مقال قانوني هام عن إدْراك حالَة التَلَبُس بِحاسَة البَصَر

أ / مصطفي غبد الهادي

مِن المَعْلُوم و كَما قال المُشَرِعَ في المادَة 30 مِن قَانُون الإجْراءَات الجِنائِيَة :

“تكون الجريمة متلبسا بها حال ارتكابها أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة.

وتعتبر الجريمة متلبسا بها إذا اتبع المجني عليه مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح أثر وقوعها ، أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه فاعل أو شريك فيها ، أو إذا وجدت به فى هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك”

و يُسْتَفاد مِن هَذا النَص أنَ هُناك خَمْس حَالات لِلْتَلَبُس :
1- مُشاهَدَة الجَرِيمَة حال إرْتِكَابُها
2- مُشاهَدَة الجَرِيمَة عَقِبَ إرْتِكَابُها بِبُرْهَة يَسِيرَة
3- تَتَبُعَ مُرْتَكِبَ الجَرِيمَة إثْرَ وُقوُعَها
4- إذا وُجِدَ مُرْتَكِبُها بَعْد وُقوعَهَا و هو يَحْمِل أشْياء يُسْتَدَل مِنها عَلى أنهُ فَاعِل أو شَريك فِيها
5- إذا وُجِدَت عَلى مُرْتَكِبُها آثار أو أمارات ” عَلامَات” يُسْتَدَل مِنها أنهُ الفاعِل أو شَريكاً فِيها

و يَتبادَر إلى الذِهْن هُنا سُؤلاً مُهِماً عَن ماهِيَة المُشاهَدَة , فَهَل المَقْصُود بِها مُجَرَد الرُؤيَة أي الإبْصار ؟

بِالطَبْع لا يُقصْد بِالمُشاهَدَة مُجَرَد رُؤيتُها أي إبْصارُها بِالعَين فَحَسْب , فَلْلمُشَهاَدَة مَفهُوم أوْسَع مِن ذَلِكَ , فَالمَقْصُود إدْراك وُقوع الجَرِيمَة بأي حاسَة مِن الحَواس و مِن ثَم فَالمَقْصُود هُو المَعْنى العام لِلْإدْراك و لَيس المَعنى الضَيِق أو الخاص بِالرُؤيَة و الحَواس التي هِي أداة الإدْراك و المَعْرِفَة , خَمْسَة عَلى سَبِيل الحَصْر ….. ( حَاسَة البَصْر – حَاسَة السَمَع – حَاسَة الشَم – حَاسَة اللْمٌس – حَاسَة التَذَوُق ) …. و ما يَعنينا هُنا في هَذه الصَفْحَة هُو الحاسَة الأولَى …. حَاسَة البَصْر

-إدْراك حالَة التَلَبُس بِحاسَة البَصَر :

أوْلاً : رُؤيَة الجَرِيمَة و هِي تَقَع :

يَتَحَقَقَ التَلَبُس بِهَذه الحاسَة , بِرُؤيَة مَأمُور الضَبْط القَضائِي الجَرِيمَة و هِي في مَجْرى نَفاذُها أي حال وُقوعِها و هي تَتِم و تَقَع , و مِثالُها , كَأن يُبْصِرَ مأمُور الضَبْط القَضائِي شَخْصاً يَخْطَف سِلسِلَة ذَهَبِيَة مِن عُنُق فَتاة أو يَضَع يَدُهُ في جَيب غَيرُهُ و يَنْشِلَ حافِظَتُهُ أو يُشْعِل النار في مَسْكَن أو مَحَل تُجارِي …. فَمأمُور الضَبْط في هَذه الحَالات يُشاهِد أو يُبْصِر الرُكْن المادِي لِلْجَرِيمَة

مِثال قَضائِي لإدْراك مَأمُور الضَبْط لِجَرِيمَة في حَالَة التَلَبُس بِحاسَة البَصَر :
قَضَت مَحْكَمَة النَقْض : “….. التَلَبُس حالَة تُلازِم ذات الجَرِيمَة لا شَخْص مُرْتَكِبُها , فَإذا شُوهِدَ نُور كَهْرَبائِي مُنْبَعِثَ مِن مَصابِيح كَهْرَبَائِيَة بِمَنْزِل لَم يَكُن صاحِبُهُ مُتَعاقِداً مَعَ شَرِكَة الكَهْرَباء عَلى إسْتيراد النُور , كَما شُوهِدَت أسْلاك هَذا النُور مُتَصِلَة بِأسْلاك الشَرِكَة , فَهَذه حالَة تَلَبُس بِجَرِيمَة سَرِقَة التَيار الكَهْربائِي المَمْلُوك لِشَرِكَة النُور ….”

ثَانِياً : مَوضوع – مَحَل – الرُؤيَة أو المُشاهَدَة :

الرُؤيَة أحَد وَسائِل إدْراك مَأمُور الضَبْط القَضائِي – كَما سَلَف – , بَيد أن مَحَل تِلْكَ الرُؤيَة أو المُشاهَدَة هِي لِلْجَرِيمَة ذاتُها , و لَيس المُجْرِم , فالتَلَبُس حالَة ….. نَعَم … لَكِنها حالَة تُلازِم الجَرِيمَة لا المُجْرِم , و مِن ثَم يُتَصَوَر وُجود الجَرِيمَة في حَالَة تَلَبُس حال أن مُرْتَكِبُها بَعِيداً عَن مَسْرَح الجَرِيمَة
و لأن حالَة التَلَبُس حالَة تُلازِم الجَرِيمَة لا مُرْتَكِبُها , فإن المُشَرِع ألْزَم مَأمُور الضَبْط القَضائِي في الجَرائِم المُتَلَبَس بِها أن يَنْتَقِل فَوراً إلى شَرْح الجَرِيمَة و يُعايِن الآثار المَادِيَة التي خَلَفَتْها الجَرِيمَة و يُثْبِتَ بِمَحْضَرُهُ الأشْخاص و الأمَاكِن

* قَيد دُستورِي هام يَرِد عَلى إدْراك الجَرِيمَة بِحاسَة البَصَر مُقْتَضاه :

لا يَجُوز إثْبات حَالَة التَلَبُس بُناء عَلى مُشاهَدات يَخْتَلِسُها رِجال الضَبْط مِن خِلال ثُقوب الأبْواب لِلْمَساكِن لِما في ذَلِكَ مِن مَساس بِحُرْمَة المَساكِن و مُنافاة لِلْأداب , و كَذا حَالات الإقْتِحام فَهذا يُعَد جَرِيمَة في القَانُون , فَهّه الحَالات التَلَبُس لا يَكُون ثابِتاً و يَكُون القَبْض و التَفْتِيش بَاطِلَين

ثَالِثاً : تَعَذُر الرُؤيَة و تَعارُض ذَلِكَ مَع إدِعاء مَأمُور الضَبْط القَضائِي مُشاهَدَنُهُ لِلْجَرِيمَة في حالَة تَلَبُس :

القُدْرَة عَلى الإبْصار في الجَريمَة تَتَعَلَق بِحالَة الرُؤيَة , لِذا فإن النِيابَة العامَة في تَحْقِيقَتُها الخاصَة بِقَضايا التَلَبُس دائِماً تَسأل القائِم بِالضَبْط عَن كَيفيَة إكْتِشافُهُ لِحالَة التَلَبُس و حالَة الرُؤيَة آنذاك , و لِذا و بِشَكْل عَمَلِي فإن مأمُوري الضَبْط يَعْمَدُون إلى النَص صَراحَة بِوُضوح الرُؤيَة في الوَقْت الذي تُكَذِبَ فِيهِ مُلابَسات الضَبْط و مَكانُهُ و حالَة الإضاءَة المُتاحَة

* الدَفْع بِإسْتِحالَة الرُؤيَة :

قَضَت مَحْكَمَة النَقْض : “…. الأصْل أن الدِفاع المَبنِي عَلى تَعَذُر الرُؤيَة بِسَبَب الظَلام حَيثُ لا يَسْتَحِيل عادَة بَسَبَب قُوَة الأشْياء هُو مِن أوجُهُ الدِفاع المَوضوعِيَة التي بِحَسْب الحُكْم رَداً عَليها أخْذُهُ بِأدِلَة الثُبوت في الدَعوى ….”

رابِعاً : خُصوصِيَة المُشاهَدَة – الإدْراك – فِي جَرِيمَة الزِنا :

لا يَلْزَم في التَلَبُس بِالزِنا المُشار إليه في المَادَة 276 مِن قَانُون العُقوبات أن يُشاهِد الزانِي أثْناء إرْتِكاب الفِعْل بَل يَكْفِي لِقِيامُهُ أن يَثْبُت أن الزَوجَة و شَرِيكُها قَد شُوهِدا في ظُروف تُنْبِئ بِذاتُها و بِطَرِيقَة لا تَدَع مَجالاً لِلْشَك في أن جَرِيمَة الزِنا قَد أرْتُكِبَت فِعْلاً

و في تَبْرِير هَذا القَضاء قِيل, إن الزَوج في عَلاقَتُهُ مَع زَوجُهُ لَيس عَلى الإطْلاق بِمَثابَة الغَيِر في صَدَد السِريَة المُقَرَرَة لِلْمُكاتَبات , فإن عِشْرَتُها و سُكون كُلٍ مِنهُما للأخَر و ما يَفْرِضُهُ عَقْد الزَواج عَلَيهُما مِن تَكالِيف لِصيانَة الأسْرَة في كَيانَها و سُمْعَتُها …. , ذَلِكَ يُخَوِل كُلٍ مِنهُما ما ما لا يُباح لِلْغَير مِن مُراقَبَة زَميلُهُ في سُلوكِهِ و في سَيرُهُ و في غَير ذَلِكَ مِما يَتَصِل بِالحَياة الزَوجِيَة لِكَي يَكُون عَلى بَينِة مِن عَشِيرُهُ … و هَذا يَسْمَح لَهُ لَهُ عِنْد الإقْتِضاء أن يَتَقَصى ما عَساه يُساوِه مِن ظُنون أو شُكوك لِيَنْفِيَهُ فَيهدأ بَالُهُ أو لَيتَثَبَت مِنهُ فَيُقَرِر فِيه ما يَرتئِيِهِ

خَاِمساً : مُشْكِلَة تَداخُل الحَواس و الإدْراك المَعِيب لِحَالَة التَلَبُس :

يُقصَد بِالتَداخُل هُو خالَة التَلَبُس بأكْثَر مِن حَاسَة مِن الحَواس البَشَرِيَة – السالِفَة الذِكْر أعْلاه – …. كأن يَشِم مأمُور الضَبْط رائِحَة المُخَدِر تَنْبَعِث مِن داخِل أحِد المَقَهِي , و عِنْد إقْتِرابُهُ شاهَد المُخَدِر مُعَد لِلْإسْتِعْمال أو كأن يَتَذَوَق أحَد الأطْعِمَة فَيَتَبَيَن فَسادُهُ أو أن تَقَع عَيناه عَلى عُبوَة و يَتَبَيَنَ إنْتِهاء صَلاحِيَتُها

أيا كانَت الوَسِيلَة أو طَرِيقَة الإدْراك و كَذا تَعَدَدَت الحَواس المُسْتَعْمَلَة في إدْراك تِلْكَ المَظاهِر , فِإنهُ يُشْتَرَط دائِماً أن يَكُون الإدْراك قاطِعاً لا يَقْبَل الشَك أو التَأوِيل , فإذا تَطَرَق إحداهُما عَلى حالَة التَلَبُس إنْتَفَت تِلكَ الحَالَة حَيثُ أن الحُرِيَة لا يُفتات عَليها بِمُجَرَد شَك

و قَد تَواتَر قَضَاء النَقْض و إسْتَقَر عِنْد حَتميَة أن يَكُون إدْراك المَظاهِر الخارِجِيَة التي تُنَبِئ عَن حَالَة التَلَبُس بِجَرِيمَة إدْراكَاً يَقينياً ….. ( يَنْبَغِي أن تُحْرِز المَحْكَمَة فَلا تُقِر القَبْض أو التَفْتِيش الذي يَحْصُل عَلى إعْتِبار أن الجَرِيمَة في حالَة تَلَبُس إلا إذا تَحَقَقَت مِن الذي أجْراه مأمُور الضَبْط القَضائِي قَد شاهَد الجَرِيمَة أو أحَسَ بِوُقوعَها بِطَرِيقَة لا تَحْتَمِل الشَك)

و هَذا في خُصوص الإدْراك في التَلَبُس بِحاسَة البَصَر و لَم نَتَطَرَق إلى ما دُونَها مِن الحَواس …. رُبما في صَفَحات أخْرى بِحَول الله