هل محكمة القضاء الإداري (ممثلة للسلطة القضائية) تملك إلغاء قرار يصدره مجلسي الشعب والشورى (السلطة التشريعية) طبقاً لمبدأ الفصل بين السلطات ؟!!

هذه دعوة عامة لجميع القانونيين لمناقشة الموضوع التالي:

ترددت مؤخراً أنباء عن قيام بعض أساتذة القانون الدستوري بالجامعات المصرية يؤازرهم حوالي مائة شخص من الشخصيات العامة، بإقامة دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري بطلب وقف تنفيذ وإلغاء قرار مجلس الشعب ومجلس الشورى بتشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور المصري الجديد.

وعند سماعي لهذه الأنباء انتابتني الدهشة، لأنني تعلمت على يد هؤلاء الأساتذة وأمثالهم، مبدأ “الفصل بين السلطات”، بمعنى إن السلطة التشريعية لها اختصاصها (وهو سن القوانين والدساتير)، والسلطة القضائية لها اختصاصها (وهو تطبيق القانون الذي تصدره السلطة التشريعية على وقائع القضايا المعروضة أمامها)، والسلطة التنفيذية لها اختصاصها (وهي تنفيذ الأحكام القضائية ومباشرة المهام الإدارية للدولة)، ولكل سلطة من تلك السلطات اختصاصها المخول لها دون تدخل من باقي السلطات في الدولة، فالسلطة القضائية لا تملك سن القوانين وإنما هي تطبقها فقط، كما إن السلطة القضائية لا تملك إلغاء قانون أصدرته السلطة التشريعية، وحتى المحكمة الدستورية العليا عندما تقضي بعدم دستورية نص ما في قانون فإنها لا تلغيه وإنما توقف العمل به وتلغي آثاره القانونية فقط ولكن النص يظل باقياً إلى أن يتدخل المشرع بتعديله أو إلغائه. كما تعلمنا من أساتذتنا هؤلاء – وهم من فقهاء القانون الدستوري والإداري – إن محكمة القضاء الإداري إنما توقف تنفيذ وتلغي القرارات الإدارية التي تصدرها الجهة الإدارية (السلطة التنفيذية) بالمخالفة لأحكام القانون، ولكنها لا تملك إلغاء قانون أو قرار يصدره مجلس الشعب (السلطة التشريعية). لذا اندهشت جداً عندما علمت بأن هؤلاء الأساتذة قد أقاموا دعوى أمام محكمة القضاء الإداري بوقف تنفيذ وإلغاء قرار مجلس الشعب ومجلس الشورى بتأسيس الجمعية التأسيسية لوضع الدستور المصري. فهل محكمة القضاء الإداري تملك تلك السلطة، وهل هذا يتوافق مع مبدأ الفصل بين السلطات.

مع ملاحظة أن تلك الأسئلة وهذه المناقشة، هي مسألة قانونية وليست سياسية، بمعنى هل توافق القانون أم لا ، بصرف النظر عن الموقف كل شخص من ذلك القرار سواء بالموافقة عليه أو رفضه.

وللتذكير فقط نقول بأنه من المسلم به في فقه القانون الدستوري – لا سيما في النظم الديمقراطية – ضرورة وجود ثلاث سلطات أساسية في النظام السياسي، وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وكل سلطة من تلك السلطات تتمتع بصلاحيات واختصاصات أصيلة ومحددة في القانون الأساسي “الدستور”، كما تتمتع كل سلطة من تلك السلطات باستقلال نسبي عن الأخريات في عملها وفي آليات اتخاذ القرارات وبما يسند إليها من صلاحيات، بما يعرف بمبدأ ” الفصل بين السلطات – The principle of Separation of powers “. وهذا الفصل يقصد به في النظام الديمقراطي هو الفصل المتوازن في توزيع الصلاحيات والمسؤوليات مع قيام قدر من التعاون فيما بينها لتنفيذ وظائفها في توافق وانسجام ويحد من هيمنة أي منها على الشأن العام.

وإذا كانت تلك الفكرة هي جوهر مبدأ الفصل بين السلطات، فإن هذا المبدأ ليس معناه إقامة سياج مادي يفصل فصلاً تاماً بين سلطات الحكم، ويحول دون مباشرة كل منها لوظيفتها بحجة المساس بالأخرى، ومن ثم فإن مقتضى مبدأ الفصل بين السلطات أن يكون بين السلطات الثلاث تعاون، وأن يكون لكل منها رقابة على الأخرى في نطاق اختصاصها بحيث يكون نظام الحكم قائماً على أساس أن ” السلطة تَحُدّ أو توقف السلطة -” Power should be a check to power ، وهو ما يعبر عنه بالفرنسية بـ” Le pouvoir arrête le pouvoir ” ، فيؤدي ذلك إلى تحقيق حريات الأفراد، وضمان حقوقهم، واحترام القوانين، وحسن تطبيقها تطبيقاً عادلاً وسليماً، فهذا ما يتفق وحكمة الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات التي هي تحقيق التوازن والتعاون بين السلطات، وتوفير الحيدة لكل منها في مجال اختصاصها .

هذا، ومن المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن: “ما تضمنه الطلب الاحتياطي من دعوة المحكمة الدستورية العليا لتعديل النصين المطعون عليهما على الوجه المبين بصحيفة الدعوى، إنما يخرج بالضرورة عن اختصاص هذه المحكمة والتي تستمد ولايتها من المادة 175 من الدستور، ذلك أن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة على دستورية القوانين واللوائح للتحقق من توافقها أو مخالفتها لأحكام الدستور، لا تخولها التدخل فى مجال عمل السلطة التشريعية بتعديل قوانين أقرتها، وإلا كان ذلك افتئاتاً على ولايتها الدستورية”.

(حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 37 لسنة 7 قضائية “دستورية” – جلسة 7/3/1992 مجموعة المكتب الفني – السنة 5 – صـ 204 – صـ 6).

كما تواتر قضاء المحكمة الدستورية العليا على: “إن الدستور قد حدد لكل سلطة عامة وظائفها الأصلية وما تباشره من أعمال أخرى لا تدخل فى نطاقها، بل تعد استثناء يرد على أصل انحصار نشاطها فى المجال الذى يتفق مع طبيعة وظائفها. إذ كان ذلك، وكان الدستور قد حصر هذه الأعمال الاستثنائية وبين بصورة تفصيلية قواعد ممارستها، ومن ثم تعين على كل سلطة فى مباشرتها لها أن تلتزم حدودها الضيقة وأن تردها إلى ضوابطها الدقيقة التي عينها الدستور، وإلا وقع عملها مخالفاً لأحكامه. وإن سن القوانين هو مما تختص به السلطة التشريعية تباشره وفقاً للدستور فى إطار وظيفتها الأصلية، ولئن كان الأصل أن تتولى السلطة التشريعية بنفسها مباشرة هذه الوظيفة التي أسندها الدستور لها، وأقامها عليها إلا أن الدساتير المصرية جميعها، كان عليها أن توازن ما يقتضيه الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية من تولى كل منهما لوظائفها فى المجال المحدد لها أصلا، بضرورة المحافظة على كيان الدولة وإقرار النظام فى ربوعها إزاء ما قد تواجهه – فيما بين أدوار انعقاد السلطة التشريعية أو حال غيابها – من مخاطر تلوح نذرها أو تشخص الأضرار التي تواكبها، يستوي فى ذلك أن تكون هذه المخاطر من طبيعة مادية أو أن يكون قيامها مستنداً إلى ضرورة تدخل الدولة بتنظيم تشريعي يكون لازماً لمواجهة التزاماتها الدولية الحالة، و لقد كان النهج الذى ألتزمته هذه الدساتير على اختلافها – وعلى ضوء موجبات هذه الموازنة – هو تخويلها السلطة التنفيذية الاختصاص باتخاذ التدابير العاجلة اللازمة لمواجهة أوضاع استثنائية سواء بالنظر إلى طبيعتها أو مداها. وتلك هي حالة الضرورة التي أعتبر الدستور قيامها من الشرائط التي تطلبها لمزاولة هذا الاختصاص الاستثنائي، ذلك أن الاختصاص المخول للسلطة التنفيذية فى هذا النطاق لا يعدو أن يكون استثناء من أصل قيام السلطة التشريعية على مهمتها الأصلية فى المجال التشريعي”.

(حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 13 لسنة 11 قضائية “دستورية” – جلسة 18/4/1992 مجموعة المكتب الفني – السنة 5 – صـ 285 فقرة 6 و 7. وفي الطعن رقم 25 لسنة 8 قضائية “دستورية” جلسة 16/5/1992 مجموعة المكتب الفني – السنة 5 – صـ 324 – فقرة 4).

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه – فضلاً عن مبدأ الفصل بين السلطات – فإن للسلطة التشريعية مطلق تقدير ملائمة إصدار التشريع والباعث على والباعث على إصداره. حيث إنه من المقرر في قضاء المحكمة الدستورية العليا أن: “مجالات التشريع الذى تمارسه سلطة التشريع إنما تمتد إلى جميع الموضوعات، كما أن ملائمات التشريع هي من أخص مظاهر السلطة التقديرية للمشرع العادي ما لم يقيده الدستور بحدود و ضوابط يتعين على التشريع التزامها وإلا عد مخالفاً للدستور، ومن ثم يكون من حق التشريع العادي أن يستقل بوضع القواعد القانونية التي يراها محققة للمصلحة العامة متى كان فى ذلك ملتزماً بأحكام الدستور وقواعده”.

(حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 93 لسنة 4 قضائية “دستورية” – جلسة 18/2/1984 مجموعة المكتب الفني – السنة 3 – صـ 29).

كما جرى قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن: “للمشرع سلطة تقديرية فى تنظيم الحقوق بلا معقب عليه فى تقديره ما دام أن الحكم التشريعي الذى قرره لتلك الحالات قد صدرت به قاعدة عامة مجردة لا تنطوي على التمييز بين من تساوت مراكزهم القانونية ولا تهدر نصاً فى الدستور”.

(حكم المحكمة الدستورية العليا في الطعن رقم 26 لسنة 1 قضائية “دستورية” – جلسة 1/1/1983 مجموعة المكتب الفني – السنة 2 – صـ 67 – فقرة 4).

وهدياً بما تقدم، وبالبناء عليه، ولما كانت الدعوى المنوه تتضمن اعتداء على اختصاصات السلطة التشريعية لا تملك السلطة القضائية القيام به لكون ذلك يمثل إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات ويعد تجاوزاً على مبدأ السلطة الكاملة للمشرع في تقدير ملائمة إصدار التشريع من عدمه.

فما رأيكم – أيها القانونيين – دام فضلكم؟ وأكرر إن المناقشة المرجوة هي مناقشة “قانونية” وليست “سياسية”.
فأفيدونا أفادكم الله.

اعادة نشر بواسطة محاماة نت .