ملاحظات على اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا

الاستاذ الدكتور غازي فيصل مهدي

نص البند (أ) من المادة الرابعة والاربعين من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية لسنة 2004 على ان يجري تشكيل محكمة في العراق بقانون وتسمى المحكمة الاتحادية العليا . اما البند (ب) من ذات المادة فقد نص على ان تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي :

الاختصاص الحصري والاصيل في الدعاوى بين الحكومة العراقية الانتقالية وحكومات الاقاليم وادارات المحافظات والبلديات والادارات المحلية .

الاختصاص الحصري والاصيل وبناء على دعوى من مدع او بناء على احالة من محكمة اخرى في دعاوى بأن قانوناً او نظاماً او تعليمات صادرة عن الحكومة الاتحادية او الحكومات الاقليمية او ادارات المحافظات والبلديات والادارات المحلية لا تتفق مع احكام هذا القانون .

تحدد الصلاحية الاستئنافية التقديرية للمحكمة العليا الاتحادية بقانون اتحادي . هذا ويلاحظ على النص المذكور انه لم يكن دقيقاً في استعمال المسميات القانونية فمرة يسمي السلطة في المركز بـ (الحكومة العراقية الانتقالية) وفي اخرى يسميها بـ (الحكومة الاتحادية) وكذلك بالنسبة للمحكمة , فمرة يسميها بـ (المحكمة الاتحادية العليا) وفي اخرى يسميها بـ (المحكمة العليا الاتحادية ). يضاف الى ذلك ان اناطة اختصاص الرقابة على دستورية الانظمة والتعليمات بالمحكمة الاتحادية العليا , جعلت منها محكمة اول درجة , ورمت عليه منازعات كان لها منتدح عنها .

اما بشأن الصلاحية الاستئنافية التقديرية للمحكمة , فأنها على غير وفاق والمنطق القانوني , لانه اذا تم نصب المحكمة المذكورة كمحكمة استئناف فأي محكمة سيتم الطعن بأحكامها امامها عن طريق التمييز ؟ وهل يبقى من صفتها (العليا) شيء اذا كانت محكمة استئناف ؟

وعلى أية حال فقد جاء قانون المحكمة رقم (30) لسنة 2005 ليحدد هو الاخر اختصاصات المحكمة وعلى الوجه الاتي :

اولاً : الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية .

ثانياً: الفصل في المنازعات المتعلقة بشرعية القوانين والقرارات والانظمة والتعليمات والاوامر الصادرة من اية جهة تملك حق اصدارها والغاء التي تتعارض منها مع احكام قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية , ويكون ذلك بناء على طلب من محكمة او جهة رسمية او من مدع ذي مصلحة .

ثالثاً: النظر في الطعون المقدمة على الاحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الاداري .

رابعاً: النظر بالدعاوى المقامة امامها بصفة استئنافية وينظم اختصاصها بقانون اتحادي . هذا والملاحظ على قانون المحكمة انه لم يكن موافقاً لاحكام قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية واليكم مصاديق ذلك:

ان الرقابة على الدستورية في قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تتساقط على القوانين والانظمة والتعليمات في حين ان قانون المحكمة اضاف اليها القرارات والاوامر الصادرة من اية جهة تملك حق اصدارها . فاذا كان القصد من لفظة (القرارات) القرارات التشريعية فلا اشكال في الامر لان لها قوة القانون . اما بالنسبة (للاوامر) فهي تنصرف الى القرارات الادارية الفردية , وهذا اختصاص دخيل لا يليق بالمحكمة ممارسته , لانه من حصة محاكم الدرجة الاولى في القضاءين العادي والاداري . اضافة الى ذلك فأن عبارة (الصادرة من اية جهة تملك حق اصدارها ) غير دقيقة لان الجهات الرسمية التي تصدر القرارات الادارية تملك سلطة لاحقاً .

فيما يخص الاختصاص الثالث والمتعلق بالنظر في الطعون المقدمة على الاحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الاداري , فهو الاخر اختصاص دخيل لا مستند له في قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية . فما دام القانون الاخير قد حدد اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا على وجه الحصر والالزام , فلا يجوز بعد ذلك لقانون المحكمة ان يضيف اليها جديداً , والا فأنه يكون غير دستوري من هذا الوجه , وبالتالي يجوز الطعن فيه امام المحكمة المذكورة ذاتها . زيادة على ذلك فان اناطة الاختصاص المذكور بالمحكمة الاتحادية العليا يعترض قواعد المنطق القانوني السليم , لان محكمة القضاء الاداري تعد جزءاً من القضاء الاداري في العراق , وان المحكمة او الجهة التي تختص بنظر الطعون على احكامها يجب ان تنتمي الى القضاء المذكور وهذا لعمري اصل تصادقت عليه قوانين الدول التي اخذت بنظام القضاء المزدوج , ولهذا فأنه لامر عجاب ان تنظر محكمة خارج تشكيلة القضاء الاداري في الطعون على احكام محاكم الدرجة الاولى في النظام المذكور .

لكل ما تقدم فأننا نقترح اسقاط الاختصاص المذكور عن المحكمة الاتحادية العليا وهذا لا يحتاج الى نص تشريعي , لان هناك تعارضاًًً بين احكام قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتـقالية وكذلك احكام دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وقانون المحكمة , والاولوية لنصوص القانون والدستور المذكورين , فهي تلغي ما تعارض معها من قانون المحكمة . وعلى اية حال فان المادة (93) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 جاءت لتحدد اختصاصات المحكمة على وجه الحصر والالزام , لذلك فأننا سنستعرض هذه الاختصاصات ونعلق عليها اذا دعا الداعي الى ذلك .

 

اولاً : الرقابة على دستورية القوانين والانظمة:

لم تصادف الرقابة القضائية على دستورية القوانين قبولاً ساحقاً , فلقد رفضها بعض الفقه بحجة ان القانون تعبير عن الارادة العامة للامة , وبالتالي لا يجوز فرض رقابة عليها . كما ان مهمة المحاكم كما يقول الفقيه (أسمان) الحكم بمقتضى القوانين لا الحكم على القوانين .

وعلى اية حال فأن هناك دولاً تقبلت النوع المذكور من الرقابة وانزلته في صلب دساتيرها ومنها بعض دول امريكا اللاتينية وسويسرا والنمسا وايطاليا (1).

هذا واذا كان مقبولاً ان تمارس المحكمة الاتحادية العليا الرقابة على دستورية القوانين فانه غير مقبول – من وجهة نظرنا- ان تمارسها على الانظمة , لان النظام قرار اداري تنظيمي تختص محكمة القضاء الاداري بالنظر في صحته استناداً الى احكام المادة (7/ثانياً/د) من قانون مجلس شورى الدولة رقم (65) لسنة 1979 المعدل وهي عندما تبحث في صحة النظام , فأنها تجري مضاهاة بينه وبين القواعد القانونية النافذة في الدولة بما فيها قواعد الدستور , وبالتالي تقوم بألغائه ادا كان مخالفاً لها جزاء وفاقاً . اضافة الى ذلك فأن الطعن بصحة النظام امام محكمة القضاء الاداري اكثر نفعاً من الطعن به امام المحكمة الاتحادية العلـيا وذلك للاسباب الاتـية :-

يستطيع المدعي امام محكمة القضاء الاداري ان يقيم الدعوى بنفسه او ينيب عنه محامياً لهذا الغرض , في حين انه لا يستطيع ان يطعن بالنظام امام المحكمة الاتحادية العليا الا بوساطة محام ذي صلاحية مطلقة وبلوائح مطبوعة كما اوجبت ذلك المادة (20) من النظام الداخلي للمحكمة رقم (1) لسنة 2005 .

يستطيع المدعي امام محكمة القضاء الاداري ان يطلب وقف تنفيذ النظام المطعون فيه ريثما يتم الفصل في موضوع الدعوى , اذا كان التنفيذ يرتب نتائج يتعذر تداركها في حين لا يستطيع ان يطلب ذلك من المحكمة الاتحادية العليا اذا ما تم الطعن بالنظام امامها .

يستطيع المدعي ان يطلب من محكمة القضاء الاداري الغاء النظام والتعويض عن الاضرار الناشئة عنه وبذلك يحصل على مزيتين في دعوى واحدة , الغاء النظام والتعويض في حين لا يستطيع ان يطلب التعويض اذا ما تم الطعن امام المحكمة الاتحادية العليا .
اذا صدر حكم من محكمة القضاء الاداري بالغاء النظام الطعين , فأن ذلك يؤدي الى اعدامه وبأثر رجعي يمتد الى تاريخ صدوره , وبالتالي زوال الاثار القانونية المتولدة عنه حتماً. اما اذا تم الطعن بالنظام امام المحكمة الاتحادية العليا وقررت الغاءه فأن الالغاء يسري من تاريخ صدور حكم المحكمة لا قبله .

ان التقاضي امام محكمة القضاء الاداري يتم على درجتين , لان الحكم الصادر من المحكمة المذكورة يجوز الطعن فيه تمييزاً امام المحكمة الاتحادية العليا . اما التقاضي امام المحكمة المذكورة فان يكون بدرجة واحدة لأنه لا طريق للطعن بأحكامها .

ثانياً : تفسير نصوص الدستور :

وهذا الاختصاص مستحدث لأنه لم ترد الاشارة اليه لا في قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ولا في قانون المحكمة المرقم (30) لسنة 2005 . هذا ولم يحدد الدستور الجهة التي تطلب التفسير , الا انه يبدو ان المحكمة تقبل الطلب اذا ورد من جهة رسمية , فقد قبلت طلباً ورد من مجلس النواب (2) , واخر من نائب رئيس الجمهورية (3) وثالث من رئاسة مجلس اقليم الجنوب (4) .

ثالثاً : الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والانظمة والتعليمات والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الافراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة :

ان الدستور لم يحالفه التوفيق باناطته الاختصاص المذكور بالمحكمة الاتحادية العليا لأنه سيتداخل مع اختصاص محاكم الدرجة الاولى في القضاءين العادي والاداري فكيف السبيل لحسم اشكال التنازع في هكذا احتمال . يضاف الى ذلك ان عبارة ( والقرارات والانظمة والتعليمات ) الواردة في النص غير دقيقة , لأنها جميعاً قرارات ادارية , ولهذا كان الاوفق جمعها تحت عبارة (القرارات الادارية ) اما عن لفظة (الاجراءات) التي وردت في النص فقد زايلها الوضوح , لأن الاجراءات اما تكون سابقة على صدور القرار الاداري وبالتالي تعد اعمالاً مادية تحضيرية واما ان تتعلق بتنفيذ قرار اداري وتأخذ الوصف ذاته ايضاً , وبالتالي لا يجوز في كلتا الاحتمالين الطعن فيهل استقلالاً , لأن الطعن يتعلق بالاعمال القانونية والاجراءات ليست منها قطعاً باليقين.

ان اناطة الاختصاص المذكور بالمحكمة الاتحادية العليا سيجعل منها محكمة اول درجة وستزاحم محاكم الدرجة الاولى في القضائين العادي والاداري في ممارسة اختصاصاتها وهذا غير مقبول اطلاقاً ولا يليق بالمحكمة المذكورة , لأنها محكمة عليا ويجب ان تبقى هكذا فلا تشغل نفسها في منازعات حدد القانون مراجع قضائية للطعن فيها .

رابعاً : الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية :

ان في الاختصاص المذكور توسعة , لأنه اذا كان سائغاً ان تنظر المحكمة في المنازعات التي تنشأ بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم , فأنه ليس كذلك في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية والمحافظات والبلديات والادارات المحلية , لأن الاخيرة تعمل على وفق مبدأ اللامركزية الادارية كما صرحت بذلك المادة (122/ثانياً) من الدستور ولهذا فأنها تخضع من حيث المبدأ لرقابة الحكومة المركزية ولو ان المادة (122/خامساً) من الدستور قضت بعدم اخضاع مجلس المحافظة لاشراف اية وزارة او اية جهة غير مرتبطة بوزارة . وعلى اية حال فأن المنازعات التي تنشأ بين الحكومة الاتحادية والمجالس المحلية التي تعمل على وفق مبدا اللامركزية الادارية تختص بها جهات القضاء العادي او الاداري , وبالتالي لا غناء في شغل المحكمة الاتحادية العليا بها.

خامساً : الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الاقاليم والمحافظات :

ان الاختصاص المذكور فضفاض , لانه اذا كان مقبولاً ان تنظر المحكمة الاتحادية العليا في المنازعات الناشئة بين حكومات الاقاليم فأنه غير مقبول ان تنظر في المنازعات التي تنشأ فيما بين المحافظات , فلتترك المنازعات الاخيرة للمحاكم المختصة في القضاءين العادي والاداري , لانها اولى بها ممارسة .

سادساً : الفصل في الاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وينظم ذلك بقانون :

ان النص المذكور ينطبق ايضاً على نواب رئيس الجمهورية لان المادة (138/أولاً) من الدستور قضت بأن يحل تعبير (مجلس الرئاسة) محل تعبير رئيس الجمهورية اينما ورد في الدستور وكذلك ينطبق على نواب رئيس الوزراء ومن هم بدرجة وزير ورؤساء الهيئات المستقلة ولو ان النص لم يشر اليهم لانهم لا يقلون عن الوزير درجة في السلم الاداري للدولة .

سابعاً:المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب :

ان ممارسة الاختصاص المذكور تقدح بعض الاسئلة , فهل ان المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة شكلية وتحصل في حالة عدم وجود اعتراضات او في حالة وجودها وفضها من مجلس النواب عملاً بأحكام المادة (52/أولاً) من الدستور , ام انها تحتاج الى تدقيق وتمحيص في العملية الانتخابية برمتها , للتوكد من اجرائها على وفق احكام القانون ؟ واذا لم تحصل المصادقة هل تعاد الانتخابات العامة كرة اخرى ؟

ثامناً -أ- : الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم :

هذا واذا كان مستساغاً اناطة اختصاص الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للاقاليم بالمحكمة الاتحادية العليا نظراً لثنائية السلطة القضائية في الدولة الاتحادية , فأنه مرفوض جملة وتفصيلا اناطة اختصاص الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية في المحافظات غير المنتظمة في اقليم بالمحكمة المذكورة , لأن الهيئات المشار اليها تتبع القضاء الاتحادي وتخضع لأشراف محكمة التمييز الاتحادية , واذا حصل تنازع في الاختصاص بين المحاكم التابعة لها فأنه يفض طبقاً لاحكام المادتين (78) و(79) من قانون المرافعات المدنية لسنة 1969 المعدل . أما اذا حصل تنازع في الاختصاص بين محكمة القضاء الاداري ومحكمة مدنية فأنه يفض من قبل هيئة تعيين المرجع المشكلة بالمادة (4/7) من قانون مجلس شورى الدولة لسنة 1979 المعدل .

ثامناً-ب- : الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم :

اذا حصل تنازع في الاختصاص بين الهيئات القضائية للاقاليم فلا مانع لتصدي المحكمة الاتحادية العليا لحسمه , اما اذا حصل التنازع في الاختصاص بين محاكم المحافظات غير المنتظمة في اقليم فأن المادتين (78) و(79) من قانون المرافعات المدنية لسنة 1969 المعدل لكفيلة بحسمه وبالتالي لا داعي لشغل المحكمة الاتحادية العليا به .

بعد ان نفذ مداد الكلمات فجف القلم في البحث في اختصاصات المحكمة الاتحادية العليا , نأمل من لجنة تعديل الدستور أن تأخذ الملاحظات المبثوثة فيه بعين الاهتمام , فتسقط ما تهالك من الاختصاصات وتبقي على المهم منها , حتى تستوي المحكمة على عودها محكمة عليا اليقة بهذا الوصف وما هذا ببعيد .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر د.اسماعيل مرزة – مباديء القانون الدستوري والعلم السياسي – النظرية العامة في الدساتير . ط3- دار الملاك للفنون والاداب والنشر – 2004 – ص193 و206

(2) انظر الرأي المرقم 227/ت/2006 في 9/10/2006 وهو غير منشور

(3) انظر الرأي 21/اتحادية/2007 في 26/9/2007 وهو غير منشور

(4) انظر الرأي 17/اتحادية/2007 في 11/9/2007 وهو غير منشور