عقوبة الجلد في المملكة العربية السعودية

المحامي : خالد السريحي
بدأةً يجب علينا أن نعرج بشكل سريع ومقتضب على أصل الجلد ومن أي أنواع العقوبات الشرعية يصنف ، وذلك قبل الخوض في ما هيته وآلية تنفيذه في المملكة .

التعزير هو أوسع أنواع العقوبات ، ذلك أن الجرائم التي حُددت عقوبتها قليلة العدد أما ما عدى تلك الجرائم – جرائم الحدود والقصاص – فهو داخل ضمن نطاق التعزيرات .

وقد عرف الفقه الإسلامي أنواعًا مختلفة من التعزيرات تتدرج من الوعظ والتوبيخ في المجلس القضائي لتصل إلى الجلد مرورًا بالعقوبات المالية والسجن .

والجلد من العقوبات التي يكثر الاعتماد عليها في النظام العقابي الإسلامي فهو عقوبة جريمتين من جرائم الحدود(زَّنا الغير محصن والقذف) وهناك جريمة ثالثة لكنها محل خلاف في عقوبتها واعتبارها حد أو تعزير وهي (شرب الخمر) -مع الأخذ بالاعتبار أن القضاء السعودي اعتبرها جريمة حدية – والجلد العقوبة التي يشير الفقهاء بها أكثر من سواها في الجرائم الجسيمة التي يعاقب عليها تعزيرًا.

وممكن أن نعرف الجلد بأنه هو ضرب المحكوم عليه بالسوط بغرض إيلامه وزجره وإتعاظ الحاضرين ؛ شرط أن لا يؤدي ذلك الجلد الى هلاك المجلود أو الإضرار به .

ويمتلك ولي الأمر سلطة في أن يفرض عقوبة الجلد في الجرائم التي لم يرد بها نص ، إلا أن التساؤل دومًا يطرح حول مقدار الجلد ، وحده الأعلى والأدنى ؛ فالاختلاف لم يكن وليداً للفقه المعاصر أو الحديث بل هو خلاف تاريخي في الفقه الاسلامي ، فالمذهب الحنفي يرى أن الحد الأعلى للجلد يجب ألا يتجاوز تسعة وثلاثين جلدةً ، والآراء متعددة في المذهبين الشافعي والحنبلي ، فمنهم من يرى أن الحد الأعلى يمكن أن يصل إلى مائة جلدة ولا يتجاوزها ، ومنهم من يرى أنه خمسة وسبعون ، ومنهم من يرى أنه تسعة وتسعون ، وكذلك من يرى أنه عشر جلدات فقط ، أما المذهب المالكي يرى أنه لا حد لأعلى التعزير بالجلد ويجوز أن يتجاوز الجلد مائة جلدة ، فالقاضي يحكم بما يراه كافيًا لتحقيق أهداف العقوبة في زجر الجاني ، وردع العامة.

ويعتبر رأي الإمام مالك هذا أكثر الآراء توسعة في هذا الخصوص.

ويعود هذا الخلاف بين الفقهاء إلى حديثين للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهما قوله “من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين” ، وقوله “لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى” .

فمن الفقهاء من اعتبرهما منسوخين ، ومنهم من لم يقبل بنسخهما ، وفسرهما على أساس أنهما وضعا الحد الأعلى لعقوبة الجلد في جرائم التعزير .

وقد أخذ المشرع السعودي بعدم تحديد سقف أعلى لعقوبة الجلد ، مما يمنح القاضي سلطة واسعة في تحديد مقدار العقوبة لكل جريمة على حدى .

والجلد قد يكون في حق عام أو حق خاص بالنسبة لجرائم التعزير ، أما في جرائم الحدود فهو حق لله جل وعلا ولا يحق لأحد التنازل عنه أو العفو فيه ، وبالتالي يتضح أن الجلد في جرائم التعزير قد يسقط بالتنازل في الحق الخاص وبالعفو من قبل ولي الأمر في الحق العام .

آلية التنفيذ وكيفيته

لا ينفذ حكم الجلد بشكل وقتي في حق أشخاص عدة ومنهم : ذوي الأجسام الضعيفة حتى تقوى بنيتهم الجسمانية ، السكران حتى يصحو ، الحامل حتى تضع حملها ، النفساء حتى ينتهي نفاسها ، المحموم حتى تزول عنه الحمى ، وغير ذلك من الحالات المشابهة .

وفيما يخص مكان تنفيذ الجلد متروك للقاضي تحديده فإن نص عليه وجب على جهة التنفيذ الإلتزام بذلك، كأن يكون في سوق أو مسجد أو أي مكان آخر ، ويجوز لجهات التنفيذ متى لم يقم القاضي بتحديد المكان جلده في المكان الذي يتحقق معه الردع وإن كان غالبًا يتم في داخل السجن الموقوف فيه المحكوم عليه .

وينفذ الجلد أثناء وقت الدوام الرسمي ويستثنى من ذلك ما يلي : لا ينفذ الجلد على المسلم في نهار رمضان بل ينفذ بعد صلاة التراويح ، والقضايا المنصوص فيها على زمن معين في القرار الشرعي ، والقضايا التي لها صفة الإستعجال كالمأمور فيها بالاطلاق أو المنتهية فيها مدة السجن ، وإذا صدر حكم بالجلد على دفعات وحدد بين كل دفعة وأخرى فترة زمنية فالواجب مراعاة هذه الفترات ؛ فإن كان سيترتب عليها تأخر إطلاق سراح السجين أو تزيد في مدة حكمه بعد إنتهاء محكوميته فيراعى أن يكون بين كل دفعة وأخرى الوقت الذي يتناسب مع تحمل المحكوم عليه للتنفيذ وفق ما يراه الطبيب الشرعي ، كما يجب أن يكون الجلد قبل موعد الصلاة بساعة أو أكثر .

المرأة تجلد جالسة والرجل يجلد واقفاً

وتختلف طريقة تنفيذ عقوبة الجلد على الرجال والنساء ، طبعاً يعود ذلك لأحكام الشريعة الإسلامية التي راعت الفوارق الجسدية ، فالرجل يجب أن يجلد قائماً ، وأن لا يكون على جسده إلا ثيابه ، ويجوز تقييده متى امتنع عن تنفيذ الجلد أو قاوم التنفيذ .

أما طريقة جلد النساء فهي كالآتي : تجلد المرأة جالسة مشدودة يداها لكي لا تنكشف ، ويجب أن يكون على جسدها ثياب تسترها ، وتجلد داخل السجن ولا يجوز جلدها في مكان عام .

وأما فيما يخص الأحداث سواء كان ذكوراً أم إناثاً ، فالواقع أن الأحكام بالجلد تصدر بمواجهتهم وتنفذ العقوبة داخل دور الملاحظة الاجتماعية بالنسبة للذكور ، وبالنسبة للإناث داخل دور رعاية الفتيات ، وهذه العقوبات هي محل نظر ؛ كونه لا يُعرف موقف أو حدث صحيح ومؤكد في الشريعة الإسلامية تم فيه جلد حدث كعقوبة له ، وتجدر الإشارة بأن المشرع السعودي تجنب محاكمة الأحداث بما ورد في الأنظمة الجنائية الخاصة ببعض الجرائم المنظمة بنظام خاص (غسل الأموال والتزوير مثلاً) ، واستثنى الأحداث صراحةً من شمولهم بهذه الأنظمة وعقوباتها ، وكذلك أن المملكة العربية السعودية قد وقعت على اتفاقيات دولية في هذا الخصوص ومنها اتفاقية حماية حقوق الطفل عام 1989م وغيره من الاتفاقيات والمعاهدات الاقليمية .

فلا يوجد مبرر قانوني لما يتم من جلد الأحداث وإصدار عقوبة الجلد بمواجهتهم إبتداءً ، فمن الممكن الإستعاضة عن ذلك بالعقوبات البديلة ، والتي بدأ بعض القضاة الأفاضل في انتهاجها كمنهج في تعامله مع الأحداث وكانت لها نتائج جيدة ومطمئنة لحد كبير .

ختاماً

ينقسم المختصون إلى رأيين : رأي مؤيد لعقوبة الجلد ، ورأي مستنكر لها .

فالمؤيدون للجلد يذهبون إلى أنها تخيف الجناة لما فيها من إيلام البدن ، وأنها لا تثقل كاهل الدولة بشيء من النفقات الباهظة التي تتكلفها لتطبيق أغلب العقوبات الأخرى ، وأن أثر هذه العقوبة في التقليل من الجرائم في المملكة العربية السعودية واضح لكل المختصين والمشتغلين في الشق الجنائي دفاعاً أو إدعاءً .

وأما المستنكرون فإنهم يقولون : إن عقوبة الجلد تؤدي إلى تنمية الشعور بالنقص والمرارة في نفس مَن يتعرض لها ، وإنها تقلل من معنويات المحكوم عليه ومن يحطيون به .

إلا أننا نرى أنه من الأسلم شرعًا وقانوناً بقاء عقوبة الجلد لما فيها من مآثر عظيمة في الحد من الجرائم فضلاً عن تطبيق شرع الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولكن كذلك نرى أنه من الواجب أن يحسم هذا الخلاف فيما يخص الحد الأعلى والحد الأدنى بتدخل تشريعي يحدد ويقنن فيه المشرع العقوبات التي تقرر وتوقع على الجناة في كل حالة من حالات الجرائم التعزيزية خاصةً في تطبيقه على النساء .