُ بِوسِيلَة أخْرى مِن وَسائِل الإثْبات مِثْل الإقْرار أو المُحَرارات الكِتابِيَة أو الشِهادَة فَيكُون مُضطَراً إلى سَلْك سَبيل القَرائِن و مِن هُنا تَكْمُن أهَمِيَتُها