القضاء إلي أين؟؟

قراءة في مشروع قانون السلطة القضائية (4)

دكتور محمد سليم العوَّا

من حسنات مشروع تعديل قانون السلطة القضائية أنه جعل الاختصاص بالنظر في الدعاوى التي يرفعها رجال القضاء والنيابة العامة، بإلغاء القرارات الإدارية النهائية المتعلقة بأي شأن من شؤونهم، للدوائر المدنية بمحكمة استئناف القاهرة. وأجاز الطعن في الأحكام التي تصدر في هذه الدعاوى أمام دوائر المواد المدنية والتجارية بمحكمة النقض. وقد كان تقرير التقاضي على درجتين في شؤون القضاة مطلباً عزيزاً لهم عند كل تعديل لقانون السلطة القضائية، واستجابةُ الحكومة لهذا المطلب حسنة تحمد لها، فمن تقاليدنا الإسلامية أن نقول للمحسن أحسنت كما نقول للمسيء أسأت.

وقد صنع المشروع هذا الصنيع الحسن نفسه بالنسبة لقضاء التأديب فناطه ـ فـي درجـة أولى ـ بمجلس يشكل من خمسة أعضاء. وأجاز الطعن في أحكامه، للنائب العام وللمحكوم عليه، في خلال ثلاثين يوماً من صدور الحكم، أمام مجلس تأديب أعلى، يرأسه رئيس محكمة النقض، ويضم أقدم ثلاثة من رؤساء محاكم الاستئناف وأحدث ثلاثة نواب لرئيس محكمة النقض.

وقد كان حرمان القضاة من أن يكون نظر شؤونهم، طلباتٍ وتأديباً، على درجتين أمراً منتقداً في قانون السلطة القضائية الحالي. ذلك أن المراجعة القضائية ضرورة ـ في كل نظام قضائي متحضر ـ تمنع استقرار الخطأ الذي لا يعصم منه أحد. وتعيد الحق إلى نصابه عندما يختل ميزانه لأي سبب كان، واقعياً أو قانونياً، في يد المحكمة التي تنظر قضية ما.

وللمحكمة الدستورية العليا في مصر قضاء مستقر في ضرورة خضوع كل حكم قضائي لمراجعة تثبت صوابه، إن كان كذلك، وتكشف عواره، وتصحح ما قضى به، إن كانت شابته شائبة من شوائب الخطأ في النظر أو التقدير أو التقرير.

ولم يكن أحد محروماً من هذا الحق سوى رجال القضاء. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. لذلك عَدَدَتُ نصَّ المشروع الجديد على جعل التقاضي على درجتين، في طلبات رجال القضاء وفي تأديبهم، حسنة من حسناته.

لكن الحزن القديم المغروس في طباع المصريين، لطول ما أرهقهم الاستبداد، جعلهم يقولون في أمثالهم، وكأنهم يقبلون ذلك، (الحلو ما يكملش!). وهكذا لم يكمل جمال النص، بل النصين المتعلقين بالتقاضي في شؤون رجال القضاء وفي تأديبهم.

وجاء عدم الكمال شاملاً تقريباً لكل أجزاء النصوص المتعلقة بهذا الأمر، بل ربما صح أنه جاء مشوِّهاً للفكرة الأصلية للمراجعة القضائية، مناقضاً لمقصودها. إذ نص المشروع في المادة (85) منه وفي المادة (106 الفقرة الثالثة) على أن يقدم القاضي دفاعه بنفسه أو ينيب عنه في ذلك أحد رجال القضاء الحاليين أو السابقين من غير أرباب الوظائف أو المهن. وهذا النص يعيبه ما يعيب النصوص الحالية. فهو، وإن وسع من نطاق من يجوز الاستعانة بهم بإضافة رجال القضاء السابقين، وباستبعاد النص على عدم جواز أن يكون المدافع عن القاضي من مستشاري محكمة النقض (وهو أمر كان منتقداً، في الدوائر القانونية كافة، لما له من سبب سياسي لا شأن له بالملاءمات القانونية أو القضائية ـ مقالنا في صحيفة الأسبوع 5/6/2006) إلا أنه جاء قاصراً عن أن يسمح للقاضي بالاستعانة بمحامٍ محترف. وهذا القصور حرمان للقاضي ـ دون غـيره من خـلق الله ـ من أن يدفع عنه ما رُمي به، أو يطالب له بما يستحقه، من اتخذ من الدفاع مهنة يجيدها ويتقن أساليبها. والدفاع في القضايا ليس بالضرورة مما يحسنه القضاة أو يستطيعونه، فمران القاضي ودربته على الوزن بميزان الحق، وعلى رؤية الرأيين على قدم المساواة، قد لا يمكنه ـ بل هو في الغالب لا يمكنه ـ من إحسان الدفاع عما يراه حقاً له أو لغيره، أو إحسان درء تهمة يُرمى بها برئ، سواء أكان هو المدافع نفسه أم سواه من رجال القضاء.

ولا يكتمل الحسن الذي أشرت إليه، في جعل التقاضي على درجتين، إلا بتقرير المساواة بين القضاة وغيرهم من الناس في الاستعانة بالمحامين للدفاع عنهم أمام دوائر شؤون رجال القضاء وأمام مجالس التأديب.

وأخطر من ذلك أن الطعن الذي أباحه مشروع القانون جاء مقيداً بالأسباب التي يكون على أساسها الطعن بطريق النقض. وهي أسباب تتعلق بالقانون وتطبيقه والخطأ فيه وببطلان الأحكام وإجراءاتها. فلا يصح ـ قانوناً ـ أن يقال إن هذه درجة ثانية من درجات التقاضي. إذ الدرجة الثانية ـ أو المراجعة القضائية ـ تعني أن يعاد نظر الموضوع برمته أمام المحكمة الأعلى. وهو أمر غير وارد في حالات الطعن للأسباب المبيحة للطعن بالنقض، إذ يمتنع في هذه الحالة على محكمة الطعن التعرض للموضوع (!) فكأن المشروع الحكومي سحب بيده اليسرى ما أوهمت نصوصه أنه يعطيه باليد اليمنى.

ومن وجوه عدم كمال الحسن المذكور أن نصوص التأديب الحالية (المادة 103) تجيز لمجلس التأديب أن يأمر بوقف القاضي عن مباشرة أعمال وظيفته، أو تقرير أنه في إجازة حتمية حتى تنتهي المحاكمة؛ فجاء المشروع الجديد وجعل اعتبار القاضي في إجازة حتمية أمراً لازماً مقرراً بنص القانون، وحرم مجلس التأديب من السلطة التقديرية التي مبناها رجحان الإدانة أو عدم رجحانها في ظاهر الأوراق، وقبل الفحص الدقيق لموضوع التهمة الموجهة إلى القاضي.

ورتب مشروع القانون على ذلك حرمان القاضي من جزء كبير من مستحقاته المالية إلى أن يقضى ببراءته، وهو أمر قد يطول أمده، لأسباب عديدة، وحرمان القاضي مما رتَّبَ عليه حياته من دخله الوظيفي ظلم بينٌ له لا يمكن قبوله. وحرمان القاضي من هذه المستحقات لمجرد (لومه) ظلم أكبر يُحِّملُ نفسه ما لا تطيق من يتحمل كبر تقريره وتنفيذه!

والنص الحالي أكثر عدالة، وأليق بالقضاء ورجاله، من النص الوارد في المشروع الجديد. والقول نفسه ينطبق على حالة فقد القاضي لأسباب الصلاحية لولاية القضاء لغير الأسباب الصحية (مادة 111/1 من المشروع، وفقرة 4 من النص الحالي).

والأَولَى بالمشروع أن يعود إلى ما هو مقرر في النصوص الحالية تجنباً لظلم القاضي إذا تبين لمجلس التأديب أو الصلاحية أن أسباب إحالته إليه غير صحيحة، أو غير موجبة لإدانته أو لإحالته إلى المعاش أو لنقله إلى وظيفة أخرى. وبقاء نص المشروع كما هو يسيء إلى القاضي البرئ، والقاضي الصالح لولاية القضاء بغير سبب، أو في الأقل بغير سبب يسوغ هذه الإساءة. وهو ينافي أصل البراءة المقرر في الدستور والقوانين كافة, وفي النظم القانونية بلا استثناء.

وللقضاة اعتراضٌ صحيح مشروعٌ على جعل الدرجة الثانية التي يُطْعنُ أمامها في أحكام التأديب مشكلة تشكيلاً خاصاً، يحرمَ القضاة من الحق المقرر دستورياً في وقوف كل مواطن أمام قاضيه الطبيعي، لا أمام قاضٍ بعينه يخصص لنظر قضية بذاتها.

ومن حسنات مشروع القانون الجديد أيضاً ما تضمنته المادة الثالثة منه من تقرير موازنة سنوية مستقلة للقضاء وللنيابة العامة يوزع اعتماداتها، ويباشر سلطات وزير المالية في شأنها، مجلس القضاء الأعلى. وقد جاء هذا النص، استجابة لمطلب للقضاة قديم، مقرراً عنصراً مهماً من عناصر استقلال القضاء باعتباره سلطة من السلطات الثلاث لا يجوز أن تهيمن على شؤونها المالية سلطة سواها.

المطالع لقانون السلطة القضائية يجد فيه نحواً من ستين اختصاصاً لوزير العدل. يَرِدُ أولها في المادة (5) من القانون، ويَرِدُ آخرها في المادة (129) منه. وهذه الاختصاصات متعلقة بالقضاء والنيابة ورجالهما وهي غير الاختصاصات العديدة المنوطة بالوزير في شأن أعوان القضاء الذين تنظم شؤونهم المواد (131) إلى (171) من قانون السلطة القضائية. ولعل أخطر هذه الاختصاصات هو ما أشرت إليه في المقال الأول من هذه السلسلة من اختيار رؤساء المحاكم الابتدائية وأعضاء إدارة التفتيش القضائي.

ولا يتسع المقام لتفصيل تلك الاختصاصات، وبيان الرأي فيها، وذكر ما يعيب القانون وينال من استقلال القضاء بسببها. ولكن المقام يتسع قطعاً للقول بأن أي تعديل جاد لقانون السلطة القضائية يرمي إلى إصلاح الشأن القضائي، وإلى تحقيق استقلال حقيقي للقضاء لا يتم إلا بعد مراجعة هذه الاختصاصات واحداًً واحداً، والنظر في النصوص المقررة لها نصاً نصاً، ليبقى منها ما لا يؤثر في استقلال القضاء ولا يُمَكِّن السلطة التنفيذية من السيطرة على أي شأن من شؤونه، وليلغى منها ـ إلى غير رجعة ـ ما يمكِّن من هذين الأمرين أو أحدهما.

وللقضاة مطلبٌ مُلِحٌ، سماه كثيرون منهم خطاً أحمر، هو أن تدرج في نصوص قانون السلطة القضائية النصوص المنظمة لنادي القضاة. وقد وضع رجال القضاء في مشروعهم نصوصاً تنظم نادي القضاة وشؤونه كافة.

والقضاء المصري، قضاء محكمة النقض وقضاء المحكمة الإدارية العليا وقضاء المحكمة الدستورية العليا مستقر على أن نادي القضاة شأن من شؤونهم تستقل بإدارته جمعيته العامة ومجلسه المنتخب. قضت محكمة النقض بذلك غير مرة في شأن نادي القضاة؛ وقضت المحكمة الإدارية بذلك في شأن نادي قضاة مجلس الدولة؛ وقضت المحكمة الدستورية العليا بذلك في شأن نادي قضاتها.

وليس بدعاً أن ينظم قانون السلطة القضائية شؤون نادي القضاة فقد سبق أن صدر القرار الجمهوري بالقانون رقم 84 لسنة 1969 في شان نادي القضاة متضمناً تشكيل مجلس إدارته، ومخولاً ذلك المجلس وضع النظام الأساسي للنادي دون تقيد بأحكام قانون الجمعيات. ومن قبل تدخل المشرع في شأن نادي القضاة بالقانون رقم 76 لسنة 1963.

فما الذي يمنع من الاستجابة لمطلب القضاة الذي أكدته الجمعية العامة لناديهم في جميع اجتماعاتها منذ عام 1990 حتى الآن؟

وما الذي يضير الدولة، أو الحكومة، في أن يكون تنظيم نادي القضاة جزءً من تنظيم شؤونهم الوارد في قانون السلطة القضائية؟

وهل يملك أحد أن يرغم القضاة، في شأن ناديهم، على أن يخضعوا لغير ما تقرره جمعيته العامة؟؟

هل فات الأوان؟ الجواب لا.

فإنه لا يزال في الأمر متسع ـ إن اتسعت النفوس ـ لتدارك هذه المشكلة المزمنة عند عرض المشروع على مجلسي الشعب والشورى. وذلك بأن يقوم النواب المنتخبون ـ حقاً ـ بالدفاع عن استقلال القضاء واقتراح النصوص التي تضمن هذا الاستقلال. وليس المطلوب من هؤلاء النواب بذل جهد جديد. فقد كفاهم ذلك مشروع نادي القضاة لتعديل قانون السلطة القضائية، وهو مشروع حظي بموافقة وتأييد الجمعيات العامة لقضاة مصر المعقودة منذ عام 1990 حتى عام 2006. وكانت اللجنة التي أعدت هذا المشروع مشكلة بتكليف من المستشار فاروق سيف النصر، وزير العدل آنئذ، برئاسة المستشار وجدي عبد الصمد (الذي كان قد أحيل إلى المعاش رئيساً لمحكمة النقض) والمستشار إبراهيم رضوان النائب الأول لرئيس محكمة النقض ـ في ذلك الوقت ـ والمستشار سري صيام نائب رئيس محكمة النقض، وهذان المستشاران كانا يمثلان محكمتهما في اللجنة. وكان المستشار الدكتور فتحي نجيب والمستشار السيد حشيش يمثلان إدارة التشريع بوزارة العدل، إذ كان الأول رئيسها والثاني وكيلها. وكان يمثل نادي القضاة في هذه اللجنة المستشاران يحيى الرفاعي وأحمد مكي. ووافق على المشروع بعد إعداده ووعد بإصداره كل من المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل والدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء. وعلى الرغم من أن هذا المشروع لا يلبي جميع طموحات القضاة في الاستقلال التام عن السلطة التنفيذية فإنهم قبلوه ووافقوا عليه وأقروه في جمعياتهم العامة إيماناً بأن ما لا يدرك كله لا يترك جُله(!)

والفارق بين المشروع المذكور وبين مشروع الحكومة الحالي هو الفارق بين فلسفتي الاستقلال والاحتواء. على الأولى يقوم مشروع نادي القضاة. وعلى الثانية يقوم مشروع الحكومة. والتلفيق يفسد العمل، وهو مكروه من سلوك الناس فكيف بسلوك المشرع؟!

وكم تمنيت وأنا أكتب هذه الدراسة أن يكون في المجلس أمثال ممتاز نصار وحلمي مراد وعادل عيد ومحمود القاضي رحمهم الله جميعاً ليتبنوا هذا المشروع ويشرحوا للنواب ـ من الحكومة قبل المعارضة ـ مزايا إصداره والعمل به. ولكنني ـ مع غيابهم ـ أرجو ألا يعدم المجلسُ، بل المجلسان، رُشْداً يحوِّل فساد المشروع إلى صلاح، ويمنع إحكام قبضة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية.

فإن لم يكن مما تريده الحكومة من إحكام قبضتها على السلطة القضائية بُدٌّ، فإنه خير لمجلسي الشعب والشورى، وللمصريين جميعاً، ألا يصدر الآن قانون جديد للسلطة القضائية. فعدم صدور القانون أصلاً خيرٌ من صدوره معيباً، غير محقق للحد الأدنى من متطلبات استقلال القضاء وضمانات حصانته وحفظ كرامة رجاله.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت