محاصرة التستر التجاري وصولا للقضاء عليه
عبد الحميد العمري

كما أن الأخطار المهددة لاستقرار الاقتصاد والمجتمع تبدأ صغيرة، دون أن يستشعر كثيرون تهديدها وآثارها الوخيمة إلا بعد أن يصبح حجمها واضحا للجميع، كما حدث تماما للآفة الاقتصادية والاجتماعية ممثلة في التستر التجاري، الذي لم تأت الجهود والبرامج المكافحة له طوال أعوام مضت بثمار حقيقية تحد من مخاطره، بل العكس شهدنا اتساعه وتمدده أكثر فأكثر.

بدأت نهايته ترى فعليا مع تدشين البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، الذي يقوم خلال الفترة الراهنة بمحاصرة التستر التجاري بقفزات كبيرة، سرعان ما ستطبق على جميع منافذ تهربه التي احترف ابتكارها مرحلة بعد مرحلة، ليس إعلان وزارة التجارة والاستثمار الأخير عن إحالتها لنحو 754 قضية تستر تجاري إلى النيابة العامة، خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري، ثم إلزام منافذ البيع بتوفير وسائل الدفع الإلكتروني خلال 14 شهرا، بدأت منذ منتصف الشهر الجاري وتنتهي قبل نهاية آب (أغسطس) من العام المقبل، كل هذا ليس إلا تمهيدا لما هو آت من جهود وبرامج سيتتابع صدورها وتنفيذها مرحلة بعد مرحلة، تستهدف تضييق المساحة إلى أقصى حد ممكن على المتورطين في هذه الجريمة الاقتصادية والاجتماعية.

كل هذا يجب أن يدركه منذ اللحظة المتورطون كافة في هذه الجريمة من المواطنين، وأن الأمر الحتمي بوصول تستره على ما لديه من عمالة وافدة إلى خط النهاية، ليس إلا مسألة وقت قصير جدا، ما يقتضي بدوره أن يبادر فورا بالعمل على إيقاف جرمه، والقبول بأقل الخسائر والعقوبات قبل أن يكابد ما لا طاقة له به، وأن يعلم تماما أن محاولات التهرب والالتفاف التي اعتاد عليها، هو ومن يتستر عليهم من الوافدين طوال سنوات مضت، لن تسمن ولن تغني معه جوعا، وأن الجهود التي أصبحت ماثلة أمامه ضمن جهود البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري في عامه الأول الذي لم يكمله حتى تاريخه، ليست إلا تمهيدا لجهود أوسع وأكبر نطاقا، ومبادرات قادمة ستدخل في تفاصيل دقيقة جدا لمختلف نشاطات بيئة الأعمال، سرعان ما سيجد أن الضوء الرقابي والنظامي أصبح مسلطا عليه وعلى من يتستر عليهم من العمالة الوافدة، لتبدأ من ثم رحلة أخرى لا قبل له بها على الإطلاق.

“السعيد من اتعظ بغيره”، إنها المقولة التي يجب أن يحفظها اليوم كل متورط في جريمة التستر التجاري، وأن يقبل بسعادة النجاة قبل أن يتحول هو نفسه إلى عظة لغيره من المتسترين، وأن سعادة النجاة والقبول بأقل الخسائر والأضرار قبل أن تصل إليه الأجهزة الحكومية، خيار سيندم عليه أشد الندم بعد فوات الأوان، وهيهات أن ينفعه ندمه بعد وقوعه ومن معه من عمالة متستر عليها في قبضة القانون.

لقد ثبت للجميع، كيف تسبب التستر التجاري عبر عقود طويلة مضت، تحول خلالها تحت إهمال وقصور مراقبته ومحاربته، من مجرد ممارسات مخالفة هامشية وصغيرة، إلى أن أصبح وحشا ماردا يمتص خيرات البلاد والعباد، وظن كثيرون أنها تقف فقط عند مجرد رصد تحويلات العمالة الوافدة إلى خارج الحدود، التي وصل مجموعها خلال 20 سنة مضت “1999 ــ 2018” إلى أعلى من 1.7 تريليون ريـال، مع بقاء عديد من الشكوك في الاحتمالات الأخرى لتحويل تلك المكاسب غير المشروعة للتستر التجاري، وهو ما سبق الحديث عنه سابقا أن التقديرات في خصوص الأحجام الأكبر من تحويلات جرائم التستر التجاري على المستوى الأكبر، ممثلا في سيطرتها الأكبر على كيانات تجارية وخدمية وصناعية، يذهب بعيدا إلى نحو ثلاثة أضعاف تلك المبالغ المحولة عبر بوابة تحويلات العمالة الوافدة، وصولا إلى أعلى من 4.3 تريليون ريـال خلال الفترة السابقة نفسها.

هذا الحجم الهائل من الأموال المتسربة من الاقتصاد الوطني، لا يكشف فقط خسارة اقتصادنا الوطني لثروات طائلة فقط من خيراته ومكتسباته، بل يكشف أيضا عن أحجام هائلة أكبر من الفرص المحلية للاستثمار، التي ابتلعها وحش التستر التجاري، وسلبها في الوقت ذاته من المنشآت الوطنية، وتسبب في تشويه البيئة المحلية للاستثمار ونشاطات القطاع الخاص، وحرم مئات الآلاف من المواطنين والمواطنات منها، سواء من خلال حرمانهم من استثمار تلك الفرص، والتوسع فيها وتحقيق القيمة المضافة من خلالها للاقتصاد الوطني، أو من خلال حرمانهم من مئات الآلاف من الوظائف المجدية بالنسبة لهم على كافة المستويات.

إنها حيثيات كافية لأن تأتي الجهود والبرامج الوطنية الهادفة للقضاء على التستر التجاري أقوى وأكثر حزما وصرامة، وأن ما سينتج عنها بعد خلو بيئة الأعمال المحلية من هذه الآفة التنموية وغيرها من الآفات الأخرى، ستنعكس آثاره الإيجابية على مختلف نشاطات الاقتصاد الوطني، ولعل من أهم ما سينتج عنها ولادة فرص استثمارية مجدية عديدة أمام المواطنين ورؤوس الأموال الوطنية، عدا مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة، الأمر الذي سيحفظ في الوقت ذاته الأموال والثروات من تهريبها إلى خارج الاقتصاد الوطني، وإبقائها في موطنها بما يعود بنفعها على البلاد والعباد، وهي الجزء المهم لا الكل من النتائج المستهدفة لمشروع البرنامج الوطني لمكافحة التستر التجاري، التي يسعى الجميع في الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص وأفراد المجتمع للوصول إليها مهما كلف الثمن ومهما بلغ الجهد.

ختاما؛ سيحمل كل سقوط لمنشآت ولدت وتغذت على التستر التجاري، ولادة آلاف المنشآت الوطنية لتحل محلها، وسيحمل طرد وترحيل مئات الآلاف من العمالة المتورطة مع تلك المنشآت المخالفة، ولادة مئات الآلاف من الوظائف الكريمة للمواطنين، وسيحمل توطيد استقرار الثروات الأموال محليا، وإعادة تدويرها في الاقتصاد الوطني عبر مختلف نشاطاته وأسواقه مزيدا من ممكنات استقراره ونموه. هذا عدا أن انخفاض وجود أعداد بالملايين من العمالة الوافدة غير الماهرة، والاكتفاء بوجود من يمتلك المهارات والخبرة العملية والكفاءة، سيسهم بشكل كبير في تخفيض حدة الازدحام الراهنة في المدن، والضغط الكبير على الخدمات والبنى التحتية، وفي رفع كفاءة الإنتاج المحلية، دون الخوف على جوانب الطلب الاستهلاكي المحلي، كون تلك الأعداد الهائلة من العمالة الوافدة متدنية الدخل لا تشكل وزنا كبيرا في ميزانه، بقدر ما أنها كانت تشكل أعباء إضافية وغير محتملة على مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني. والله ولي التوفيق.

إعادة نشر بواسطة محاماة نت