المعارضة السياسية بين الشريعة والقانون
لا يمكن تصور مجتمع إنساني ـ في التاريخ القديم والحديث ـ تجتمع فيه الكلمة وتتوحد فيه الآراء وراء القرار السياسي الرسمي، إذ ـ غالبًا ـ ما نجد قادة في صفوف المعارضة، أو حتى داخل صفوف المؤسسة الحاكمة، ينتفضون ويعلنون رفضهم لهذه الآراء والقرارات، وقد يتخذون مظاهر احتجاجية قولية أو فعلية يكون لها آثارًا بعيدة على الوضعية السياسية للمجتمع.

وفي العالم العربي والإسلامي، تعددت على نحو متسارع، ظواهر الاعتراض السياسي، وكان بعضها مقتبسًا بصورة كلية من نماذج غربية مألوفة في مجتمعهم؛ للاحتجاج على بعض القرارات السياسية غير المتوافقة مع مصالح المعارضة أو أيدلوجيتها.

وتقف الشريعة الإسلامية من المعارضة السياسية في البداية، ومن ثم من مظاهر التعبير عنها موقفًا متمايزًا ومغايرًا لما هو معروف في الشرائع والقوانين التي صاغها العقل البشري، سواء في ذلك تلك القوانين الغربية، أو نظيرتها في البلاد العربية والإسلامية، وتخط لنفسها منهجًا فريدًا يحفظ للأمة حقها في المعارضة الفاعلة، ويحفظ كذلك على المجتمع استقراره.

القوانين الوضعية والمعارضة السياسية
ففي القوانين الوضعية، وما يخص جهة الاعتراض على القرارات السياسية، وما يستتبع ذلك من فعاليات قولية، كالاعتراض في البرلمانات والمجالس المنتخبة والنشرات الصحافية، أو فعلية كالمظاهرات أو الإضرابات سنجد الملامح الآتية:

أولاً:ـ الانخراط في المعارضة السياسية وممارستها هو دافع ذاتي من بعض الأفراد، وليس هناك أي وازع أو دافع آخر للشخص غير مصالح تدفعه للتحرك وممارسة هذا النشاط.. فالقانون الوضعي لا يملك القوة التي يمكنه بها دفع أي شخص لممارسة السياسة، ومن ثم حق الاعتراض.

ثانيًا:ـ ممارسة الفرد للنشاط السياسي خاضعة لمجموعة من اللوائح والقوانين المنظمة، ومن ثم فليس لكل فرد في الدولة أن يمارس حق الاعتراض السياسي، خاصة في جوانبه العملية، إلا بعد موافقة الجهات التنفيذية في الدولة.

ثالثًا:ـ لم تضع القوانين الوضعية أية ضوابط على القرارات محل الاعتراض، فلجهات المعارضة أن تعترض على ما تشاء من القرارات الصادرة من مؤسسة الحكم، طالما رأت فيها ما يتعارض مع مصالحها السياسية.

رابعًا:ـ ليس هناك ما يمنع ـ من وجهة النظر القانونية ـ أن تمارس المعارضة دورها في إسقاط الحكومات والرؤساء، إذا اتخذت الوسائل المنصوص عليها، طالما رأت أن ذلك يحقق مصالحها وأهدافها الخاصة، وبغض النظر عن المآلات.

الشريعة الإسلامية والمعارضة السياسية
أما إذا تأملنا في جوانب الشريعة الإسلامية فسنجد أن ملامح المعارضة السياسية قد امتازت بعدد من الخصائص والميزات منها:

أولاً:ـ جعلت الشريعة الإسلامية الاعتراض السياسي من قبيل الأمور الدينية، انطلاقًا من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالي: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[التوبة: من الآية71]، ونصيحة الحكام، وحضهم على المعروف، ونهيهم عن المنكر من أعلى المراتب في الشريعة، وفيها جاء الأثر الذي رواه أبو إمامة الباهلي وحسَّنه البغوي في شرح السنة: “أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرمي الجمرة الأولى، فأعرض عنه، ثم قال له عند الجمرة الوسطى؛ فأعرض عنه، فلما رمى جمرة العقبة، ووضع رجله في الغرز قال: أين السائل؟ قال : أنا ذا يا رسول الله قال: أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر”.

ثانيًا:ـ المعارضة السياسية، في الشريعة الإسلامية، واجبة كذلك من زاوية النصيحة للأمة وللسلطان، كما جاء في الأثر الذي رواه مسلم في صحيحة عن أبي تميم الداري قال: “قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”.

ثالثًا:ـ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا النصيحة للائمة وللسلطان، تجعل من المعارضة السياسية واجبًا على الأمة كلها، وهو واجب كفائي، كما يقول علماء الأصول، يسقط عن الكل إذا قام به البعض، وكان كافيًا للأمة في هذا المجال، فليس الأمر مجال رغبة فردية، ودافع شخصي، وإنما هو من قبيل الواجبات الشرعية والدينية على الأمة كلها.

رابعًا:ـ المعارضة السياسة كونها ترتكز على أسس دينية، ولها أبعاد شرعية، فإن دوافعها تختلف عن نظيرتها في ظل القوانين الوضعية، ذلك أنها في ظل هذه القوانين لا يوجد ما ينظم دوافع الاعتراض السياسي، أما في ظل الشريعة الإسلامية فإن الاعتراض محكوم بضوابط شرعية،

منها: خروج قرار الحاكم عن مقتضى الشرع، أو انتهاك القرار لمصلحة راجحة للمسلمين.. وغير ذلك من الأمور ذات الصلة بعموم الأمة ومجمل الشريعة، ولا يقف الحد عند مجرد الرغبات الشخصية والطموح التنافسي لأحزاب المعارضة السياسية.

خامسًا:ـ أن يكون هدف المعارضة السياسية هو تقويم الفريق الحاكم، وإلزامه بمقتضيات السياسية الشرعية من حيث التقيد بالشرع والعمل لصالح الأمة، هو ما يعني أن الشريعة الإسلامية تحظر عمليات الاعتراض التي تهدف إلى الخروج على النظام الحاكم، وتقويضه، وهو ما استقر عليه مذهب أهل السنة والجماعة.

فقد نقل ابن حجر ـ رحمه الله ـ الإجماع على عدم جواز الخروج على السلطان الظالم: فقال: “قال ابن بطال: “وفي الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد اجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء”.

كما نقل الإمام النووي – رحمه الله – الإجماع على ذلك فقال: “وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة، ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق”.

سادسًا:ـ لا تعرف الشريعة الإسلامية الاستقطاب الحادث في غالب الأنظمة السياسية الحالية، وانقسام الفاعلين السياسيين إلى فريقين: فريق الحكم؛ وهو المستحوذ على السلطة والمحتكر لها على الدوام، وفريق المعارضة، الذي هو على الدوام يقبع في خانة الاعتراض..

ولكن الشريعة الإسلامية الحريصة على وحدة الداخل، فتحت باب المعارضة السياسية على مصراعيه بضوابط مرعية، بناءً على نظر ورؤية لمواقف وقرارات فريق السلطة، وليس كموقف مبدئي ثابت ومستقر.. فكل الأمة من حقها أن تعترض، ومن حقها كذلك أن تشارك في الحكم دون اصطفاف ثابت لا يتغير.

مظاهر الاعتراض السياسي في ظل الشريعة الإسلامية
أما عن مظاهر الاعتراض السياسي في ظل الشريعة الإسلامية، فسنجد لها مجموعة من الضوابط، التي يجب مراعاتها عند الممارسة، ومنها:

أولاً:ـ ألا تمس أو تخرق الثوابت والأصول العقدية المتفق عليه بين علماء الشريعة، كان تكون ناقضة للولاء والبراء أو فيها استعانة بأعداء الأمة.

ثانيًا:ـ تجنب الوقوع في المخالفات الشرعية القولية والعملية، ومن ذلك الاتهامات الباطلة التي تستهدف تشويه صورة الفريق الآخر لدى الرأي العام.

ثالثًا:ـ عدم وجود ضرر أكبر يغلب على الظن أن يقع على الأمة من جرَّاء الاعتراض ذاته، أو المظهر والوسيلة المعبرة عنه.

رابعًا:ـ مراعاة المصالح والمفاسد المحققة من وراء الوسيلة المتبعة، والقاعدة المستقرة في الشريعة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح.

خامسًا:ـ مراعاة التدرج في عملية الاعتراض، فتبدأ بالقول والنصح والتذكير، ثم الممارسة العملية المتدرجة.. وهكذا.