كما ذكرنا سابقا أن العلماء وضعوا شروط للقاضي إجمالًا ،ثم وضعوا شروط القاضي المتفق عليها ،ثم تكلموا عن شروط القاضي المختلف فيها بينهم. إذا نظرنا إلى مذاهب أهل السنة-وهي ما تهمنا-وجدنا أن شروط القاضي إجمالًا:

عند الحنفية:هي أن كل مَن يصلح للشهادة يصلح للقضاء ،وشروط الشهادة عندهم:الإسلام ، والعقل ،والبلوغ ،والحرية ،والبصر ،والنطق ،والسلامة عن حدِّ القذف ،هذا إجمالًا. وذكروا هذه الصفات ؛لأنها صفات الشاهد ،إذا توافرت في شخص يصلح للشهادة ،إذًا فهو يصلح للقضاء.

بينما يرى المالكية: أنهم اشترطوا في تولية القاضي أن يكون عدلًا ،والعدالة تقتضي الإسلام والبلوغ والعقل والحرية ،وعدمَ الفسق ،فكلمة العدالة شملت كل هذه الصفات ،وأن يكون ،يعني: بالإضافة إلى العدالة-ذكرًا رجلًا ،وأن يكون عالمًا بالأحكام الشرعية التي وُلِّي للقضاء بها ،و أن يكون مجتهدًا إن وجد ،وإلا فالأمثل ،يعني: إذا لم يوجد المجتهد المطلق ،فالمجتهد في مذهب ،وإلا فالأفضل تدريجيًّا.

ويجب أن يكون القاضي عندهم سميعًا بصيرًا ،متكلمًا ابتداءً ودوامًا ،يعني: عند التعيين يستمر متصفًا بهذه الصفات ،لكنها ليست شرطًا في صحة التولية ،إذ ينفذ حكمه إن وقع صوابًا مع فقد تلك الصفات ،وفي فقد اثنتين منها خلاف بينهم ،وفي ثلاثة لا ينفذ حكمه.

يعني: هذه الصفات الأخيرة التي ذكروها من السمع والبصر والكلام ابتداءً ودوامًا ،ليست شرطًا من شروط صحة التولية ،فقد لا يكون على هذه الصفات ،ومع ذلك يولى ،إذ ينفذ حكمه إن وقع صوابًا مع فقد تلك الصفات ،وفي فقد اثنتين خلاف ،يعني: إذا فقد اثنتين ،فيه خلاف ،إذا فقد ثلاثة لا ينفذ حكمه.

معنى هذا أن المالكية عندهم شروط مجملة ،اتفقوا في بعضها-كما سنرى-مع الحنفية واختلفوا في بعضها الآخر ،وسيأتي تفصيل ذلك.

وذهب الشافعية إلى: أن الشروط المعتبرة في القاضي عشرة؛ هي: الإسلام ،والحرية ، والذكورة ،والتكليف ،والعدالة ،والبصر ،والسمع ،والنطق ،والاجتهاد ،والكفاية اللائقة بالاجتهاد، وفسر بعض العلماء من الشافعية كلمة “الكفاية في القضاء” بمعنى القدرةَ على تنفيذ الحق لنفسه ،أن يكون شجاعًا ،ولديه القدرة والحزم على تنفيذ ما حكم به.

واشترط الحنابلة: أن يكون القاضي بالغًا عاقلًا ،ذكرًا حرًّا مسلمًا ،عدلًا ،سميعًا بصيرًا ،متكلمًا مجتهدًا ،ولكن شروط القضاء عندهم تعتبر حسب الإمكان ،ويجب تولية الأمثل فالأمثل ،يعني: لا نطلب منه أن يكون مجتهدًا مطلقًا كالإمام أبي حنيفة ،أو الإمام أحمد ،أو الإمام مالك، إنما حسب الزمان وحسب الوقت ،ويؤخذ الأفضل فالأفضل ؛حتى لا تتعطل مصالح الناس.

وإذا نحن تأملنا في هذه الشروط كلها نجد أنها متقاربة ،فما يجمله بعضهم يفصله بعضهم الآخر، كما فعل المالكية مثلًا عندما ذكروا شرط العدل ،وضمنوه الإسلام والبلوغ والعقل والحرية وعدم الفسق…إلى آخره.
وأحيانًا بعضهم يجعل بعضَ الشروط شروطَ صحة ،يعني: ليكون حكمه صحيحًا نافذًا ،ومع ذلك بعضهم أدمج شروط الصحة مع شروط التولية.

لكن على أي حال ،هذه بوجه عام هي شروط من يتولى القضاء عند علماء أهل السنة بوجه عام، وضمن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.

لكن قد نتساءل: قلنا: إن الحنفية يشترطون الإسلام هذا صحيح ،معنى ذلك أنه لا بد أن يكون القاضي مسلمًا ،ولا يجوز أن يكون كافرًا عند الحنفية ،حتى لو كان سيقضي بين أهل ملته ، الحنفية أجازوا أن يكون القاضي كافرًا ،أو أن يكون غير مسلم إذا كان سيقضي بين أهل ملته.

هل معنى ذلك أيضًا أنهم عندما اشترطوا بعض الشروط الأخرى مثل ألا يكون محدودًا في حد قذف ؛لأنه تسقط به الشهادة عندهم حتى ولو تاب.

الشروط المتفق عليها في القاضي عند جمهور العلماء:

أما الشروط المتفق عليها في القاضي عند جمهور العلماء التي اتفقوا عليها ،وهي موجودة عندهم جميعًا ،فهي على النحو الآتي:

الشرط الأول: الإسلام ؛لأن القضاء ولاية ،ولا يجوز أن يكون لغير المؤمن ولاية على المؤمن، غير أن الحنفية-كما قلت-أجازوا ولاية الكافر في القضاء على أهل دينه.

الشرط الثاني: هو البلوغ، فلا تجوز تولية الصبي حتى وإن كان مميزًا؛ لأنه غير مكلف ،ولا تنعقد ولايته يعني: هو شروط تولية وشروط صحة؛ لأنه لا يجوز لهذا الصبي-وإن كان مميزًا-أن يتولى أمر نفسه ،فتوليته أمر غيره لا يجوز من باب أولى ،والقضاء نوع من أنواع الولاية ،فهو ولاية من الولايات العامة ،صحيح لا يصل إلى درجة الولاية العامة الكبيرة العظمى ،كالخلافة أو الإمارة ،ولكنه من الولايات العامة أيضًا؛ لأنه يقضي بين الناس.

وقد ورد أيضًا في الأثر التحذير من شرور ولاية الصبيان ،ورد أنهأشار إلى خطورة وصول الإنسان إلى سن السبعين-سبعين عامًا-يعني: وحذَّر من شرور ولاية الصبيان ،أنهم إذا تولوا الأمر أفسدوه ،وهم معذورون في هذا ،والمحاسب على هذا مَن ولاهم ،فالصبيان لا بد أن يكون القاضي مكلفًا بالغًا.

الشروط الثالث: العقل ،فلا تجوز تولية القضاء للمجنون ،ولا المعتوه ،ولا السفيه ،ولا مختلّ العقل ؛لأنهم جميعًا لا يستطيعون أن يفرقون بين الظلم و العدل و لأنهم غير مكلفين.

والمراد بالعقل هنا ليس مجرد العقل الذي يوجب التكليف ،لا،بل المراد بالعقل أن يكون فطنًا ذكيًّا ،صاحب فراسة ،وكثير من القُضاة اشتهروا بالألمعية والفطنة الشديدة ،وبعضهم رويت عنه قصص وحكايات شديدة الذكاء ،تدل في مجملها على أنه ينبغي أن يكون القاضي فطنًا لبيبًا؛ لأن القاضي يحكم بين الناس ،والناس فيهم الدهاة ،والماكرون ،وفيهم من يتلاعبون بالحق فيحولوه إلى باطل ،ومن يتلاعبون بالباطل فيحولونه إلى حق ،فعلى القاضي أن يكون ذكيًّا لبيبًا فطنًا ،عارفًا بثقافة عصره وألاعيب الناس ودهائهم؛ ليكشف الحق من الباطل ،وهو من المتفق عليه أن يكون مسلمًا ،وأن يكون بالغًا ،وأن يكون عاقلًا بمعنى الفطنة والذكاء.
الشرط الرابع: أن يكون حرًّا ،يعني: لا يكون عبدًا أيام أن كان هناك رق؛ لأن القضاء نوع من أهم أنواع الولايات العامة ،و هم أنفسهم ﻻ يتحكمون في امرهم ،وهو السيد أو الولي له ،فولايته على غيره لا تجوز من باب أولى.

وأيضًا بالإضافة إلى انه مشغول بخدمة سيده أو مالكه ،و سيده يحتاجه في جميع الأوقات ومن الممكن أن يجبر علي حكم خاطئ وظالم ،ولذلك الشرع خفف عنه بعض الأحكام كحضور الجمعة مثلًا ،لماذا؟ لأنه مشغول بخدمة مالكه.

وقد نازع في ذلك ابن حزم مستدلًّا بحديث أبي ذر يقول فيه: (أوصاني خليلي-يعني: رسول الله أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا مجدَّعَ الأطراف) ،معنى الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالسمع والطاعة لأصحاب الولايات ،ومنهم القاضي ،فعلينا أن نسمع له وأن نطيع له. ،وعدم الخروج على مَن ولَّاهم الله أمرنا ،فهذا أدعى إلى النظام ،واستتباب الأمن.

بقلم الاستاذ عمرو صالح

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .