طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني

طالب باحث في ماستر المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية.جامعة الحسن الأول سطات

إن مفهوم المجتمع المدني يبقى من المفاهيم األكثر إثارة للنقاش، وذلك نظرا لعدم وجود تعريف جامع مانع في ظل تعدد الدالالت والمفاهيم

إلا أن هذا الغموض المرتبط باستعمال مفهوم المجتمع المدني ليس واقعا جديداً، بل متجدر في التاريخ منذ ظهوره في المجتمعات الغربية وهذا ما يفسر اختلاف المفهوم من مؤ ِلف لآخر إن على مستوى الكتابات الغربية أو العربية. إلا أنه في ظل التطورات الفكرية والفلسفية التي عرفها المفهوم برز الدور الايجابي للمجتمع المدني في القضاء على النظم التسلطية والمساهمة في البناء الديمقراطي في إطار المعركة المتواصلة بينه وبين الدولة

ولقد ازدادت أهمية مؤسسات المجتمع المدني نتيجة لتزايد دور الأفراد والجماعات في الحياة السياسية والاجتماعية لاسيما وأن التجربة العملية أثبتت أن الدولة المركزية خصوصا في الدولة الفقيرة قد فشلت في القيام بوظائفها كاملة فاستدعى منها الأمر التفكير في آلية لتدبير الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي. لكل هذه الأسباب ظهر المجتمع المدني كإطار مستقل عن الدولة ما دفع الباحثين إلى الانكباب على دراسة دوره في تكريس الخيار الديمقراطي خصوصا في الدول التي عانت تسلط نظمها ( أوربا الشرقية، أمريكا اللاتينية…)، كما أن التطورات التي شهدها العالم العربي منذ أواخر القرن العشرين ولحد الآن وخصوصا منها السياسية انعكست على تراجع التوجهات التسلطية والتحول نحو الديمقراطية، وهذا ما أدى إلى زيادة الاهتمام من قبل الباحثين والدارسين بالفواعل الجديدة كالمجتمع المدني الذي أصبح يعد شريكا أساسيا في صناعة القرارات السياسية والسياسات العمومية لبناء الدولة الحديثة

” وفي ظل ما شهدته الدول العربية من موجة تحولات أو ما أصطلح عليه “بالربيع العربي
والتي أثرت على البناء السياسي والاجتماعي للدول وعلى هذا الصعيد طرحت العديد من الإشكاليات والمتعلقة بنمط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة وتأثيرها على التحول السياسي

والمغرب لم يخرج عن هذا الإطار فمنذ ثمانينيات القرن الماضي أصبحت الدولة عاجزة عن القيام بكل وظائفها ما دفعها إلى التنازل عن بعضها لفائدة مؤسسات المجتمع المدني، حيث أصبح يعمل جنبا إلى جنب مع الدولة على جميع المستويات في إطار من التعاون والتنسيق بعدما شاب هذه العلاقة نوع من الصدام والتنافس

الحقل المعرفي المؤطر للموضوع
حتى يكسب الموضوع هويته العلمية، لابد له من حقل معرفي يؤطره ويهيمن على مجاله المعرفي، وأن ينهل من نتاجاته المتراكمة ويتفاعل معها كسبا ومقارنة ونقدا وتمحيصا. ولذلك، فإذا كان الموضوع المتعلق بالمجتمع المدني والدولة هو ذاته لا يخرج عن هذه القاعدة العامة، فقد اخترنا منذ انطلاقته أن ينتظم ضمن حقل القانون العام وعلم السياسة

ولعل من دواعي اختيار هذا الحقل المعرفي، أن علم السياسة يرتبط عند البعض بالدولة، فهي الإطار الذي تنشأ في داخله الظواهر السياسية. 1و أن دارس السياسة بمنهجيته العلمية أو الفلسفية يظل أشد الدارسين اتصالاً بحياة المجتمع ومصيره وبحياة الإنسان ومصيره.2 كما أن الموضوع يتناول مفاهيم تحسب على حقل علم السياسة، الذي لا يمكن حجبه وإخفاء فن جماله وبريقه في كل الأحداث والظواهر السياسية التي تكرر كل يوم، 3ويعتبر علم السياسة علم الدولة والحكومة والنظم السياسية والعلاقات السياسية الدولية والسياسة الخارجية والإدارة العامة الحديثة بفروعها المختلفة. 4كما يسعى لإثبات ما هو كائن، لا ما يجب أن يكون. إ ّن منظوره لا يتجاوز الحاضر وال ُم ْع َطى. فهو يهتم بالمؤسسات، بالقدر الذي تُش ِِكل فيه جزءاً من الواقع، وعلاوة على ذلك، فإن علم السياسة ميدان شاسع ويتجه للامتداد.

تحديد الجهاز المفاهيمي للموضوع وأبعاده
قبل الحديث عن مفهومي المجتمع المدني والدولة، باعتبارهما مفهومين تركيبيين، فمن السهل تكوين فكرة عليهما، ولكن من الصعب تعريفهما. لذا يفرض الأمر اعتماد منهجية تفكيكية لأجزائهما، كل جزء على حدة وصولا إلى إيجاد تعريف تركيبي لهما:

فكلمة ” مجتمع ” مشتقة من فعل جمع يجمع واصطلاح“المجتمع” هو مكان الاجتماع، وفي قاموس محيط المحيط، يورد معنى المجتمع كهيئة اجتماعية، هي الحالة الحاصلة من اجتماع قوم لهم صوالح يشتركون فيها. فالمجتمع كيان جماعي من البشر تقوم فيما بينهم أثناء عملية الإنتاج الاجتماعي لحياتهم شبكة كاملة من العلاقات المعينة والتفاعلات الضرورية علاقات مستقرة نسبيا وضرورية ومستقلة عن إرادتهم. هي علاقات الإنتاج التي

تطابق مستوى معين من تطور القوى الاجتماعية المنتجة وشكل معين من التبادل أو الاستهلاك.

أما البرفسور “هوبهوس”، يُعرف المجتمع بأنه مجموعة من الأفراد تقطن على بقعة جغرافية محددة من الناحية السياسية ومعترف بها ولها مجموعة من العادات والتقاليد والمقاييس والقيم والأحكام الاجتماعية والأهداف المشتركة المتبادلة التي أساسها الدين واللغة والتاريخ والعنصر

أما بالنسبة “لادوارد كارديللي” “، في كتابه “النقد الاجتماعي”، فإنه يعتبر المجتمع علاقة مادية، علاقة بين قوة اجتماعية، يعتمد فيها الناس إلى أبعد حد ممكن على مستوى التطور الذي بلغته القوى الإنتاجية

وحسب المفكر العربي عزمي بشارة فإن المجتمع يفترض أنه مؤلف من أفراد متعاقدين وهذا لا ينفي انتماءاتهم الأخرى ولكنهم يدخلون في علاقات اجتماعية كأفراد. هذا هو الذي يؤسس مفهوم المواطنة ويفصل المواطن عن الرعية

أما كلمة المجتمع بالمعنى العام فهو ذلك الإطار العام الذي يحد العلاقات التي تنشأ بين الأفراد الذين يعيشون داخل نطاقه في هيئة وحدات أو جماعات.

أما بخصوص مفهوم ” المدني “ الذي تختلف معانيه حسب مقابله فقد يعني ما يقابل مفهوم عسكري أو ما يقابل مفهوم حضري أو ما يقابل مفهوم سياسي أو ديني

فكلمة مدنيتشير إلى الأمور التي لها علاقة بالمواطن، وتعبر عن كل ما هو مدرج في قواعد وأنظمة داخل الدولة وما هو غير شكلي، وكذلك الأمر عن كل ما هو صادر من السلطات العامة

أما معجم أوكس فورد فقد أعطى دلالة لكلمة ” مدني ” : كالتالي
مدني متعلق بالحقوق الخاصة للمواطنين ولذا فهو متعلق أيضا بالجسم الاجتماعي المؤلف من مواطنين وهو يعني أيضا سياسي، عمومي ويعني كذلك: متعلق بالمواطن العادي خلافا للجندي ومؤدب حضري وهي جميعا مدلولات للفظ اللاتيني

وفيما يتعلق بمفهوم ” المجتمع المدني ” فليس من السهل إعطاء تعريف دقيق جامع مانع وثابت نظراً لأن مفهوم المجتمع المدني لم يظهر في بلد واحد أو على يد مفكر بعينه، ولا في حقبة زمنية ثابتة. فقد تفاوت تعريفه بحسب المدارس الفكرية التي تناولته. فمن أوائل المدارس الفكرية التي تعرضت لمفهوم المجتمع المدني كانت المدرسة الليبرالية بشقيها الاقتصادي والسياسي. فمن ناحية أكدت مدرسة الاقتصاد السياسي الاسكتلندية على الجانب الاقتصادي في مفهوم المجتمع المدني الذي يقوم على حرية التجارة وتقسيم العمل. من ناحية أخرى أكدت المدرسة الليبرالية في شقها السياسي على المجتمع المدني بوصفه سمة أساسية في الدولة الدستورية التي تحظى بالشرعية في مواجهة مواطنيها.1

أما لفظة الدولة فتطبق في اللغة بإزاء الأمور التالية
ـ تغير الزمان، ودورانه، وتحوله من حال إلى حال
ـ عاقبة الأمر ومآله ومنتهاه
ـ الغلبة والانتصار على العدو
ـ اسم لعدة أشياء يتداولها الناس، كالمزادة ضيقة الفم، والقانصة وجانب البطن، والدلو، والنبل وغيرها

وفي الاصطلاح يذكر بعض أساتذة السياسة أن ثمة ما يقارب مائة وخمسين تعريفا للدولة، وقد جرى استخدام مصطلح الدولة عند الكثير من التيارات والمذاهب المعاصرة، واختلف معناها بحسب الدائرة الفكرية التي استخدم فيها

أهمية الموضوع
: الأهمية العلمية يكتسب هذا البحث أهميته العلمية من خلال طبيعة الموضوع الذي يعالجه باعتبار أن طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة قد أثارت نقاشا سياسيا لقي اهتماما كبيرا بين مختلف الفاعلين، كما تعددت الكتابات السياسية المعاصرة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين في هذا المجال، حيث عرف انتشارا أكاديميا وعلميا واسعا على الصعيد العالمي، كما تعددت الندوات والكتابات في العالم العربي. أضف إلى ذلك أن دستور 2011 بوأ للمجتمع المدني مكانة هامة، حيث جعله شريكا أساسيا في تدبير الشأن العام. لذا جاء هذا البحث لإعطاء قيمة مضافة لهذا الموضوع خاصة في المغرب من خلال دراسة طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة

الأهمية العمليةلقد أصبح للمجتمع المدني دور فعال ومؤثر على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أن أدوار المجتمع المدني في المغرب ما زالت ضعيفة، لذا جاء هذا البحث لمعرفة نمط العلاقة بين المجتمع المدني ومدى تأثيره في إحداث تغييرات بناءا على هامش الحرية التي يتمتع بها ومدى استقلاليته عن الدولة في المغرب

حدود الموضوع
تتحدد حدود الموضوع فيما يلي
الحدود الموضوعية: سنعالج موضوع المجتمع المدني والدولة من خلال طبيعة العلاقة بينهما والتطرق إلى دور المجتمع المدني في العملية السياسية وترسيخ الديمقراطية في المغرب

الحدود المكانية إن موضوع المجتمع المدني والدولة قد تعدى جميع الحدود المجالية وحقق انتشاراً واسعاً على الصعيد الدولي والعربي إلا أننا سنقتصر في دراستنا للموضوع على المغرب بحكم الحراك الذي شاب هذه العلاقة.

الحدود الزمانية
: بدأت طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة منذ بروز هذا الأخير على الساحة السياسية والمجتمعية إلا أننا سنعالج موضوعنا في الفترة الممتدة من بداية القرن العشرين إلى ما بعد دستور 2011بالمغرب

دوافع الموضوع
الدوافع الموضوعية:
: إن الحراك السياسي والاجتماعي الذي عرفته الأنظمة السياسية وما واكب ذلك من تغيرات سياسية واجتماعية فرضت على الباحثين الاهتمام بالتفاعلات والأدوار الناشئة بين المجتمع المدني والدولة وهو الأمر الذي أثار اهتمامنا للبحث في هذا الموضوع إضافة إلى المكانة التي بوأها إياه دستور .

الدوافع الذاتية:
لقد تم اختيار هذا الموضوع لراهنيته وجديته باعتبار المجتمع المدني أحد الفاعلين الجدد في الحياة السياسية ودوره الفعال والمؤثر في التحول الديمقراطي وتعزيزه وتحريك عجلة التنمية. أضف إلى ذلك الرغبة في الكشف عن حدود التأثير والتأثر في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بالمغرب

إشكالية الموضوع
إن الإشكالية المركزية لهذا الموضوع، قد أمكن طرحها في صيغة السؤال المركزي التالي: ما طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة في ظل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالمغرب ؟

تتخلل هذه الإشكالية المركزية عدد من الأسئلة الفرعية نطرحها ضمن الصيغ التالية: ـ ما هي أنماط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة؟

ـ ما هي المتغيرات المؤثرة في طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة؟
ـ ما هي العوامل المتحكمة في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بالمغرب؟
ـ ما أبرز التطورات التي عرفتها طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني بالمغرب؟
فرضيات الموضوع
للإجابة على الإشكالية المركزية لابد من افتراض فرضية مركزية مقابلة لها، وهي التي نقدمها وفق الصيغة التالية

ـ يفترض أن هناك علاقة ارتباط و تكامل وظيفي بين الدولة والمجتمع المدني في إطار استقلالية هذا الأخير

ـ كما يفترض أن هناك علاقة تنافر أو انفصال بين الدولة والمجتمع المدني

منهجية الموضوع
وحتى لا نكون ممن اصطلح عليهم من طرف البعض بالفوضوية المنهجية، التي ترتكز على مقولة ” أي شيء يفي بالغرض ” فقد اعتمدنا توظيف المنهج التاريخي الذي يعتبر أحد أهم المناهج الاجتماعية في التحليل والتفسير، 12فهو منهج يساعد على دراسة ظاهرة حاضرة تمتد جذورها من الماضي والتطورات التي لحقتها والعوامل التي تنشأ عن تلك التطورات، لهذا ظل علم السياسة بالمغرب منذ نشأته إلى الآن، يرتكز على التاريخ لفهم وتحليل الظواهر والبنيات السياسية. فالمنهج التاريخي لا يكتفي بسرد الوقائع وتكديسها بل إنه يقدم صورا لمختلف التطورات. والمقصد من استخدام هذا المنهج هو تتبع التطور التاريخي لطبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بالمغرب

كما اعتمدنا على المنهج الوصفي الذي يعد من مناهج البحث العلمي في علم السياسة13 وذلك من خلال وصف أو دراسة علاقة الدولة بالمجتمع المدني كظاهرة والعوامل المؤثرة فيها. والهدف من استخدام المنهج الوصفي أنه يصف ويفسر ما هو كائن، ويهدف إلى وصف الظاهرة كما هي في الواقع.1

صعوبات الموضوع
من الصعوبات التي اعترضت هذا الموضوع كثرة المراجع التي تطلبت الكثير من الوقت والجهد، حيث وجدنا صعوبة في اختيار المراجع التي من شأنها الإجابة عن إشكالية الموضوع. بالإضافة إلى الصراع مع الذات في استنباط الأفكار والخروج بخلاصات لها ما لها من الحياد والموضوعية، وكذا الصراع مع الآخرقصد اقناعه في إطار تلاقح الأفكار وبنائها

تقسيم الموضوع:
المبحث الأول: المجتمع المدني والدولة
المطلب الأول: الإطار المفاهيمي للمجتمع المدني والدولة
المطلب الثاني: أنماط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة والمتغيرات المؤثرة فيهما
المبحث الثاني: المجتمع المدني والدولة بالمغرب أية علاقة؟
المطلب الأول: العوامل المؤثرة في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بالمغرب
المطلب الثاني: سيرورة تطور علاقة المجتمع المدني بالدولة في المغرب

المبحث الأول: المجتمع المدني والدولة
المطلب الأول: الإطار المفاهيمي للمجتمع المدني والدولة
الفقرة الأولى: المجتمع المدني النشأة، التطور والمفهوم
أولا: نشأة المجتمع المدني وتطوره
نشأ مفهوم المجتمع المدني في الفكر اليوناني باعتباره مجموعة سياسية تخضع للقوانين، ثم تطور المفهوم في العصور الحديثة ليأخذ شكلا جديدا مع أفكار منظري مدرسة العقد الاجتماعي الذين ساهموا في تطور مفهوم المجتمع المدني من خلال الموازنة بين الفرد والمجتمع والدولة.

ظهر مفهوم المجتمع المدني نتيجة تحولات تاريخية كبرى شهدها المجتمع الأوروبي، وهي التحولات التي كانت بمثابة ثورة حضارية مست كل بنيات المجتمع، سياسيا واجتماعيا وثقافيا ودينيا واقتصاديا. ويمكن القول إن أربع متغيرات أساسية لعبت دورا مهما في بلورة المجتمع المدني

: المتغير الأول هو حركة الإصلاح الديني التي قادها مجموعة من رجال الدين المتنورين أمثال مارتن لوثر، ودانتي وكالفن

المتغير الثاني هي الثورات السياسية التي زعزعت ركائز الاستبداد السياسي والتي كرست مفهوم إرادة الأمة والحقوق السياسية للمواطنين، وأكدت على الأصول الاجتماعية للسلطة السياسية كبديل عن الأصول السماوية المزعومة

المتغير الثالث هي الثورة الصناعية، والتي أدت إلى إرساء الأساس الاقتصادي والمادي للمجتمع المدني، من خلال تشجيعها على قيام علاقات بين أمور ومنظمات ونقابات لا تلعب فيها الدولة دورا مهما

المتغير الرابع هو الأفق الثقافي والفكري الجديد الذي ساهم فلاسفة عصر الأنوار في رسم معالمه الأساسية

ثانيا: دلالة مفهوم المجتمع المدني
وحيث أن المجتمع المدني هو بنية وعلاقات ومؤسسات اجتماعية، وحيث أنه بهذا المعنى لا ينفصل عن حركة المجتمع وتطوره، وما يستجد من تطورات على علاقات أطرافه مع بعضها البعض وعلاقته بمجمله بالمجتمع السياسي، كما أنه مفهوميا يتأثر بالموجات الفكرية المتسارعة وبتجديد الفكر الديمقراطي لمقولاته، لكل ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني لابد وأن يتكيف مع هذه المستجدات، وهكذا فإن مفهوم المجتمع المدني في السيولوجيا السياسية

اليوم يستعمل بمعان لا تتفق تماما مع ما جاء به رواده الأوائل، سواء، رواد المدرسة التعاقدية، أو هيغل، أو الماركسيون، ومن ثم نلقي إطلالة على هذا المفهوم في الفكر العربي، وهكذا سوف نسرد كل هذه التعاريف مع التعاريف الأكثر رواجا اليوم لمفهوم المجتمع المدني

حسب منظري المدرسة التعاقدية ، طوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو فإن مفهوم . المجتمع المدني عندهم هو المجتمع السياسي أو الدولة
وعندهيغل فالمجتمع المدني ليس هو الدولة ولكنه لا يمكن أن يوجد ويحافظ على وجوده إلا بدعم الدولة ومن خلالها فالعلاقة بينهما هي علاقة صراع وتكامل في نفس الوقت

في حين اعتبر كارل ماركس المجتمع المدني مكونا أساسيا من مكونات البنية التحتية، وذلك لأنه يمثل القاعدة المادية للدولة خاصة على المستوى الاقتصادي والإنتاجي. وهو بذلك يلعب دورا حاسما في تحديد طبيعة البنية الفوقية. كما اعتبره ساحة للصراع الطبقي

أما المفكر الماركسي الإيطالي انطونيو غرامشي 1891ـ ) 1937الذي عاد على يده مفهوم المجتمع المدني للتداول مجددا بعد الحرب العالمية الأولى، بعدما اختفى من التداول في الأوساط الفكرية الغربية والشرقية على السواء منذ منتصف القرن التاسع عشر لاعتبارات متعددة أهمها تجاوزه من قبل الفكر السياسي الاشتراكي، وتدعيم أساس الديمقراطية الليبرالية في الغرب واستقرار المنظومة الفكرية الغربية على مرجعيات وثوابت خلقت نوعا من التعايش والتفاهم ما بين المجتمع المدني والدولة. وهكذا فقد اعتبر 17 غرامشي المجتمع المدني فضاء للتنافس الإيديولوجي والفكري والثقافي

أما فيما يتعلق بمفهوم المجتمع المدني في الفكر العربي المعاصر، فيذهب بعض المفكرين من قبيل برهان غليون ومحمد عبد الفضيل وعلي عبد اللطيف حميدة إلى جعل المجتمع المدني مفتوحا ليضمن بنى ومؤسسات تقليدية، فيعرف على أنه ” مجموعة من المؤسسات والفعاليات والأنشطة التي تحتل مركزا وسيطا بين العائلة باعتبارها الوحدة الأساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي والنظام القيمي في المجتمع المدني، من ناحية، الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ذات الصبغة الرسمية، من ناحية أخرى “.

بينما يذهب عزمي بشارة ومحمد عابد الجابري وسعد الدين إبراهيم على أن مفهوم المجتمع المدني هو ” مجمل التنظيمات غير الإرثية، وغير الحكومية التي تنشأ لخدمة المصالح أو الميادين المشتركة لأعضائها “أما الدكتور حسنين توفيق إبراهيم ، فقد عرفه على أنه ” مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية تنظم في إطار شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع، ويحدث ذلك بصورة دينامية ومستمرة من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية، التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة “. بينما اتفق نخبة من المثقفين والمفكرين العرب على وضع تعريف إجرائي في إطار ندوة مركز دراسات الوحدة العربية لعام ،1992والذي تم صياغته على النحو الآتي

إنه المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال تام عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية، كما في حالة اتحاد الكتاب والمثقفين، والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي، وفق اتجاهات أعضاء كل جماعة، ومنها أغراض اجتماعية، والمساهمة في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية “.

أما اللجنة الوطنية للحوار حول المجتمع المدني وأدواره الدستورية الجديدة، فقد عرفت المجتمع المدني على أنه ” ذلك الحيز الموجود في مسار تنظيم المجتمع وتأطيره، بالإضافة إلى الدولة والأحزاب السياسية والنقابات “.

أما الدكتور نجيب الحجيوي فقد قال أنه يمكن تعريف مفهوم المجتمع المدني من خلال وظائفه، 19كما أشار أن المجتمع المدني هو وهم من نوع خاص لضمان الاستقرار السياسي والديني.2

في حين عرف البنك الدولي مفهوم المجتمع المدني بأنه ” مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجود في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين، استنادا إلى اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية “.

ونخلص إلى القول أن مفهوم المجتمع المدني هو مجموعة من المؤسسات المستقلة التي تسمح للأفراد بتنظيم حياتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية باستقلالية عن أنشطة الدولة، وتتشكل من أفراد يتفاعلون فيما بينهم بكل حرية في إطار العمل التطوعي لتحقيق الصالح العام

الفقرة الثانية: الدولة النشأة، التطور والمفهوم
أولا: نشأة الدولة وتطورها
كما هو معلوم أن نشأة كل دولة تختلف عن الأخرى نتيجة اختلاف الظروف الطبيعية والتاريخية واختلاف الأحوال الاقتصادية والاجتماعية

لهذا اختلف المفكرون والفقهاء والفلاسفة في تفسير وإيضاح أصل نشأة الدولة وتعددت النظريات وتنوعت بتنوع وجهات نظر المستنبطين لها. ومن أهم النظريات في تفسير نشأة الدولة وتطور مفهومها نجد نظرية القوة التي ترى أن أصل نشأة الدولة تعود إلى فكرة القوة والغلبة. فحسب دوكي فإن الدولة نتاج ِصرف للقوة، فالدولة تنشأ حينما يتمكن فرد أو فئة من الأفراد من فرض قوتهم على باقي أفراد المجتمع الذين يخضعون لقوة الطرف الأول المتمثل في السلطة الحاكمة. 22فالدولة بهذا المفهوم تقوم على سيادة الإرادة المنفردة للسلطة الحاكمة وبالتالي يغيب فيها الطرف الآخر” المحكوم “. وبعبارة أخرى فإن عنصر الإكراه والقوة يظل حاضرا في هذه العلاقة على اعتبار أن الدولة هي نتاج صراع بين الجماعات تولد عنه طرفا الدولة (غالب :الحاكم ومغلوب: المحكوم )

أما نظرية العقد الاجتماعي فتنطلق من أن الدولة هي ظاهرة إرادية قامت نتيجة اتفاق حر واختياري بين مجموعة من الناس فضلوا الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة المجتمع المدني والسياسي مع ما نتج عن ذلك من قيام سلطة سياسية وتنازل المواطنين عن كل أو بعض حقوقهم الطبيعية. 23فبموجب هذه النظرية فإن أصل نشأة الدولة يرجع إلى العقد الذي بموجبه تتأسس السلطة السياسية التي تغيب في المجتمع الطبيعي ” اللادولة “، هذه العلاقة تقتضي تنازل الأفراد عن بعض أو كل حقوقهم للسلطة الحاكمة التي يبقى عليها ضمان حماية هذه الحقوق

أما فيما يخص نظرية تطور الأسرة فترجع أصل نشأة الدولة بداية إلى الأسرة، وأن الأسرة هي الخلية الأولى للدولة. في بداية الأمر قامت الأسرة أولا ثم تطورت واتسعت، فتجمعت عدة أسر كونت فيما بينها العشيرة، ثم اتسعت العشيرة واجتمعت عدة عشائر تكونت منها القبيلة، ثم تجمعت عدة قبائل معا وباستقرارها على بقعة من الأرض تكونت القرية، ثم اتسعت القرية وانقسمت لعدة قرى وباجتماع هذه القرى تكونت المدينة، وبتطور المدينة تكونت عدة مدن وتجمعت معا ونشأت منها أخيرا الدولة. 24وبهذا المعنى فإن الأسرة هي الصورة المصغرة للدولة التي تتجسد فيها السلطة الأبوية لرب الأسرة التي تطورت في مرحلة لاحقة لتتخذ عدة صور أخرى كالعشيرة، والقبيلة، فالقرية ثم المدينة وصولا إلى الدولة

أما فيما يتعلق بنظرية التطور التاريخي فترجع أصل نشأة الدولة إلى عوامل متنوعة، من القوة المادية والاقتصادية إلى العوامل الدينية والمعنوية والعقائدية

ويتلخص مضمون النظرية، في أن الدولة ظاهرة طبيعية نتجت من تفاعل عوامل مختلفة عبر فترات طويلة من التطور التاريخي الذي أدى إلى تجمع الأفراد للتعايش معا. وتطورت الأحوال بعد ذلك بظهور فئة حاكمة لهذه الجماعة فرضت سيطرتها عليها، وقبضت على ناصية الأمور فيها، مما أدى في النهاية إلى نشأة الدولة. 25ومن أنصار هذه النظرية العميد ديجي وبارتلمي ومودو، فالدولة في نظر ديجي، عبارة عن ظاهرة تاريخية، أو حدث اجتماعي ناتج عن عوامل متعددة مادية أو فكرية أو اقتصادية.2

وبناء على ذلك كله، فإن أصل نشأة الدولة لا يقوم على عامل محدِد بذاته، وإنما يقوم على عوامل متعددة اقتصادية، اجتماعية، عقدية…، حيث أن غلبة عامل على آخر تتحكم في طبيعة النظام السياسي

ثانيا: مفهوم الدولة
إن مفهوم الدولة هو أكثر المفاهيم الاجتماعية مركزيةً وحيرةً. لأنه من الصعب التحديد بدقة أي المؤسسات تتكون منها، وإلى أي درجة تمتد، كما نلاحظ حضوره بكل الحقول المعرفية ، حيث يستعمله المؤرخ وعالم السياسة والاقتصاد. ويعد مفهوم الدولة حجر الزاوية في الدراسات القانونية والحقوقية، لهذا تعددت التعريفات الخاصة بالدولة بقدر تعدد المدارس الفكرية والسياسية التي تناولت هذا المفهوم بالتحليل والدراسة

فالدولة حسب أفلاطون هي جماعة من الناس الأحرار المتساوين يرتبطون فيما بينهم بأواصر الأخوة ويطيعون الحكام المستنيرين أولي الرعاية والحزم، الذين اتخذوهم رؤساء ويخضعون للقوانين التي ليست إلا قواعد العدل ذاته.27

ويعرفها العلامة دوجي بأنها كل تنظيم للجماعة السياسية القديم منها والحديث، المتأخر والمتمدين، أي أن كل مجتمع سياسي أياً كانت صورته، يسمى دولة.2

أما هيغل فيرى أن الدولة، هي الميدان الأخلاقي للكلية والتكامل الذي يختتم الضرورة المتحكمة بالمجتمع المدني وحق الخصوصية السائد فيه. إن الدولة العادلة هي التحقق النهائي للروح في التاريخ لأنها قائمة على الحرية وليس القسر.

أما الماركسيون فيعرفون الدولة بأنها أداة قمع وإكراه وضعت تحت تصرف الطبقة المسيطرة لحماية مصالحها.3

علماء السياسة يعرفون الدولة بأنها مؤسسة تحتفظ باحتكار العنف على منطقة جغرافية معينة

فقهاء الألمان والفرنسيون جللينيك لابند، وكاري دومالبرغ فينظرون للدولة في معناها 32 . الواسع أنها إقليم، يقيم فيه سكان، وتُ َما َرس فيه سلطة ُمنَ ّظمة قانونيا

لتعريف العام للدولة أنها مؤسسة ُعليا ترعى شؤون السلطة والقانون على بُقعة جغرافية 33 محدّدة تُع َرف بأرض الوطن

الدكتور سليمان محمد الطماوي يعرف الدولة بأنها مجموع كبير من الناس، يقطن على وجه الاستقرار إقليما معينا ويتمتع بالشخصية المعنوية والنظام والاستقلال السياسي.3

الدكتور وليد بيطار يعرف الدولة بأنها واقعة قانونية، وظاهرة تاريخية وواقعة اجتماعية وسياسية.

الدكتور فؤاد العطار ، يعرف الدولة بأنها ظاهرة سياسية وقانونية، تعني جماعة من الناس يقطنون رقعة جغرافية معينة بصفة دائمة ومستقرة، ويخضعون لنظام سياسي، وهذا يطلق 36 . عليه اصطلاحا سيادة الدولة داخلياً وخارجي

وتأسيسا على ما سبق يمكن تعريف الدولة بأنها أكبر الظواهر الاجتماعية، فهي شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يقوم على ثلاثة أركان وهي الشعب الذي يتشكل من مجموعة من الأفراد تربطهم علاقات وأهداف مشتركة وسلطة سياسية عليا تعمل على ضمان حماية أمن واستقرار الجماعة، بالإضافة إلى وجود حدود جغرافية (إقليم).

المطلب الثاني: أنماط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة والمتغيرات المؤثرة فيهما

شكلت العلاقة بين المجتمع المدني والدولة بؤرة اهتمام عدد كبير من المفكرين والباحثين، حيث اتجهوا إلى وصف شكل العلاقة بين الطرفين علاقة تصادم وصراع. وفي ضوء هذه الرؤى يمكننا أن نحدد تصورا نظريا لأنماط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة (الفقرة الأولى)، مع الأخذ بالمتغيرات المؤثرة في العلاقة بينهما (الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى: أنماط العلاقة بين المجتمع المدني والدولة
: أولا: التعاون والتنسيق

ن النظر في جوهر هذا النوع من العلاقات يوحي مند الوهلة الأولى إلى صورة مثالية للعلاقة بين المجتمع المدني والدولة، حيث يشكل كل طرف حلقة مهمة لا يمكن الاستغناء عنها في تدبير الشأن العام على جميع المستويات من خلال انخراط الدولة بمؤسساتها والمجتمع المدني بمختلف تنظيماته. فهذه العلاقة تنم عن متغيرين مهمين يتمثل الأول في قبول الدولة للمجتمع المدني واعتراف هذا الأخير بشرعية المجتمع السياسي، والعمل في إطار مشترك على مستوى صياغة القرارات السياسية والسياسات العامة دون الضرب في استقلالية المجتمع المدني

وتتعدد مجالات التنسيق في هذا المجال: فعلى المستوى القانوني تضع الدولة ترسانة قانونية منظمة للمجتمع المدني إن على مستوى تأسيس الجمعيات والمنظمات واشهارها وتحديد مصادر التمويل والميزانية، وأحقية الحصول على مساعدات أجنبية من جهات خارجية.

أما على المستوى السياسي فإن مؤسسات المجتمع المدني تسعى إلى التأثير في الحياة السياسية من خلال المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والمساهمة في صنع السياسات العمومية في إطار تدبير الشأن العام

وفي المجال الاجتماعي تعمل مؤسسات المجتمع المدني بتنسيق مع القطاعات الحكومية على إنجاح مجموعة من السياسات القطاعية كالتعليم والصحة والبيئة. ومن أمثلة هذا التنسيق الحوارات الاجتماعية حول بعض القضايا الاجتماعية التي تجمع بعض مسؤولي القطاعات الحكومية مع فعاليات المجتمع المدني ( نقابات، جمعيات…)، كذلك التنسيق بين جمعيات حقوقية تنشط في مجال حقوق الإنسان مع الجهاز القضائي في معالجة بعض القضايا المتعلقة بالحقوق والحريات

وقد أصبحت جمعيات المجتمع المدني بالنسبة للحكومات آلية من آليات تحقيق الإصلاح على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية. ففي المغرب ارتبط التفاعل بين الدولة والمنظمات غير الحكومية بتطوير المنظومة التربوية ومجال حماية البيئة وقضايا المعاقين وتنمية القدرات النسائية وتحسين أوضاع الطفولة والاهتمام بملفات حساسة كملفات ضحايا التعذيب

وتأسيسا على ما سبق فإن الرهان المطروح يبقى في مدى قدرة الحكومات على قبول مؤسسة المجتمع المدني كشريك جديد وفاعل لامناص منه في تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ومنه تحقيق التنمية المستدامة

ثانيا: التنافس والصدام
إن وجود مؤسسات للمجتمع المدني التي تسعى إلى مكافحة الفساد والظلم وسوء استخدام السلطة في النظام السياسي يجعلها تمثل تهديدا حقيقيا لشرعية النظام السياسي خصوصا منذ فضح الانتهاكات والخروقات التي تقوم بها السلطة السياسية في مجال حقوق الإنسان

كما يحث صدام بين المجتمع المدني والدولة عند كل محاولة تقييم الممارسات غير القانونية وكذلك ينشأ الصراع والمواجهة عند قيادة منظمات المجتمع المدني لكل شكل احتجاجي أو حراك مجتمعي للمطالبة بتحسين الأوضاع أو رفض القرارات التي تصدرها الدولة

ويزداد هذا الصراع عند كل محاولة اتصال بجهات خارجية لطلب المساعدة والدعم منها ضد تصرفات النظام السياسي. وهذا ما يدفع الدولة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير لمنع عمل تلك المنظمات من وقف للتمويل أو سحب التراخيص أو محاولة تفتيتها من الداخل لأنها أصبحت تمثل خطرا على بقاء النظام أو استمرار يته ويمكن إجمال مرحلة التنافس والصدام بين المجتمع المدني والدولة في أن جل النظم السياسية تقوم بعرقلة إنشاء المنظمات وفي حالة نشوئها فإنها تقوم بالحد من فعاليتها عبر الرقابة والسيطرة عليها

وتجدر الإشارة إلى أن عدم وجود مجتمع مدني فاعل يجعل الدولة في خطر حقيقي في مواجهة الأفراد مباشرة معهم لتتشكل عندنا من جديد مرحلة العنف في مواجهة العنف

ثالثا: السيطرة والهيمنة
إن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني يجب أن تحكمها قاعدة أساسية مفادها استقلالية المجتمع المدني. إلا أن الواقع يكشف عكس ذلك خصوصا في ظل النظم التسلطية ولا أدل على ذلك ما يقع في الدول العربية. هذه الأخيرة التي تزخر بجملة من منظمات المجتمع المدني بمختلف تشكيلاتها إلا أن المشكلة التي تطرح نفسها تتمثل في مدى فاعلية هذه المنظمات وكذا في طبيعة علاقتها بالدولة، إذ تعرف هذه العلاقة عدم الثقة وانتشار سلطة الدولة على جميع مجالات الحياة المجتمعية في إطار مفهوم كوربوراتية الدولة عند شميتر. 39حيث تعمل الدولة على إخضاع تلك المنظمات تحت سيطرتها من خلال تغلغل الجهاز البيروقراطي الرسمي والتنظيم الحزبي الحكومي المسيطر فيها. وقد اعتبر عبد الله ساعف أن الدولة هي من قامت بتهميش دور مؤسسات المجتمع المدني العربي؛ لبسط سيطرتها حتى لا تتقلص سلطاتها حتى قال: ” إن جوهر مشكلة المجتمع المدني العربي تتركز في انتشار سلطة الدولة في كل مجالات الحياة الاجتماعية، مما يجعل من هذه السلطة أداة مراقبة مستمرة وعائقا أمام إمكانية تحرر الأفراد واستقلال المؤسسات الاجتماعية

فالدولة العربية تكتسح كل مجالات الحياة المجتمعية في إطار مشروع شمولي لدولنة المجتمع، ومنع قيام أي حركة تجنيد اجتماعية تحد من سلطاتها. والحقيقة أن ذلك لا يعني في التحليل النهائي تقوية الدولة، فالصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها، والمجالات والاختصاصات التي تمتلكها، وطموحاتها الزائدة لاحتلال كل المواقع، إضافة إلى أجهزتها وآلياتها المتنوعة، قد تخفي ضعفا جوهريا، ووجودا هشا للسلطة. ففي وسط متخلف من المستبعد أن يعني وجود الدولة في كل مكان، أنها بالفعل قوة حقيقية

وقد تبنت القيادات الحكومية عددا من الاستراتيجيات للهيمنة والسيطرة على مؤسسات المجتمع المدني لعل من أبرزها

ـ إستراتيجية الاختراق: حيث يتم تعبئة الأفراد من أعضاء الحزب الحاكم أو من الموالين للدولة وحثهم على المشاركة في المجتمع المدني والتحكم فيه من الداخل.

ـ إستراتيجية التنظيمات المماثلة: لقد عملت القيادات الحكومية على الحد من فعالية التنظيمات المدنية ولاسيما الحقوقية والدفاعية 40من خلال إنشاء منظمات مقابلة لها في كنف الدولة ويسيطر عليها النظام ومؤيدوه ويكون الهدف الأساسي احتواء التنظيمات التي تمثل تحديا للدولة

ـ إستراتيجية الإكراه والقمع: حيث تعتمد القيادات الحكومية على القدرات الأمنية المملوكة لديها من أجل احتواء أي تهديد لها من قبل بعض التنظيمات والمؤسسات المستقلة

الفقرة الثانية: الإشكاليات والمتغيرات المؤثرة في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة
أولا: إشكالية الثقافة السياسية

يلعب مدخل الثقافة السياسية دورا ذا شأن في تحليل العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، ويستند مدخل الثقافة السياسية على أساس أن القيم والمعتقدات عوامل مهمة في تحديد كيفية تصرف الأفراد ونوعية توجهاتهم تجاه النظام السياسي، ولقد عرف عالم السياسة الأمريكي ألموند الثقافة السياسية ” بأنها مجموعة التوجهات السياسية والأنماط السلوكية التي يحملها الفرد تجاه النظام السياسي ومكوناته المختلفة وتجاه دوره كفرد في النظام السياسي، ويعرفها محمد زاهي المغيربي بأنها ” مجموعة المعتقدات السياسية والأحاسيس والرموز والقيم السائدة في المجتمع في فترة زمنية معينة، ومن التعريفات السابقة يمكن القول أن الثقافة السياسية تعد أحد مكونات العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني التي ينتمي إليها الفرد وبين الدولة في ممارستها لسلطة الحكم بين أفراد المجتمع

وتعد القيم المكونة للثقافة السياسية ذات دور في تحديد شكل العلاقة بين المجتمع المدني والدولة من خلال إيجاد الديمقراطية، بعبارة أخرى الثقافة السياسية بما تشمله من معتقدات وقيم واتجاهات قد تدفع إلى المرونة والتسامح وقبول الآخر والنقد الهادف البناء وانتشار روح المبادرة الفردية، بما يسهم في تدعيم النظام الديمقراطي. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن مؤسسات المجتمع المدني تلعب دورا في بناء تلك الثقافة السائدة وتتأثر بها كذلك، فهي تؤثر في الثقافة السائدة من خلال مساهماتها في عملية التنشئة السياسية، وخلق تصور لتشكل العلاقة بين المجتمع المدني والدولة

ثانيا: إشكالية التنظيم الاقتصادي
إن نشأة المجتمع المدني الأولي في الدول الغربية كان نتيجة التطور الاجتماعي الذي واكب التنظيمات الاقتصادية الجديدة التي عرفتها تلك الدول، ونتيجة ما عرف بالاقتصاد الرأسمالي، حيث أن تحقيق النمو الاقتصادي في ظل الاقتصاد الرأسمالي يمكن له أن يساعد في قيام النظام الديمقراطي، إلا أنه لا يمثل العامل الوحيد في سبيل قيام مؤسسات المجتمع المدني بدورها، وبالرجوع إلى إشكالية العلاقة بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في ظل الانفتاح الاقتصادي وقيام اقتصاد السوق، يمكن لنا القول أن اقتصاد السوق يفسح المجال أمام المبادرات الفردية ويقوي القطاع الخاص ويقلص دور الدولة في الهيمنة على الاقتصاد، الأمر الذي يساعد على تنامي دور مؤسسات المجتمع المدني ويعزز الديمقراطية، التي يصاحبها إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، إلا أن تبني التوجه الرأسمالي في الاقتصاد لا يعني إلغاء دور الدولة وإنما قد يشهد تغيرا في شكل هذا الدور

ثالثا: الإطار القانوني
تمثل التشريعات القانونية المنظمة لعمل مؤسسات المجتمع المدني داخل الدولة إحدى العوامل المهمة في تحديد شكل العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، وفي استمرار وتواصل الطرفين، في ذلك بقول رئيس لويد أنه من الممكن استخدام القانون كأداة للطغيان، كما حدث في العديد من المجتمعات والعهود أو كأداة لتحقيق تلك الحريات الأساسية التي تعتبر في المجتمع الديمقراطي جزءا جوهريا من الحياة الكريمة

فالأصل في التشريعات المؤطرة لعمل مؤسسات المجتمع المدني أن تتسم بالاستقلال النسبي، كما تساعد تلك التشريعات مؤسسات المجتمع المدني على المشاركة الفعالة في الشؤون العامة، وتحصنها مجموعة من الضمانات لتحقيق أهدافها، ويمكن أن تحد تلك القوانين من عمل تلك التنظيمات ما يدفعها إلى مزاولة عملها سرا، الأمر الذي يخرج بالعلاقة بين الدولة وتلك المؤسسات من دائرة التعاون أو التوازن إلى دائرة التصادم وانعدام الثقة بين الطرفين، مما يجبر تلك المؤسسات على انتهاج أساليب للتحايل على المعوقات القانونية التي قد تصغها الدولة، والتي قد تفقد الدولة هيبتها ومشروعيتها بين أفراد الشعب

المبحث الثاني: المجتمع المدني والدولة بالمغرب أية علاقة؟
المطلب الأول: العوامل المؤثرة في العلاقة بين المجتمع المدني والدولة
الفقرة الأولى: العوامل الاقتصادية والديمغرافية
أولا: العوامل الاقتصادية

إن مساهمة الدولة في القطاع العمومي بواسطة الشركات العمومية كان يقوي من دورها داخل كل صراع اجتماعي أو سياسي، فقد كانت الدولة هي المشغل الأول في البلاد وهو الأمر الذي يمكنها من إتباع سياسة أجور ملائمة للظرفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية دون اعتراض كبير من القطاع الخاص

وبتخلي الدولة عن التدخل في المجال الاقتصادي ونقص مواردها المالية ومناصب الشغل التي تراقبها، تراجع دورها كدولة عناية تركت المواطنين يواجهون مصيرهم عزلا

إن الطبيعة تقاوم الفراغ كما يقول أرسطو فأمام تخلي الدولة عن أدوارها أصبح من الضروري على المواطنين أن يفكروا في خلق أجهزة ومؤسسات تحميهم وتضمن حقوقهم سواء في مواجهة مشغلهم أو في مواجهة شركات الإنتاج والتوزيع، أو في مواجهة السلطة ورجالها أو في مواجهة بعضهم البعض. وهما أصبحت تظهر إلى الوجود عدة جمعيات مستقلة عن أجهزة الدولة تهتم بحماية المواطنين في شتى مجالات الحياة وهوما اصطلح على تسميته بالمجتمع المدني

غير أن ظهور مؤسسات المجتمع المدني لم يكن بالشكل السهل حيث اصطدمت في الأول بمقاومة أجهزة الدولة التي اعتادت على أن تسهر على مراقبة المواطنين ورعاياتهم، وكل رغبة في الحد من هذه المراقبة تلاقي بمعارضة شديدة من قبل المسؤولين، لذا فإن بداية بزوغ المجتمع المدني قد عرفت صدامات ومقاومات.4

ثانيا: العوامل الديمغرافية
يعتبر إميل دوركايم أول الباحثين المهتمين بالعامل الديمغرافي باعتباره أحد العوامل الحاسمة في عملية التغيير الاجتماعي، فلقد أوضح بأنه حين يكون عند السكان ضعيفا ورقعة البلاد ممتدة ومتسعة، فإنه من الممكن استمرار سير المجتمع دون تنظيم دقيق للإنتاج والعمل. ولكن بفعل النمو الديمغرافي المتزايد، وضعف المجال الديمغرافي فإن المجتمع يضطر إلى تنظيم نفسه، وهذا التنظيم ينصب أساسا على تقسيم العمل ودخوله في علاقة مع الدولة

فالعامل الديمغرافي عند دوركايم يعتبر بمثابة قانون جاذبية العالم الاجتماعي حسب تعبيره الشخصي باعتبار أن العامل الديمغرافي له تأثير على العاملين الاقتصادي والاجتماعي فرخاء المجتمعات وتطورها ناتج أساس عن ارتفاع عدد أعضائها، الشيء الذي يدفعها إلى توزيع المهام بين هؤلاء الأعضاء، وتأثير بعضهم على البعض تأثيرا إيجابيا، يكون من نتائجه قيام الحضارات التي عرفتها الإنساني

وفي المغرب يعتبر العامل الديمغرافي من العوامل الأساسية المساهمة في التحولات الاجتماعية والاقتصادية، فقد ارتفع عدد السكان خلال هذا القرن بشكل لم يسبق له مثيل.4

الفقرة الثانية: العوامل الاجتماعية والسياسية
أولا: العوامل الاجتماعية
عرف المجتمع المدني مجموعة من التحولات الاجتماعية، ذلك أن محدودية الإصلاحات صة وعدم مساسها لبنيات ال ِملكية العقارية وعجز الطبقات المالكة عن الاستثمار المنتج خا في العالم القروي، أدت إلى بروز عدة مشاكل داخل المجتمع المغربي، منها تفاحش الفوارق الطبقية في الوسطين الحضري والقروي وظهور مشكلة البطالة وأزمة التعليم، وذلك بشكل كان يهدد المغرب في توجهاته السياسية والاقتصادية

ثانيا: العوامل السياسية
لقد اختار المغرب منذ الاستقلال النهج الليبرالي كفلسفة اجتماعية واقتصادية وسياسية تقود البلد، وقد كرس ذلك أول دستور مغربي ضمن الملكية الخاصة والتعددية السياسية ومنع الحزب الوحيد. ويعود تطور المجتمع المدني أساسا إلى الانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب خلال العقد الأخير مع الدمقرطة المتصاعدة للمؤسسات والتطور الذي لم يسبق له مثيل للحركة من أجل حقوق الإنسان. وبنفس الشكل فإن الخطاب الحزبي قد اعتنى بالتوجه نحو أسئلة الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا نخفي المساهمة النشيطة للأحزاب التقدمية الديمقراطية من أجل تشييد ديمقراطية واقعية ورفضها المستمر السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تقودها الدولة.4

المطلب الثاني: سيرورة تطور علاقة المجتمع المدني بالدولة في المغرب
الفقرة الأولى: التطور التاريخي لعلاقة المجتمع المدني بالدولة في المغرب

لقد اتسمت علاقة المجتمع المدني بالدولة في المغرب بالحذر، حيث تأرجحت بين التصادم والاحتواء حتى تفقد هذه الفعاليات طبيعتها. حيث كانت هذه التنظيمات إما أن تذوب في السلطة وتخدم أجندتها وأهدافها وتصبح أداة من أدواتها بهدف الحفاظ على وجودها، وإما أن تختار مصارعة السلطة من أجل الحفاظ على طبيعتها واستقلاليتها

إن ظهور المجتمع المدني بالمغرب يرجع إلى ما قبل الاستعمار حيث كان يتسم بتفوقه على الدولة ( الزوايا والقبائل ). إذ كان الأداة الوحيدة القادرة على تنظيم الجماهير قصد ضبط الأمن الداخلي والتصدي للهجمات الخارجية. وقد يقوى نفوذها السياسي إلى درجة التطلع إلى ممارسة السلطة العليا في البلاد كما وقع بالنسبة للزاوية الدلائية مثلا. 44إلا أنه غالبا ما كان يتم احتواؤها لتصبح تابعة لسلطة الدولة، حيث تأسست العديد من الفعاليات المدنية بالمغرب إما بمباركة الدولة أو تحت عيونها ومراقبتها. أو تحت ظل الأحزاب السياسية ووصايتها

وقد عملت الحماية الفرنسية على بناء دولة عصرية بالإضافة إلى تأثيرها لتحول المجتمع المغربي حيث استطاعت ولأول مرة التحكم في المجتمع وضبطه ومراقبته، وتمكنت من اختراقه بمختلف مكوناته وتنظيماته القبلية، الأمر الذي كرس علاقة هيمنة الدولة العصرية على المجتمع المدني وهو ما سهل في فترات تاريخية إضعاف مكوناته، حيث تم التضييق على مجموعة من الحريات من قبيل حرية تأسيس الجمعيات، وحرية التعبير، ومنع كل التظاهرات ذات الطابع السياسي أو المطلبي..

أما بعد الاستقلال فقد صارت الدولة المغربية على درب سلطات الحماية، بحيث نشرت الدولة هياكلها وأجهزتها الضبطية في عمق المجتمع المغربي، وكان الهدف من ذلك تمييع المجتمع المدني الحقيقي وتفتيت أحزاب الحركة الوطنية، واستقطاب قطاعات المجتمع إلى جانبها من نقابات وجمعيات ونواد، هي أدوات للسلطة ومنفذه لسياساتها. 45حيث دخلت البلاد في مسلسل من الاعتقالات في صفوف الأحزاب المنبثقة عن الحركة الوطنية كمؤشر على أن دولة الاستقلال اختارت أن تضع حدا لكل ازدواجية، من ذلك العهد ستصبح الدولة فوق المجتمع وعلى هذا الأخير أن يخضع طواعية أو قسرا كما له أن ينتظر كل شيء منها

وعموما فظهور المجتمع المدني المغربي كان له صلة وثيقة بوظيفته الأيديولوجية التي تغذِت من الصراع السياسي وتنافس المصالح المادية والمعنوية، وقد بدأت معالم العمل

الجمعي تتضح إبان سبعينيات القرن الماضي، وذلك من خلال أشكال الصراع والمواجهة ما بينه وبين السلطة، والجدير بالذكر أن البدايات الأولى كانت ذات طابع حقوقي، تميزت فيها ثلاث محطات من تعامل السلطة مع فعاليات المجتمع المدني

: المحطة الأولى امتدت من بداية السبعينيات إلى أواسط الثمانينيات، وتميزت بالمواجهة والاصطدام المباشر مع ما كان يشكل البنية الأولية لتأسيس مجتمع مدني فتي وناشئ، والذي كان في غالبه على صلة بدرجات مختلفة مع الأحزاب السياسية المعارضة وخاصة اليسارية منها

المحطة الثانية وكانت في أواسط الثمانينيات، حين انتبهت السلطة إلى الاهتمام المتزايد بمؤسسات المجتمع المدني، لذا فقد اعتمدت سياسة خلق المنافسة، فباشرت بإيجاد عدد من الجمعيات لها الأهداف نفسها والشعارات المعتمدة في مؤسسات المجتمع المدني الحرة، وأمدتها بجميع الإمكانات المادية، كما تم توظيف بعض أعيان السلطة والمال مديرين ومشرفين عليها، وذلك بغرض تقوية وتفعيل نفوذها في المجتمع. وقد عملت السلطة على توسيع رقعة نشاط هذه الجمعيات لتغطي جميع جهات المغرب، بل وأصبحت غطاء للكثير من الأنشطة السياسية الرسمية

: المحطة الثالثة : بدأت مع مطلع التسعينيات، فقد تغيِرت استراتيجية الدولة تجاه المجتمع المدني، بعد عجزها عن القضاء عليه كاملا أو منافسته بشكل كبير، فلجأت إلى فكرة احتوائه وتوظيف مؤسساته وموقعها في المجتمع، لاسيما بعد الانفراج السياسي الذي شهده المغرب، وقيام حكومة التناوب برئاسة الشخصية البارزة وأحد أقطاب المجتمع المدني العربي عبد الرحمان اليوسفي، الأمر الذي أحدث انعطافة كبيرة في تطور المجتمع المدني بالسماح لمؤسساته بالعمل الشرعي والقانوني. وهكذا بدأ الحديث عن إشراكه في إعداد البرامج الحكومية وتدبير المرافق، وتوسيع حضوره ورموزه في الأنشطة الرسمية ووسائل الإعلام. وكان هذا خلاصة للتطور التاريخي، حين انتقلت الدولة من المواجهة مع مؤسسات المجتمع المدني في تدبير الشأن العام، في التصدي للمشكلات الكبرى التي بدأ يعرفها مغرب التسعينيات، ومحاولة واضحة لجعل هذه المؤسسات تمتص الغضب الشعبي الثائر ضد اختيارات الدولة، أضف إلى ذلك التطور الدولي على هذا الصعيد، فقد سعى الغرب وبالأخص المنظمات غير الحكومية العالمية إلى التعامل مع المؤسسات والأجهزة الرسمية، وذلك نتيجة محدودية فعالية هذه الأخيرة، ولاعتقاد لدى المنظمات والدول الغربية مفاده أن أجهزة الدولة في المغرب والعالم الثالث لا تمثل تمثيلا أميناً مصالح المجتمع المدني وتطلعاته ومشكلاته.4

فبالمغرب كانت تجربة تنظيمات المجتمع المدني تعاني من العراقيل التي تضعها الدولة، منها ذات الطابع المسطري، ومنها ذات الطابع الإداري، هذه الظاهرة التي تم التقليص منها إلى حد كبير اليوم مقارنة مع ما مضى. خاصة مع دستور 2011الذي نص على المجتمع المدني وأعطاه عدة صلاحيات في مجال السياسات العامة، ووضع يد حل تنظيماته بيد القضاء. على الرغم مما ما زال من تضييق على مجال الحريات، في تحرك التنظيمات المدنية في مجال الحق في التظاهر وحق الاحتجاج وحق الإضراب عن العمل المكفول في قانون الحريات منذ .195

الفقرة الثانية: تحول علاقة الدولة بالمجتمع المدني بالمغرب

لابد للإشارة إلى أ ِن هناك العديد من المتغيرات الخارجية في علاقة النسق السياسي المغربي بالنسق الدولي والأنساق السياسية الأجنبية، هي التي نتج عنها تنامي دور المجتمع المدني في صناعة القرار بالمغرب؛ من ذلك تحول نمط الدولة بالعالم من دولة الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، إلى دولة حارسة أو ضبطية فقد دخل مع أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي في عدة إصلاحات هيكلية. هذه الإصلاحات التي ابتدأت مع سياسة التقويم الهيكلي، وتنامت مع لحظة مشاركة المعارضة اليسارية الوطنية في الحكم، مع تجربة حكومة التناوب التوافقي في ظل دستور4

حيث دخل المغرب مع هذه التجربة مجال الاقتصاد الليبرالي المعولم الجديد، وبدأ في تأهيل الاقتصاد الوطني وتحرير السوق، وانفتح في مجال الحقوق والحريات بإبرام المصالحة الوطنية عبر تأسيس هيئة الانصاف والمصالحة، وانسحبت الدولة المغربية من المجال الاقتصادي بنهج الخوصصة وإبرام اتفاقيات التبادل الحر، وتراجعت وظيفتها في المجال الاجتماعي بتكريسها وصنعها لمسؤولية المجتمع المدني وتهييئه للقيام بالأدوار التي أخذت الدولة تتخلى عنها لصالح فاعلين آخرين. ونتج عن انفتاح الدولة الخارجي تقلص في سيادتها، أدى بدوره إلى تقلص في مجالها الداخلي لصالح المجال الدولي في إطار الالتزامات الدولية في مجال الحقوق والحريات وغيرها، وهو ما ساهم في تحرك المجتمع المدني الوطني في إطار تعاونه مع المنظمات غير الحكومية للضغط على صناع القرار

ومن جهة ثانية مكن الانفتاح في مجال الحريات العامة من تغيير طبيعة الفضاء المعيش الذي تتحرك فيه هيئات المجتمع المدني الحقوقية والثقافية، خاصة الجمعيات النسوية والشبابية التي كان لها دور بارز في الضغط على صناع القرار في مختلف مراحل الصيرورة القرارية في العديد من المناسبات والأحداث الوطنية

هده الأحداث التي كان أهمها: حدث إخراج مدونة الأسرة وتفعيل بنودها وتقييمها وتنفيذها، وحدث بلورة دستور 2011وتضمينه العديد من المطالب المجتمعية والهيئات الحقوقية والثقافية

وهو ما يبين مدى قدرة النسق السياسي المغربي على التكيف مع بيئته الداخلية ومحيطه الدولي والإقليمي، وذلك بالاستجابة لهذا المحيط وهذه البيئة استناداً إلى قراراته السابقة وانعكاساتها وقدرته على ضبط قراراته اللاحقة وملاءمتها مع الأهداف المتوخاة

تحولت علاقة الدولة المغربية مع المجتمع في ظل هذا الانفتاح السياسي والاقتصادي والحقوقي الذي شهدته في ظل تفاعل نسقها السياسي مع محيطه الدولي، من علاقة تقوم على الاصطدام والصراع والمراقبة والضبط، إلى علاقة تقوم حسب العديد من المراقبين على الحوار والتشاور والتعاون.علاقة أصبحت تنبني على دمقرطة القرار العام بواسطة إشراك الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين في مجال صنع القرار على المستوى المحلي والمركزي، وتنبني على التخلي عن المقاربة المركزية في السياسات الاجتماعية لصالح المقاربة المحلية باعتماد الديمقراطية التشاركية وإدارة القرب

تجلى هذا النهج بشكل واضح مع إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية سنة ،2005حيث عملت الدولة المغربية على إشراك المجتمع المدني في صناعة القرار، وخاصة الجمعيات التنموية تنشط في المجال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتي تم إشراكها في تفعيل مشاريع المبادرة الوطنية وتنفيذها وتقييمها

حيث كانت هذه الجمعيات حاضرة في اللجان المركزية والإقليمية والمحلية، باعتبارها صاحبة المشاريع خاصة في المجالات التي راكمت فيها الخبرة والتجربة، ومن خلال إسناد بعض القطاعات الحكومية هيئاتها لهذه الجمعيات عدة صلاحيات لتنفيذها

كانت حاضرة سواء بشكل مباشر أو عن طريق الشراكة أو المواكبة، وكذا في مجال التقييم عبر تقييم برامج العمل والسياسات العمومية ومراقبتها لتحقيق معايير الحكامة داخل المرافق العامة وحماية المال العام، بما في ذلك من فضح الفساد والرشوة واستغلال النفوذ، الذي برز فيه بشكل جلي دور الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة وبعض الجمعيات التي عملت على فضح الفساد وجعلت من أهدافها تخليق الحياة العامة

وهو ما تجلى أيضا على المستوى المحلي، حيث أكدت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية ( 111.14ـ 112.14ـ )113.14على إحداث هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع بالجماعات الترابية بمختلف أنواعها التي يجب أن تتكون من شخصيات تنتمي إلى المجتمع المدني المحلي

خاتمة
يعتبر تاريخ المجتمع المدني تاريخ مواجهة غياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرغبة في تحقيق التوازن الاجتماعي، فالمجتمع المدني بذلك يشكل العمود الفقري لبناء دولة قوية ووطنية يلتف حولها أغلبية المواطنين، فهاته الدولة لن تقوم لها قائمة إلا بسند من المجتمع المدني الفاعل والمستقل عن الدولة التي يجب أن تقوم على وجود مؤسسات دستورية ممثلة تمثيلا حقيقيا وتعمل على فرض القانون إلا أن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة قد شابها عدم الاستقرار و التبات إذ بفعل تحولات عديدة طرأت على الدولة بعد عهد الحماية بالمغرب عملت هاته الأخيرة على تقوية أسسها الضبطية والأمنية وبناء الدولة العصرية الأمر الذي أثر على دور المجتمع المدني وقلص من حجمه وقوته التي كانت حاسمة وفاعلة في عهد الاستعمار لكن هذا لم يمنع من إعادة بلورة مجتمع مدني منافس بل ومكمل في أحيان كثيرة للدولة خصوصا مع الانفتاح السياسي للمغرب المعاصر سعى من خلالها المجتمع المدني إيجاد نوع من التوازن للدفاع عن المسار الديمقراطي وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

وكخلاصة يمكن القول إن علاقة المجتمع المدني في المغرب بالدولة تشبه علاقة المراهق بأسرته، فهو وإن شب عن الطوق وأصبح قادرا على تدبير بعض أموره وبلورة شخصية متميزة فإنه لم يصل بعد إلى مرحلة البلوغ الكاملة ليؤسس شخصية خاصة به ومستقلة عن الدولة، فهو يخضع لمراقبة دائمة خوفاً منه وخوفا عليه في نفس الوقت

لائحة المراجع

الكتب
ـ الدكتور وليد بيطار، ” مدخل إلى علم السياسة ،” الجزء الثاني، الطبعة الأولى: .2014
ـ حسن صعب، ” ِعلم ال ِسِياسة “، بيروت .1966

ـ بييرفافر و جان لوكان، ” دراسات في علم السياسة ،” ترجمة ناظم عبد الواحد الجاسور، الطبعة الأولى: .1999
ـ الدكتور محمد نصر مهنا، ” علم السياسة ”
ـ جان ماري دانكان، ” علم السياسة “، ترجمة الدكتور محمد عرب صاصيلا، الطبعة الأولى: .1992
ـ توفيق المديني، ” المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،” ـ دراسة ـ
ـ الاستاذ، ناظم عبد الواحد الجاسور، ” موسوعة المصطلحات السياسية والفلسفية والدولية “، الطبعة 2011
ـ الدكتور مصطفى الخشاب، ” عل ُم الاجتماع َو َمدَار ُسهُ “، الكتاب الثاني: المدخل إلى علم الاجتماع الطبعة: 1992
ـ ستيفن ديلو، ” التفكير السياسي والنظرية السياسية والمجتمع المدني “، ترجمة ربيع وهبة. ـ الدكتورعلي محمد محمد الصلابي، ” الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها ،” الطبعة الأولى 2013
ـ الدكتور عبد الرحمان الماضي، ” محاضرات في المناهج القانونية والاجتماعية ،” السداسي الأول
2015 ـ201 ـ الدكتور محمد عبد الجبار خندقجي، والدكتور نواف عبد الجبار خندقجي، ” مناهج البحث العلمي منظور تربوي معاصر”
ـ ابراهيم إبراش، ” المؤسسات والوقائع الاجتماعية، من شريعة الغاب إلى دولة المؤسسات ،” طبعة
1998
ـ الدكتور عبد الحسين شعبان، ” المجتمع المدني سيرة وسيرورة “، الطبعة الأولى 201228
ـ مولاي محمد البوعزاوي، ” تحديث الإدارة الترابية المغربية نحو ترسيخ الديمقراطية وكسب رهان
التنمية “، الطبعة الأولى
ـ محمد زين الدين، ” القانون الدستوري والمؤسسات السياسية “، الطبعة الثالثة: 2016
ـ الدكتور حسن قرنفل، ” المجتمع المدني والنخبة السياسية إقصاء أم تكامل ؟ ”
ـ الدكتور عبد اللطيف أكنوش، ” تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية بالمغرب ”
الرسائل والأطروحات الجامعية
ـ فوزي التومي أبو سنينة، ” العلاقة بين المجتمع المدني والدولة “، ليبيا نموذجا،أطروحة مقدمة لنيل
شهادة الدكتوراة في القانون العام، السنة الجامعية: 2011ـ 2012
ـ اسماء السماعلي، ” المجتمع المدني وإشكالية التنمية المحلية ـ العمل الجمعوي نموذجاـ” رسالة لنيل
دبلوم ماستر في القانون العام، السنة الجامعية: 2009ـ2010 ندوات
ـ ندوة علمية تحت عنوان ” المجتمع المدني بالمغرب : التشكل، المسار، الاستراتيجيات “. بمناسبة اليوم الوطني
للمجتمع المدني، نظم ماستر المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية بجامعة الحسن الأول بسطات كلية العلوم القانونية والاقتصادية
والاجتماعية بسطات يومي 13و 14مارس . .2017
مجلات
ـ الأستاذ حجاجي امحمد، ” مساهمة المجتمع المدني في تعزيز البناء الديمقراطي بالمغرب “، مجلة
العلوم القانونية، سلسلة الدراسات الدستورية والسياسية، العدد الثالث
مقالات
ـ مولاي عبد الصمد صابر، ” تطور علاقة المجتمع المدني بالدولة، صراع واحتواء أم تفاعل وشراكة: المجتمع المدني المغرب
أنمودجا ،” مؤمنون بلا حدود، الدراسات والأبحاث
بقلم ذ أمين بخوشي
طالب باحث في ماستر المجتمع المدني والديمقراطية التشاركية.جامعة الحسن الأول سطات
إعادة نشر بواسطة محاماة نت