أقوال الفقهاء في المخدرات
بحث الفقهاء في مشكلة المخدرات منذ أن انتبهوا إلى انتشارها في المجتمعات التي عاصروها. وانطلقت أحكامهم من قواعد أصولية تختلف باختلاف فهمهم للعقاقير المخدرة، ودقة تصنيفها بين المسكرات أو المخدرات أو المفترات؛ واختلاف تعريفهم لهذه الصفات، ولهذا جاءت أحكامهم متباينة قد تلتبس على كثير من الناس.

ولقد أطلق القرافي في كتابه الفروق على المخدر لفظ المرقد(1) ثم عرفه بقوله: ” ما غيّب العقل والحواس دون أن يصحب ذلك نشوة وسرور؛ أما إذا صحب ذلك نشوة وسرور فهو المُسْكِر؛ وجعل من فصيلة المرقدات: الأفيون والبنج والشيكران”.

ويقول ابن حجر الهيثمي في كتابه الزواجر(2): “إن من شأن الإسكار بالخمر أن يتولد عنه النشاط والطرب والعربدة والحمية؛ ومن شأن السُّكْر بنحو الحشيشة أن يتولد عنه أضداد ذلك من تخدير البدن وفتوره ومن طول السكوت والنوم وعدم الحمية “.

وجاء في النهاية: “المفتر هو الذي إذا شُرب أحمى الجسد، وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار؛ يقال: أفتر الرجل إذا ضعفت جفونه وانكسر طرفه “.

وعلى هذا فإن الفريق من العلماء الذي لم ير في المخدرات صفة السكر؛ لم يرتب على متعاطيها أحكام شارب الخمر فاكتفى بالتأديب والتعزير.
وذهب إلى هذا كثير من علماء المذاهب المعتبرة. فقد جاء في حاشية الطحطاوي على المراقي (باب ما يفطر الصائم) ما نصه: “أما القليل من جوزة الطيب ومن كل مسكر، ما عدا الخمر ونحوه فتعاطيه لا يحرم عند الإمام “.
وجاء في الهداية: “ولا يحد السكران، حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعاً؛ لأن السكر من المباح لا يوجب الحدّ كالبنج ولبن الرماك (البِرْذَوْن) “.
وجاء في منح الجليل على مختصر الخليل (المالكي): “الشرب يفيد أن الحدّ مختص بالمائع، فلا يحدّ بالجامد الذي يؤثر في العقل، ولا يحرم منه إلا القدر المؤثر في العقل “.
وجاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي (شافعي): “كل شراب أسكر كثير حرم قليله، وحُد شاربه؛ وخرج بالشراب ما حرم من الجامدات، كالبنج والأفيون، وكثير الزعفران والجوزة والحشيش؛ فلا حدّ به ، وإن أذيبت، إذ ليس فيها شدة مطربة، بخلاف جامد الخمر، اعتباراً بأصلها. بل التعزير الزاجر له عن هذه المصيبة الدنيئة(3) “.
وقال ابن قاسم في شرحه لمتن أبي شجاع (شافعي): “ومن شرب الخمر أو شراباً مسكراً يحد”. قال الباجوري في الحاشية(4): “وخرج بالشراب النبات كالحشيشة والأفيون ونحوها، فلا حدّ فيه، وإن حرم ما يخدر العقل منه، بخلاف ما لا يخدر العقل منه لقتلته، فلا يحرم. لكن ينبغي كتم ذلك عن العوام “.
وبالمقابل نرى الفريق الآخر من العلماء الذين ألحقوا المخدرات بالمسكرات، وقالوا: إن التخدير الذي يلحق بالأطراف والحواس لمتناول هذه العقاقير هو أثر آخر من جملة آثارها الكثيرة السيئة، التي تجعلها أكثر شراً وأعظم ضرراً من الخمر.
جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: (واستدل بمطلق قوله صلى الله عليه وسلم : “كل مسكر حرام” على تحريم ما يُسكر ولو لم يكن شراباً، فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة، وهو مكابرة، لأنها تُحدث بالمشاهدة ما يُحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيه (5)”.
وقال النووي في المجموع 6) “وأما ما يزيل العقل من غير الأشربة والأدوية، كالبنج وهذه الحشيشة المعروفة فحكمه حكم الخمر في التحريم ووجوب قضاء الصلاة، ويجب فيه التعزير (7)دون الحد والله أعلم .

وقال أيضاً: قال أصحابنا: “يجوز شرب الدواء المزيل للعقل للحاجة، وإذا زال عقله والحالة هذه، لم يلزمه قضاء الصلوات بعد الإفاقة، لأنه زال بسبب غير محرم. ولو احتيج في قطع يده المتآكلة إلى تعاطي ما يزيل عقله فوجهان: أصحهما جوازه.

وقال أيضاً: “لا يحل أكل ما فيه ضرر من الطاهرات كالسمّ القاتل والزجاج والتراب الذي يؤذي البدن لقوله تعالى: ((…ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ))- (النساء:29)؛ وقوله تعالى: ((… ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ) وأكل هذه الأشياء تهلكة فلا يحل… قال الروياني: والنبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة، يحرم أكله، ولا حد على آكله.
قال: ويجوز استعماله في الدواء، وإن أفضى إلى السكر ما لم يكن منه بدّ.
وقال ابن قدامة في المغني (حنبلي): “أجمع أهل العلم على أن زائل العقل بغير سكر أو ما في معناه لا يقع طلاقه… فأما إن شرب البنج ونحوه مما يزيل العقل، عالماً به متلاعباً فحكمه حكم السكران (8)في طلاقه؛ وبهذا قال أصحاب الشافعي. ثم علّل ذلك بقوله: ولنا أنه زال عقله بمعصية، فأشبه السكران “.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم؛ “واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان(9) “.
أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، فهذا هو الخمر المحرم شربه. وقال بعد أن ذكر حديث أبي موسى (كل مسكر حرام ): قالت طائفة من العلماء؛ وسواء كان المسكر جامداً أو مائعاً، وسواء كان مطعوماً أو مشروباً، وسواء كان من حب أو تمر أو لبن أو غير ذلك. وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من درن القنب وغيرها مما يؤكل لأجل لذته وسكره”.

الثاني: “ما يزيل العقل ويسكره، لا لذة فيه ولا طرب كالبنج ونحوه، فقال أصحابنا؛ إن تناوله لحاجة التداوي به وكان الغالب منه السلامة جاز… وإن تناوله لغير حاجة التداوي فقال أكثر أصحابنا كالقاضي وابن عقيل وصاحب المغني: إنه محرم لأنه سبب إلى إزالة العقل لغير حاجة “.
والذي نراه أن المخدرات بعد أن تعددت مصادرها وتنوعت آثارها وأشكالها: منها ما تصحبه السكينة والهمود النفسي ومنها ما تصحبه الرعونة والشراسة والعدوان؛ ومنها ما يرافقه اللذة والنشوة والطرب، ومنها ما يرافقه الغيبوبة وفتور الأعضاء… ولا يزال يطلع علينا كل يوم منها الجديد وبمواصفات وآثار جديدة. وتشترك جميعها بأنها مفسدة للعقل ومخربة للبدن، ومضيعة للمال والجهد والإنتاج، ومخربة للشخصية ومجلبة للضرر. ولا ريب أن سادتنا الفقهاء لو اطلعوا على آثارها المعاصرة بعد أن تنوعت أشكالها، وما تفعله في الفرد والمجتمع لأجمعوا على تحريمها بلا خلاف؛ ولأجمعوا كذلك على إنزال أشد العقوبات بمرتكبيها ومروجيها وكل من يؤدي بأي سبب من الأسباب إلى تسهيل تعاطيها.

ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان في طليعة من تنبّه إلى أخطار هذه الخبائث، وتحدث عنها في مواضع شتى من مؤلفاته كالفتاوى والسياسة الشرعية وغيرهما. وقال: “إن تغييب العقل حرام بإجماع المسلمين “. وقال: “إن كل ما يغيّب العقل يحرم باتفاق المسلمين”. وقال: “ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدًا”.
ونرى أن مثل هذه الأقوال تتناول سائر المخدرات من حشيش وأفيون ومورفين وهيروئين وكوكائين وأدوية نفسية وما شابه لاشتراكها جميعاً في علة الضرر وتغييب العقل وجلب المفسدة.

وإليك بعض أقوال ابن تيمية: “ومن زال عقله بسبب محرم كشرب خمر وأكل حشيشة أو أكل بنج ونحو ذلك، فهؤلاء يستحقون الذم والعقاب على ما أزالوا به العقول. واختلف العلماء؛ هل هم مكلفون في حال زوال عقولهم؟ “.

“وقد تنازع العلماء فيمن زال عقله بغير المسكر كالبنج: هل يلحق بالسكران أو المجنون؟: على قولين في مذهب أحمد وغيره”.
“والحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام أيضاً، يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج؛ وقد توقف بعض الفقهاء المتأخرين في حدّها، ورأى أن آكلها يعزر بما دون الحد، حيث ظنها تغير العقل من غير طرب بمنزلة البنج، وليس كذلك بل آكلوها ينشون منها، ويشتهونها كشراب الخمر وأكثر، وتصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة إذا أكثروا منها”.

“جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتي من جوامع الكلم، كل ما غطى العقل وأسكر، ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولاً أو مشروباً، على أن الخمر قد يصطبغ بها، والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب، فكل خمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تشرب وتؤكل، وكل ذلك حرام. والصواب أن آكلها يحدّ كما يحدّ شارب الخمر”.

“وكذلك الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد.. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة لم يعرف حقيقة أمرها، فإنها لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها؛ بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه. والشارع قد فرّق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس ومالا تشتهيه؛ فما لا تشتهيه النفوس، كالدم والميتة، اكتفى فيه بالزاجر الشرعي، فجعل العقوبة فيه التعزير، وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجراً طبيعياً وهو الحد. والحشيشة من هذا الباب”.

“وأما قليل الحشيشة المسكرة فحرام عند جماهير العلماء، كسائر القليل من المسكرات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : “كل مسكر خمر، وكل خمر حرام” يتناول ما يسكر؛ ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولاً أو مشروباً، جامداً أو مائعاً، فلو اصطبغ الخمر كان حراماً، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراماً “.

“وهذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أم لم يسكر. وإنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة (فقدان الغيرة) ما هو شر من الشراب المسكر. وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار. وعلى تناول القليل والكثير منها حد الشرب – ثمانون سوطاً أو أربعون”.

هذا وقد ألحق بعض الفقهاء التبغ (الدخان) من حيث الحكم بهذه المخدرات نظراً لثبوت الضرر الذي يلحق بمتناولها وقرروا أن تناوله حرام.(10) وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين. ولو لم يثبت ضرره الصحي لكان إضاعة للمال فيما لا ينفع في الدين أو الدنيا. وقد “نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال”. ويتأكد النهي إذا كان محتاجاً إلى ما ينفقه من مال لنفسه أو عياله

إعادة نشر بواسطة محاماة نت