مراجعة الأحكام بغير طـرق الطعن في قراءة قانونية متعمقة

الأستاذ : محمد علي بن قوتة
جامعي و باحث في القانون الخاص
خبير في القانون

عملا بمبدأ التقاضي على درجتين فإن الطعن في الحكم هو وسيلة أساسية تكرّس هذا المبدأ على المستوى العملي وتمكن الطالب من إعادة النظر في قضيته أمام محكمة أخرى أعلى درجة وغير التي نظرت في القضية أوّل مرة.

وتنقسم طرق الطعن في المادة المدنية إلى صنفين: طرق طعن عاديّة وتشمل الإستئناف والإعتراض، وطرق طعن غير عاديّة وتشمل التعقيب وإعادة إلتماس النظر على أنّ التساؤل الذي يطرح في هذا السياق: هل يمكن مراجعة الأحكام بغير طرق الطعن؟

مبدئيا، وبمجرّد أن يصدر القاضي حكمه في القضية فإنه يخلع عباءته ويغادر منصة الحكم بدون رجوع إليها في خصوص الدعوى التي أصدر فيها حكمه وهو ما يسمى قانونا “بمبدأ إستنفاذ الولاية”.

على أن لهذا المبدأ إستثناء خاص ويتمثل في مراجعة الأحكام بغير طرق الطعن ، وهو في الحقيقة نظام خاصّ لا يجوز العمل به إلا في الحدود التي ضبطها المشرع على سبيل الحصر ووفقا للقواعد التي وضعها.

ويشمل هذا الإستثناء الخاصّ 3 حالات وهي حالة تصحيح الأحكام في صورة وجود خطأ مادي (الفقرة الأولى) وحالة إبهام نصّ الحكم مما تقتضي الضرورة تفسيره (الفقرة الثانية) وحالة إغفال الفصل في بعض الطلبات المقدمة من الخصوم (الفقرة الثالثة )

الفقرة الأولى: تصحيح الأحكام في حالة الخطأ المادي:

ينص الفصل 256 م.م.م.ت على أن: “الغلط في الرسم والغلطات المادية في الإسم أو الحساب وغير ذلك من الإختلالات المبينة من نوع ما ذكر يجب على المحكمة دائما إصلاحها ولو من تلقاء نفسها.

ويحكم في إصلاح الغلط أو الإخلال بدون سبق مرافعة شفاهية ويجب أن ينص بطرت أصل الحكم وبالنسخ المعطاة منه على الحكم الصادر بالإصلاح”.

ولكي تتوفر حالة تصحيح الأحكام فإنه لابدّا من توفر شرطان وهما: أن يكون الخطأ ماديّا بحتا ويكون في الحكم نفسه.

الشرط الأول: أن يكون الخطأ ماديا بحتا:

يمكن أن يشمل الخطأ المادي سواء الحساب أو الكتابة

بالنسبة للخطأ في الحساب فيتمثل في إجراء عملية حسابية يقوم بها القاضي في حيثيات حكمه ّأو منطوقه كالخطأ في الجمع مثلا عند حساب المبالغ المستحقة للدائن أو في خصّم المبالغ أو الأقساط التي سدّدها المدين من مبلغ الدين الأصلي أو في الضرب عند حساب الفوائد المستحقة أو عند القسمة.

أمّا بالنسبة للخطأ الكتابي فيشمل كل أخطاء القلم كالسهو ونسيان ذكر بعض البيانات أو الخطأ في ذكرها كرقم العقار أو رقم الدعوى أو في أسماء الخصوم.

وقد يؤدي الخطأ المادي في الحكم سواء كان كتابيا أو حسابيا إلى إختلاف واضح بين الأسباب والمنطوق فتنهدم أركان الحكم ممّا يؤدي إلى إنعدامه والوسيلة المعتمدة في هذه الحالة هي الطعن وليس المراجعة.

أمّا إذا كان التناقض الموجود بالحكم تناقضا ظاهريا لا ينعدم أو يبطل بسببه الحكم فإنه لا يصلح لأن يكون سببا للطعن فيه وإنما إلى تصحيحه بغير طرق الطعن فيه ومثال ذلك أن يذكر الحكم في أسبابه أحقية المدعي في مبلغ معين من المال ويسبب حكمه على هذا الأساس ثم يذكر أحقيته في مبلغ مخالف في المنطوق.

على أنه قد تثار بعض الأسئلة لو كان الخطأ مثلا كتابيا ولكنه وقع في أسماء الخصوم أو صفتهم أو أسماء القضاة الذين أصدروا الحكم؟

في هذه الصورة فإنه يجب التفرقة بين صورة الخطأ الجسيم وصورة الخطأ الخفيف.

* صورة الخطأ الجسيم: إذا كان الخطأ جسيما بحيث جهل بالخصم أو أدى إلى الإلتباس في شخصيته وحقيقة إتصاله بالدعوى وفي هذه الحالة لا يمكن تصحيح الحكم بل يجب الطعن في هذا الخطأ لأن مثل هذا الخطأ يؤدي إلى بطلان الحكم كذلك يكون الأمر إذا ما تعلق بعدم ذكر أسماء القضاة الذين أصدروا الحكم.

*صورة الخطأ الخفيف: إذا كان الخطأ في الأسماء لا يجهل بالخصوم أو يؤدي إلى إلتباس في شخصيتهم، ولا يكون له تأثير على سلامة أركان الحكم فإن الحلّ هو الرجوع للمحكمة التي أصدرته لتصحيح ما وقعت فيه من خطأ مادي.

على أنه هناك بعض الأخطاء المادية لا تقبل التصحيح بل تخضع إلى الطعن مباشرة ومثال ذلك حالة خطأ المحكمة في وصف حكمها.

الشرط الثاني: أن يكون الخطأ في الحكم نفسه:

واستنادا إلى ذلك لا يجوز إجراء التصحيح إذا كان الخطأ قد وقع من الخصوم أنفسهم كالخطأ في المذكرات والوثائق فإنه في هذه الحالة يمكن إصلاح الخطأ المادي الذي ورد في الطلبات.

الفقرة الثانية: حالة تفسير الحكم:

نصّ على هذه الحالة الفصل 124 م.م.م.ت بالقول أنه: “المحكمة التي صدر منها الحكم لها وحدها النظر في شرح حكمها بطلب من الخصوم يقدم كتابة لرئيس المحكمة وتتولى المحكمة شرح الحكم بحجرة الشورى من غير مرافعة بدون زيادة أو نقص على ما يقتضيه نصّه. ويكون هذا الحكم التفسيري متمّما للحكم الواقع تفسيره ولا يقبل الطعن إلاّ مع الحكم الواقع تفسيره”.

يستروح من هذا الفصل أن حالة تفسير الحكم لا تتحقق إلاّ بتوفر شرطان: ضرورة وجود غموض وإبهام وأن يكون هذا الغموض في منطوق الحكم.

الشرط الأول: وجود غموض أو إبهام :

ويكون ذلك نتيجة لإضافة بعض العبارات إلى منطوق الحكم قد تؤدي إلى إثارة الشك حول المضمون الحقيقي للحكم ومثال ذلك أن يستعمل القاضي بعض العبارات والتي قد تستقيم من الناحية اللغوية إلا أنها مغايرة للإصطلاح أي تحتمل أكثر من معنى.

كذلك قد يكون الغموض في الحكم ناتجا عن الصياغة المبهمة له كأن تحكم المحكمة بغلق منشآت المدعى عليه دون تحديد مع أن الدعوى قد قامت بخصوص بعض المنشآت المثيرة للقلق.

كما يمكن أن يكون الغموض ناجما عن القضاء الضمني ومثال ذلك أن يحكم برفض دعوى صحّة التعاقد لأن المشتري لم ينفذ إلتزامه بتسديد الثمن فهذا القضاء فيه إشارة ضمنية بأن الإلتزام بآداء الثمن قائما ولم ينقض ولو لم ينص عليه الحكم صراحة.

الشرط الثاني: أن يقع الغموض في منطوق الحكم:

لا يكفي أن يوجد غموض أو إبهام في الحكم وإنما لابدا من أن يكون ذلك في منطوقه، وقد إختلف الفقهاء في تحديد ماهية المنطوق بين المعنى الشكلي الضيق أي المكان المخصص ليضع فيه القاضي حكمه والمعنى الموضوعي أي إجابة المحكمة بالرفض أو الإيجاب على طلبات الخصوم أيّا كانت هذه الإجابة وفي أي مكان بالحكم.

على أنّ الراجح لدينا هو المنطوق بمعناه الموضوعي الواسع وبالتالي فإن التفسير يشمل القرار القضائي أيّا كان موقعه في الحكم دون تفسير أسباب الحكم.

وتجدر الملاحظة أنه على المحكمة أن تلتزم في حدود سلطتها بالتفسير فقط دون المساس بالحكم المفسر بالتبديل أو التعليل بأيّة صورة كانت وفي صورة تجاوز القاضي لهذه الحدود وجب الطعن في الحكم.

الفقرة الثالثة: حالة إغفال الفصل في بعض الطلبات المقدمة:

من المبادئ القانونية الأساسية هو أن يلتزم القاضي حدود الطلبات المطروحة أمامه فلا يتزيد فيها أو يقضي بخلافها وإذا ما قام بذلك يصبح حكمه معيبا وقابلا للطعن. أما إذا أغفل الحكم في بعض الطلبات فإنه في هذه الصورة لابدّا من إكمال الحكم على أنه لابدا من التمييز بين حالتين حالة الإمتناع الإرادي أو أن يكون الإغفال ناتجا عن سهو أو خطأ غير مقصود.

*الحالة الأولى: حالة الإمتناع الإرادي وهو يصدر عن القاضي عن بينة وإدراك وبالتالي تقوم المسؤولية الجزائية في حقه ويصبح مرتكبا لجريمة إنكار العدالة، ويكون الحكم الصادر عنه قابلا للطعن لأن فيه مخالفة للقانون

*الحالة الثانية: أن يكون الإغفال ناتجا عن سهو أو خطأ غير مقصود في هذه الحالة فإنه لابد من الرجوع إلى القاضي على أن ذلك يستوجب توفر 3 شروط

الشرط الأول: وجود طلب يتعلق بطلب حماية قضائية:

يجب أن يكون هذا الطلب صريحا ودقيقا ويهدف إلى الحصول على حماية قضائية لحقّ أو لمركز قانوني وأن يكون قد طرح عن المحكمة وفق الإجراءات القانونية ولا يعد من الطلبات بالمعنى الفني الدقيق ما يثار أثناء الخصومة من دفوع إجرائية أو موضوعية أو عدم القبول، فسكوت المحكمة عنها ربما يكون رفضا ضمنيا له، ويبقى للخصم في هذه الحالة آلية الطعن.

الشرط الثاني: أن يكون الطلب قائما أمام المحكمة:

حيث يجوز للخصوم في هذه الحالة تعديله بالزيادة حيث نص الفصل 83 م.م.م.ت على أنه: “يستمرّ محامو الأطراف عن تبادل الملحوظات بينهم دون إجراءات خاصّة سوى إمضاء كل منهم على توصلّه بما قدّمه له زميله، وتقدم نسخ من تلك الملحوظات وكذلك الوثائق لتضاف لملف القضية قبل تاريخ الجلسة المعينة للمرافعة بـ10 أيام بالنسبة لمحامي المدّعي وثلاثة أيام بالنسبة لمحامي المدعى عليه، ولا تقبل التقارير المقدمة بعد الآجال المذكورة”.

ويضيف الفصل 84 م.م.م.ت: “يمكن للمدّعي تغيير جزء من الدعوى أو الزيادة فيها أو تحريرها في الأجل المبين بالفصل 83”.

وقد أوضحت محكمة التعقيب في عدّة قرارات أن الطلب القائم بالفعل هو الطلب النهائي إلى حين المرافعة وحجز الدعوى للحكم.

ويثار إشكال بخصوص الطلبات الإحتياطية ، فإذا ما تمّت إجابة المدعي أو المدعى عليه حول طلباته الأصلية كليّا أو جزئيا وضحت محكمة تاأز

وتمّ إغفال الطلبات الإحتياطية فإن ذلك يعد رفضا لها ولا تلتزم المحكمة بالردّ عليها.

أمّا إذا رفضت المحكمة الطلب الأصلي فإنّ الطلب الإحتياطي يظلّ قائما وعلى المحكمة الردّ عليه إن أغفلته

الشرط الثالث: أن تغفل المحكمة الفصل فيه على سبيل السهو:

والمقصود بذلك أن يكون الإغفال نتيجة سهو.

إن الإجراءات المدنية والتجارية مادة دقيقة لما لها من ارتباط وثيق بحقوق الأفراد وطرق الوصول إليه وحمايته على أن ذلك لا يمنع من القول أن هذه المادّة قد شابتها العديد من الشوائب أصبحت اليوم الحاجة ملحة في إزالتها وتطهير طريق الحق وهو ما أدى إلى تكوين لجنة لإصلاح مجلة المرافعات المدنية والتجارية فهل بدأت رياح الإصلاح في الهبوب أم مازلنا سننتظر؟؟؟