بحث قانوني واسع عن رقابة الاختصاص القضائي عند تنفيذ الأحكام الأجنبية في الأردن

المبحث الأول
مفهوم الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة التي أصدرت الحكم

يقصد بالرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم التحقق من قبل قاضي التنفيذ من الاختصاص غير المباشر للمحكمة التي أصدرت الحكم، ولا يقصد بهذه الرقابة مراجعة مضمون الحكم وفحصه وإنما يقصد بها تدقيق مدى توافر شرط اختصاص المحكمة المراد تنفيذ حكمها. والرقابة على مدى توافر شرط اختصاص المحكمة الأجنبية لا تتحقق إلا من خلال البحث عن القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة اختصاصاً داخلياً خاصاً ودولياً عاماً في حسم النزاع المعروض عليها. وفيما يتعلق بالقانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ من أجل معرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة داخلياً أم لا فلا يثير جدلاً بين الفقهاء، إذ إنّ قاضي التنفيذ يفحصهُ من خلال الرجوع إلى قواعد الاختصاص المنصوص عليها في قانون تلك المحكمة، والسبب في ذلك أن مسألة الاختصاص الداخلي للمحكمة الأجنبية تخص القانون الأجنبي، ومن ثم تتعلق هذه المسألة باختصاص سيادي للمحكمة الأجنبية، وعليه فقاضي التنفيذ غير مؤهل للنظر في ذلك .

وبالمقابل فإن الرقابة على الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يتطلب من قاضي التنفيذ التحقق من الاختصاص الدولي للمحكمة التي أصدرت الحكم. فالسؤال الذي نود أن نبحث له عن إجابة في هذا الصدد هو : هل يتحقق قاضي التنفيذ من الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة المراد تنفيذ حكمها وفقاً لقانون دولة المحكمة التي أصدرته؟ أم وفقاً لقانون دولة بدل التنفيذ؟ أم أن هناك معياراً آخراً يلجأ إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة اختصاصاً دولياً أم لا؟ ولخصوصية هذا الموضوع في القانون المقارن فإن الأمر يقتضي منا الوقوف على مسألة القانون الذي يلجأ إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة اختصاصاً دولياً أم لا في كل من فرنسا ومصر، ليتسنى لنا في نهاية المطاف الوقوف على موقف القانون الأردني من تلك المسألة .

المطلب الأول : الوضع في فرنسا

لقد اهتم الفقه اهتماماً بالغاً وخصوصاً الفقه الفرنسي في مسألة القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة أم لا. وقد سار الفقه للإجابة على هذا التساؤل في اتجاهين، الاتجاه الأول: يوجب الرجوع إلى قانون المحكمة التي أصدرت الحكم، أما الثاني فيوجب الرجوع إلى قانون قاضي التنفيذ. ونظراً لأهمية هذين الاتجاهين فسوف نشرحهما بالتفصيل مبينين الأسس التي أقاما عليها توجههما والانتقادات التي وجهت إلى كل منهما.

الفرع الأول : الاتجاه الاول ينادي بتطبيق قانون المحكمة التي اصدرت الحكم
هذا الاتجاه الفقهي يسمى باللغة الفرنسية doctrine de L’unilateralite، أخذت به محكمة Montpellier في قرارها الصادر بتاريخ 17/5/1949 حيث حكمت بأن القضاء الفرنسي عندما تعرض عليه قضية متعلقة بتنفيذ حكم أجنبي يجب عليه الرجوع إلى قانون القاضي الذي أصدر الحكم، وذلك من أجل الرقابة على اختصاص تلك المحكمة. إلا إذا كان هذا الحكم يخالف القواعد الأساسية للتنفيذ في القانون الفرنسي.
إن الأساس الذي قام عليه هذا الاتجاه يكمن في أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي في كل دولة هي قواعد وطنية وحيدة الجانب فلا تحدد إلا حالات اختصاص المحاكم النظامية، وبالتالي ليس من الصحة الاعتماد على قواعد الاختصاص القضائي في دولة قاضي التنفيذ لرقابة شرعية الاختصاص الدولي للمحاكم الأجنبية التي أصدرت الحكم. ولكن مع هذا، فإن هذا الاتجاه انتُقد من عدة وجوه:

أولاً: ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن هذا الاتجاه يفرض على قاضي التنفيذ الرجوع إلى قانون المحكمة التي أصدرت الحكم بهدف الرقابة على اختصاص المحكمة، وهو بذلك يجعل الهدف من الرقابة رقابة شرعية الحكم من جانب النظام القضائي الأجنبي. بينما المشكلة الحقيقية بالنسبة لقاضي التنفيذ ليست وجود الحكم الخارجي وإنما المشكلة تُطرح بشأن الاعتراف به وتنفيذه في فرنسا. لذلك فقواعد الاختصاص الأجنبي المباشرة لا تفرض على قاضي التنفيذ الفرنسي تنفيذ الحكم الأجنبي في فرنسا وإنما تفرض تنفيذه في الداخل، أي داخل الدولة الأجنبية نفسها. إذاً فمشكلة الاختصاص غير المباشر هي مشكلة فرنسية فيجب أن تحل وفقاً للقانون الفرنسي.

ثانياً: ومما يؤخذ على هذا الاتجاه أيضاً أنه لو تعددت المحاكم الأجنبية وكانت جميعها مختصة فأصدرت أحكاماً متناقضة، فيكف تتم رقابة الاختصاص القضائي الأجنبي في دولة التنفيذ؟
في الواقع إن هناك جانب من الفقه يرى بأنه حتى لو تعددت المحاكم الأجنبية المختصة دولياً فمن المستبعد أن يُراقب الاختصاص القضائي الأجنبي بمقتضى تنازع الاختصاص في قانون قاضي التنفيذ، إذ يحل هذا التنازع الإيجابي بالرجوع إلى قانون المحكمة التي اختصت به أولاً وفصلت في النزاع وفي المقابل هناك جانب آخر ينادي بتطبيق قواعد التنازع في دولة قاضي التنفيذ وفي الحقيقة نفضل أن تجري المفاضلة بين الأحكام وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي لدولة التنفيذ، بحيث يقبل قاضي التنفيذ تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي الذي يتفق مع قواعد الاختصاص القضائي الدولي في بلده هو (قاضي التنفيذ).

ثالثاً: من الانتقادات التي وجهت إلى الاتجاه الذي يدافع عن ضرورة خضوع تحديد اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه إلى قانون تلك المحكمة بمقولة أن موقف القاضي الوطني المطلوب منه التنفيذ أضعف من موقف القاضي الأجنبي في دفاعه عن قواعد الاختصاص المباشرة الأجنبية، وبالتالي فإن الأخذ بهذا الاتجاه شأنه أن يؤدي إلى رفض فعالية الحكم الأجنبي أو رفض الرجوع إلى قواعد القانون الأجنبي للاختصاص القضائي .

أضف إلى ذلك أن الرجوع إلى قانون المحكمة التي أصدرت الحكم من أجل معرفة ما إذا كانت تلك المحكمة مختصة اختصاصاً دولياً أو لا من شأنه أن يثير الكثير من الصعوبات خصوصاً تلك المتعلقة بالتعرف على قواعد الاختصاص الأجنبية والإلمام بها، وقد رد بعض الفقهاء على هذا الانتقاد الأخير بالقول بأنه إذا كان من السائد أن القاضي الوطني يلتزم بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي من تلقاء نفسه، وذلك بمعاونة الخصوم فإن بحثه عن قاعدة الاختصاص الأجنبية من أجل معرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة أو لا، يبدو أمراً يوجبه الحل المتعلق بالبحث عن مضمون القانون الأجنبي.

رابعاً: أن الأخذ بهذا الاتجاه يقودنا إلى تنفيذ أي حكم أجنبي صادر من الخارج ولو حصل عليه الأفراد بطريق التحايل على قواعد الاختصاص الأجنبية أو كان النزاع من اختصاص المحاكم الوطنية لقاضي التنفيذ. ونتيجة لهذه الانتقادات ظهر الاتجاه الثاني المتعلق بالرقابة على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم وفقاً لقانون قاضي التنفيذ .

الفرع الثاني : الاتجاه الثاني : الرقابة على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم وفقاً لقانون قاضي التنفيذ
نادى هذا الاتجاه الفقهي باستخدام قواعد الاختصاص المباشرة الفرنسية وذلك من أجل تقدير الاختصاص غير المباشر للمحكمة الأجنبية المراد تنفيذ حكمها في فرنسا من هنا فقواعد الاختصاص الفرنسية تلعب دورين : أولهما مباشر يتم عن طريقه تحديد شرعية الاختصاص للمحاكم الفرنسية، وثانيهما يقوم برفض أي حكم أجنبي صادر بشأن نزاع لا يستطيع أن يعترف به القاضي الفرنسي فيما لو وضع في نفس الظروف .

وفي الحقيقة إن هذا الاتجاه ينادي بازدواجية قواعد الاختصاص القضائي أي أن قواعد الاختصاص القضائي لدولة قاضي التنفيذ تحدد حالات اختصاص المحاكم الوطنية والحالات التي تختص فيها المحاكم الأجنبية .

ومما يؤخذ على هذا الاتجاه أن صفة الازدواجية تعدّ من أهم المميزات التي تميز قواعد تنازع القوانين فلا يمكننا بالتالي إضفاء هذه الصفة على قواعد الاختصاص القضائي الدولي التي تتصف بأنها قواعد وحيدة الجانب تهتم فقط بتحديد حالات اختصاص المحاكم الوطنية.

إن هذا الاتجاه الفقهي لم يسلم أيضاً من الانتقادات لذلك فقد أخذ عليه المآخذ التالية :
– أولاً: إن هذا الاتجاه يهدف إلى إعلاء الاختصاص القضائي الدولي الوطني على نظيره الأجنبي، فهو في الحقيقة يحمي بطريقة مبالغ فيها بل أحياناً دون سبب قواعد الاختصاص الوطنية، وهذا بدوره يعرقل الاعتراف بالأحكام الأجنبية ويقلل من فرصة تنفيذها في بلد التنفيذ وبدرجة كبيرة. أضف إلى ذلك أن الأخذ بهذا الاتجاه من شأنه أن يؤدي إلى التدخل في عمل الهيئات القضائية الأجنبية وتحديد اختصاصها الدولي بصورة غير مباشرة.

– ثانياً: لقد انتُقد هذا الاتجاه من قبل Dominique Holleaux، إذ يرى بأنه من المستحيل حل مشكلة الاختصاص القضائي غير المباشر للمحاكم الأجنبية عن طريق قواعد الاختصاص المباشرة الفرنسية، وذلك لأن الأخيرة هدفها معرفة شرعية أو صحة اختصاص القاضي المعروض أمامه النزاع وهذا الأمر حتماً يتعلق بالنظام القانوني للمحكمة المختصة. وفي المقابل أن قواعد الاختصاص القضائي غير المباشرة تعدّ شرطاً من شروط فعالية الحكم الأجنبي المطلوب تنفيذه. فيتساءل الفقه الفرنسي لماذا نعتبر نظامنا في الاختصاص القضائي المباشر نموذجاً من أجل الحكم على قواعد الاختصاص القضائي لدولة أخرى، فالمشكلة التي تطرح هي التحقق من ما إذا كان اختصاص السلطة القضائية الأجنبية مقبولاً في فرنسا، ومقبولاً لا يعني متطابقاً لقواعد الاختصاص الفرنسية، فمن غير الصحيح القول بأن الاختصاص القضائي الأجنبي، من حيث المبدأ غير مقبول بحجة أنه لا يتوافق بالضبط مع معايير الاختصاص القضائي الفرنسي المباشر.

– ثالثاً: ويمكن أيضاً أن نوجه انتقاداً أخيراً إلى هذا الاتجاه وذلك من خلال القول بأن المعايير الأجنبية للاختصاص قد تكون مختلفة عن تلك الموجودة في القانون الفرنسي. وهذا الاختلاف من شأنه أن يؤدي إلى إعلان بأن المحكمة الأجنبية غير مختصة وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي المباشرة الفرنسية.

ونتيجة للانتقادات التي وجهت إلى الاتجاهين السابقين فقد اعتبر القضاء الفرنسي المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في فرنسا مختصة، ويجب تنفيذ حكمها إلا إذا تعلق الأمر بنزاع يدخل ضمن حالات الاختصاص الحصري (Competence exclusive) حينها يجب الرجوع إلى قواعد الاختصاص الوطنية لمراقبة صحة الاختصاص. كما أنه لا ينفذ الحكم الأجنبي إذا انعقد الاختصاص للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم بناءاً على تحايل الخصوم الذين جلبوا لهذا الاختصاص بوسائل احتيالية أو لم يكن هناك أي رابط يربطها بالنزاع.

لقد اثار هذا التوجه القضائي الفرنسي عدة تساؤلات، الأول يتعلق بمفهوم الاختصاص الحصري للمحاكم الفرنسية، والثاني يخص المقصود بعلاقة النزاع بالمحكمة التي أصدرت الحكم، والثالث يدور حول القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ من أجل الرقابة على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم في حال عدم وجود اختصاص حصري للمحاكم الوطنية لقاضي التنفيذ. وفيما يخص التساؤل الأول، يتبين لنا أن مفهوم الاختصاص الحصري (الوجوبي) للمحاكم الوطنية يعني عدم الاعتراف وعدم تنفيذ أي حكم صادر من محكمة أجنبية حتى ولو كانت مختصة، وذلك لأن مثل هذا النوع من الاختصاص يتعلق بالنظام العام. وهذا الاختصاص الحصري يقابله الاختصاص المشترك (الجوازي) الذي يقصد به أنه إذا كانت المحاكم الوطنية مختصة فهذا لا يعني عدم اختصاص المحاكم الأجنبية التي أصدرت الحكم، ومثل هذا النوع من الاختصاص لا يتعلق بالنظام العام وبالتالي يجوز للأفراد الاتفاق على منح الاختصاص لمحاكم أجنبية. ومن أمثلة حالات الاختصاص الحصري للمحاكم الفرنسية:

– أولاً: المادة الخامسة عشرة والرابعة عشرة من القانون المدني الفرنسي: حيث تعطي المادة الخامسة عشرة الحق للفرنسي (المدعى عليه) في أن يمثل أمام القضاء الفرنسي وهذا هو الامتياز غير المباشر لتلك المادة. فإذا رفعت قضية على فرنسي في دولة أجنبية فالامتياز المنصوص عليه في المادة الخامسة عشرة ليس له أثر أمام القاضي الأجنبي؛ وذلك لأن هذا القاضي يجعل من نفسه مختصاً للفصل في النزاع وفقاً لقواعد الاختصاص المنصوص عليها في قانونه. أما فائدة هذا الامتياز فتبلغ أهميتها عندما يطلب تنفيذ الحكم الأجنبي في فرنسا، فإذا تمسك المستفيد من نص المادة الخامسة عشرة بهذا الامتياز فلا ينفذ الحكم الأجنبي، إلا إذا تنازل عنه المدعى عليه الفرنسي وعندها ينفذ الحكم الأجنبي. وهذا يدل على أن هذا الاختصاص الحصري للمحاكم الفرنسية ليس آمراً.

– ثانياً: المادة الرابعة عشرة من القانون المدني الفرنسي : هذه المادة تعطي الحق للفرنسي المدعي أن يرفع دعواه أمام المحاكم الفرنسية، لكن إذا رفعها أمام محكمة أجنبية ولم يكن بعد ذلك راضياً عن الحكم الصادر من تلك المحكمة فله الحق أن يعارض تنفيذ الحكم الأجنبي عليه عن طريق دفعه بالاختصاص الحصري للمحاكم الفرنسية .

– ثالثاً: اتفاق الأفراد على قبول اختصاص المحاكم الفرنسية (الخضوع الإداري).

– رابعاً: للمحاكم الفرنسية اختصاص حصري منصوص عليه في قانون العمل وقانون التأمين والهدف من هذه النصوص هو حماية الطرف الضعيف.

– خامساً: المادة السادسة عشرة من اتفاقية بروكسل لسنة 1968.

– سادساً: إذا كان العقار موجوداً في فرنسا .

أما فيما يتعلق بمفهوم العلاقة التي تربط المحكمة التي أصدرت الحكم بالنزاع الماثل أمامها، فيمكن الوقوف على الرابط الوثيق بين المحكمة التي أصدرت الحكم والنزاع المطروح أمامها من خلال اجتماع عدة عوامل بتوافرها يمكننا القول بأن هناك اتصالاً وثيقاً بين النزاع والمحكمة التي حسمت هذا النزاع، ومن هذه العوامل مثلاً الجنسية ومكان الإقامة، إذ إنه حسب ما جاء في قضية Simitch كان مكان إقامة الزوج في بريطانيا زيادة على تواجد أموال الزوجة في بريطانيا أيضاً. فمن خلال اجتماع هذه العوامل اعتبر القضاء الإنجليزي مختصاً بحسم النزاع ولو كان مكان إقامة المدعى عليه في فرنسا حيث أن هذا العامل لوحده لا يكفي في إبعاد الاختصاص غير المباشر للمحاكم الإنجليزية.

وللإجابة على التساؤل الأخير الذي يدور حول مدى رقابة القاضي الفرنسي على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم في حال عدم اختصاص المحاكم الفرنسية اختصاصاً حصرياً. ليس هناك مجال للشك بأن عدم اختصاص المحاكم الفرنسية اختصاصاً حصرياً لا يعني عدم الرقابة على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم. لكن هذه الرقابة تمارس بمقتضى أي قانون، قانون المحكمة التي أصدرت الحكم أم قانون قاضي التنفيذ؟ حول هذه المسألة انقسم الفقهاء إلى قسمين، القسم الأول ينادي بتطبيق قانون المحكمة التي أصدرت الحكم والثاني نادى بتطبيق قانون المحكمة المراد تنفيذ الحكم فيها.

وحول هذه المسألة وجدنا قراراً حديثاً لمحكمة النقض الفرنسية، إذ قامت بفسخ حكم المحكمة استئناف باريس الذي جعل من القضاء الفرنسي مختصاً على أساس المادة 1072 من قانون المرافعات المدنية الجديدة دون البحث فيما إذا كانت المحكمة الأجنبية غير مختصة وفقاً لقواعد الاختصاص الدولي غير المباشرة الفرنسية، مع العلم أن هذه المادة لا تجعل من المحاكم الفرنسية مختصة اختصاصاً حصرياً. إذاً يجب على قاضي التنفيذ أن يراقب ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا بمقتضى قواعد الاختصاص الدولي غير المباشرة الفرنسية.

المطلب الثاني : الوضع في مصر

لقد نصت المادة 298/1 من قانون المرافعات المصري على أنه “لا يجوز الأمر بالتنفيذ إلا بعد التحق مما يأتي : أن محاكم الجمهورية غير مختصة بالمنازعة التي صدر فيها الحكم أو الأمر وأن المحاكم الأجنبية التي أصدرته مختصة طبقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي المقررة في قانونها”.

من خلال هذا النص يتبين لنا أن القاضي المصري إذا طُلب منه تنفيذ حكم أجنبي يجب أن يراقب اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي في قانونها، وذلك حتى يتحقق من خروج النزاع الذي صدر فيه الحكم من اختصاص المحاكم المصرية. فإذا كان النزاع الذي صدر فيه الحكم من اختصاص المحاكم المصرية فهل يُنفّذ هذا الحكم في مصر؟ في الواقع، إن الإجابة السلبية المطلقة على هذا التساؤل من شأنها أن تؤدي إلى تقليل فرصة تنفيذ الأحكام الأجنبية في مصر بدرجة كبيرة حتى ولو كان القانون المصري يشترط عدم اختصاص المحاكم المصرية كأحد شروط تنفيذ الحكم الأجنبي في مصر، ولهذا السب نجد أن أغلب الفقهاء في مصر يطالبون السماح بتنفيذ الحكم الأجنبي الصادر من محكمة أجنبية بشأن نزاع ولو كان داخلاً في اختصاص المحاكم الوطنية بناءاً على حجج تختلف من فقيه إلى آخر.

فلقد نادى الأستاذ الدكتور عز الدين عبدالله بتنفيذ الحكم الأجنبي الصادر من محكمة أجنبية بالرغم من اختصاص المحاكم الوطنية، وكان مرجعه في ذلك هو مراعاة الاعتبار العام الذي يعني أن محاكم الدولة التي صدر عنها الحكم المراد تنفيذه هي أيضاً مختصة بنظر النزاع المحكوم فيه وفقاً لضابط دولي معترف به في هذه الدولة التي يتم فيها نظر النزاع، إذاً فالسماح بتنفيذ الحكم الأجنبي ليس هنا مفاده الاعتراف بأن قضاء آخر ينافس القضاء الوطني في الاختصاص بنظر النزاع وإنما الأمر مبني على اعتبار الملائمة. فما دام أن النزاع قد عرض في الخارج أمام محكمة مختصة دولياً وصدر فيه حكم نهائي فمن الملائم السماح بتنفيذ هذا الحكم لدواعي التعاون بين الدول والتعامل بالمثل ومنع سيئي النية من الأفراد من تعطيل أداء العدالة. إلا أن هذا الفقيه يرى بأن المبدأ العام هو عدم جواز تنفيذ الحكم الأجنبي الصادر بشأن نزاع داخل في اختصاص المحاكم المصرية، واستثناءً على هذا المبدأ نادى بإمكانية تنفيذ الحكم الصادر في منازعة بالرغم من دخولها في إحدى حالات الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الوطنية في الحالات التالية:
أولاً إذا كان الحكم صادراً في منازعة متولدة عن عقد أُبرم أو نُفذّ في مصر وكان واجب التنفيذ فيها ولم يكن متعلقاً بمال موجود في الإقليم المصري.

وثانياً إذا كان الحكم قد صدر في منازعة متعلقة بالأحوال الشخصية للأجانب متى كان الحكم لا يتعلق بمال موجود في مصر، وقد تعرض هذا الاستثناء إلى انتقاد وجه إليه من قبل الأستاذ الدكتور هشام صادق الذي يقول:(إن هذا الاستثناء قد أقام تفرقة غير مبررة بين الأمور السابقة ولا شك أن هذه التفرقة تفتقر بدورها إلى السند القانوني السليم، فليس من المقبول أن يقدر مدى اختصاص المحاكم الأجنبية في ضوء قواعد الاختصاص المصرية وتابع القول، فتقدير مدى اختصاص المحكمة الأجنبية يجب أن يتم وفقا لقواعد الاختصاص القضائي الدولي السائدة في الدولة التي تتبعها بصرف النظر عن اختصاص القضاء المصري بالدعوى من عدمه. وفي القول بغير ذلك، إهدار لمتطلبات الحياة الدولية. حقاً أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي يتعلق بالنظام العام في مصر، ولا يجوز من ثم الاتفاق على مخالفتها، إلا أن التقيد بهذا المبدأ مجاله تعيين المحكمة المختصة برفع الدعوى. أما وقد رفع النزاع أمام المحاكم الأجنبية رغم اختصاص القضاء المصري، وصدر بناءاً على ذلك حكم فاصل في النزاع فلم يعد هناك ما يمنع من تنفيذ هذا الحكم في مصر استجابة للاعتبارات الدولية”.

أما الدكتور محمد كمال فهمي فقد أجاب على السؤال الذي تم طرحه مسبقاً من خلال التفرقة بين أمرين : الأول إذا كانت المحاكم المصرية مختصة في النزاع الذي صدر فيه حكم من محكمة أجنبية اختصاصاً أصلياً أو وجوبياً (حصرياً)، فإن حكم هذه المحكمة الأجنبية لا ينفذ في مصر والأمر الثاني فيتعلق باختصاص المحاكم المصرية اختصاصاً جوازياً (مشتركاً) فهذا الاختصاص الجوازي للمحاكم المصرية لا يحول دون تنفيذ الحكم الأجنبي في مصر.

في الحقيقة لقد انتقدت التفرقة بين الاختصاص المصري والاختصاص المشترك بالقول بأنه لا يوجد اختصاص حصري واختصاص مشترك بين هذه المحاكم ومحاكم دولة أخرى فإما أن تكون هذه الأخيرة مختصة وإما أن تكون غير مختصة سواء كنا بصدد تعيين الاختصاص الدولي بشأن نزاع يراد رفعه أم كنا بصدد تعيين هذا الاختصاص بمناسبة حكم أجنبي يراد تنفيذه في إقليم الدولة أما فيما يتعلق بالتفرقة بين الاختصاص الأصلي والاختصاص الجوازي فإنها تقترن بالتفرقة السابقة من عدة وجوه، ثم إنه من الصعب العمل بها وخصوصاً أن المشرع في قانون المرافعات المصري الحالي قد هجر تلك التفرقة أو تناساها.

وفيما يتعلق بالتوجه الفقهي في مصر نلاحظ أن قاضي التنفيذ المصري يراقب شروط الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في مصر وفقاً لقانون هذه المحكمة، مع إلزامه التحقق من عدم اختصاص المحاكم المصرية في نظر النزاع. إلاّ أن الأخذ بهذا الشرط الأخير على إطلاق من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة تنفيذ الأحكام الأجنبية، ولهذا نجد أن أنصار هذا التوجه، ومن أجل التخفيف من حدة هذا الشرط، نادوا بتنفيذ الحكم الأجنبي بشرط ارتباط هذه المنازعة ارتباطاً وثيقاً بولاية المحكمة التي أصدرت الحكم.

وبعد عرض المواقف في مسألة القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا في كل من فرنسا ومصر فمن الواجب علينا أن نبحث الموقف الأردني حيال هذا الأمر.

المطلب الثالث : الوضع في الأردن

إن موقف القانون الأردني تجاه مشكلتنا (المتعلقة بتحديد القانون الذي يرجع إليه القاضي لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية مختصة أم لا) يتجلى من خلال الوقوف على قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية والاتفاقيات التي عقدتها المملكة الأردنية الهاشمية مع دول أخرى فنبدأ أولاً بتوضيح ما جاء في قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 1952، ومن ثم الاتفاقيات التي ارتبطت بها المملكة وذلك في الفرعين التاليين:

الفرع الأول : قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) سنة 1952
تنص الفقرة الأولى من المادة السابعة من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 1952 على ما يلي :
1. يجوز للمحكمة أن ترفض الطلب المرفوع إليها لتنفيذ حكم أجنبي في الأحوال الآتية :
أ- إذا لم تكن المحكمة التي أصدرت الحكم المذكور ذات وظيفة .
ب- إذا كان المحكوم عليه لم يتعاط أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو لم يكن مقيماً داخل قضائها ولم يحضر باختيار أمام المحكمة ولم يعترف بصلاحيتها”.
فقاضي التنفيذ في الأردن ينفذ الحكم الأجنبي إذا توافرت جميع شروط المادة السابعة من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية، ومن ضمن هذه الشروط اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في المملكة. فقاضي التنفيذ الأردني عندما يتحقق من اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يستند إلى أي قانون، قانون المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم أم قانونه؟ لم يرد في قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية الأردني نص صريح بهذا الشأن لذلك نستنتج من مفهوم المخالفة لنص المادة السابعة من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية أن المحكمة تنفذ الحكم الأجنبي إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم ذات وظيفة وإذا كان المحكوم عليه يتعاطى أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو كان مقيماً داخل قضائها وحضر أمام المحكمة واعترف بصلاحيتها .

ولكننا نتساءل ما المقصود بأن تكون المحكمة التي أصدرت الحكم ذات وظيفة وماذا يعني تعاطي المحكوم عليه أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو كان مقيماً داخل قضائها وحضر أمام المحكمة واعترف بصلاحيتها؟ إذا كان الشرط القاضي بأن تكون المحكمة التي أصدرت الحكم ذات وظيفة يعني أن تكون تلك المحكمة مختصة اختصاصاً داخلياً خاصاً فذلك يشير إشكالاً، إذ إنّ قاضي التنفيذ يتحقق منه من خلال الرجوع إلى قانون المحكمة التي أصدرت الحكم، وذلك لأن هذه المسألة تخص المحكمة التي صدر عنها الحكم. أما فيما يتعلق بتعاطي أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو كان مقيماً داخل قضائها وحضر أمام المحكمة واعترف بصلاحيتها. فهذا يعني أن المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه تكون مختصة اختصاصاً دولياً عاماً في الحالات الثلاث المذكورة، ولم يبين القانون الأردني القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمراقبة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في الأردن مختصة أم لا .

وفي الحقيقة قام المشرع الأردني بتحديد ثلاثة معايير يؤسس عليها الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة التي أصدرت الحكم. وهذه الضوابط الثلاثة هي : الإقامة، وتعاطي الأعمال، والخضوع الإداري، وهذا يعني أن قاضي التنفيذ الأردني يأمر بتنفيذ الحكم الأجنبي إذا كان صادراً من محكمة أجنبية مختصة اختصاصاً دولياً عاماً، وتكون المحكمة الأجنبية مختصة اختصاصاً دولياً عاماً إذا كان المدعى عليه مقيماً داخل قضاء تلك المحكمة يتعاطى أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية تلك المحكمة أو كان اختصاصها مبنياً على الخضوع الإرادي والذي يمكن أن يتحقق بحضور المدعى عليه أمام المحكمة دون اعتراض على صلاحيتها. وفي هذا الصدد يجب أن نذكر بأن الخضوع الإرادي يجب أن لايؤدي إلى إنتزاع اختصاص المحاكم الأردنية، وذلك لأن جميع القواعد المتعلقة بالاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأرنية قواعد آمرة لا يجوز الإتفاق على مخالفتها.

فإذا توافر أي من هذه المعايير الثلاثة التي ذكرها المشرع الأردني في قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية، فإن المحكمة التي أصدرت الحكم تكون مختصة اختصاصاً عاماً دولياً، ولكن إذا أسست المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المراد تنفيذه في الأردن اختصاصها على معايير أخرى غير تلك التي أشار إليها المشرع الأردني في قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية، فهل تعتبر المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة اختصاصاً دولياً عاماً في نظر قاضي التنفيذ الأردني؟

يجيب أستاذنا الدكتور حسن الهداوي على هذا التساؤل بالإيجاب، فهو يعتقد أن الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية يقتضي أن يتم تحديده بمقتضى قانونها ونحن بدورنا وبسبب عدم وجود نص في القانون الأردني، نرى بأنه على قاضي التنفيذ الأردني، الذي يراقب اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المطلوب تنفيذه في الأردن حتى يأمر في التنفيذ، أن يتحقق أولاً من عدم اختصاص المحاكم الأردنية في نظر النزاع محل الحكم الأجنبي المراد تنفيذه، فإذا صدر حكم من محكمة أجنبية في نزاع يدخل ضمن حالات الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأردنية المنصوص عليها في المواد (27و28) من قانون أصول المحاكمات المدنية الأردنية فلا ينفذ حكمها في الأردن وثانياً يجب عليه أن يتحقق من توافر أي من الضوابط الثلاثة المنصوص عليها في الفقرة (أ) من المادة السابعة من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية المذكورة آنفاً. فإذا ما تحقق قاضي التنفيذ من عدم اختصاص محاكمه في الفصل في القضية المعروضة أمامه (وذلك لأن الاختصاص من النظام العام ولا يجوز النزول عنه إلا بإجازة من المشرع كما سنلاحظ ذلك في احترام القاضي للمعاهدات الدولية) ووجود الضوابط المذكورة آنفاً منحه المشرع الحق في تنفيذ الحكم الأجنبي .

ولكن ما الحل لو أن قاضي التنفيذ الأردني تحقق من عدم اختصاص المحاكم الأردنية في نظر النزاع الصادر بشأن الحكم الأجنبي المراد تنفيذه في الأردن، وتحقق أيضاً من عدم توافر أي من الضوابط الثلاثة المنصوص عليها في قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية الأردني، فهل يقر قاضي التنفيذ الأردني في هذه الحالة تحقق شرط اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم؟ بالرجوع إلى نص المادة السابعة بفقرتيها (أ، ب) من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية يتبين لنا أن المشرع الأردني استخدم لفظاً يفيد جواز رفض المحكمة تنفيذ الحكم الأجنبي وذلك بالقول : يجوز للمحكمة أن ترفض الطلب المرفوع إليها لتنفيذ حكم أجنبي في الأحوال الآتية :

أ‌- إذا لم تكن المحكمة التي أصدرت الحكم المذكور ذات وظيفة .
ب‌- إذا كان المحكوم عليه لم يتعاط أعماله داخل قضاء تشمل صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو لم يكن مقيماً داخل قضائها ولم يحضر باختيار أمام المحكمة ولم يعترف بصلاحيتها”، فبهذا اللفظ للمحكمة أن تأمر بتنفيذ أو عدم تنفيذ الحكم الأجنبي إذا لم يتوافر أي من الضوابط الثلاثة المشار إليها في هذه المادة.

وأما من جانبنا نرى أنه إذا لم تكن المحاكم الأردنية مختصة وفقاً لقواعد ا لاختصاص القضائي الدولي الأردنية ولم يتعاط المحكوم عليه أعماله داخل قضاء تشمله صلاحية المحكمة التي أصدرت الحكم أو لم يكن مقيماً داخل قضائها ولم يحضر باختياره أمام المحكمة، ولم يعترف بصلاحيتها، فإن على قاضي التنفيذ أن يقر بتوافر شرط اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم إذا كان هناك رابط وثيق بين المحكمة والنزاع الذي حسمته، هذا زيادة على عدم اصطناع الاختصاص للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم لمكافحة فكرة الغش نحو الاختصاص (Forum Shopping). و ذلك لأن القول بغير ذلك من شأنه أن يؤدي إلى مصادرة فكرة التعاون القضائي بين الدول والتقليل من فرصة تنفيذ الأحكام الأجنبية في الأردن، علاوة على تشجيع المحكوم عليهم سيئي النية من الإفلات من العدالة. كما أنه يؤدي إلى أن ننكر على القضاء الأجنبي اختصاصه .
بعد أن فرغنا من تحليل موقف قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 19521 من تحديد القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا فلا بد أن نبحث موقف الاتفاقيات الدولية المرتبطة بها المملكة من ذلك القانون.

الفرع الثاني : موقف الاتفاقيات الدولية التي ارتبطت بها المملكة الأردنية الهاشمية
لقد وقعت المملكة الأردنية الهاشمية اتفاقيات متعددة مع دول مختلفة والذي يهمنا هنا تلك الاتفاقيات المتعلقة بالتعاون القانوني والقضائي، ومن هذه الاتفاقيات : اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي، اتفاقية تنفيذ الأحكام بين دول الجامعة العربية، اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول مجلس التعاون العربي، اتفاقية التعاون القضائي بين الأردن وجمهورية مصر العربية، الاتفاقية القضائية بين الأردن والجمهورية السورية، اتفاقية التعاون القضائي بين الأردن والجمهورية السورية، اتفاقية التعاون القضائي بين الأردن والجمهورية اليمنية، اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دولة الإمارات والأردن والاتفاقية القضائية اللبنانية الأردنية، إعلان الاتفاق القضائي بين الأردن ولبنان، والاتفاقية القضائية بين تونس والأردن.

ونشير فيما يأتي إلى النصوص المتعلقة بتحديد موقف القانون الاتفاقي الأردني من القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة أم لا. فقد نصت الفقرة (ب) من المادة (25) من اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي على ما يلي :”… وذلك إذا كانت محاكم الطرف المتعاقد التي أصدرت الحكم المختصة طبقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي المقررة لدى الطرف المتعاقد المطلوب إليه الاعتراف أو التنفيذ أو مختصة بمقتضى أحكام هذا الباب (أي المواد 26 و 27 و 28 من الاتفاقية).
وكان النظام القانوني للطرف المتعاقد المطلوب إليه الاعتراف أو التنفيذ لا يحتفظ لمحاكمة أو لمحاكم طرف آخر دون غيرها بالاختصاص بإصدار الحكم”. وقد نصت المادة (28) فقرة (3) من اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول مجلس التعاون العربي على أنه : “لا يجوز للسلطة القضائية المختصة لدى الطرف المطلوب إليه التنفيذ أن تبحث في أساس الدعوى ولا يجوز لها أن ترفض تنفيذ الحكم إلا في الحالات التالية : 1-…………….2-…………….. 3- إذا كانت الجهة القضائية التي أصدرت الحكم غير مختصة بنظر الدعوى بمقتضى أحكام القانون النافذ في دولتها”. كما حددت المادة (29) من نفس الاتفاقية الحالات التي تكون محاكم الطرف المتعاقد الذي صدر به الحكم مختصة.

وتنص المادة (19) من اتفاقية التعاون القضائي بين الأردن والجمهورية اليمنية على ما يلي : “لا يجوز للسلطة القضائية المختصة لدى الطرف المطلوب إليه التنفيذ أن تبحث في أساس الدعوى ولا يجوز أن ترفض تنفيذ الحكم إلا في الحالات التالية : أ- إذا كانت الهيئة القضائية التي أصدرت الحكم غير مختصة بنظر الدعوى بسبب عدم ولايتها أو بحسب قواعد الاختصاص الدولي”. وقد حددت أيضاً المادة (20) من نفس الاتفاقية الحالات التي تكون فيها محاكم الطرف الذي صدر فيه الحكم مختصة. أما الاتفاقية القضائية اللبنانية الأردنية فقد نصت المادة (19) على أنه : “لا يجوز للسلطة المطلوب إليها التنفيذ أن تبحث في أساس الدعوى ولا يجوز لها أن ترفض التنفيذ إلا في الأحوال التالية : 1- إذا كانت القضية التي صدر فيها الحكم غير داخلة في الصلاحية المطلقة للمحكمة التي أصدرت هذا الحكم بمقتضى قوانين الدولة التي صدر فيها.

من خلال نصوص الاتفاقيات التي أشرنا إليها، يتبين لنا أنها تضمنت حلين وفي الحقيقة هذان الحلان لا يخرجان عن التوجيهات الفقهية التي استعرضناها عند كلامنا عن الموقف الفرنسي تجاه القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة أم لا. فالأول: نادت به اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي، حيث اشترطت بأن تكون المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة بمقتضى قانون البلد المراد تنفيذ الحكم فيها، أو وفقاً لأحكام اتفاقية الرياض وخصوصاً المواد (26 و 27 و 28) التي تحدد الحالات التي تكون فيها المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة وفي جميع الأحوال اشترطت هذه الاتفاقية على أنه لا تعتبر المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة إذا كانت محاكم بلد التنفيذ تستأثر لنفسها بالاختصاص لحسم النزاع الصادر بشأنه الحكم أو كانت محاكم دولة متعاقدة أخرى تحتفظ دون غيرها بإصدار الحكم في هذا النزاع. وهناك جزء من هذا الحل لا يتعارض مع ما توصلنا له من خلال تحليلنا لقانون تنفيذ الأحكام الأجنبية الأردني. إلا أننا نلاحظ أن الاتفاقية المشار إليها وبهدف تسهيل تنفيذ الأحكام الصادرة من محاكم إحدى الدول المتعاقدة في دولة متعاقدة أخرى وضعت حلاً استقته من اتفاقية دولية، مثل الاتفاقية المتعلقة بالاعتراف وتنفيذ الأحكام الخاصة بالنفقة على الأطفال المنعقدة في 15/4/1958 واتفاقية الاعتراف وتنفيذ الأحكام الأجنبية في المواد المدنية والتجارية المنعقدة في 1/2/1971 فإن هذا الحل يكمن في تحديد حالات اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم. ولكن يعاب على هذا الحل الذي جاءت به اتفاقية الرياض أنها قامت بتقييده بالاختصاص الاستشاري لمحاكم بلد التنفيذ أو لمحاكم دولة متعاقدة أخرى، إذ إنه وبناءً على هذا القيد لا ينفذ الحكم الصادر من محاكم إحدى الدول المتعاقدة وحتى ولو كانت مختصة وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية فيا حبذا لو أن الاتفاقية أطلقت الحل الأخير الذي جاء به دون قيد أو استثناء .

أما اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول مجلس التعاون العربي فقد أشارت إلى الحل الثاني، فقد اشترطت من أجل تنفيذ الأحكام الصادرة من إحدى محاكم الدول المتعاقدة إن تكون الهيئة القضائية التي أصدرت الحكم مختصة بنظر الدعوى بمقتضى أحكام القانون النافذ في دولتها. وفي الحقيقة أن هذا الحل يتوافق مع ما جاء في قانون المرافعات المصري، ويتعارض حسب وجهة نظرنا مع قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية الأردني. لكن في حال التعارض بين اتفاقية وقانون فإن المحكمة تحكم عندئذ بمقتضى المعاهدة وتوقف تطبيق حكم التشريع الداخلي، أي تعتبر الاتفاقية أسمى من القانون الداخلي، وهذا ما أخذت به محكمة التمييز الأردنية، فقد قررت أن الاتفاقية الدولية هي أعلى مرتبة من القانون المحلي وأولى بالتطبيق وإن كانت تخالف أحكام هذه القوانين وهذا الحل يتوافق مع ما جاءت به المادة (19) من الاتفاقية القضائية اللبنانية الأردنية/إعلان الاتفاق القضائي بين الأردن ولبنان ويجب أن نذكر هنا أن اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول مجلس التعاون العربي أعطت قاضي التنفيذ صلاحية تنفيذ الحكم الأجنبي في حل اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم طبقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي التي حددتها في المادة (29) وبهذا تتوافق هذه الاتفاقية مع اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي، إذ قامت بتحديد حالات الاختصاص الدولي في المواد (26 و 27 و 28) إلا أن الحل الذي أخذت به اتفاقية التعاون القانوني والقضائي بين دول مجلس التعاون العربي في المادة 28/3 يتعارض مع الحل الذي نادت به اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي في مدتها 28/ب، وبهذا وبالنسبة إلى الأردن يكون هناك تنازع ما بين اتفاقية الرياض من جهة واتفاقية مجلس التعاون العربي والاتفاقية القضائية اللبنانية الأردنية من جهة أخرى. وبالنسبة إلى لبنان كونها موقعة على اتفاقية الرياض هناك تنازع بين اتفاقية الرياض والاتفاقية القضائية اللبنانية، فالسؤال الذي يبحث عن إجابة هو كيف يتم حل التنازع بين الاتفاقيات؟ لحل هذا التنازع نجد أن هناك بعض الاتفاقيات تحتوي على نصوص تعالج مشكلة التنازع فمثلاً تنص المادة 69/ب من اتفاقية الرياض على أنه “إذا تعارضت أحكام هذه الاتفاقية مع أية اتفاقية خاصة سابقة يطبق النص الأكثر تحقيقاً لتسليم المهتمين والمحكوم عليهم” وهذا الحل يتوافق مع الحل الفقهي الذي ينادي بتطبيق الاتفاقية التي تحقق أفضل مصلحة ومثال ذلك يوقم بتقديم تطبيق الاتفاقية التي تشجع الاعتراف بالأحكام القضائية، أما بالنسبة للاتفاقيات اللاحقة لاتفاقية الرياض فحسب نص المادة 69/أ يجوز لطرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة الاتفاق على ما يخالف أحكامها .

أما إذا لم يوجد نص في اتفاقية بحل مثل هذا التنازع، فقد تعددت الحلول الفقهية فهناك من ينادي بتطيق الاتفاقية الخاصة، أي سمو الاتفاقية الخاصة على الاتفاقية العامةن وهناك من ينادي بتطيق الاتفاقية الأحدث شريطة أن تكون الاتفاقيات بين نفس الأطراف.
ونحن نرى أنه في حال التنازع بين اتفاقية مجلس التعاون العربي واتفاقية الرياض نطبق اتفاقية الرياض على الحقوق والالتزامات المتبادلة بين الأردن والعراق واليمن طبقاً لنص المادة 69/أ من اتفاقية الرياض، أما في علاقة كل من الأردن والعراق واليمن مع مصر فتطبق نصوص اتفاقية مجلس التعاون العربي، وذلك لكون مصر ليست طرفاً في اتفاقية الرياض للتعاون القضائي.

أما في حال التنازع بين اتفاقية الرياض للتعاون القضائي والاتفاقية القضائية اللبنانية، فمن الملاحظ أن كلاً من الأردن ولبنان قد وقعتا اتفاقية الرياض، فتطبق نص المادة 30/3 من اتفاقية فينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 حيث نصت على أنه : “إذا كانت كل الأطراف في المعاهدة السابقة هي أطراف كذلك في المعاهدة اللاحقة ولم يتفق على إنهاء المعاهدة أو إيقاف العمل بها طبقاً للمادة(59) فإن المعاهدة الأولى تنطبق فقط في الحدود التي لا تتعارض نصوصها مع نصوص المعاهدة اللاحقة”.
وبناءً على ذلك يطبق نص المادة 25/ب من اتفاقية الرياض كونها لاحقة للاتفاقية القضائية اللبنانية، أضف إلى ذلك أن نص المادة (19) من الاتفاقية القضائية اللبنانية يتعارض مع نص المادة 25/ب من اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي.
أما بقية الاتفاقيات الثنائية التي عقدتها المملكة الأردنية الهاشمية بخصوص التعاون القانوني والقضائي مع كل من مصر واليمن وسوريا وتونس، فقد نصت على أنه يجوز للسلطة القضائية المختصة لدى الطرف المطلوب إليه التنفيذ أن ترفض تنفيذ الحكم إذا كانت الهيئة القضائية التي أصدرت الحكم غير مختصة بنظر الدعوى بسبب عدم ولايتها أو حسب قواعد الاختصاص الدولي.لكن هذه الاتفاقيات لم تحدد بمقتضى أي قانون تكون المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة، اختصاصاً عاماً ودولياً ونعتقد أن السبب في عدم التحديد أن مصر والأردن أطراف في اتفاقية مجلس التعاون العربي للتعاون القانوني والقضائي وأن الأردن وكلاً من الإمارات العربية واليمن وسوريا أطراف في اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي، وقد سبق وأن حددت القانون الذي يرجع إليه لمعرفة ما إذا كانت الهية القضائية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا.

وفي النهاية، نود أن نقول بأن أغلب الاتفاقيات التي تكون الأردن طرفاً فيها حددت الحالات التي تكون فيها المحكمة التي أصدرت الحكم مختصة، كما أنها لم تقيد هذه الحالات بالاختصاص الحصري لمحاكم الطرف المطلوب إليه التنفيذ أو المحاكم طرف متعاقد آخر كما فعلت اتفاقية الرياض العربية للتعاون القضائي .

لذلك نخلص إلى القول بأنه يجب على قاضي التنفيذ أن يأمر بتحقق شرط اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم إذا كانت هذه المحكمة مختصة وفقاً لمعايير الاختصاص القضائي الدولي التي حددتها الاتفاقيات المذكورة.
وبالتالي يجب على قاضي التنفيذ أن يأمر بتنفيذ حكم تلك المحكمة حتى لو كانت محاكم بلد التنفيذ مختصة بنظر المنازعة التي صدر فيها الحكم. وهذا ما أخذت به محكمة النقض المصرية في حكمها المؤرخ بتاريخ 29/6/1981، فقد قررت “أن الحكم الصادر من إحدى الدول التي انضمت إلى الاتفاقية (اتفاقية تنفيذ الأحكام التي أصدرتها جامعة الدول العربية) يكون واجب التنفيذ في مصر إذا توافرت الشروط المنصوص عليها في تلك الاتفاقية حتى ولو كانت المحاكم المصرية مختصة بنظر المنازعة التي صدر فيها الحكم”.
نخلص من كل ما تقدم إلى أن قاضي التنفيذ في فرنسا يراقب اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم وفقاً لقواعد الاختصاص القضائي الدولي في القانون الفرنسي، في حين أن قاضي التنفيذ في مصر يراقب ذلك الاختصاص وفقاً لقانون المحكمة التي أصدرت الحكم، أما قاضي التنفيذ في الأردن فيختلف الوضع بالنسبة إليه بين الحالة التي يكون فيها قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم 8 لسنة 1952 هو الواجب التطبيق عما إذا كان الحل هو اتفاقية إقليمية أو ثنائية على النحو الذي بيناه. بعد أن تطرقنا في المبحث الأول من هذا المبحث إلى مفهوم الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم، وقمنا بتحديد القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا، ووقفنا على الاتجاهات الفقهية في كل من فرنسا ومصر حول هذا القانون، وبيّنا موقف المشرع الأردني القانوني والاتفاقي من هذا القانون. فسنتناول في مبحثنا الثاني نطاق الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة التي أصدرت الحكم.

المبحث الثاني
نطاق الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة التي أصدرت الحكم

بعد أن قمنا بتحديد مفهوم الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة التي أصدرت الحكم وبيان القانون الذي يرجع إليه قاضي التنفيذ لمعرفة ما إذا كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة أم لا، فلا بد أن نقوم بدراسة حدود هذه الرقابة فإلى أي مدى يراقب قاضي التنفيذ اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم؟ هل يقتصر فقط على رقابة اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم رقابة روتينية أي شكلية فحسب، أو يجب عليه التثبت من جدية اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم .

فهل يراقب الاختصاص القضائي الدولي والداخلي على السواء أم يراقب الاختصاص القضائي الدولي فقط لتلك المحكمة؟ وهل يجب على القاضي أيضاً أن يتأكد من الوقت الذي يجب أن يتوافر فيه معيار الاختصاص القضائي؟ فمن أجل الوقوف على جميع هذه التساؤلات، نرى أنه من الواجب علينا أن نبحث في الرقابة على جدية الاختصاص القضائي وهو ما خصصنا له المطلب الأول، ثم في محل الرقابة على الاختصاص القضائي للمحكمة الأجنبية وهو موضوع الطلب الثاني، وأخيراً نبحث في الرقابة على الوقت الذي يجب أن يتوافر فيه ضابط الاختصاص القضائي وهو ما سنتناوله في المطلب الثالث.

المطلب الأول : جدية الاختصاص القضائي للمحكمة المراد تنفيذ حكمها

إن قاضي التنفيذ في فرنسا يراقب اختصاص المحكمة التي أصدرت الحكم وفقاً للقانون الفرنسي وقاضي التنفيذ في مصر وفقاً لقانون المحكمة التي أصدرت الحكم وقاضي التنفيذ في الأردن يراقبه وفقاً لنص المادة السابعة فقرة (1) من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 1952 شريطة عدم المساس بالاختصاص الحصري لمحاكم دولة التنفيذ. ويلاحظ بهذا الصدد أن الرقابة على اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم المطلوب إكساءه الصيغة التنفيذية يجب أن لا تكون شكلية، بل يجب أن تكون جدية.

لكن ما هو المعيار الذي يؤسس عليه جدية اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم؟ إن الرابطة الوثيقة بين النزاع والمحكمة التي أصدرت الحكم هو المعيار الذي عن طريقه يحدد قاضي التنفيذ عدم اصطناع الاختصاص، ونشير أيضاً إلى عدم انعقاد الاختصاص للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم إذا ما انعقد هذا الاختصاص بناءاً على تحايل الخصوم.

لذلك حتى يكون هناك جدية في اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يجب أن يكون هناك رابط وثيق بينها وبين النزاع ويجب أيضاً أن ينتفي الغش نحو الاختصاص أو ما يسمى (Forum Shopping). بالنسبة إلى الرابطة الوثيقة بين المحكمة والنزاع يستطيع القاضي أن يتحقق منهما من خلال الرجوع إلى عدة عوامل مثل مكان إقامة المدعي عليه ومكان وجود المال، وبالتالي فهي تخضع لتقدير قاضي التنفيذ. أما فيما يتعلق بالغش نحو الاختصاص أو التحايل على قواعد الاختصاص فيكيف يتحقق قاضي التنفيذ من انتفائهما ؟ ومن المعلوم أن تطبيق القانون الأجنبي يقتضي تدخل السلطة العامة، حيث أن هذا التدخل يعطي القانون الأجنبي الشرعية في التطبيق، وبالتالي فإن اللجوء غير الشرعي إلى القانون الأجنبي يعبر عنه بواسطة قرار السلطة العامة، فرفض الاعتراف بهذا القرار (الحكم) لا يبنى فقط على عدم اختصاص القانون الواجب التطبيق وإنما يؤسس ايضاً على عدم اختصاص السلطة العامة الأجنبية في تطبيقه.

ومن هنا مثلما يوجد تحايل على القوانين يمكن تصور التحايل في موضوع تنفيذ الأحكام الأجنبية، إذ لا يمكن تصور تحايل بصورة مستقلة على الاختصاص التشريعي، أو على الاختصاص القضائي. إن التحايل قد يرد على القانون كما أنه قد يقع على الاختصاص القضائي وأخيراً قد يكون على الحكم (fraude a la loi, Competence, au jugement).

ومن المعلوم أنه لم يرد في القانون الأردني نص تشريعي بشأن التحايل على القانون أو التحايل على الاختصاص، لكن بالرجوع إلى نص المادة (25) من القانون المدني الأردني التي تنص على أن (تتبع مبادئ القانون الدولي الخاص فيما لم يرد في شأنه نص في المواد السابقة من أحوال تنازع القوانين) يمكننا القول بأن التحايل على القوانين أو على الاختصاص القضائي يعدّ من أسباب رفض تنفيذ الحكم الأجنبي وفقاً لمبادئ القانون الدولي الخاص، ومن خلال ذلك نشير إلى أن المشرع الأردني أخذ بطريقة غير مباشرة بعدم تنفيذ الحكم الأجنبي الذي تم الحصول عليه بالتحايل على القوانين أو على الاختصاص القضائي، أما بخصوص التحايل على الحكم فقد أخذ به المشرع الأردني في نص المادة 7/1/د من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية الأردني، بالقول بأنه “يجوز للمحكمة أن ترفض الطلب المرفوع إليها لتنفيذ حكم أجنبي في الأحوال الآتية: د- إذا كان قد حصل عليه بطريق الاحتيال”.

ولتوضيح الأنواع الثلاثة في التحايل نورد أمثلة مأخوذة من القضاء الفرنسي، فالتحايل على القوانين يقصد به تغير معايير الإسناد بقصد الهروب من القواعد الموضوعية الآمرة في دولة ما لتصبح العلاقة من اختصاص قانون دولة أخرى وذلك بهدف الحصول على نتيجة تتناسب ورغبات ذوي المصلحة، ومثال ذلك princesse de Baufremont، فقد قامت بتغيير جنسيتها الفرنسية واكتسبت الجنسية الألمانية (Etat allemand)Sujette du duche, de Saxe- Altenbourg وذلك من أجل التهرب من الأحكام الموضوعية في القانون الفرنسي التي تمنع الطلاق، إن التحايل على القوانين قد يكون أيضاً مصطحباً بتحايل على قواعد الاختصاص القضائي مثال ذلك ما قام به السيد Giroux، فقد عمل على تغيير مكان إقامته خارج مقاطعة الكيبك* ليتهرب من تطبيق القانون الكيبكي (Loi Quebecoise) إذ حصل على حكم بالطلاق من محكمة Reno، وذلك من خلال تطبيق قانون ولاية Nevada في الولايات المتحدة الأمريكية، أضف إلى ذلك أن التحايل يمكن أن يكون على قواعد الاختصاص القضائي فقط، إذ يعمل صاحب المصلحة على ترتيب أحد معايير الاختصاص في دولة ما بوسائل احتيالية آملاً في أن يحصل على حكم من محاكم تلك الدول ما كان ليحصل عليه من محاكم دولته. والتحايل على قواعد الاختصاص القضائي الدولي يمكن تصوره في حالة التنازع الإيجابي للاختصاص القضائي الدولي الخاصة بكل منهما. ومن أجل حل مشكلة التنازع الإيجابي للاختصاص القضائي الدولي نادى الفقهاء بقبول الدفع بإحالة الاختصاص القضائي إلى المحكمة الأقدر على الفصل في الدعوى والأقدر على كفالة آثار الحكم الصادر بشأنها. ومن ضمن الأسباب التي دفعت الفقهاء لقبول الدفع بإحالة الاختصاص هو : مقاومة مشكلة الغش نحو الاختصاص وذلك لأن قبول الدفع بالإحالة فيه ردع للمدعي سيء النية الذي أراد التلاعب بقواعد الاختصاص القضائي الدولي. وأخيراً نضرب مثالاً على التحايل على الحكم القضائي، وهذا المثال مستوحى من أحد قرارات محكمة النقض الفرنسية، إذ أنّ أغلب حالات التحايل على الحكم القضائي متعلقة بالطلاق المغربي (Repudiation) ومثال ذلك أن يقوم الزوج المغربي التي تطلب زوجته الطلاق في فرنسا باللجوء إلى قضاء دولته من أجل الحصول على قرار بالطلاق يخدم مصلحته وبه يعمل على شل الدعوى المرفوعة أمام المحاكم الفرنسية.

لا شك أن التحايل على القوانين والتحايل على قواعد الاختصاص القضائي يتم الوقوف عليهما في مرحلة تنفيذ الحكم الأجنبي، سواء كان التحايل على القوانين مصطحباً بتحايل على قواعد الاختصاص القضائي، أو كان التحايل على قواعد الاختصاص دون مصاحبة الغش نحو القانون فإذا ثبت أن هناك تحايلاً على القوانين، أو تحايلاً على قواعد الاختصاص القضائي فإن قاضي التنفيذ في فرنسا يقوم برفض تنفيذ الحكم الأجنبي على أساس أن الغش يفسد كل شيء.

أما في الأردن، فحسب نص المادة 7/1/د من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 1952، فللمحكمة أن ترفض تنفيذ الحكم الأجنبي إذا تم الحصول عليه بطريق التحايل، أما بخصوص التحايل على قواعد الاختصاص القضائي أو التحايل على القوانين فلم يرد نص صريح بشأنهما فلذلك نتمنى على مشرعنا الأردني أن ينص صراحة على رفض تنفيذ الحكم الأجنبي كعقاب على التحايل على القوانين أو التحايل على قواعد الاختصاص القضائي الدولي الوطنية أو الأجنبية، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تقوية رابط التعاون القانوني والقضائي بين مختلف الدول.

لقد سبق أن بينا أنه على قاضي التنفيذ أن يراقب جدية اختصاص المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم، وذلك من خلال الرقابة على العلاقة الوثيقة بين المحكمة والمنازعة التي نظرتها والتحقق من عدم سعي الأفراد لارتكاب الغش نحو القانون أو نحو الاختصاص القضائي أو نحو الحكم المراد تنفيذه في بلد التنفيذ، فالسؤال الذي يفرض وجوده هو : هل الرقابة تشمل الرقابة على الاختصاص القضائي الداخلي والدولي على السواء أم تقتصر على الاختصاص القضائي الدولي فقط؟ وهذا ما سنبحثه في المطلب الثاني.

المطلب الثاني : محل الرقابة على الاختصاص القضائي

للإجابة على السؤال الذي تم طرحه، نقسم هذا المطلب إلى فرعين :

الفرع الأول : صلاحية قاضي التنفيذ في الرقابة على الاختصاص القضائي الداخلي للمحكمة الأجنبية المراد تنفيذ حكمها :
مما لا شك فيه أن الاختصاص القضائي الداخلي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يشمل الاختصاص النوعي والقيمي والمحلي. وهذا الاختصاص يخص القانون الأجنبي أي قانون المحكمة التي أصدرت الحكم، وبالتالي يجمع الفقهاء في مصر وفي فرنسا على أن قاضي التنفيذ غير ملزم بالتحقق من أن المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم مختصة اختصاصاً داخليا بالفصل في النزاع ويعزون السبب في ذلك إلى أن مسألة الاختصاص الداخلي مسألة تخص القانون الأجنبي. ويضيف الأستاذ الدكتور عكاشة عبد العال أن الرقابة على الاختصاص الداخلي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يعني (أن القاضي الوطني يلقن القاضي الأجنبي درساً في كيفية التطبيق السليم لقانونه الوطني وهو أمر لا يليق، ثم أن القاضي المصري أياً كانت درجة علمه ومعرفته بالقوانين الأجنبية لا يتصور أن يكون محيطاً عالماً بالقانون الأجنبي بذات القدر المتحقق بالنسبة للقاضي الأجنبي نفسه. وأخيراً فإنه لا يتصور أن يكون قاضينا المصري أكثر حرصاً على الإعمال الصحيح والسليم لقواعد الإجراءات الداخلية في القانون الأجنبي من القاضي الأجنبي نفسه)، ويشير الدكتور Audit في مؤلفه إلى أن الرقابة على الاختصاص الداخلي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم هو من اختصاص تلك المحكمة، ولم يعد لازماً التحقق من هذا الاختصاص، وذلك لأن عدم تحقق أي شرعية محتملة لاختصاص هذه المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم يكون مراقباً داخلياً عن طريق حجية الأمر المقضي به. ونحن نعلم أن الحكم القضائي حتى يكون له حجية الأمر المقضي به يجب أن تكون المحكمة التي أصدرت الحكم صاحبة اختصاص سواء كان هذا الاختصاص نوعياً أو قيمياً أو مكانياً فإن لم يكن كذلك فلا تكون له هذه الحجية.

أما في الأردن فإن الحكم الأجنبي الذي لم يكتسب الدرجة القطعية لا يجوز تنفيذه بدليل نص المادة 7/1/هـ من قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية التي تنص على أنه “يجوز للمحكمة أن ترفض الطلب المرفوع إليها لتنفيذ حكم أجنبي في الأحوال الآتية : هـ- إذا أقنع المحكوم عليه المحكمة بشأن الحكم بأنه لم يكتسب بعد الصورة القطعية”، وقد طبقت محكمة التمييز الأردنية هذا النص في القضية رقم 648/99، إذا حكمت أن “للمحكمة التي تنظر في طلب إكساء الحكم الأجنبي صيغة النفاذ رفض الطلب إذا قدم المحكوم عليه ما يثبت أن الحكم الأجنبي لم يكتسب الدرجة القطعية، وعليه فإن تقديم المحكوم عليه ما يفيد استئنافه للحكم الأجنبي فقدمت المحكوم لها ما يثبت رد الاستئناف ولم يقدم المحكوم عليه بعدها ما يثبت عدم اكتساب الحكم الدرجة القطعية فيكون رد طلب المحكوم له في غير محله ومخالفاً للقانون”.

أما في مصر فقد ذهب الفقهاء إلى إمكانية أن يأمر قاضي التنفيذ بتنفيذ الحكم الأجنبي حتى ولو كانت المحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم غير مختصة نوعياً ومحلياً بالفصل في النزاع، ويستثنى من ذلك أن تكون مخالفة وقاعد الاختصاص المقررة في قانون المحكمة التي أصدرت الحكم تؤثر في وجود الحكم وتمنع ترتيب آثاره، إذ من البديهي ألا نسمح بتنفيذ حكم أجنبي إذا كان قد صدر غير صحيح في دولة المحكمة التي أصدرته.
إذا كان قاضي التنفيذ من حيث المبدأ لا يراقب الاختصاص الداخلي للمحكمة التي أصدرت الحكم تاركاً ذلك لقانون المحكمة التي أصدرته، فيجب عليه إذاً أن يراقب الاختصاص القضائي الدولي لهذه المحكمة. وهذا ما سنتناوله في الفرع التالي .

الفرع الثاني : الرقابة على الاختصاص القضائي الدولي
من المتفق عليه أنه يجب على قاضي التنفيذ أن يراقب الاختصاص القضائي الدولي (Competence Judiciaire internationale) للمحكمة التي أصدرته، فما المقصود بالاختصاص القضائي الدولي؟ يراد بالاختصاص القضائي الدولي مجموعة القواعد التي تحدد بمقتضاها ولاية محاكم الدولة وسلطتها في الفصل في المنازعات والمسائل ذات العنصر الأجنبي إزاء غيرها من محاكم دول أخرى.

لقد استخدم المشرع الأردني مصطلح (الاختصاص الدولي للمحاكم) في الفصل الأول من الباب الأول من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم (24) لسنة 1988. ولقد جانب مشرعنا الأردني الصواب باستخدامه هذا المصطلح، وذلك لأن ليس من صلاحيته تحديد حالات الاختصاص الدولي للمحاكم في جميع دول العالم، وكان عليه إلحاق كلمة المحاكم بكلمة الأردنية حتى يصبح المصطلح الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأردنية، والسبب في ذلك أن المشرع في تحديده لقواعد الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الاردنية يحدد فيها حالات اختصاص المحاكم الأردنية فقط في النظر بالمنازعات ذات العنصر الأجنبي.

وفي الحقيقة أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأردنية تختلف من ناحية عن قواعد الاختصاص الداخلي للمحاكم الأردنية، ومن ناحية أخرى عن قواعد تنازع القوانين (قواعد الإسناد)، فبالنسبة للأمر الأول : نجد أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي يحدد المشرع فيها حالات اختصاص المحاكم الأردنية فقط، دون تحديد المحكمة المختصة وهو ما يعبر عنه بأن قواعد الاختصاص القضائي الدولي هي قواعد مفردة، أما قواعد الاختصاص القضائي الداخلي فيحدد المشرع فيها المحكمة المختصة في جميع الحالات، وهذا ما يعبر عنه بأن قواعد الاختصاص القضائي الداخلي مزدوجة، أما فيما يتعلق بالأمر الثاني نلاحظ أن قواعد الاختصاص القضائي الدولي تختلف عن قواعد الإسناد (قواعد تنازع القوانين) حيث أن قواعد الإسناد تبين القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية المشوبة بعنصر أجنبي ولكن لا تبين حكم القانون فيها. أما قواعد الاختصاص القضائي الدولي فتحدد حالات اختصاص محاكم دولة ما دون تحديد المحكمة المختصة، وبالتالي فقواعد الاختصاص القضائي الدولي قواعد مفردة الجانب أي أنها تحدد حالات اختصاص المحاكم الوطنية دون تحديد حالات اختصاص المحاكم الأجنبية في حين أن قواعد الإسناد هي قواعد مزدوجة أي يتبين من خلالها سلطان القانون الوطني والحالات التي يسمح فيه المشرع الوطني بتطبيق القانون الأجنبي في دولته.

ويجب أن نشير في هذا الصدد إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك تلازم بين قواعد الاختصاص القضائي الدولي وقواعد الاختصاص التشريعي (قواعد تنازع القوانين) بمعنى أن المحكمة المختصة يصح بأن تطبق قانون غير قانونها فيصبح أن تحدد قواعد الاختصاص القضائي للمحكمة المختصة، بينما تحدد قواعد الاختصاص التشريعي قانوناً آخر غير قانون هذه المحكمة، لكن من الممكن أن تطبق المحكمة المختصة قانونها كما هو الحال بالنسبة للعقار حيث تختص محكمة موقع العقار بالمنازعة فيه وخضوع العقار لقانون موقعه.

بينا فيما تقدم أن محكمة البداية الأردنية تراقب اختصاص المحكمة الأجنبية المراد تنفيذ حكمها في الأردن وفقاً للضوابط الثلاثة التي نص عليها قانون تنفيذ الأحكام الأجنبية رقم (8) لسنة 1952، وهذه الضوابط هي مكان الإقامة، الخضوع الإداري، تعاطي الأعمال، أما فيما يتعلق بالحكم الصادر عن محاكم إحدى الدول المرتبطة مع الأردن باتفاقية فيطبق بشأن تنفيذه نصوص الاتفاقية السارية المفعول بين البلدين لذلك يتبين لنا أن حالات الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم تتحدد بشكل عام وفقاً لضوابط إقليمية وشخصية وطارئة ونحن نعلم جيداً أن بعض الضوابط الإقليمية كموطن المدعى عليه أو محل إقامته أو موقع المال المنقول وضابط جنسية الخصوم وضابط الخضوع الإرادي لولاية القضاء هي عبارة عن ضوابط قابلة للتغيير، فالسؤال الذي نود أن نثيره هنا ما هو الوقت الذي يعتد به في حال مراقبة الاختصاص القضائي الدولي للمحكمة الأجنبية التي أصدرت الحكم؟ وهو ما خصصنا له المطلب الثالث من هذا البحث للإجابة عليه.

المطلب الثالث : رقابة التنفيذ على وقت توافر الاختصاص القضائي الدولي

لقد ذكرنا أن ضابط الجنسية أو محل إقامة المدعى أو موطنه أو موقع المال المنقول أو ضابط الخضوع الإرادي عبارة عن ضوابط قابلة للتغيير وبالتالي طرحنا التساؤل المتعلق بالوقت الذي يعتد به في معرفة الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأجنبية التي أصدرت الحكم فهل يجب أن يتوافر ضابط الاختصاص القضائي الدولي وقت رفع الدعوى أم وقت نشوء العلاقة القانونية التي صدر فيها الحكم؟ وما الحل لو توافر وقت رفع الدعوى ثم تغير بعد ذلك أو لم يكن هذا الضابط متحققاً وقت رفع الدعوى ثم تحقق بعد ذلك؟ وهل يشترط أن يبقى هذا الضابط إلى حين رفع دعوى الأمر بالتنفيذ؟

لا ضير هنا أن نقوم بتطبيق ما جاء في القانون الداخلي، إذ إنه من حيث المبدأ يجب أن يتوافر ضابط الاختصاص القضائي وقت رفع الدعوى لكن هذا الحل ليس مطلقاً وإنما ورد عليه استثناء يتعلق بضابط الخضوع الإرادي، فنبدأ أولاً بالخضوع الإرادي : نلاحظ أن المادة 27/2 من قانون أصول المحاكمات المدنية تنص على أن : “تختص المحاكم الأردنية بالفصل في الدعوى ولو لم تكن داخلة في اختصاصها إذا قبل الخصم ولايتها صراحة أو ضمناً”. والخصم هو المدعى عليه لأنه هو الذي له الحق في التمسك بعدم اختصاص المحكمة وحسب هذا النص يجب أن يكون القبول صراحة او ضمناً والقبول الضمني لا يفترض، إذ يجب أن تكون الدلالة عليه واضحة مثل حضور المدعى عليه جلسات المحاكمة وعدم التمسك بعدم اختصاص المحكمة، لأنه “إذا لم يحضر المدعى عليه وكانت المحاكم الأردنية غير مختصة بنظر الدعوى طبقاً للمواد السابقة (27، 28) تحكم المحكمة بعدم اختصاصها من تلقاء نفسها”، ولا يشترط في ذلك قبول الخصم لاختصاص المحكمة وقت رفع الدعوى بل الممكن أن يكون سابقاً لرفع الدعوى أو لاحقاً لها. فإذا لم يقبل الصم اختصاص المحكمة صراحة أو ضمناً فلا تعتبر المحاكم الأردنية مختصة.

ثانياً: أما فيما يتعلق بضابط محل إقامة المدعي عليه أو موطنه أو موقع المال المنقول أو ضابط الجنسية فيجب أن يتوافر أي منها وقت رفع الدعوى حتى ولو تم تغييره بعد ذلك، وذلك لأن ولاية القضاء لا تتحرك إلا بطلب المدعي برفع الدعوى، أما إذا لم تكن المحاكم الأردنية مختصة ثم حدث أثناء السير في الدعوى أن توافر ضابط من ضوابط الاختصاص القضائي الدولي للمحاكم الأردنية كأن يكون المدعي عليه اكتسب محل إقامة في الأردن. يذهب الرأي الراجح في الفقه إلى أن تحقق ضوابط الاختصاص أثناء السير في الدعوى من شأنه أن يصحح الخصومة لأن القول بغير ذلك من شأنه أن يضيع وقت المحكمة بمعنى آخر أنه إذا حكمت المحكمة بعدم اختصاصها ثم رفعت إليها الدعوى من جديد بعد تحقق ضابط الاختصاص ففي هذا إهدار لوقت المحكمة.

وأخيراً لا يشترط أن يبقى ضابط الاختصاص القضائي الدولي متوافراً إلى حين الأمر بالتنفيذ، والقول بخلاف ذلك من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة الكثير من الأحكام الأجنبية المراد تنفيذها.