تمت إعادة النشر بواسطة محاماه نت

كيف يتم اختيار المحكَّمين ؟

عند نشوء النزاع ينبغي على كل من طرفي النزاع ومستشاريهما القانونيين الأخذ في الاعتبار بكلَّ العوامل ذات العلاقة بالخصومة بعد ظهورها وعند اتخاذ قرار باختيار محكَّم أو هيئة تحكيم لدراسة القضية وإصدار حكم فيها فليس هناك شئ أهم من اختيار المحكَّم المناسب أو هيئة التحكيم المناسبة .

إن هذا الاختيار ليس مهما فقط لطرفي النزاع في القضية بعينها بل إنه مهم أيضا لـ :

1- لإظهار سمعة وصورة الإجراءات التحكيمية في أي بلد .

2- للمحكَّمين أنفسهم الذين يجب أن تبرز قدراتهم على القيام بالإجراءات التحكيمية على أفضل وجه ، وأنهم مؤهلين لما انتدبوا له ، وإلا انهدمت القناعات بهم إن كانوا غير مؤهلون ،
لذا فإن اختيار المحكَّم أو هيئة التحكيم لنزاع لم تظهر معالمه بصورة واضحة يعد من الأمور الصعبة للغاية . وهناك أسئلة يجب أن يجاب عليها قبل اختيار المحكَّم أو هيئة التحكيم .

هل قضية الدعوى كبيرة أم صغيرة ؟

هل القضية مبدئيا مشكلة شرعية – قانونية، نظامية – ؟

هل القضية تدور حول حقائق فنية ثابتة فقط؟

هل القضية خليط من أمور شرعية و فنيةوغير ذلك ؟

هل هناك حاجة إلى خبرة معينة و محددةلتقييم الحقائق الثابتة بسرعة وبطريقة سليمة ؟

إن عملية اختيار المحكَّم دقيقة و شبيهة بعملية اختيار الجياد التي ستدخل مضمار السباق ، حيث يتم التدقيق في الجياد وتقسم إلى مستويات منها ما يدخل في سباقات الدرجة الأولى ومنها الثانية وهكذا .

عند اختيار المحكَّم نجد أن معظم الأنظمة والقوانين العالمية تعطي طرفي النزاع الحرية الكاملة في اختيار المحكَّمين ، حتى يتم حل النزاع بواسطة قضاة من اختيارهما ، وتنص المادة السادسة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي على أن يتم تعيين المحكَّم أو المحكَّمين باتفاق المحتكِمين في وثيقة تحكيم تحدد موضوع النزاع تحديدا كافيا فمن نص هذه المادة يتبين لنا أن النظام السعودي أعطى طرفي النزاع الحرية المطلقة في اختيار وتعيين المحكَّم أو المحكَّمين ، فليس هناك وصاية على الأطراف في اختيار محكَّميهم ، إذ يتحمل كل طرف مسئولية اختياره ، حيث يطمئن إلى الإجراءات بمساهمته في تشكيل هيئة التحكيم بتعيين محكَّم يثق في علمه وعدالته.

ولكن في بعض الأحيان قد لا يجد طرفا النزاع أي فرصة مؤثرة في اختيار محكَّميهما ، سواء من حيث عدد المحكَّمين أو مؤهلاتهم ، فقد يكون الطرفان قد نصا مسبقا في شرط التحكيم على عدد المحكَّمين ، وهذا يكون خاصة عندما يستطيع الطرفان أن يخمنا نوع النزاع الذي قد يظهر بينهما أثناء تنفيذ العقد . ولكن الأهم من العدد هو مؤهلات المحكم ، وقد تكون مقررة مسبقا ومكتوبة في شرط التحكيم قبل ظهور النزاع ، فمثلا قد يكتب أن يكون المحكَّم محاميا لا تقل خبرته عن خمس سنوات ، أو أن يكون تاجرا عمل في تجارة ما لمدة لا تقل عن ثمان سنوات ، وهذا قد يسبب تأخيرا بين الطرفين لتقرير ما إذا كان المحكَّم بعينه يدخل في حدود المؤهلات أم لا عند ظهور النزاع ؟

فشرط التحكيم لا يمكن أن يلغى أو تلغى بعض بنوده إلا باتفاق طرفي النزاع .

وقد يسلم طرفا النزاع حقهما في الاختيار إلى جهة أخرى ، عندما يتفقان على أن يتم اختيار هيئة التحكيم من قبل جهة مختصة تقوم باختيار المحكَّمين ، أو ينصا في شرط التحكيم أن يتم التحكيم عن طريق إحدى المؤسسات التي تفرض وصاية على اختيار الأطراف ، حيث تنص مثلا قواعد غرفة التجارة الدولية بباريس ، على أن لمحكمة التحكيم أن تثبت تسمية المحكَّم الذي يختاره الخصوم أو لا تثبت تسميته وفقا لتقديرها ، كما تنص قواعد محكمة لندن للتحكيم التجاري الدولي ، على أنه أيا كانت التسميات من الأطراف أو من سلطات التعيين ، فإن محكمة التحكيم هي التي تعين المحكَّمين وفقا لتقديراتها ، إن هذه الجهات التي تقرر المحكَّمين دون استشارة طرفي النزاع أو الرجوع لهما قد تعرف عن محكمَّين محددين معروفين ومسجلين لديها أكثر مما يعرفه طرفا النزاع ، ولكن بالتأكيد هي لا تعرف عن النزاع وتفاصيله وأسباب نشوئه أكثر مما يعرفه طرفا النزاع ومستشاروهما ، وحيث قد بينا في أول البحث ، أنه في الغالب ليس من الممكن تحديد نوعية المحكَّم المطلوب حتى يظهر موضوع النزاع ويعرف ، فإنه يفضل أن يحرص طرفا النزاع على أن لا يحددا عدد المحكَّمين ولا مؤهلاتهم مسبقا ، وإن قررا إحالة النزاع إلى تحكيم مؤسسي أن يختارا جهة لا تفرض عليهما وصاية في اختيار محكَّميهما . إذا وثيقة التحكيم التي يتفق عليها الطرفان لها أهمية كبرى في إجراءات التحكيم وقد تلعب دورا في اختيار المحكَّمين .

وثيقة التحكيم الخطوة الأولى في اختيار المحكَّمين :

لقد نصت المادة الأولى من نظام التحكيم السعودي بأنه يجوز الاتفاق على التحكيم في نزاع معين قائم ، كما يجوز الاتفاق مسبقا على التحكيم في أي نزاع يقوم نتيجة لتنفيذ عقد معين هذه المادة تبين أنه يصح أن يتفق على التحكيم بعد ظهور النزاع ، وفي هذه الحالة تسمى الوثيقة عند المستشارين القانونيين مشارطة التحكيم ، كما يجوز أن يكون هناك اتفاق مسبق في أحد بنود العقد الأصلي الموقع من الطرفين ، أن يحال أي نزاع ينشأ من العقد إلى التحكيم، وفي هذه الحالة يطلق المستشارون القانونيون على هذا الشرط مسمى شرط التحكيم ، وفي الحالة الثانية لا يكون النزاع قد ظهر ولذا يفضل أن لا يتضمن الشرط بنودا تحدد مؤهلات المحكَّمين ، حتى تكون هناك فرصة لتقرير الخبرات والمؤهلات المناسبة والمطلوبة عند ظهور النزاع .

العوامل التي يجب الاعتداد بها عند اختيار المحكَّمين :

هناك عوامل كثيرة يجب أن يؤخذ بها عند اختيار المحكَّمين ومن هذه العوامل ما هو شرعي أو نظامي ( قانوني ) ، وهناك عوامل فنية عندما يكون النزاع في أمر فني ، وهناك أيضا عوامل أخلاقية تدخل تحت باب آداب القضاء التي توسع في بيانها فقهاء الإسلام رحمهم الله جميعا .

أولا : أن يستوفي الشروط الشرعية المؤهلة لأن يكون محكَّما :

اختلف الفقهاء رحمهم الله في الشروط التي يجب توافرها في المحكَّم ، فمنهم من قال أن يكون المحكَّم أهلا للقضاء ، فهؤلاء اشترطوا في المحكَّم شروط القاضي ، ومنهم من اشترط في المحكَّم أن يكون مستجمع البعض شروط الفتوى ، ومنهم من قال المحكَّم أي مسلم إن أنفذ حقا فهو نافذ وإن أنفذ باطلا فهو مردود .

وفي الحقيقة بتتبع أقوال الفقهاء والتدقيق فيها نجد أنه توجد بعض الشروط التي اشترطها الفقهاء في القضاة لا بد أن تتوفر في المحكَّم بلا شك ، منها شروط متفق عليها بين عامة فقهاء الإسلام ، ومنها شروط مختلف فيها ، وأخرى مستحبة .

1- شروط صحة متفق عليها لتولي القضاء :

الإسلام : فلا يصح أن يتولى التحكيم بين المسلمين كافر مطلقا سواء كان يهوديا أو نصرانيا ، أو ممن لا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ؛ لأن القضاء ولاية ، ولا ولاية لكافر على مسلم وقد ثبت ذلك بقوله تعالى ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) .[ النساء من الآية 141 ] وشرط الإسلام في القضاء لم يختلف عليه المسلمون وبه قال جميع العلماء قاطبة وعليه انعقد الإجماع ، وهذا ما نصت عليه المادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي ” يكون المحكم من الوطنيين أو الأجانب المسلمين …

أن يكون بالغا عاقلا : لأن الصغير والمجنون والمعتوه لا يتعلق بهم تكليف ، ولأنهم لا يملكون الولاية على أنفسهم ، فمن باب أولى أن لا يملكونها على غيرهم ، وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله ( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ ). والعقل مطلوب أن يكون مستمرا من أول وقت اختيار المحكَّم وأثناء نظر الدعوى وعند الحكم فيها ، فإذا شاب ذلك ماينقصه أو يعدمه في أي مرحلة من هذه المراحل كان الحكم باطلا .

أن يكون حرا : فلا تصح تولية العبد القضاء ؛ لأنه مسلوب التصرف لكونه مملوكاً لسيده ، فإذا كان لا يملك التصرف لنفسه فمن باب أولى أن لا يملك التصرف لغيره .

أن يكون عدلا: اختلف الفقهاء في تعريف وتحديد صفة الإنسان المسلم العدل ، والصحيح والله أعلم هو من لا يظهر عليه الفسق ،فمن كان فاسقا ظاهر الفسق لا يكون عدلا ، ولذا فلعل أقرب التعاريف لمعنى العدل هو أن يكون صادقا ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم متوقيا الآثام بعيدا عن الريب مأمونا في الرضا والغضب ، فمن كانت هذه حاله كان عدلا أما من عرف بالجرأة على الحرام والمجاهرة بالمعصية ، أو كان غير مبال بها أو معروفا بعدم الاستقامة كان فاسقا فالعدل يقابله الفاسق .

وشرط العدالة قال به الحنفية في رواية والمالكية والشافعية والحنابلة فلا بد أن يكون متولي منصب القضاء عدلا ، وللحنفية رواية بجواز تولي الفاسق القضاء مع الكراهة وهو قول مرجوح والله أعلم .

أن يكون سليم الحواس : فسلامة الحواس ضرورية لإدراك الأشياء وفهمها ، وعدم وجود الحواس يورث تعطيل العقل قال سبحانه وتعالى ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون) [ البقرة من الآية 171] .

أن يكون عالما بالأحكام الشرعية : ذهب بعض العلماء من المالكية خاصة ، إلى أنه لا يشترط علمه بجميع الأحكام الفقهية إلا إن كان مولًى في جميع الأحكام ، فإن كان مولًى في شئ خاص كالمعاملات التجارية اشترط علمه بها فقط وهكذا . ( اكتفي هنا بهذا القول حيث سأفصل أكثر عند حديثي عن شرط الاجتهاد ).

2- شروط صحة مختلف فيها لتولي القضاء :

أ- الاجتهاد : ذهب فريق من العلماء المالكية في رواية والشافعية والحنابلة إلى اشتراط أن يكون من يتولى منصب القضاء قد حاز على درجة الاجتهاد المطلق.

وقد تكلم الفقهاء في حدود تحقيق مرتبة الاجتهاد المطلق ، فنجد ابن قدامه في المغني جمعها بقوله ( شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء الكتاب والسنة والإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب – ثم فصل القول في بيان المراد – فقال : فأما الكتاب فيحتاج أن يعرف منه عشرة أشياء : الخاص والعام والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ ، والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة ولا يلزم معرفة سائر القرآن .

أما السنة فيحتاج إلى ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار من ذكر الجنة والنار، ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ، ويزيد معرفة التواتر والآحاد والمرسل والمتصل والمسند والمنقطع والصحيح والضعيف ، ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه وما اختلف فيه ومعرفة القياس وشروطه وأنواعه ، وكيفية استنباط الأحكام ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة ) إلى أن قال : فإن قيل هذه شروط لا تجتمع فكيف بجواز اشتراطها ؟

وقد أكثر العلماء في بيان صفة المجتهد ،فذكرها النووي في المنهاج والماوردي في الأحكام السلطانية وكان أوفاهم عرضا صاحب كتاب سبل السلام الذي أورد شروط المجتهد على صفة تجعلنا نجزم بعدم وجوده في الدنيا .

وقال بعض العلماء من المالكية والشافعية أنه لا يشترط أن يكون القاضي مجتهدا ، وإنما لا بد أن يكون عالما قادرا على إنزال الحكم الشرعي على الواقعة المطروحة في الدعوى القائمة.

قال العلامة الدردير في كتابه الشرح الصغير على أقرب المسالك : ( لا يستحق القضاء شرعا إلا من كان فقيها أي : عالما بالأحكام الشرعية التي ولِّي القضاء بها ولو كان مقلدا لمجتهد عند وجود مجتهد مطلق) .

وذهب جمهور الحنفية إلى عدم اشتراط العلم أصلا ، فلم يشترطوا أن يكون متولي منصب القضاء مجتهدا مطلقا ، ولا مجتهد مذهب ، ولا حتى مجتهد مسألة ، بل أجازوا تقليد العامي عند عدم وجود من هو أكفأ منه .

ويرى الحنفية أن شرط الاجتهاد المطلق هو شرط أولوية وليس بشرط صحة قال السروجي في كتابه أدب القضاء : ( الصحيح عند الحنفية وهو قول بعض المالكية أن الاجتهاد شرط الأولوية وليس بشرط الصحة ).

الرأي الذي نرجحه :

بعد هذا العرض المختصر لأقوال العلماء فيشرط الاجتهاد لتولي منصب القضاء ، فإنني أرجح عدم اشتراط الاجتهاد المطلق ويؤيد هذا الترجيح ما قاله ابن قدامة في المغني مستدلا على عدم اشتراط الاجتهاد المطلق : ( فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه يسألا الناس فيخبرا ، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال : مالكِ في كتاب الله شئ ولا أعلم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسال الناس ، ثم قام فقال :أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. وسأل الفاروق عمر بن الخطاب عن إملاص المرأة ، فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة …وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل … كمن يعرف الفرائض وأصولها ، ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بأحكام البيع ولا بأحكام المعاهدات ).

وختم ابن قدامة رحمه الله كلامه السابق بقوله : ( ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل ، وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله ).

وقال ابن هبيرة في كتابه الإفصاح ولقد أهملنا هذا القول ولم نذكره ، ومشينا على طريق التغافل التي يمشي فيها من يمشي من الفقهاء ، الذين يذكر كل منهم في كتاب إن صنفه أو كلام إن قاله ، إنه لا يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد ، ثم يذكر من شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام ، فإن هذا كالإحالة على التناقض ، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم ولا ينفذ حق ولا يكاتب به ولا تقام بينة ).ولعل ما ذكره ابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام نقلا عن إمام المدينة مالك رحمه الله تعالى أنه قال : لا أرى خصال القضاء تجتمع في واحد ، فإن اجتمع منها خصلتان ولِّي القضاء وهما العلم والورع ، قال ابن حبيب فإن لم يكن فالعقل والورع فإنه بالعقل يسأل وبالورع يعف وهو قول مالك في أهل زمانه فما ظنك بأهل زماننا ) !!

وفي كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى قال : ( ويقدم في ولاية القضاء الأعلم و الأورع والأكفأ ،فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما يظهر حكمه ويخاف فيه الهوى الأورع ،وفيما يدق حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم ، ويقدمان على الأكفأ إن كان القاضي مؤيدا تأييدا تاما من جهة والي الحرب أو العامة ، ويقدم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد من العلم والورع . فإن القاضي يحتاج أن يكون عالما عادلا قادرا ، بل وكذلك كل والي للمسلمين فأي صفة من هذه الصفات نقصت ظهر الخلل بسببه ،والكفاءة إما بقهر ورهبة وإما بإحسان ورغبة وفي الحقيقة فلا بد منهما ) .

بعد هذه المؤيدات من أقوال العلماء التي سقتها لتأييد ترجيح عدم اشتراط أن يكون القاضي مجتهدا مطلقا بل يولَّى من أهل كل زمان أفضلهم وأكملهم علما خاصة في هذا الزمان الذي فترت فيه الهمم عن طلب العلم وتحصيله والإقبال عليه .

هذا في جانب القضاة فهل الأمر يشمل المحكمين كذلك ؟

في هذا الزمن الذي تشعبت فيه الخصومات وتفرعت وشملت جميع جوانب الحياة ، وفي ظل التحول الواسع في طبيعة الأنشطة التجارية والاقتصادية والصناعية ، خاصة وأن هذه الأعمال أخذت طابع التعقيد المتخصص ، وأصبح من الضروري أن يوجد خبراء متخصصين للنظر في النزاعات المعقدة الناشئة من هذه الأعمال كل في تخصصه ، فإنني أرى أنه متى كانت القضايا بحاجة إلى دراية شرعية ،فإنه يكتفى بأن يكون الخبير على دراية بالأمور الشرعية ذات العلاقة بموضوع النزاع ، كما قال ابن قدامة في آخر كلامه المتقدم
( وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل . كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بأحكام البيع ولا بأحكام المعاهدات ).

وذكر الإمام الطحاوي في كتابه الشروط الصغير مبينا ما يجب أن يكتب في وثيقة التحكيم
( إن فلانا الذي جعلا له الحكومة بينهما فيما ذُكر ووصف في هذا الكتاب ، حر مسلم بالغ عاقل في شهادته ، صحيح العقل والبصر ، غير محدود في قذف ، عالم بوجوب الأحكام فيما حكماه فيه مما ذكر ووصف في هذا الكتاب ).

والشاهد في كلام الإمام الطحاوي قوله ( عالم بوجوب الأحكام فيما حكماه فيه مما ذكر ووصف في هذا الكتاب ) . فلم يشترط رحمه الله أن يكون علمه شاملا كل جوانب الشرع
وفي الغالب فإن المحكَّمين إنما ينظر ونفي المسائل التجارية والاقتصادية والصناعية وبالتالي عليهم أن يتقنوا تعلم فقه المعاملات .

ولا بأس أن يكون المحكَّم غير ملم بأحكام الشريعة الإسلامية عندما يكون المحكمَّ ضمن هيئة تحكيم مكونة من عدة أشخاص وأحدهم على علم بالشريعة بقدر كاف ، وهذا ما نصت عليه المادة الثالثة من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم السعودي
(وعند تعدد المحكمين يكون رئيسهم على دراية بالقواعد الشرعية والأنظمة التجارية والعرف والتقاليد السارية بالمملكة) .

وأرى كذلك أنه لا بأس أن يكون المحكَّم غير ملم بأحكام الشريعة عندما تكون القضية فنية بحتة وليس فيها شئ من الأمور الشرعية ،خاصة وأن التحكيم في بلادنا ولله الحمد والمنة مراقب بواسطة الشرع عن طريق الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع فإن كان الحكم مخالفا للشرع فلن تنفذه .

ولا شك أنه من الأفضل أن يكون هؤلاء الخبراء الذين يعملون في مجال التحكيم على دراية كافية بالعلوم الشرعية ، وأن يجتهدوا في تحصيل تلك العلوم ليكونوا مؤهلين أكثر للنظر في تلك القضايا ، وليكونوا أكثر اطمئنانا على أن اجتهاداتهم في تلك الأحكام صحيحة ، و لم تتجاوز ما شرع الله ورسوله .

– شروط استحباب لتولي القضاء :

استحب الفقهاء أن يتوفر في القاضي بعض الشروط لغاية الكمال وهي لا شك مستحبة أيضا لمن يتولَّى التحكيم ، من هذه الشروط :

أن يكون كفؤا ؛ أي لائقا قضائيا ، بأن يكون فيه قوة على تنفيذ الحق بنفسه ، فلا يكون ضعيف النفس أحيانا حتى لا يطمع فيجانبه .

ألا يكون مستكبرا عن مشورة من معه من أهل العلم .

أن يكون غنيا عفيفا ورعا فطنا ، متأنيا غير عجول ، كثير التحرز من الحيل غير مخدوع ، لكلامه لين إذا قرب ، وهيبة إذا أوعد ، ووفاء إذا وعد ، لا يطَّلع الناس منه على عورة ، ولا يخشى في الله لومة لائم .

ثانيا : أن يكون خبيرا فيالمجال الذي انتدب له وفي المهام الإجرائية :

أول ما يطرأ على الخاطر عند نشوء نزاع على أمور فنية منصوص على حلها عن طريق التحكيم كيف يتم تحديد مواصفات المحكَّم ؟

هنا تظهر الخبرة كعامل أساسي ومهم ، وعندما نتحدث عن الخبرة لا يقصد بها الخبرة في الجانب الفني فقط بل أيضا في الجانب النظامي ( القانوني ) لإجراءات التحكيم ، فمن الناحية الفنية يجب أن تتوفر في المحكَّم الخبرة العلمية والعملية والتدريبية ، ومن الناحية النظامية ( القانونية ) من المهم جدا أن يكون المحكَّم ذا خبرة في الأنظمة والقوانين المعمول بها في مكان التحكيم ، فليس من المعقول مثلا أن يعين محكَّم صاحب خبرة في المحاماة والاستشارات القانونية إذا كانت خبرته لا تتضمن الخبرة في ممارسة التحكيم ، والأمر كذلك بالنسبة لمهندس مدني أو إنشائي أو خبير في الفيزياء النووية مهما كانت قدراته ومهما كانت خبرته مرتبطة بمواضيع النزاع ، إلا إذا كانت لديه خبرة في إجراءات عملية التحكيم . وقد تكون الخبرة في النواحي النظامية (القانونية ) اقل أهمية عندما تكون هيئة التحكيم مكونة من ثلاثة أشخاص أو أكثر ، وكان أحدهم على الأقل له خبرة وباع في ممارسة التحكيم .

إن توفر الخبرة العملية والعلمية في المجال الفني والنظامي ( القانوني ) ، وفي ممارسة التحكيم ، كلها على حد سواء هي عامل مساعد في استخلاص الحقائق وصولا إلى الحق ، وعلى المحكَّم الذي يعمل في مجال التحكيم الدولي أن يظهر اهتماما بزيادة خبراته العملية والاطلاع على العلاقات التجارية الدولية والعادات المختلفة وأهداف وتوقعات الناس في دول العالم ، فالمحكَّم كغيره يتأثر بالعلم الذي حصل عليه والمجتمع الذي نما فيه .

ثالثا : تعدد المحكَّمين :

إن معرفة موضوع النزاع وكنهه وحجمه بالتفصيل قد يعطي لطرفي النزاع ومستشاريهما قناعة بعدد المحكَّمين اللازمين للنظرفي القضية ، فقد تكون الحاجة لمحكَّم واحد ، خاصة إذا كانت القضية صغيرة وفي حدود خبرة المحكَّم المختار وكان طرفا النزاع يثقان في عدالته و نزاهته .

وفي منازعات صناعة التشييد الهندسي قد نجد خليطا من المشاكل التي تطرح على المحكَّم لحسمها ، وقد تتعلق هذه المشاكل بأمور تعاقدية ومسائل هندسية وفنية بالغة التعقيد ، وتتطلب تخصصات متعددة لحسمها ، ومن ثم فقد يكون من الأوفق أن تتكون هيئة التحكيم من ثلاثة أشخاص أو أكثر .

على العموم إن الذي يحدد ذلك هم المحتكمون ومستشاروهم في الغالب ، ويفضل إذا تعدد المحكَّمون أن يكون العدد وترا حتى يحسم النزاع بالأغلبية ، وقد نصت المادة الرابعة من نظام التحكيم السعودي على ذلك ( يشترط في المحكَّم أن يكون من ذوي الخبرة وحسن السيرة والسلوك كامل الأهلية ، وإذا تعدد المحكَّمون وجب أن يكون عددهم وترا) .

رابعا : اللغة :

من المهم جدا أن يكون المحكَّم على علم دقيق وعملي باللغة المستخدمة في عملية التحكيم ؛ لأنه إذا عين محكَّم لا يجيد اللغة المستخدمة في عملية التحكيم ، فإنه يجب أن يعين مترجما ليترجم له الإثباتات وأقوال الشهود والمداولات مع المحامين ومع هيئة التحكيم إن كانت أكثر من واحد .

إن ترجمة المحادثات بدقة يعتبر أمرا بالغ الصعوبة ، خاصة عندما يدلي شاهد بأقواله بتفصيل دقيق ، كما أن الترجمة تضيف تكاليف إضافية إلى عملية التحكيم أولا لدفع أتعاب المترجم المعين ، وثانيا للوقت الإضافي الذي ستستغرقه عملية التحكيم من وقت المحكَّمين .

إنه من الواجب أن يعي طرفا النزاع جميع العوامل السابقة المؤثرة في اختيار المحكَّم ، وأن تكون واضحة لدى الطرفين ، وأن تراعى عند صياغة وثيقة التحكيم سواء كانت شرطاً في عقد أو مشارطة بعد ظهور النزاع، ولأهمية صياغة وثيقة التحكيم أرى أن يتنبه طرفا النزاع للنقاط التالية وإدراجها في وثيقة التحكيم عند صياغتها :

طريقة اختيار المحكَّمين .

وصف النزاع الذي يتضمنه التحكيم .

عدد المحكَّمين .

تخويل هيئة التحكيم بالاستمرار في الإجراءات عند تقاعس أحد طرفي النزاع التحكيم وفق الشريعة الإسلامية ( في حال كون المتنازعان مسلمين أو أحدهما ).

التحكيم وفق الشريعة الإسلامية ( في حال كون المتنازعين غير مسلمين أو أحدهما ).

تحديد لغة التحكيم .

تخويل المحكَّم أو هيئة التحكيم بزيارة الموقع لفحصه كلما لزم الأمر .

الاتفاق على طريقة وخطوات الترافع أوتخويل المحكَّم أو هيئة التحكيم لتحديد طريقة وخطوات الترافع إذا لم يتفق عليهاالطرفان .

تحديد أسلوب السماع للشهود .

تحديد طريقة استدعاء الشهود .

تحديد إمكانية الاستعانة بخبراء من خارج هيئة التحكيم إذا لزم الأمر وطريقة تعيينهم .

تحديد إمكانية تمثيل الطرفين بمحامين أووكلاء .

تحديد إمكانية إصدار حكم مؤقت .

تحديد المدة التي يجب أن يصدر فيها الحكم.

بيان التكاليف وطريقة احتسابها .

الواجبات والمهام التي على المحكَّمين أداؤها :

بما أن المحكَّم قاضٍ يختاره الخصوم ليقوم بدراسة القضية ويصدر فيها حكما ، لكونهم يثقون في عدالته ونزاهته ، ويغلب على ظنهم أنه سيصل إلى حكم عادل ومنصف ، لذا يترتب على المحكَّم واجبات من ثلاث جهات :

أولا : واجبات من جهة الخصوم .

ثانيا : واجبات من جهة الشرع والنظام (القانون ) .

ثالثا : واجبات من جهة الأخلاق والآداب .

أولا : الواجبات المحددة من جهة الخصوم :

قد يحصل أن يضع طرفا النزاع مهام محددة ليؤديها المحكَّم أو هيئة التحكيم ، إما عند توقيع العقد ، أو بعد ظهور النزاع ،ولذا يتوجب على المحكَّم المعين أو هيئة التحكيم المعينة أن يدققوا بحرص شرط التحكيم أو مشارطة التحكيم ، للإطلاع عما إذا تضمنت مهام وشروطاً على المحكَّم غير مقنعة ، أو مستحيلة ، على سبيل المثال طلب إصدار الحكم في مدة قصيرة جدا يستحيل خلالها الوصول إلى حكم . وقد يطلب طرفا النزاع بعض المهام أثناء فترات عملية التحكيم ، وفي هذه الحالة يمكن تنفيذها بالتشاور مع المحكَّم أو هيئة التحكيم .

وإذا كانت تلك المهام الجديدة ذات أهمية عظيمة للوصول إلى حل منصف في القضية ، فإن على المحكَّمين الذين يشعرون بعدم قدرتهم على تحقيق تلك المهام الجديدة ، أن يقدموا استقالتهم فليس أمامهم خيار آخر. وعلى الرغم من أن طرفي النزاع لهما الحق في طلب تلك المهام الإضافية المهمة ،ويعتبر تصرفهما موضوعيا ، إلا أنه ليس لهما الحق بالمطالبة بالأجور الضائعة التي غرموها أو خسروها لما مضى من عمل المحكَّم أو هيئة التحكيم ؛ لأن طلب تلك المهامجاء بعد التكليف .

ثانيا : الواجبات المحددة من جهة الشرع والنظام ( القانون ):

أن يعمل كقاضي : إن مهمة المحكَّم بأن يتصرف كقاضي مهمة تمتد لكل جوانب الإجراءات التحكيمية ، فلا بد من أمور يجب أن يتقيد بها وهي :

العدل بين الخصمين : المقصود بالعدل بين الخصمين هنا ليس العدل في الحكم ، فهذا أمر مفروغ منه ، إذ أن العدل في الحكم هو القضاء كله أصلا وغاية ، إنما المقصود العدل في التعامل مع الخصمين ، وهو على قدر كبير من الأهمية في تأكيد عامل النزاهة والموضوعية والمساواة ، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم ) ، لذا على المحكَّم أن يعدل بين الخصمين في كل شئ ، بدءً بدخول الخصمين عليه وإقباله عليهما ، وفي الخطاب وفي اللحظ واللفظ والإنصات ، وفي القيام والجلوس والكلام ، حتى في النظر إليهما ، وإعطاء كل منهما فرصة عادلة لعرض قضيته ،ومن الواضح أنه ليس لهيئة التحكيم ككل ، ولا لأي أحد من أعضائها منفردا أن يناقش القضية مع أحد الخصوم في ظل غياب الطرف الثاني ، إلا في حالة تغيبه عن الجلسة بعد أن أعطي خبرا بموعد الجلسة وبطريقة سليمة وفي وقت كاف ، وإن عدم الالتزام بهذا الواجب يؤدي إلى تحمل المسئولية وإقالة المحكَّم .

أن لا يحكم أثناء الغضب أو عند عدماستقامة الفكر: الغضب يؤثر في توازن الإنسان بسبب الانفعال ، فلا يكون حكمه سديدا غالبا ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم ( لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ) . ويمكن أن يقاس على الغضب جميع الحالات التي تؤثر في فكر الإنسان ، فتمنع إصدار حكم عادل أو تشغل عن استيفاء النظر في القضية كالجوع والعطش والألم ، فلا يكون الحكم إلا عند استقامة الفكر .

العمل بحرص والرجوع عن الخطأ عند وقوعه : ،لا شك أن المحكَّمين الذين يقبلون تعيينهم ، ويدخلون في عقد مع طرفي النزاع لإتمام إجراءات التحكيم ،مطلوب منهم أن يتأكدوا من أن إجراءات التحكيم تنفذ بطريقة صحيحة ، وأن يصدروا حكماعادلا ومحكما ومبررا ، وهذا يتطلب منهم أن يعملوا بحرص وبدقة فائقة ، وعلى المحكَّم إذا تبين له أنه أخطأ في قضائه فعليه أن يظهر رجوعه عن ذلك ، ولا يمنعه الاستحياء من الناس ولا الخوف ، فالله تعالى يحفظه من الناس ، والناس لا يحفظونه من عذاب الله جل و علا .

العمل بجد ومثابرة : ليس هناك آكد من أن يعمل المحكَّم في إنهاء مهمته بجد ومثابرة ؛ لأن تأخير العدالة جور ، ولذا فإن بعض الأنظمة والقوانين التي تنظم عملية التحكيم ، تؤكد على أن تنتهي إجراءات التحكيمفي سرعة معقولة ، وذلك بتحديد مدة محددة لإصدار الحكم ، بل إن بعض الأنظمة تنص علىأن المحكَّمين الذين يفشلون في إنهاء الإجراءات وإصدار الحكم بسرعة محددة ، قديقالون بواسطة محكمة مختصة ويحرمون من أي استحقاق للتعويض ، أو الحصول على أتعابلقاء ما قاموا به من عمل في القضية ، لذا من المهم جدا أن يتأكد المحكَّمون منأنهم ليسوا فقط مختصين في موضوع النزاع وقادرين على إنهاء الإجراءات بما يتناسب معسرعة متطلبات الطرفين ، ومتمكنين من الوصول إلى قرار في الحقائق التي تظهر من مراجعة المستندات ، بل لا بد أن يتأكدوا أيضا أن لديهم الوقت لتكريس الجهد ،والرجوع إلى المراجع العلمية اللازمة عند الحاجة ، لإصدار حكم منصف للطرفين وإعطاءالاهتمام بكل الظروف المحيطة بالقضية .

ثالثا : الواجبات من جهة الآداب والأخلاق :

عندما نتحدث عن الآداب والأخلاقيات المتعلقة بالمحكَّمين لا يعني ذلك أنها مجرد آداب وأخلاقيات ، وأنه لا تأثير قويلها في عملية التحكيم ، بل إن افتقاد هذه الآداب والأخلاقيات يؤدي حتما إلى الطعنفي المحكَّم وإبطال حكمه في حالة ثبوت فقدانها وعدم العمل بها ، وفيما يلي نعرضبعض تلك الآداب والأخلاقيات المطلوبة من المحكَّم :

ألا يقبل النظر في مطالبة تثير الشك فيتحيزه لأحد الطرفين ، كأن يكون أحد الخصمين قريبا له ، أو بينه وبين المحكَّممصلحة ، أو علاقة خاصة أو مشتركة في عمل أو تجارة ونحو ذلك ، وهذا الواجب يجب أنيكون مستمرا قبل وأثناء التعيين وبعد إصدار الحكم أيضا ، ويمكن للمحكَّم أن يقبلالتعيين في مثل هذه الحالة إذا بين تلك العلاقة لجميع الأطراف ، وقبل الخصم به علىالرغم من معرفته بتلك العلاقة التي بينها المحكَّم ، وعندئذ ينبغي أن يسجل ذلككتابيا بمحضر ويوقع عليه الجميع .

أن يحذر من أي اتصال غير ملائم مع أحدالطرفين ، وأن لا يقبل أي هدية منهما أو احتفاء به أو إكرام .

ألا يقبل التعيين كمحكَّم إلا إذا كانيملك الخبرة المناسبة والقدرة على حل النزاع ، وأن يكون لديه الوقت الكافي لأداءالمهمة .

أن يخلص للعلاقة الموثوقة والقناعة التيتأصلت لدى الطرفين بكفاءته وحياده وعدله .

أن لا يستجدي أو يلتمس التعيين كمحكَّم في قضيةما ، وإن كان لا مانع أن يعلن بطريقة مقبولة عن خبراته ومهاراته .

أن لا يحكم إلا بما طالب به الخصمان من حقوق ،فإن ظهر له أثناء دراسته للقضية استحقاق لأي من الطرفين لشيء لم يطالب به فليس لهأن يحكم له به .

ألا يستفيد من المعلومات التي حصل عليهاأثناء إجراءات التحكيم لتحقيق أي مغنم لنفسه أو للغير أو المساس بمصالح الطرفين .

أن يلتزم بالمحافظة على سرية كافةالمسائل المتعلقة بإجراءات التحكيم بما فيها المداولات وقرار التحكيم.

ولعله من المناسب بعد أن وضحنا الواجبات الملقاة على المحكَّم ، الذي يعد في الحقيقة قاضيا ينال ولايته باختيار الخصوم أننتأمل في رسالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، التي أرسلها إلى أبي موسى الأشعري يوصيه ويرشده ويوجهه إلى ما يعينه على القيام بمهمته في القضاء ، وهذانصها ( أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك ، فإنهلا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له ، آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك ، حتى لايطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف في عدلك ، البينة على المدعي واليمين على منأنكر ، والصلح جائز بين المسلمين ألا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ، ومن ادعى حقاغائبا أو بينة ، فاضرب له أمدا ينتهي إليه ، فإن بينه أعطيته بحقه ، وإن أعجزه ذلكاستحللت عليه قضيته ، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعماء . ولا يمنعك قضاءقضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك ، فهديت فيه لرشدك ، أن تراجع فيه الحق ، فإن الحققديم لا يبطله شئ ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل . والمسلمون عدول بعضهمعلى بعض ، إلا مجربا عليه شهادة زور ، أو مجلودا في حد ، أو ظنينا في ولاء أوقرابة ، فإن الله تولى من العباد السرائر ، وستر عليهم الحدود إلا بالبيناتوالأيمان . ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ،ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى اللهوأشبهها بالحق .

وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذيبالناس والتنكر عند الخصومة ، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجرويحسن به الذكر ، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله ، فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصا، فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته ، والسلام عليك ورحمة الله ).

فيا لها من كلمات شديدة جاءت على جل ماذكرناه آنفا من الواجبات بألفاظ مختصرة وبيان محكم ، وهذه الكلمات ليست وليدة عصورالتقدم العلمي ، بل هي رسالة موجهة لكل راغب في العدل وإحقاق الحق منذ أربعة عشرقرنا من الزمان ، ولكنه الإسلام الذي شع في قلب الفاروق فجعله يبصر الأمور بجلاء .

حقوق المحكَّمين:

كما إن على المحكمين واجبات تجاه الخصوموتجاه الشرع والنظام وتجاه القضية فإنهم أيضا لهم حقوق ومن حقوقهم :

1- الحصول على أتعاب مقابل أعمالهم في التحكيم :

من حق المحكمين أن يحصلوا علىأتعاب مقابل عملهم في التحكيم ، و ذلك سائغ شرعا حيث إن المحكم كالقاضي ، وقد أجازالعلماء أن يجعل للقاضي مبلغا من المال مقابل تفرغه للقضاء بين الناس ، ولتسدحاجته وحاجة عياله وذلك قياسا على الحاكم حيث إن الصحابة رضي الله عنهم بعدمبايعتهم لأبي بكر رضي الله عنه بالخلافة ورأوه في اليوم التالي من توليه الخلافةفي الصباح الباكر حاملا متاعا من متاع أهله ، فسألوه عن وجهته ، فأخبرهم أنه ذاهبإلى السوق لغرض الاتجار والتكسب بحثا عن رزقه ورزق عياله ، فقرر الصحابة أنه يجبأن يكفى الخليفة مؤنة ذلك ، وأن يجعل له جعلا من بيت المال يكفيه هو وعياله .

وهذا يقتضي جواز حصول المحكَّمين علىأتعاب مقابل ما يبذلونه من جهد في القضية ، ومقابل ما يقضونه من وقت فيها ، ولكنيجب أن تكون أتعاب المحكَّمين معقولة ومعتدلة ومقبولة ، مع الأخذ في الاعتبار كلالظروف المحيطة بنظر القضية ، من أجور التنقل وعمل الفحوصات والسفر والسكن والوقتوالجهد ، ويجب على المحكَّم أن يوضح أسس احتساب الأتعاب والمصاريف .

وإن كان هناك بعض الجهات المختصةبالتحكيم تقدر الأتعاب بحسب نسب وجداول تعمل بها ، ولكنني أرى أن تحتسب الأتعاببحسب كل قضية والظروف المحيطة بها ، وقد نصت المادة الثانية والعشرون من نظامالتحكيم على أن ( تحدد أتعاب المحكَّمين باتفاق الخصوم ،ويودع ما لم يدفع منها لهم خلال خمسة أيام من صدور القرار باعتماد وثيقة التحكيملدى الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع ، وتصرف خلال أسبوع من تاريخ صدور الأمربتنفيذ الحكم ) .

2- الحصانة من المقاضاة :

لا شك أن المتخصصين فيالأعمال الحرة والخدمية ، كالمحامين والأطباء والمهندسين والمحاسبين وغيرهم ، عليهمأن يؤدوا أعمالهم المتخصصة بمهارة صحيحة واهتمام بالغ ، ويتحملون مسئولية الأضرارالناتجة عن تقاعسهم أمام الطرف المتضرر إذا فشلوا في أداء مهمتهم على الوجه الصحيح، وعليه فإن الأخصائيين الذين لا يتصرفون بحرص ويسببون الخسارة للغير قد يتحملوننتائج ذلك بحكم قضائي .

ولكن هؤلاء إذا عملوا في التحكيم وأصدرواحكما ، وتولدت قناعة عند لدى الطرف المحكوم عليه أنه قد ظلم وهذا قد يحدث غالبا ،فهل يحق له لمجرد هذا الشعور أن يقيم دعوى ضد المحكَّم أو هيئة التحكيم مطالبا بالتعويض .

ولم أجد في النظام السعودي – للتحكيمفيما قرأت – عن وجود مادة تحمي المحكَّمين من مقاضاة الخصوم لهم على الأحكام التييصدرونها .

فيما نجد في الفقه الإسلامي أنه إذا ثبتعلى المحكَّم الجور والتقصير المتعمد فإنه يلزمه الضمان في ماله قياسا على القاضي، حيث قرر الفقهاء على أن القاضي إذا تعمد الجور وأقر بأنه حكم متعمدا بغير حقلزمه الضمان في ماله ، قال ابن فرحون في تبصرة الحكام نقلا عن مختصر الواضحة : ( على القاضي إذا أقر بأنه حكم بالجورأو ثبت ذلك عليه بالبينة العقوبة الموجعة ، ويعزل ويشهر ويفضح ، ولا تجوز ولايتهأبدا ولا شهادته ، وإن صلحت حاله وأحدث توبة لما اجترم في حكم الله تعالى ، ويكتبأمره في كتاب لئلا يندرس الزمان فتقبل شهادته ، والقاضي أقبح من شاهد الزور حالا ).

وهذا الذي ذكره ابن فرحون رحمه الله ،إنما يكون عندما يتعمد القاضي الجور ويقر بأنه تعمد ذلك ، أو يثبت عليه ببينةقطعية أنه تعمد الجور ، ولكن لو أنه اجتهد فأخطأ ، ثم تبين له الخطأ ، وكانالمحكوم عليه قد دفع مالا للمحكوم له فتصرف فيه ، فالضمان في هذه الحالة لا يكونمن مال القاضي ، وإنما من مال الذي حُكم له حتى وإن كان قد تصرف فيما اخذ . وينبغيأن يكون المحكَّم كالقاضي في ذلك ، وإلا لترك المؤهلين للتحكيم العمل في هذاالمجال وزهدوا فيه .

ونجد أن القوانين في الدول الغربية تنحىمنحيين في هذا الموضوع ، فالدول التي تطبق القانون المدني لا توفر للمحكَّمالحصانة ضد المقاضاة ، فنجد في القانون الأسترالي على سبيل المثال أنه ينص على أنالمحكَّم الذي لا يؤدي مهامه كاملة ، والمفترضة لقبوله أن يعين كمحكَّم ، أو لايؤديها خلال المدة المحددة قد يتحمل المسئولية أمام الأطراف لجميع الخسائر الناتجةمن تصرفه الخاطئ ، ومع ذلك لا يكون ذلك في كل الأحوال فالمسئولية الناتجة عن أخطاءإجراءات التحكيم ، والقرارات الخاطئة محددة بالأضرار الناتجة عن العمد أو التقاعسوالإهمال ، والقانون الألماني يقف نفس الموقف .
بينما نجد في الدول التي تطبق القانونالعام أنها تعتبر المحكَّم محصناً من المسئولية ، وهذا مؤسس على أرضية دستوراجتماعي ، بأن المحكمين يؤدون عملا قضائيا أو شبه قضائي ، ويجب أن يخولوا بحصانةمن الشكاوى حتى يؤدوا مهامهم باستقلالية ، فلا يمكن في دول القانون العام أن يتحملالمحكَّم المسئولية عن أدائه لمهامه التحكيمية إلا إذا ثبت عليه سوء النية . إذاحق المحكَّم بوجود نظام يحميه من دعاوى الخصوم أمر في غاية الأهمية حتى يعمل باستقلالوحرية واطمئنان ، وإلا لأحجم المؤهلون لسد هذه الثغرة من ثغور الإسلام عن القيامبهذه المهمة خوفا من ما قد يلحقهم من أضرار مادية أو معنوية.