جريمة إعطاء أو تظهير شيك مردود
وسجن المدين للإعسار
عمر الفاروق شمينا

إعادة نشر بواسطة محاماة نت 

يكثر الكلام في الأوانه الحاضره في جريمة إعطاء أو تظهير شيك مردود كما نصت عليها المادة (179) من القانون الجنائي لسنة 1991 التي توجب معاقبة من يرتكب هذه الجريمة عند إدانته بالغرامه أو بالسجن مده لا تتجاوز ثلاث سنوات أو بالعقوبتين معًا ولم يتقصر الكلام على ذلك إذ يقول آخرون إن الإجراءات التي يضعها القانون تحرص على تنفيذ الحكم بسداد الدين بسجن المدين وقد يبقى السجين في السجن لحين السداد. وهذا إجراء لايراعي مصلحة المدين وحقه في الحرية وهي أولى بالرعاية.

نسمع هذا الكلام في المجالس الخاصة و العامة وفي فضائية أم درمان في برنامج الأستاذ حسين خوجلي كما نقروءه في عمود الأستاذ النور أحمد النور في صحيفة التغيير.لاضير في هذا الكلام بل فيه خير لاشك فيه ذلك انه يهدف ويدعو الى إصلاح قانوني للمادة (179) التي لا شك أن لها علاقة قائمة بحرية المواطنين والنشاط التجاري والمصرفي، وهي علاقة وثيقة لا انفصام لها. ونصوص قانون الإجراءات المدنية.

ولعل أهم ما ورد في ذلك الكلام هو الدعوة لإلغاء المادة (179) من القانون الجنائي فيختصم المتعاملون في الشيكات المرتدة أمام المحاكم المدنية بدلاً عن المحاكم الجنائية كما كان الحال قبل أن يعدل قانون العقوبات لسنة 1925 بإدخال المادة 362(ب).

وحجتهم مؤداها أن النزلاء في السجون في جرائم الشيكات المرتدة والديون التي لم تستوف بالدفع تجاوز ألفي نزيل ويستمر السجين ” لحين السداد” ولا أمل في السداد. كما يجادلون أن المادة (11) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدينة والسياسية تنص على أنه لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي فقط.

وفي ذات الوقت تنادي مجموعة أخرى بأن لا يستجاب لذلك الرأي وترى تلك المجموعة ألا تلغى المادة(179) ذلك أنها تمنح الحماية القانونية للشيك الذي يقوم مقام النقد كأداء وفاء ودفع فوري عند الطلب وفقًا لما تنص عليه المادة (176) من قانون الكمبيالات لسنة 1917.

فإن ألغيت المادة 179 فلابد أن تضعف الثقة في الشيك كأداة دفع فوري فيلجأ المواطنون إلى التعامل بالنقد ويتم ذلك خارج النظام المصرفي فتفقد المصارف الرسوم التي تتقاضاها التي تشكل موارد مالية مقدرة فإن ضعفت الثقة في الشيك فقد يغري هذا الضعف التمادي في الامتناع عن الوفاء بالدفع فترتد الشيكات فتزداد نسبة التعثر.

التعقيب على ماسلف من كلام يحتاج إلى شرح بعض المبادئ والقواعد والإجراءات القانونية ذات الصلة ذلك أن القوانين وسيلة لازمة من وسائل الإصلاح الاجتماعى والاقتصادي.

تهدف هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على تطبيق النصوص القانونية التي تجرم ارتداد الشيك وإجراءات استيفاء الديون والتعليق عليها وذلك مساهمة في إثراء الحوار كما نقدم بعض المقترحات التي قد تساهم في الإصلاح المنشود.

جريمة ارتداد الشيك – خلفية تاريخية للتشريع
يعد قانون العقوبات لسنة 1925 واحداً من أفضل القوانين فى مجاله غير أنه لأسباب اقتصادية وتجارية في ذلك الزمان الذي صدر فيه لم يجرم فعل إعطاء شيك فكانت المحاكم المدنية تقضي في أفعال ارتداد الشيكات لأي سبب، لا فرق بين الشيك الذي يقوم مقام النقد كأداء وفاء فوري عند الطلب والكمبيالة والسند الأذني الذي هو أمر كتابي يطلب فيه الساحب من المسحوب عليه أن يدفع في تاريخ معين أو قابل للتعيين عند الطلب لذا فإن الكمبيالة أداه ائتمان – دين. أربكت هذه الممارسة القضائية التعامل التجاري كما زعزعت الثقة في الشيك كأداة دفع فوري.
إزاء ما سلف بيانه صدر القانون رقم (33) لسنة 1969 بتعديل المادة (362) من قانون العقوبات لسنة 1925 فأضيفت المواد 362(ب) و362(ج) و362(د) وتنص المادة 362(ب) على الآتي:
كل من أعطى شيكًا رفضه المسحوب عليه:
أ‌- لعدم وجود حساب له لدى المسحوب عليه وقت تقديم الشيك للصرف.
ب‌- لعدم وجود رصيد كاف له لدى المسحوب عليه أو
ج- لوقفه صرف الشيك بأمر منه دون سبب معقول أو لأن رصيده غير قابل للسحب مع علمه بذلك أو
ه- لتعمده تحرير الشيك بصورة لا يقبلها المسحوب عليه.

أركان الجريمة:
للجريمة ركنان أساسيان هما الفعل المجرم ACTUS REUS والقصد المجرم أو سوء النية MENS REA الفعل المجرم وحده لا يكون عادة جريمة في حد ذاته ما لم يصحبه سوء نيه أوقصد مجرم. كقاعدة عامة تعتبر سوء النية أو القصد المجرم عنصراً أساسياً في الجريمة.

وبالرغم من ذلك هناك جرائم لا يكون سوء النية أحد عناصرها. فالمشرع قد يعرف ويشرع جريمة يوجب فيها المسؤولية الجنائية متى ما ارتكب الشخص الفعل المجرم فقط بغض النظر عن توفر القصد المجرم أو سوء النية.

الجرائم التي لا يشترط في ارتكابها توفر سوء النية أو القصد المجرم تكون المسؤولية الجنائية فيها صارمة ومطلقة STRICT LIABILITY غير عمدية ويكون إثبات ارتكاب الجريمة في هذه الحالة أسهل من إثباتها عندما تتطلب الجريمة توفر سوء النية والقصد وتكون عمدية.

لم يتفرد القانون الجنائي السوداني بتجريم فعل إعطاء الشيك بدون رصيد. وضح الأستاذ الدكتور محمد محيي الدين عوض في مؤلفه ” قانون العقوبات السوداني مشروحاً ومعلقاً عليه ” الصادر في عام 1970 (صفحة 556 ) أن القوانين المصرية والصومالية والعراقية والسورية واللبنانية والمغربية وغيرها من البلاد العربية جرمت فعل إصدار شيك بدون رصيد. كما أن القانون الإنجليزي جرم هذا الفعل في قانون Larceny Act لسنة 1916 وقانون السرقة لسنة 1949 وكذلك الوضع في القانون الهندي (المادة 420).

ومن المهم أن نذكر أن تلك القوانين نصت على أن يكون عنصر سوء النية أو القصد (Mens rea) أحد العناصر التي يجب توفرها لاكتمال جريمة إصدار شيك بلا رصيد. وذلك خلافًا لما نصت عليه المادة 362(ب) التي سلفت الإشاره إليها.

التفسير والتطبيق القضائي للمادة 362(ب)
كانت سابقة حكومة السودان ضد عبدالقادر عبدالله على(مجلة الأحكام القضائية 1969 صفحه 157) أول دعوى جنائية يفسر فيها نص المادة (362ب). كان قضاء مولانا عثمان الطيب رئيس القضاء الأسبق في محكمة الاستئناف مانصه:
“This section which was recently enacted imposes an absolute criminal responsibility on drawers of cheques, fixed date of payment. No question of mens rea should arise……”

ما قاله رئيس القضاء هو أن المادة 362(ب) قد شرعت حديثاً لتفرض على المتعاملين بالشيكات مسؤولية صارمة ومطلقة لا تتطلب توفر القصد الجنائي. ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للقضاء الجنائي للإدانة المطلقة والعقوبة الصارمة وخفف على الاتهام عبء إثبات عناصرالمادة362(ب). وبالرغم من هذا فإن قضاء المحاكم في الأعوام التالية لم يكن متناسقًا في الأحكام والعقوبة وعلى سبيل المثال ففي قضية حكومة السودان ضد محمد أحمد (مجلة الأحكام القضائية عام 197 صفحة 48) حكمت المحكمة على المتهم عند إدانته بيوم واحد بالسجن. (ارجع كذلك إلى قضية حكومة السودان ضد عبدالله كرار كشة المجلة 1973 صفحه 378 وقضية حكومة السودان ضد حموده الطاهر المجلة 1971 صفحة(3)).

إزاء ذلك ولضمان تطبيق نصوص المواد 362 (ب) و(ج) و(د) على نحو متسق وصارم أصدر رئيس القضاء الأسبق عثمان الطيب منشوراً جنائياً بالرقم (55) ( صادر من محكمة الاستئناف) بتاريخ 19/12/1971 وذلك لمعالجة ” قضايا الشيكات المرفوضة والمردودة”. ولعل مايلفت الانتباه أن الفقرة (3) من المنشور وجهت المحاكم بالعمل بما جاء في السابقة التي قضى فيها رئيس القضاء وسلفت الإشارة إليها فقال:

” وعلى أي حال فإن ساحب الشيك استحق التجريم والعقاب بمجرد رجوع الشيك بصرف النظرعن وجود أو عدم وجود قصد جنائي وبعد هذا وجه المنشور المحاكم ألا تصدر عقوبات مخففة عند الإدانة”.

على إثر ذلك أصدر السيد وكيل وزارة العدل المنشور رقم و ع /تشريع/ 12/4 صدر بتاريخ 20/12/1971 وجه فيه وكلاء النيابة والشرطة بالآتي:
أ‌- لا يفرج عن أي متهم سبقت إدانته في جريمة متعلقة بارتداد شيكات.
ب‌- المطالبة بتوقيع أقصى العقوبة وأن تكون عقوبة السجن أمر لا مفر منه والإنذار وتوجيه الإنذار تحت الماده 77(ب) من قانون العقوبات (الإنذار بأن تكرار الجرم سيكون سببًا في زيادة العقوبة).
ج- المطالبة بأن تدفع قيمة الشيك للشاكي وذلك وفقًا لأحكام المادة (77) من قانون العقوبات).
لم يقتصر منشور وكيل العدل على تلك التوجيهات فحسب بل أكد ماورد في حكم رئيس القضاء الذي سلفت الإشارة إليه عن طبيعة جريمة تحرير شيك بلا رصيد بأنها جريمة غير عمدية والمسؤولية الجنائية على مرتكبها مسؤولية صارمة ومطلقة Strict Liability توجب الإدانة بلا حاجة لإثبات القصد الجنائي.

واضح مما سلف بيانه أن المادة 362(ب) من قانون عقوبات السودان لسنة 1925 عرفت وشرعت جريمة تختلف في عناصرها عن العناصر التي وردت في كل القوانين المطبقة في البلاد العربية وغيرها وذلك حين نصت أن تكون جريمة الشيك المرتد جريمة مطلقة صارمة ليس من عناصرها توافر سوء النية والقصد.. وقد أدى ذلك إلى نتائج غير منطقية بل غير عادلة.

على سبيل المثال فإن حرر شيك بمبلغ ألف جنيه وكان الساحب على يقين أن رصيده يغطي ذلك المبلغ ولا يعلم أن البنك قد سبق أن خصم من الرصيد رسوم بنكية قدرها مبلغ مائة جنيه وحين قدم المسحوب له الشيك إلى البنك امتنع البنك عن صرفه ورده لأن الرصيد غير كافٍ هل يكون من المنطق والعدل أن يجرم ساحب الشيك في هذه الحالة بارتكاب جريمة شيك مرتد. هذا المثال وغيره من الحالات المشابهة فضلاً عن أن تطبيق هذه المادة أدى إلى سجن عدد كبير من مرتكبي هذه الجريمة ووقعت عليهم أقصى عقوبة أملت على المشرع في عام 1974 تعديل المادة 362(ب).

قانون العقوبات لسنة 1974( تعديل المادة 362(ب))
ورد في المذكرة التفسيرية أو المقدمة لقانون العقوبات لسنة 1974 في شأن تعديل المادة 362(ب) ما نصه.
” روى أن يحصر التجريم في حالة إعطاء شيك لا يقابله رصيد أو يقابله رصيد غير كافٍ إن كان الشيك قد أعطي وفاءً لالتزام أو بمقابل. هو تعديل منطقي حتى لا يحاسب بموجب أحكام هذه المادة أشخاص غير الذين قصدت محاسبتهم. كما أصبح (العلم) عنصراً من عناصر الفقرة (ب) حتى تكتمل الجريمة بموجبها”.

نص المادة المعدلة كالآتي:
362 (ب) كل من أعطى شخصًا شيكًا وفاءً لالتزام أو بمقابل ورفضه المسحوب عليه:-
(أ‌) لعدم وجود حساب له لدى المسحوب عليه مع علمه بذلك أو
(ب‌) لعدم وجود رصيد كاف له لدى المسحوب عليه مع علمه بذلك أو
(ج) لوقفه صرف قيمة الشيك بأمر منه دون سبب معقول أو
(د) لأن رصيده غير قابل للسحب مع علمه بذلك أو
(ه) لقصده تحرير الشيك بصورة لا يقبلها المسحوب عليه.

يلاحظ أن عبارة ” بسوء نية” لم ترد في هذا النص ونلاحظ أيضاً أن النص أدخل عبارة ” مع علمه بذلك” فى الفقرتين (ب) و(ج) أي في حالة عدم وجود رصيد كافٍ وحالة أن يكون رصيده غير قابل للسحب.

إن مصطلح ” سوء النية” مصطلح قانوني محدد المعنى شرحه القضاء والأكاديميون شرحاً وافياً. وفي ظني أن عبارة “مع علمه بذلك” هذه العبارة لا تعني أو تفيد بمعنى مصطلح “سوء النية”.

فتستبدل به، غير أن العبارة أضافت عنصراً ثانياً لعناصر الجريمة مما يكفل حماية أوسع للمتهم وعلى أية حال فتعديل ” مع علمه بذلك” كما أن التعديل الآخر الذي أدخل عام 1974 أوجب أن يكون إعطاء الشيك وفاء لالتزام أو بمقابل حتى يحاسب من أعطى الشيك. إجمالاً يتسق هذا التعديل مع المادة (11) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي توجب عدم قدرة الوفاء “بالتزام تعاقدي” فقط غير أنه لم ترد فيه كلمة “مقابل” التي نراها توسعاً في حماية الشخص الذي يحرر الشيك.

ونلاحظ أن تعديل 1974 أدخل على المادة 362 قبل أن يدخل العهد الدولي حيز النفاذ. صفوة القول هو أن تعديل 1974 خطى خطوات جادة في طريق إصلاح المادة (362) وإن لم يبلغ التعديل المنشود الذي سوف نوضحه لاحقًا.

القانون الجنائي لسنة 1991
مضى القانون الجنائي لسنة 1991 في نفس الدرب فعدل المادةه (179) من القانون الجنائي لسنة 1991 ونص على شرط إدخال عبارة “علمه بذلك” في الفقرة (د) التي تنص على تحرير الصك بصورة غير معقولة.

وفي اعتقادنا أن التعديل الذي أدخل على المادة 362 (ب) التي تعادل المادة (179) خطوة محمودة في طريق الإصلاح القانوني غير أنها أيضًا لا تتسم بالجرأة اللازمة ومهما يكن من أمر فمازلنا نأمل أن يخطو المشرع الخطوة المأمولة والجريئة فيدخل على نص المادة 179 عنصر” سوء النية” كأحد عناصر الجريمة.

إجراءات سجن المدين تنفيذاً لحكم أصدرته محكمة مدنية بدفع مبلغ من النقود
كانت الشرائع القديمة تعطي الدائن الحق في سجن المدين الذي فشل في سداد ما عليه من دين بل كان له الحق في استرقاقه، غير أن ذلك الوضع تغير كثيراً فانحصر حق الدائن في سجن المدين فقط. كما أحاطت الاتفاقيات الدولية والتشريعات المحلية المدين بضمانات مؤداها أن لا يسجن المدين إلا في حالات محددة ووفقًا لإجراءات واضحة وتتسم هذه الإجراءات بأهمية قصوى ذلك أنها تحدد للقضاء سبيله إلى تحري الحق ثم إقراره الحق بعدل.

ويوجب العدل أن توازن المحكمة بين مصلحة الدائن في إجراء التنفيذ ومصلحة المدين بأن تكفل له الحرية ولا يسجن إلا إذا اقتضى العدل ذلك. هذا غاية ما يستهدفه كل قانون. فلننظر كيف رسم القانون السوداني هذه الإجراءات.
(1) قانون القضاء المدني لسنة 1929

تنص الماده (198) من قانون القضاء المدني لسنة 1929 أن من يحكم عليه بدفع مبلغ من النقود ويعجز عن دفعها لا يسجن إلا بعد أن تستجوبه المحكمة بناءً على طلب من المحكوم له عن مقدرته على الوفاء ويتبين لها من استجوابه أو من أدلة أخرى:

(أ‌) أنه رفض أو أهمل دفع المبلغ أو أي جزء منه مع مقدرته على الوفاء.
(ب‌) أنه مع علمه بعجزه عن الوفاء بماعليه من دين حمل نفسه بديون تدل على عدم المبالاة أو فضل أحد دائنيه تفضيلاً غير عادل.
(ج) أنه نقل ملكية جزء من أمواله أو أخفاه أو هربه بعد تاريخ الدعوى بسوء نية قاصداً تعطيل تنفيذ الحكم.
حرص المشرع في نص المادة (198) من قانون القضاء المدني على توفير ضمانات تكفل حرية المدين. فقد أوجب النص أن تتبع المحكمة إجراءات تستقصى بها لمعرفة إن سلك المدين سلوكاً تشوبه سوء النيه للامتناع أو تفادي سداد الدين، فإن لم يثبت هذا فلا يجوز للمحكمة سجن المدين وإن ثبت سوء النية فلا مناص من السجن. وفي اعتقادنا أن هذا الإجراء يوازن بين مصلحة المدين الذي كفلت له ضمانات رسمت في النص ومصلحة الدائن في أن حقه في استيفاء الدين لا يهمل ويكون احتمال سجن المدين سيف مسلط عليه.
تنص المادة (199)(2) من قانون القضاء المدني أيضاً على الآتي:

بغض النظر عن الأحكام المنصوص عليها في الفقرة (1) على المحكمة أن تأمر بالإفراج عن المحبوس في الأحوال الآتية:
(أ‌) إذا دفع المبلغ المذكور في أمر الحبس.
(ب‌) إذا حصل الوفاء بالحكم الصادر ضده بأي طريقة أخرى.
ولا تبرأ ذمة المدين إلا بعد دفع الدين كله. الجدير بالملاحظة أن قانون الإجراءات المدنية لسنة 1974 نص على هذه المادة بلا تعديل.

قانون الإجراءات المدنيهة لسنة 1983
نص قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 على أحكام مغايرة لما نص عليه قانون القضاء المدني 1929 وقانون العقوبات 1974. نصت المادة 244 من قانون الإجراءات المدنية 1983 أنه إذا حبس المدين وفاء لحكم فلا يطلق سراحه إلا :

(أ‌) إذا دفع المبلغ المحكوم به.
(ب‌) إذا حصل الوفاء بالحكم الصادر ضده بأي طريقة أخرى قبلها المحكوم له.
(ج) إذا تنازل المحكوم له كتابة وبحضور شهود عند الحكم.
(د) إذا ثبت ببينة كافية إعسار المدين.
(2) إذا أطلق سراح المدين بعد ثبوت إعساره تطبيقاً لحكم الفقرة (د) أعلاه فيجوز إعادة القبض عليه وحبسه متى ما ثبت للمحكمة أنه أصبح قادراً على الوفاء بالحكم ما لم يكن الوفاء قد تم بأي وسيلة أخرى من وسائل تنفيذ الأحكام.

الجدير بالذكر أن المادة (244) من قانون الإجراءات المدنية 1983 تتميز وتختلف عن النصوص التي وضعت في القوانين السابقة وذلك في عدة مسائل أهمها وجوب إطلاق سراح المدين إذا ثبت ببينة أنه معسر. وهذا أمر محمود ذلك أن القرآن الكريم يأمرنا أن نيسر على من هو في عسره. قال تعالى في الآية 280: من سورة البقرة ” وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ” صدق الله العظيم أن قوله تعالى “فنظرة إلى ميسرة” تعني فيما تعني أن يمنح المدين فرصة حتى يتيسر أمره وأن ينتظره الدائن حتى تتحسن أحواله المالية فيتم الوفاء.

ويلاحظ أيضاً أن المادة 244 من قانون الإجراءات المدنية 1983 لم تنص على وجوب استجواب المحكمة للمدين الذي أهمل أو امتنع عن سداد الدين فإن ثبت أن الامتناع والإهمال كان عن سوء قصد فيسجن المدين. كما نصت المادة (198) من قانون القضاء المدني لسنة 1929.

ومن هذا الاستعراض لما اشتمل عليه النص يتضح لنا أن المبدأ الأساسي الذي يتغلغل في نصوص المادة (244) من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 هو حبس المدين في المبتدأ ولا يطلق سراحه إلا بعد ثبوت إعساره تطبيقاً للفقرة (د) من نفس المادة وفي هذا يختلف هذا النص عن المادة (198) من قانون القضاء المدني لسنة 1929.

خاتمة
من الاستعراض السابق للأفكار التي كانت ومازالت موضوع الحديث في وسائل الإعلام وغيرها وبعد النظر في نصوص القانون التي سبق أن طبقت والمطبقة الآن يتضح وجود حاجة للموازنة بين مصلحة المصارف في حماية الشيك كأداة للتعامل ومصلحة الفرد في أن يعيش في أمان ولا تنتهك حريته إلا لضرورة تقتضيها سلامة الاقتصاد والمجتمع وفي اعتقادي أن التوفيق بين هذه المصالح المتعارضة يتحقق بتعديل المادة(179) من القانون الجنائي لسنة 1991 التي انفرد السودان بالنص عليها إذ جعل الإدانة بموجبها مطلقة غير عمدية يسهل إثباتها. إن من مصلحة الفرد أن تكون الجريمة عمدية فيكون من بين عناصرها ” سوء النية” فتكفل ضمانات نسبية لحمايته ومن ثم نقترح أن تعدل المادة 179 على النحو الآتي:

” يعد مرتكبا جريمة إعطاء صك مردود من يعطى شخصًا صكاً مصرفياً وفاء لالتزام او بمقابل بسوء نية….”
على أن تعدل الفقرات (ب) و(د) بإلغاء شرط ” مع علمه بذلك”.

أما فيما يتعلق بسجن شخص فشل في سداد ماعليه من دين وتم ذلك بحكم صدر من محكمة مدنية فلا جدال أنه إجراء رفضه العالم المتحضر كما يتعارض مع المواثيق الدولية. غير أن هذه الاعتبارات ينبغي ألا تحملنا لنقر ونوافق على الغبن الذي يقع على الدائن.

وللتوفيق بين الأمرين أرى أن يعدل قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 فينص على ما يعادل المادة (198) من قانون القضاء المدني وقد سلف أن وضحنا أنها من حيث المبدأ لا تأخذ بفكرة سجن المدين إلا في حالات يثبت فيها أن المدين يتهرب من سداد الدين أو يسلك سلوكاً يشير إلى سوء النية ففي هذه الحالة يجوز سجنه.

وبديهي أن ننظر في أمر من هم في السجن ” حتى يتم السداد”.الرأي عندي أن تكون الحكومة مجلساً قومياً لمعالجة قضايا الإعسار. وأن يصدر تكوين المجلس بقانون أو بأمر جمهوري.

وأن تكون من اختصاصاته جمع الأموال لسداد ديون المعسرين من هم في السجن أو من صدرت ضدهم أحكام بسداد الدين ولم يسجنوا بعد.

لايخفى على أحد أن من أوجه مصارف الزكاة للغارمين والآية الكريمة من سورة البقرة تقول فنظرة إلى ميسرة وديوان الزكاة أجدر من ييسر أمر من هم في عسرة.