بحث قانوني عن الأمر بالحفظ والأمر بألاوجه لإقامة الدعوى

كان إحالة الدعوى الجنائية إلى قضاء التحقيق أو قضاء الحكم هو التصرف الايجابي في الدعوى في مرحلتي الاتهام والتحقيق، فإن الأمر بحفظ الأوراق والأمر بألا وجه لإقامة الدعوى هما التصرف السلبي في الدعوى في هاتين المرحلتين، وهو تصرف يؤثر على سير كل من الدعويين الجنائية والمدنية التبعية وبالتالي على المراكز القانونية لكل من المتهم والمجني عليه والمدعي بالحقوق المدنية والمسئول عنها. وقد ذخرت كتب الفقه الجنائي بالحديث عن هذا الموضوع، إلا أننا في بحثنا هذا نتناول هذا الموضوع من منظور دستوري وخاصة وأن الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أدى بالفعل إلى إثارة بعض الطعون أمام المحكمة الدستورية العليا. ولما كانت الأطراف الأساسية للدعوى الجنائية والدعوى المدنية التبعية هي النيابة العامة والمتهم والمدعي بالحق المدني، فقد رأينا أن نتناول التعريف بهم في مبحث تمهيدي، ولما كانت النيابة العامة هي التي تباشر سلطة الاتهام وهي أيضاً التي تباشر – بحسب الأصل – سلطة التحقيق، فقد رأينا أن نوضح بقدر مناسب من التفصيل المركز القانوني للنيابة العامة في النظام الدستوري المصري نظراً لأثر ذلك على الشرعية الدستورية وخاصة أن هذا الموضوع لا يزال يثير خلافاً حاداً في الفقه والقضاء. ثم نتناول في المبحث الأول الطبيعة القانونية لكل من الأمر بالحفظ والأمر بألا وجه لإقامة الدعوى وأيضاً الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية بعد أن نعرض في إيجاز الخلاف الفقهي الحاد الذي ثار حول الطبيعة القانونية له. ثم نتناول في المبحث الثاني إلغاء الأمر بالحفظ والأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فنوضح من منظور دستوري هل يحقق قانون الإجراءات الجنائية حماية قضائية للمدعي بالحق المدني إذا صدر أمر بحفظ الأوراق في جريمة تمثل جناية ولم تقم الجهات الرئاسية لعضو النيابة مصدر القرار بإلغائه أم أننا في هذه الحالة بصدد ما يسميه الفقه الدستوري بالقصور التشريعي أو الإغفال التشريعي نظراً لأن القانون لا يبيح الادعاء المباشر إلا أمام محاكم الجنح فقط وليس الجنايات.  ونتحدث عن إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فنركز على الطبيعة القانونية لاختصاص النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه من منظور دستوري والنتائج العملية لذلك. ونختتم بحثنا بالمبحث الثالث لنتحدث فيه عن مدى دستورية المادة (210) إجراءات جنائية، فنتناول في المطلب الأول فقرات هذه المادة التي عرضت بالفعل على المحكمة الدستورية العليا وقالت فيها كلمتها لنوضح رأينا في هذه الأحكام ثم نتناول في مطلب ثاني مسألة دستورية لم تعرض بعد على المحكمة الدستورية، وهي مدى دستورية القاعدة القانونية التي لا تجيز الطعن بالنقض في القرار الصادر من غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى. لنصل بذلك إلى ختام بحثنا.

بحث تمهيدي

      لما كانت الأطراف الأساسية للدعوى الجنائية والدعوى المدنية التبعية لها هم النيابة العامة والمتهم والمدعي بالحقوق المدنية. فسوف نتناول كلاً منهم في مطلب. فنتحدث في المطلب الأول عن النيابة العامة لنوضح المركز القانوني لها في النظام الدستورية المصري، ثم نتحدث في المطلب الثاني عن المتهم لنوضح تعريف هذا المصطلح في كل من القانون الفرنسي والمصري، ثم نتحدث في مطلب ثالث عن مصطلح المدعي بالحقوق المدنية.

المطلب الأول: النيابة  العامة

          لما كانت النيابة العامة هي التي تباشر – بحسب الأصل – سلطتي الاتهام والتحقيق في الدعوى الجنائية فقد رأينا أن نوضح بقدر مناسب من التفصيل المركز القانوني للنيابة العامة في النظام الدستوري المصري نظراً لأثر ذلك على الشرعية الدستورية لبعض النصوص التشريعية، ولاسيما أن هذا الموضوع لا يزال يثير خلافاً حاداً في الفقه في كلٍ من مصر وفرنسا.

المركز القانوني للنيابة العامة

في مصر وفرنسا

               ثار جدل فقهي حاد ولا يزال قائماً حول المركز القانوني للنيابة العامة في كل من مصر وفرنسا وتحديد وضعها من السلطتين التنفيذية والقضائية، وسوف نعرض في إيجاز للآراء الفقهية المختلفة.

الاتجاه الأول :  يرى أن النيابة العامة تابعة للسلطة التنفيذية وأن أعضاءها ليسوا سوى وكلاء لهذه السلطة لدى المحاكم. واستند أنصار هذا الرأي في فرنسا إلى أن أعضاء النيابة العامة الذين كانوا يسمون رجال الملك في الماضي هم حالياً وكلاء السلطة التنفيذية لدي المحاكم.([1]) ومن جهة أخرى، فإن رفع الدعوى الجنائية عن الجرائم يعتبر إحدى وظائف السلطة التنفيذية باعتبارها المسئولة عن الحفاظ عن الأمن والنظام في المجتمع وحماية حقوق الأفراد([2])

ويذهب هذا الاتجاه الفقهي إلى تعريف النيابة العامة بأنها “الهيئة التي تمثل الحكومة والنظام العام والمصالح العامة للمجتمع أمام بعض الجهات القضائية والتي تسهر على تطبيق القوانين وتنفيذها أو الهيئة التي تضم وكلاء السلطة التنفيذية لدي المحاكم”.

      وقد أخذ بهذا الرأي جانب من الفقه المصري(3)(, كما اتجهت إليه محكمة النقض المصرية في حكم قديم لها، حيث قررت أن “النيابة العامة هي من النظم المهمة في الدولة المصرية، أشار الدستور إليها في كلامه عن السلطة القضائية، وهي – بحسب القوانين التفصيلية المعمول بها – شعبة أصيلة من شعب السلطة التنفيذية خصت بمباشرة الدعوى العمومية نيابة عن تلك السلطة وجعل لها وحدها التصرف فيها تحت إشراف وزير الحقانية ومراقبته الإدارية. وهي بحكم وظيفتها مستقلة استقلالاً تاماً عن السلطة القضائية(4)(.

الاتجاه الثاني: يرى غالبية الفقه الفرنسي أن أعضاء النيابة العامة هم أصحاب وظيفة مزدوجة ، أعضاء في السلطة القضائية ، أي موظفون وقضاة في آن واحد، وباعتبارهم موظفين فهم يخضعون لعلاقة التبعية لرؤسائهم في بعض الأعمال وباعتبارهم قضاة فهم يتحررون من علاقة التبعية هذه في أعمال أخرى(5)([3]).

          وقد أيدت محكمة النقض الفرنسية هذا الاتجاه، فقضت بأنه يجب التمييز بين صفتين للنيابة العامة الأولى كأداة لحماية المجتمع من الجريمة، والثانية كأداة لحماية القانون في طلبات توقيع العقوبة على المتهمين(1)([4]).

          وأيدت محكمة النقض المصرية هذا الاتجاه في بعض أحكامها، حيث قضت “بأن النيابة العامة، لا تزال تجمع بين طرف من السلطة القضائية وآخر من السلطة الإدارية، وأنها بهذه الصفة قد تحتاج في تصرفها إلى قسط من المرونة لا يرى قاضي التحقيق أنه بحاجة إلى مثله لأن مهمته قضائية”([5]).

          كما أيدت أيضاً المحكمة الإدارية العليا هذا الاتجاه  فقررت أن ” قضاء هذه المحكمة جرى على أن النيابة العامة هي في حقيقة الأمر شعبة أصيلة من شعب السلطة التنفيذية تجمع بين طرف من السلطة القضائية وآخر من السلطة الإدارية(3)(.

          وقد أيد هذا الاتجاه أيضاً جانب من الفقه المصري(4)([6]).

الاتجاه الثالث : يرى أن النيابة العامة هيئة قضائية، وأعضاؤها قضاة وليسوا وكلاء للسلطة التنفيذية، ويستند هذا الاتجاه إلى أن الوظيفة الرئيسية للنيابة العامة هو تطبيق قانون العقوبات، ويعتبر هذا العمل من اختصاص السلطة القضائية(5)([7]).

          وقد أخذ الدستور الفرنسي بهذا الاتجاه، فبمقتضى التعديل الدستوري الصادر في 27 يوليو سنة 1993، أصبحت النيابة العامة جزءاً من السلطة القضائية، فقد نصت المادة (64) من الدستور الفرنسي على “أن رئيس الجمهورية يضمن استقلال السلطة القضائية ويساعده في ذلك المجلس الأعلى للقضاء”. وطبقاً للمادة (65) من الدستور بعد تعديلها، أصبح للمجلس الأعلى للقضاء تشكيلان الأول: خاص بشئون القضاة، والثاني: خاص بشئون أعضاء النيابة العامة.

          وقد أخذ غالبية الفقه المصري بهذا الاتجاه، استناداً إلى أن عمل النيابة  العامة يغلب عليه – من الوجهة الفنية – الطابع القضائي، باعتبار ما تلتزم به من موضوعية ومن استهداف التطبيق الصحيح للقانون.  ويؤكد هذا الطابع أن الإعداد الفني لأعضاء النيابة العامة هو ذات إعداد القضاة. كذلك فإن النيابة العامة هي جزء متمم في تشكيل المحكمة الجنائية(6)([8]

          وقد أخذت محكمة النقض بهذا الاتجاه في حكم حديث لها، فقضت بأن “النيابة العامة شعبة من شعب السلطة القضائية خول الشارع أعضاءها من بين ما خول سلطة التحقيق ومباشرة  الدعوى العمومية”(1)().

          وأخذت به أيضاً المحكمة العليا، فقررت “أن النيابة العامة هي على الرأي الراجح شعبة من السلطة القضائية تتولى أعمالاً قضائية أهمها وظيفة التحقيق التي ورثتها عن قاضي التحقيق، ثم وظيفة الاتهام أمام المحاكم الجنائية بحيث يتعين تمثيلها في تشكيل هذه المحاكم وإلا كان قضاؤها باطلاً، ومن ثم تكون قراراتها قضائية”(2)().

رأينا في الموضوع :

          بعد أن استعرضنا الاتجاهات الفقهية والقضائية المختلفة، نحاول أن نجتهد برأينا في الموضوع فنتحدث – أولاً – في مدلول لفظ “الهيئات القضائية” الوارد في المادة (167) من الدستور لنرى هل تعتبر النيابة العامة هيئة قضائية أم لا؟

          وقد قررت المحكمة الدستورية – وهي بصدد تفسيرها للمادة (24/2) من القانون رقم 73 لسنة 1956 – قررت الآتي:

1-    أن مصطلح “الهيئة القضائية” في النظام القانوني المصري إن هو إلا اسم جنس تندرج تحته عدة أنواع، منها جهات تمسك بزمام العدالة وتنفرد على وجه الاستقلال بالفصل في القضايا على أسس موضوعية ووفقاً لقواعد إجرائية تكون منصفة في ذاتها، بما يكفل الحماية الكاملة لحقوق من يلوذون بها وأخصها المحكمة الدستورية العليا ومحاكم جهتي القضاء العادي والإداري بمختلف درجاتها ومنها جهات قائمة بذاتها، وهي وإن لم يعهد إليها المشرع باختصاص الفصل في القضايا إلا أنه أسبغ عليها صفة الهيئة القضائية تقديراً منه بأنها هيئات – بحكم الاختصاصات المنوطة بها – تسهم في سير العدالة وهي هيئتا قضايا الدولة والنيابة الإدارية.

2-    إن العبرة في اكتساب صفة “الهيئة القضائية” لغير الجهات التي تضم المحاكم على اختصاص مسمياتها ودرجاتها – هي بوجه عام بالتشريع الذي يصدر – بناء على التفويض الوارد بالمادة 167 من الدستور – بإنشاء الهيئة وتنظيمها والذي يسبغ عليها هذه الصفة ويمنحها القدر اللازم من الاستقلال وبانضمامها إلى  تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية(3)([9]).

وقد ذهب رأي فقهي – في تحديده لمصطلح “الهيئات القضائية” الوارد بالمادة (167) من الدستور – إلى القول أنه طبقاً لنص المادة (165) من الدستور، فإن المحاكم وحدها هي التي تتولى ممارسة  السلطة القضائية، ومع ذلك فقد نص قانون السلطة القضائية في المادة (15) منه على أنه “فيما عدا المنازعات الإدارية التي يختص بها مجلس الدولة تختص المحاكم بالفصل في كافة المنازعات والجرائم إلا ما استثني بنص خاص”.

وهذا الاستثناء الأخير قد ينصرف إلى جواز تخويل بعض الجهات من غير المحاكم سلطة  الفصل في المنازعات، ولا يتفق هذا المعنى مع ما عبر عنه الدستور بشأن تولي المحاكم مباشرة السلطة القضائية ولذلك لا يجوز تفسير هذا الاستثناء إلا في النطاق الذي يتفق مع الدستور، مما يجعله مقصوراً على احتمال إنشاء أنواع جديدة من المحاكم لم ينص عليها قانون السلطة القضائية.

وقد قضت المادة (167) من الدستور المصري في الفصل الخاص بالسلطة القضائية على أن “يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصها …”

وواضح من المادة (165) من الدستور أن المحاكم هي التي تتولى السلطة القضائية. ومفاد هذا النص أن المحاكم وحدها هي التي تتمتع بالضمان الدستوري لطبيعتها القضائية. أما ما عدا ذلك من الهيئات فإن طبيعتها القضائية لها قيمة تشريعية بحتة.

ويضيف هذا الرأي الفقهي قائلاً: أن كلاً من الاتهام الجنائي والتحقيق الابتدائي والمحاكمة وظيفة قضائية، وقيام المحكمة ببعض جوانب هذه الوظيفة لا ينفي الطبيعة القضائية للجوانب الأخرى من الوظيفة والتي تباشرها النيابة العامة.

وعلى ضوء ما تقدم، تعتبر النيابة العامة هيئة قضائية. وقد عني الدستور صراحة بإضفاء القيمة الدستورية على وجود النيابة العامة في المادة (41) منه.

وإذا خرج القانون عن المعيار الموضوعي للوظيفة القضائية في تحديد الهيئات القضائية، فإن ذلك يرجع إلى أهمية إضفاء قدر من الاستقلال على بعض الهيئات بالنظر إلى اختصاصها الهام وتعاونها مع القضاء كما هو الشأن بالنسبة إلى هيئة قضايا الدولة في مصر(1)([10]).

رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا

          نحن من جانبنا لا نؤيد قضاء المحكمة الدستورية سالف الذكر، ونرى أن ما عناه الدستور بلفظة “الهيئات القضائية” الواردة بالمادة (167) منه هي الهيئات التي تندرج تحتها المحاكم التي نص عليها في المادة (165) بأنها تمثل السلطة القضائية، أي توزيع جهة المحاكم، بدليل أن الدستور جاء بعد ذلك وتحدث عن محاكم أمن الدولة في المادة (171)، ثم عن محاكم مجلس الدولة في المادة (172) ثم أفرد للمحكمة الدستورية العليا فصلاً خاصاً بها. فلو كان لفظة “الهيئات القضائية” الواردة بالمادة (167) المقصود بها يشمل كل هذه المحاكم إلى جانب هيئات قضائية أخرى، لكان الترتيب الطبيعي لها أن ينص الدستور عليها بعد المادة (172).

          ونحن لن نرد على قضاء المحكمة الدستورية هذا، إلا بقضاء آخر للمحكمة الدستورية قررت فيه “أن ما قصد إليه الدستور بنص المادة (167) منه التي فوض بها المشرع في تحديد الهيئات القضائية وتقرير اختصاصاتها، هو أن يعهد إليه دون غيره، بأمر تنظيم شئون العدالة من خلال توزيع الولاية القضائية بين الهيئات التي يعينها تحديداً لقسط كل منها أو لنصيبها فيها، بما يحول دون تنازعها فيما بينها أو إقحام إحداها فيما تتولاه غيرها من المهام، وبما يكفل دوماً عدم عزلها جميعاً عن نظر خصومة بعينها”(2)([11]).

          وواضح أن المحكمة الدستورية تقصد بحكمها الأخير أن الهيئات القضائية الواردة بالمادة (167) من الدستور أنها الهيئات التي تضم المحاكم فقط.

          وبناء على ما تقدم، فإننا لا نرى –فقط – أن هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة لا تندرج في عداد الهيئات القضائية الواردة بالمادة (167) من الدستور، بل إننا نرى أن النيابة العامة أيضاً لا تندرج هي الأخرى في عداد الهيئات القضائية الواردة بالمادة (167) من الدستور.

          وما ذهبت إليه المحكمة الدستورية بأن انضمام هيئة ما إلى تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية يسبغ عليها وصف الهيئة القضائية، هذا القول مردود عليه: بأن ثمة أعضاء من خارج الجامعات ينضمون إلى تشكيل المجلس الأعلى للجامعات. وهذا دليل على أن هذا المعيار الذي أخذت به المحكمة الدستورية في تحديد “الهيئة القضائية” معيار غير صحيح.

2-  إن المشرع الدستوري تحدث ضمناً عن النيابة العامة في المادة (70) من الدستور واصفاً إياها أنها جهة قضائية وليس هيئة قضائية فنص على “لا تقام الدعوى الجنائية” إلا بأمر من جهة قضائية …”

3-  إن المشرع الدستوري في الدساتير السابقة على الدستور الحالي كدستور 1956 ودستور 1964 حين تكلم عن النيابة العامة في نفس الفصل الرابع من الباب الخاص بالسلطة القضائية، نص في مستهل هذا  الفصل على “يرتب القانون جهات القضاء ويعين اختصاصاتها(1)([12])” أي أن المشرع الدستوري استعمل لفظة “جهات القضاء” وليس لفظ “الهيئات القضائية” كما هو الحال في الدستور الحالي، ولفظة “جهات القضاء” أعم وأشمل، فهي تشمل المحاكم وأي جهة أخرى تسهم بقدر ما في الوظيفة القضائية.

كما يلاحظ أيضاً في الدساتير السابقة، أن المشرع الدستوري نص على “ينظم القانون وظيفة النيابة العامة، واختصاصاتها، وصلتها بالقضاء”(2)([13]).

وواضح تماماً من عبارة “وصلتها بالقضاء” أنه بالرغم من أن الدستور أدرج النيابة العامة في نفس الفصل الخاص بالسلطة القضائية، إلا أنها ليست من جنس القضاء وإنما تتمتع فقط بقسط من هذه السلطة القضائية.

وما ذهب إليه الرأي الفقهي من أن الاستثناء الوارد في المادة (15) من قانون السلطة القضائية إنما يعني إنشاء أنواع جديدة من المحاكم لم ينص عليها قانون السلطة القضائية،
حتى يتفق هذا الاستثناء مع المادة (165) من الدستور التي تقضي بأن المحاكم وحدها هي التي تتولى السلطة القضائية(3)([14]).

ونحن من جانبنا لا نؤيد هذا الرأي، ونرى أن الاستثناء المشار إليه قصد به المشرع إسناد الفصل في بعض المنازعات إلى هيئات ذات اختصاص قضائي وليست هيئات قضائية كالهيئات التي تضم المحاكم الواردة بقانون السلطة القضائية، ولا مخالفة في ذلك على الإطلاق لنص المادة (165) من الدستور التي تقضي بأن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها.

فهذه الهيئات تستمد شرعيتها الدستورية من هذا النص الدستوري، وبالتحديد من لفظة “تتولاها” فالمشرع الدستوري قد استعمل لفظة “تتولاها”، ولم يستعمل لفظة “تمارسها”, وثمة فارق كبير بين اللفظين، ويتضح لنا هذا الفارق، لو نظرنا – مثلاً – في المادة (86) من الدستور التي تتحدث عن اختصاصات مجلس الشعب، فتقرر “أن يتولى مجلس الشعب سلطة التشريع، ويمارس الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية” أي أن المشرع الدستوري حين اختص مجلس الشعب بسلطة التشريع استعمل لفظة “يتولى”. ولكن حين اختصه بالرقابة على أعمال السلطة التنفيذية استعمل لفظة “يمارس” وهذا يعني أننا لكي ندرك التفسير الصحيح لنص المادة (165) من الدستور، لابد أن نقف على معنى كلمتي “تتولى” و “تمارس”.

      وحيث إنه ليس ثمة معنى اصطلاحي لهذين اللفظين، الأمر الذي يجعلنا نبحث عن معناهما اللغوي.

      وبالبحث في المعجم الوسيط – إصدار مجمع اللغة العربية – الطبعة الثالثة – الجزء الثاني، وجدنا الآتي:

لفظة “تتولى”، مادة “ولى” – تولى الأمر: تقلده وقام به – صـ1100

لفظة “تمارس”، مادة “مرس” – مارس الشيء: عالجه وزاوله – صـ897

وبالتالي، فإن نص المادة (165) من الدستور على “السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم …” إنما يعنى أن المشرع الدستوري، أجاز للمشرع العادي أن يعهد بقسط من هذه الوظيفة إلى غيرها، ولكن تظل هي صاحبة الولاية والهيمنة على هذا العمل، أما لو كان المشرع الدستوري استعمل في المادة (165) من الدستور لفظة “تمارسها” بدلاً من “تتولاها”، لكان لزاماً على المشرع العادي أن يعهد إلى المحاكم وحدها بهذه الوظيفة تزاولها بنفسها، دون أن يعهد إلى غيرها بأي قسط منها.

يؤكد صحة ما نذهب إليه أن الدستور في المادة (86) منه حين اختص مجلس الشعب بسلطة التشريع والرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، استعمل في الحالة الأولى لفظة “يتولى” وفي الحالة الثانية لفظة “يمارس”.

فالدستور اختص مجلس الشعب بمهمة إقرار القوانين، وفي الوقت نفسه عهد إلى السلطة التنفيذية بأعمال تدخل في نطاق الأعمال التشريعية، ومنها مثلاً إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين بما ليس فيه تعديل أو تعطيل لها أو إعفاء من تنفيذها (المادة 144 من الدستور).

وهذا يعني أن مجلس الشعب لا يزاول بنفسه الأعمال التشريعية جميعها، ولكن يزاول قسطاً فقط منها، ويترك القسط الآخر للسلطة التنفيذية تزاوله تحت رقابته وهيمنته.

أما في حالة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، فإن المشرع الدستوري اختص مجلس الشعب بممارسة هذه الرقابة، أي مزاولتها بنفسه، دون أن يترك قسطاً منها لغيره*.

وهذا يعني أننا ونحن بصدد الحديث عن السلطة القضائية               The Judiciary

نكون بصدد ثلاث مصطلحات مختلفة

  • هيئة قضائية، وهي التي تندرج تحتها محكمة أو عدة محاكم a Judicial Authority
  • جهة قضائية وهي النيابة العامة   a Judicial body
  • هيئة ذات اختصاص قضائي a Body of Judicial Jurisdiction

وهي الهيئات الإدارية التي تتمتع باختصاص الفصل في بعض المنازعات الإدارية التي تحتاج إلى خبرة خاصة.

أما القول بأن النيابة الإدارية أو هيئة قضايا الدولة هي هيئات قضائية فهو قول ليس عندنا بشيء فهي مجرد هيئات قانونية ، بل إن وصف الشرع لها بأنها هيئات قضائية يُعد مخالفة دستورية للمادة (165) من الدستور.

خلاصة القول: إن النيابة العامة هي جهة قضائية وليست هيئة قضائية . ومن ثم فهي تقع في مركز قانوني وسط بين السلطتين القضائية والتنفيذية. ويؤكد صحة ذلك ما يلي:

أولاً   :  أنه بالرغم من أن الدستور أسبغ على النيابة العامة القيمة الدستورية، حيث نص عليها صراحة في المادة (41) منه، وذكرها ضمناً في المادة (70)، إلا أن المشرع الجنائي اشترط لصحة بعض الإجراءات الجنائية التي تباشرها النيابة العامة الحصول مقدماً على أمر مُسبب من القاضي الجزئي (م 206 إجراءات جنائية).

ثانياً    :  تلك التأشيرة التي يتلقاها عضو النيابة من العضو الأعلى في التدرج الوظيفي “لنيابة … بعد انتهاء اللازم”. وهي تأشيرة تنفرد بها النيابة العامة وحدها، دون أي جهة أخرى في الدولة. ولقد أثبت الواقع العملي أن العديد من أعضاء النيابة إدارية أنفسهم لا يعرفون معناها ويعتقدون أن معناها رفض للطلب المقدم من صاحبه، وأن هذه التأشيرة بهذا المعنى هي قرار ملزم للأدنى درجة إذا صدرت من الأعلى.

والحقيقة أن عضو النيابة العامة لأنه ليس قاضياً، كما أنه ليس موظفاً عاماً، فهو غير ملزم بالإجابة على ما يقدم له من طلبات الأشخاص، ولا يرتب القانون أي أثر على سكوته.

وذلك على عكس القاضي أو الموظف العام، فالقاضي ملزم بالرد على ما يقدم له من عرائض وإلا كان منكراً للعدالة، وكذلك الموظف العام الممثل للسلطة الإدارية إذا امتنع عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليه اتخاذه وفقاً للقوانين واللوائح أصبحنا بصدد قرار إداري سلبي، كما أن تقديم تظلم من قرار إداري لمصدره أو للجهة الرئاسية له وفوات ستين يوماً دون الرد عليه يعتبر بمثابة رفض للتظلم، وذلك كله طبقاً لقانون مجلس الدولة.

فمثلاً حين يقوم أحد أعضاء النيابة بالتأشير على أوراق محضر إداري بالحفظ ، ويقوم المتظلم بتقديم طلب إلى النائب العام – مثلاً – لإلغاء أمر الحفظ وفتح باب التحقيق في الواقعة، فعندما يقوم النائب العام بفحص أوراق المحضر ، ثم التأشير عليها بتأشيرة “لنيابة …. بعد انتهاء اللازم” فإن هذه التأشيرة لا تعنى على الإطلاق – كما يعتقد الغالبية من القانونيين – أن النائب العام يؤيد الأمر بحفظ الأوراق، وأنه بذلك يعطي شهادة بأن الأوراق قد أجدبت تماماً من شبهة الجريمة ولا تعني هذه التأشيرة من النائب العام أنها قرار منه ملزم لأعضاء النيابة العامة، ولكن تعني – فقط – أن النائب العام عندما فحص الأوراق لم يلحظ شبهة جريمة، مع ملاحظة أن القانون لم يلزمه بالفحص الوافي لينتهي بعده إلى قول فصل إما بتأييد أمر الحفظ وإما بإلغائه، وبناء على ذلك، يمكن لأي عضو نيابة إذا فحص أوراق المحضر بعد ذلك أن يعود فيفتح باب التحقيق ويحرك الدعوى الجنائية.

ثالثاً   :  أنه من الناحية الفلسفية المجردة، حين يحتدم الخلاف بشدة حول المركز القانوني للنيابة العامة وهل تنتمي إلى السلطة القضائية أم تنتمي إلى السلطة التنفيذية، فلا يتصور إلا أن تقع في مركز قانوني وسط بين السلطتين القضائية والتنفيذية.

رابعاً  :  أنه إذا كان ثمة مؤسسة دستورية – وهي المحكمة الدستورية العليا – تقع في مركز قانوني وسط بين السلطتين القضائية والتشريعية(1). فمن المتصور أن ثمة مؤسسة دستورية أخرى تقع في مركز قانوني وسط بين السلطتين القضائية والتنفيذية.

خلاصة القول: إن النيابة العامة في النظام الدستوري المصري تقع في مركز قانوني وسط بين السلطتين القضائية والتنفيذية. ويترتب على ذلك أن ما تباشره النيابة العامة من أعمال في الدعوى الجنائية تنقسم إلى:

أولاً   :  أعمال تباشرها كسلطة اتهام، وهي أعمال يغلب عليها الطابع الإداري، وهذه الأعمال يخضع فيها أعضاء النيابة لعلاقة التبعية للنائب العام، لأنهم يباشرونها كوكلاء عن النائب العام.

ثانياً  :  أعمال تباشرها كسلطة تحقيق، وهي أعمال يغلب عليها الطابع القضائي، وقد ثار تساؤل في الفقه هل هذه الأعمال يباشرها عضو النيابة بصفته أصيلاً يستمد سلطته فيها من القانون مباشرة أم بصفته وكيلاً عن النائب العام، ومن ثم يخضع لعلاقة التبعية للنائب العام.

            وقد انقسم الفقه في الإجابة على هذا التساؤل إلى رأيين:

الرأي الأول :  الاختصاص بالتحقيق اختصاص أصيل مستمد من القانون:

         ويستند أنصار هذا الرأي إلى أن المادة (199) إجراءات قررت أن “تباشر النيابة العامة التحقيق في مواد الجنح والجنايات طبقاً للأحكام المقررة لقاضي التحقيق”

         ومفاد هذا أن القانون قد خول النيابة العامة سلطة التحقيق الابتدائي التي كانت مقررة لقاضي التحقيق. وهنا سلك المشرع سبيلاً يختلف عن النهج الذي اتبعه بصدد استعمال الدعوى الجنائية، فبينما نص في المادة الثانية إجراءات على أن يقوم النائب العام بنفسه أو بواسطة أحد أعضاء النيابة  العامة بمباشرة الدعوى الجنائية، فإنه نص في المادة (199) المذكورة على جعل الاختصاص بالتحقيق الابتدائي للنيابة العامة كهيئة
لا للنائب العام.

         وبناء على ذلك، فإن أعضاء النيابة العامة يباشرون التحقيق الابتدائي كأصلاء – لا وكلاء – باسم القانون لا باسم النائب العام، وذلك كله تحت الإشراف الإداري – فقط – للنائب العام([15]).

الرأي الثاني :  الاختصاص بالتحقيق يباشر باسم النائب العام:

         يذهب هذا الرأي إلى أن مباشرة عضو النيابة العامة لإجراءات  التحقيق إنما يستمدها من وكالته للنائب العام لا من القانون مباشرة، ولذا فإنه يخضع لأوامره أياً كانت سواء تعلقت بإجراءات التحقيق
أو بإجراءات الاتهام. وسند هذا الرأي، أن النائب العام طبقاً لنص المادة (2/1) إجراءات، قد اختص بمباشرة الدعوى الجنائية بنفسه أو بواسطة غيره، وأن إجراءات التحقيق ليست لها طبيعة قضائية وأن القانون حين أحل النيابة العامة محل قاضي التحقيق قد جعل التحقيق الابتدائي بحسب الأصل للنيابة العامة([16]).

رأينا في هذا الخلاف الفقهي:

         نحن من جانبنا نؤيد الرأي الأول الذي يرى أن الاختصاص بالتحقيق هو اختصاص أصيل يستمده عضو النيابة من القانون مباشرة، وليس من وكالته للنائب العام وذلك للأسباب التي أوردها أنصار هذا الرأي، ونحن نضيف فنقول :

أولاً  :  مبدأ الفصل بين الهيئة التي تباشر الاتهام وتلك التي تباشر التحقيق، أي مبدأ الفصل بين الهيئات، هو فرع من المبدأ الدستوري الأم وهو مبدأ الفصل بين السلطات separation between powers وهذا المبدأ لا يتصور تحققه إلا إذا انتفت الصفة الرئاسية للنائب العام تجاه عضو النيابة وهو يباشر سلطة التحقيق.

ثانياً  :  أن ما قررته المادة (200) إجراءات من سلطة عضو النيابة العامة – عند إجراء التحقيق – في أن يكلف أي مأمور من مأموري الضبط القضائي ببعض الأعمال التي من اختصاصاته، هو دليل على أن عضو النيابة يستمد سلطته من القانون مباشرة، لأنه لو كان يستمد سلطته من وكالته للنائب العام لما أجاز له القانون تكليف غيره بالقيام بإجراءات التحقيق دون قيد أو شرط. ولجعل القانون هذا التكليف رهناً بإرادة الموكل أي النائب العام.

المطلب الثاني :  المتهـم

المتهم هو الطرف الثاني في الدعوى الجنائية. وهو الشخص الذي يوجه إليه الاتهام بواسطة سلطة الاتهام.

ويذهب رأي فقهي إلى أنه لا يكفي ارتكاب الشخص للجريمة حتى يعتبر متهماً بل يتعين تحريك الدعوى الجنائية قبله حتى تلحقه هذه الصفة*.

ونحن من جانبنا نرى أنه يجب التفرقة بين نوعين من المتهمين:

  • المتهم بالمعنى الواسع : وهو المتهم في مرحلة الاتهام
  • المتهم بالمعنى الضيق : وهو المتهم في مرحلة التحقيق

يؤكد صحة ما نذهب إليه ما نصت عليه المادة (123) إجراءات من أنه “عند حضور المتهم لأول مرة في التحقيق، يجب على المحقق أن يثبت من شخصيته، ثم يحيطه علماً بالتهمة المنسوبة إليه ….” وهذا قاطع الدلالة أن الشخص قد يكتسب صفة المتهم قبل عرضه على سلطة التحقيق أي في مرحلة الاتهام بواسطة النيابة العامة.

المطلب الثالث :  المدعي بالحقوق المدنية

من هو المدعي بالحقوق المدنية :

          إذا تأملنا في تفسير الفقه والقضاء لنص المادة (264) إجراءات، لوجدنا أن الفقه والقضاء لا يزال
لا يدرك ما المقصود بمصطلح المدعي بالحقوق المدنية، كما وردت بقانون الإجراءات الجنائية.

تفسير الفقه للمادة (264) إجراءات:

          إذا كانت الدعوى الجنائية لم تحرك بعد ، تم رفع المدعي المدني دعواه إلى المحكمة المدنية ، فهل يجوز له أن يحرك بنفسه الدعوى الجنائية بالطريق المباشر، وبالتالي يطرح أمام المحكمة الجنائية دعواه المدنية؟ انقسم الفقه إلى رأيين:

الرأي الأول : يرى سقوط حق المدعي المدني في الالتجاء إلى طريق الإدعاء المباشر أمام المحكمة الجنائية لأنه طالما كان هذا الطريق مفتوحاً، فإن رفع دعواه أمام المحكمة المدنية يعتبر تنازلاً منه عن هذا الطريق([17]).

الرأي الثاني :  يرى أن أحداً لم يجادل في حق المدعي المدني في رفع دعواه المدنية أمام المحكمة الجنائية إذا ما حركت النيابة العامة الدعوى بعد سبق التجائه إلى الطريق المدني ، ولا شك أن سقوط حق المدعي المدني في الالتجاء إلى القضاء الجنائي لا يتوقف على كيفية تحريك الدعوى الجنائية أمام القضاء، وعلى ما إذا كان قد تم بواسطة النيابة العامة أو بواسطة المدعي المدني بالطريق المباشر([18]).

موقف محكمة النقض :

          أيدت محكمة النقض الرأي الأول ، فقضت بأن المضرور من الجريمة لا يملك بعد رفع دعواه أمام القضاء المدني أن يلجأ إلى الطريق الجنائي ، إلا إذا كانت الدعوى الجنائية قد رفعت من النيابة العامة. فإذا لم تكن حركت منها امتنع عل المدعي المدني بمقتضى هذا الحكم كل الحق الذي كان له من قبل في اختيار الطريق الذي يريده لدعواه([19]).

رأي مخالف لرأي الفقه وقضاء محكمة النقض:

          نحن من جانبنا نرى أنه ليس صحيحاً ما ذهب إليه الفقه وقضاء النقض، ونرى أن المادة (264) إجراءات هي حالة خاصة من حالات الدعوى المدنية التبعية، لكن الخصوصية – هنا – لا تنسحب إلى الحالة التي ترفع فيها النيابة العامة الدعوى الجنائية دون حالات الإدعاء المباشر ولكنها تنسحب إلى إحدى صفات المدعي بالحقوق المدنية. وآية ذلك، أن المشرع حين عبر عن صفة المدعي بالحقوق المدنية استعمل ثلاث صيغ مختلفة وهي:

1- من يدعي حصول ضرر له من الجريمة             (المادة 27 إجراءات)

2- لمن لحقه ضرر من الجريمة                         (المادة 76 والمادة 199 مكرراً)

3- من ناله ضرر من الجريمة                           (المادة 264)

          وهذه المغايرة في الصيغ الثلاث لها ما يبررها، إذ تعبر كل واحدة منها عن حالة معينة من حالات الإدعاء المدني.

  • الحالة الأولى : خاصة بشخص المجني عليه المضرور من الجريمة أو المضرور من الجريمة طبقاً للمجرى العادي للأمور.
  • الحالة الثانية :  تتعلق بالمضرور من الجريمة ولكن ليس طبقاً للمجرى العادي للأمور.
  • الحالة الثالثة :  خاصة – فقط – بشخص المجني عليه المضرور من الجريمة.

          وسوف نسوق المثال الآتي لمزيد من الإيضاح، لو افترضنا أن شخصاً ما أعتدي عليه، فأصيب بعاهة أقعدته عن العمل، الأمر الذي أصاب زوجه وأولاده القصر الذين يعولهم بضرر مادي ولو افترضنا أن هذا الشخص كان يعول أيضاً أبناء أخيه المتوفى، فنكون – هنا – بصدد الثلاث حالات:

  • الحالة الأولى :  شخص المجني عليه وزوجه وأولاده القصر، ينطبق عليهم وصف “ممن يدعي حصول ضرر له من الجريمة”
  • الحالة الثانية  :  أولاد أخيه الذين يعولهم ينطبق عليهم وصف “لمن لحقه ضرر من الجريمة”
  • الحالة الثالثة  :  شخص المجني عليه ذاته ينطبق عليه وصف “من ناله ضرر من الجريمة”

          أي أن وصف “لحقه ضرر من الجريمة” هو أعم وأشمل من وصف “من يدعى حصول ضرر له من الجريمة ووصف “ناله ضرر من الجريمة” هو أخص منه، لأنه قاصر – فقط – على شخصي المجني عليه المضرور من الجريمة.

          ويؤكد صحة ما نذهب إليه أن المشرع استعمل في المادة (262) إجراءات صياغة “المدعي بالحقوق المدنية” لتشمل كل حالات الإدعاء المدني ولم يخصها بحالة معينة، كما فعل في المادة (264)، وعلة ذلك واضحة إذ أن لجوء المدعي بالحقوق المدنية إلى المحاكم المدنية هو حق أصيل يمكنه مباشرته في أي وقت دون أي قيد أو شرط.

          ولا ينال من هذا النظر القول إن المشرع، لو قصد في المادة (264) قصرها – فقط – على شخص المجني عليه المضرور من الجريمة لاستعمل لفظة “المجني عليه” بدلاً من لفظة “من ناله ضرر من الجريمة” إذ أن هذا القول مردود عليه: بأن الضرر من الجريمة هو شرط لازم لاكتساب صفة المدعي بالحق المدني، فربما اكتسب الشخص صفة المجني عليه، ومع ذلك لا يكتسب صفة المدعي بالحق المدني. فمثلاً إذا افترضنا أن شخصاً سرق منه منقول معين وبعد فترة وجيزة من الزمن تمكنت الشرطة من ضبط هذا المنقول وإعادته إلى صاحبه فإن هذا الشخص يكون قد اكتسب صفة المجني عليه، فهو الشخصي الذي وقعت عليه الجريمة ولكن ليس ثمة ضرر يذكر قد أصابه من جراء هذه الجريمة. ومن ثم فهو لا يكتسب صفة “ناله ضرر من الجريمة”.

          واسمع اعتراضاً آخر يقول: إنه إذا كان الضرر ركناً من أركان المسئولية المدنية، فهذا أمر بدهي طبقاً للقواعد العامة في القانون المدني، ولما كان المشرع بحاجة إلى استعمال صياغة “ناله ضرر من الجريمة” بدلاًَ من لفظة “المجني عليه”. وهذا الاعتراض مردود عليه أيضاً بأن ذلك تطبيق لما قرره المشرع في المادة (266) من أن الدعوى المدنية التبعية تخضع لقواعد الإجراءات الجنائية وليس لقواعد القانون المدني.

          يؤكد صحة تفسيرنا للمادة (264)، وبالتالي صحة تعريفنا لمصطلح المدعي المدني. يؤكد ذلك، أنه طبقاً لقواعد التفسير المنطقي, فإن السماح للمجني عليه المضرور من الجريمة من الانتقال من ساحة القضاء المدني إلى ساحة القضاء الجنائي فيه إيضاح للحقيقة في الدعوى الجنائية، بل في الغالب، فإن النيابة العامة
أو مدع مدني آخر سوف يستعين به كشاهد إثبات ضد المتهم في الدعوى الجنائية.

خلاصة القول : إن التفسير الصحيح لنص المادة (264) إجراءات جنائية، هو أنه إذا رفع المجني عليه المضرور من الجريمة دعواه بطلب التعويض إلى المحكمة المدنية، ثم رفعت الدعوى الجنائية، سواء من النيابة العامة أو من مدع مدني آخر، فالفعل رفع – هنا – مبني للمجهول، بما يدل على تعدد الفاعل والتجهيل به، إذا حدث هذا، جاز للمجني عليه المضرور من الجريمة (ناله ضرر من الجريمة) إذا ترك دعواه أمام المحكمة المدنية أن يرفعها إلى المحكمة الجنائية مع الدعوى الجنائية، ولا يجوز ذلك للمدعي المدني الحائز لصفة “يدع حصول ضرر” أو صفة “لحقه ضرر”.

          وخلاصة ما تقدم أن مصطلح المدعي بالحقوق المدنية في قانون الإجراءات الجنائية هو لفظ عام يشتمل على ثلاث حالات هي:

1-     من يدعي حصول ضرر له من الجريمة.

2-     من لحقه ضرر من الجريمة.

3-     من ناله ضرر من الجريمة.

المبحث الأول: الطبيعة القانونية للأمر بالحفظ والأمر بألا وجه

نقسم هذا البحث إلى ثلاثة مطالب، فنتحدث في المطلب الأول عن الطبيعة القانونية للأمر بالحفظ وفي المطلب الثاني عن التأصيل القانوني للأمر بألا وجه لعدم الأهمية، وفي المطلب الثالث عن الطبيعة القانونية للأمر بألا وجه.

المطلب الأول: الطبيعة  القانونية للأمر بالحفظ

أولاً  :  وضع المسألة في فرنسا :

          ذهب رأي في الفقه الفرنسي إلى أن الأمر بالحفظ هو عمل شبه قضائي([20])، وذهب رأي آخر إلى أنه من أعمال الإدارة القضائية البسيطة([21]). ولكن ذهب غالبية الفقه الفرنسي إلى  أنه قرار إداري([22]) لا يجوز أي حجية ويتضمن صرف النظر عن إقامة الدعوى مؤقتاً.

ثانياً :  وضع المسألة في مصر :

          أجمع الفقه المصري، كما استقرت أحكام محكمة النقض المصرية على أن الأمر بالحفظ قرار إداري ويترتب على ذلك أن الأمر بالحفظ يصدر قبل مباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق في الدعوى وهو لا يكسب المتهم حقاً ، ولا يلزم النيابة العامة، بل يكون لها دائماً حق العدول عنه بلا قيد أو شرط وبدون إبداء أسباب قبل انقضاء الدعوى الجنائية ونظراً لانعدام حجية الأمر بالحفظ ، فقد أجاز القانون لأي عضو من أعضاء النيابة العامة إصداره أو إلغاؤه ، كما أن القانون لا يجيز الطعن فيه بأي طريقة ولكن يجوز التظلم منه كقرار إداري إلى مصدره أو إلى السلطة الرئاسية له .

رأينا في الموضوع :

          إذا كان الفقه والقضاء الإداري قد قام بالتفرقة بين القرار الإداري والعمل المادي بأن القرار الإداري هو إفصاح الإدارة عن إرادتها الملزمة بما لها من سلطة بمقتضى القوانين واللوائح بقصد إحداث أثر قانوني معين متى كان ذلك ممكنا وجائزاً وقانوناً، وكان الباعث عليه ابتغاء مصلحة عامة.

أما العمل المادي فلا تتجه نية الإدارة بإرادتها إلى إحداث آثار قانونية وإن رتب القانون عليه آثاراً معينة، لأن مثل هذه الآثار تعتبر وليدة الإرادة  المباشرة للمشرع وليست وليدة إرادة الإدارة.

وبناء على هذه التفرقة بين القرار الإداري والعمل الإداري، يمكننا القول بأن الأمر بالحفظ هو عمل (إجراء) إداري ذو صبغة قضائية (جنائية) وليس قراراً إدارياً.

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للأمر بألا وجه لعدم الأهمية

آثار التكييف القانوني للأمر بألا وجه لعدم الأهمية خلافاً في الفقه، وسوف نعرض في إيجاز للآراء المختلفة لنوضح بعد ذلك رأينا في الموضوع.

الرأي الأول : يرى غالبية الفقه المصري أن للنيابة  العامة أن تأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية وسنده في ذلك أن نص المادة (209) إجراءات جنائية والذي خول النيابة  العامة الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى قد ورد مطلقاً، ولم يحدد أسباب معينة وذلك على خلاف الأمر بألا وجه الصادر عن قاضي التحقيق([23]).

الرأي الثاني :  يرى جانب آخر من الفقه أنه لا يجوز للنيابة العامة أن تأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية وسند هذا الرأي:

   1- أن النيابة العامة تجمع بين سلطتي الاتهام والتحقيق الابتدائي أو حسب تعبير محكمة النقض “لا تزال تجمع بين طرف من السلطة القضائية وآخر من السلطة الإدارية ولذا فهي تحتاج في تصرفها إلى قسط من المرونة”.

2- أن المادة (209) كانت تنص على أنه “إذا رأت النيابة بعد التحقيق أن الواقعة
لا يعاقب عليها القانون أو أن الدلائل غير كافية للاتهام تصدر أمراً بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية” ثم تم تعديلها بالقانون 353 لسنة 1952 فأصبح ينص على “إذا رأت النيابة  العامة بعد التحقيق أن لا وجه لإقامة الدعوى تصدر أمراً بذلك” فأصبح التعديل يؤدي إلى إمكانية استيعاب حالة عدم الأهمية.  وعلى ذلك، بالأمر بأن لا وجه لعدم الأهمية ليس إلا إيقافاً للتحقيق عند مرحلة معينة، ولا يصل إلى حد الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى.  ولا يحول دون إعادة تحريك الدعوى الجنائية، ولا يحوز أي حجية ويرى هذا الجانب من الفقه أن الأمر بأن لا وجه لعدم الأهمية يصدر من النيابة العامة كسلطة اتهام لا كسلطة تحقيق(2).

رأينا في التأصيل القانوني للأمر بألا وجه لعدم الأهمية:

          الحقيقة أن حل المشكلة المتعلقة بالخلاف الفقهي الذي احتد حول التأصيل القانوني للأمر بألا وجه لعدم الأهمية. نقول إن حل هذه المشكلة أبسط بكثير مما يتصور الفقه وهي مشكلة ناتجة عن خلط في الفقه والقضاء بين معنيين مختلفين هما رفع الدعوى وإقامة الدعوى، فالمصطلح الأول يعني عرض الدعوى على قضاء الحكم أما المصطلح الثاني، فهو أعم وأشمل لأنه يعني إما عرضها على قضاء الحكم أو عرضها على قضاء التحقيق. أو غير ذلك.

1-    أنه لو تأملنا نص المادة (72) من الدستور التي تتحدث عن حماية حق المحكوم لصالحه إذا امتنع الموظف العام عن تنفيذ حكم قضائي صادر لصالحه لوجدنا أن الفقرة الأخيرة من المادة تنص على “وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة”.

في حين أن المادة (70) من الدستور تنص على “لا تقام الدعوى الجنائية إلا بأمر من جهة قضائية”.

وواضح تماما أن المشرع الدستوري حين تحدث عن عرض الدعوى على قضاء الحكم في المادة (72) استعمل لفظة “رفع الدعوى”، في حين أنه عندما تحدث عن عرض الدعوى على قضاء التحقيق أو قضاء الحكم استعمل لفظة “إقامة الدعوى”.

2-        إنه إذا تأملنا في نص المادتين (262) ، (265) إجراءات جنائية لوجدنا الآتي:

تنص المادة (262) على أن “إذا ترك المدعي بالحقوق المدنية دعواه المرفوعة أمام المحاكم الجنائية يجوز له أن يرفعها أمام المحاكم المدنية ….”

وتنص المادة (265) على أن “إذا رفعت الدعوى المدنية أمام المحاكم المدنية، يجب وقف الفصل فيها حتى يحكم نهائيا في الدعوى الجنائية المقامة قبل رفعها أو في أثناء السير فيها….”

وبمقارنة النصين نجد أن المشرع في المادة (262) وهو يتحدث عن الدعوى المدنية يصفها بلفظة : “المرفوعة” أما في المادة (265) وهو يتحدث عن الدعوى الجنائية فيصفها بلفظة “المقامة” وعلة ذلك واضحة، فالدعوى المدنية تعرض على قضاء الحكم فهي دعوى مرفوعة، أما الدعوى الجنائية التي يتحدث عنها المشرع في المادة (265) فمن المحتمل أن تكون معروضة على قضاء التحقيق أو دخلت في حوزة قضاء الحكم.

3-    إنه إذا تأملنا في المادتين (68)، (136) من قانون المرافعات لوجدنا أن المشرع استعمل في المادة (68) عبارة “المحكمة المرفوعة إليها الدعوى” في حين أنه في المادة (136) استعمل عبارة “المحكمة المقامة أمامها الدعوى” وهذه المغايرة بين لفظة “المرفوعة” ولفظة “المقامة” لها ما يبررها. ففي المادة (68) يتحدث المشرع عن دعوى معروضة على المحكمة وداخلة في حوزتها، أما في المادة (136) فالمشرع يتحدث عن دعوى موقوفة وغير منظورة أمام المحكمة ومن ثم فهي دعوى مقامة وليست مرفوعة.

وبناء على ما  تقدم فإن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى إنما يعني أمرين في آن واحد

  • الأول  : عدم عرض الدعوى على قضاء الحكم
  • الثاني : عدم عرض الدعوى على قضاء التحقيق

ومن البدهي أن الأمر الأول يصدر من النيابة العامة كسلطة تحقيق، أما الأمر الثاني فيصدر منها كسلطة اتهام.

يؤكد صحة ما نذهب إليه أن قانون الإجراءات الجنائية جعل عنوان الباب الثالث من الكتاب الأول “في التحقيق بمعرفة قاضي التحقيق” في حين جعل عنوان الباب الرابع من نفس الكتاب “في التحقيقات بمعرفة النيابة العامة”، أي أنه في حالة قاضي التحقيق استعمل لفظة “التحقيق” في حين أنه في حالة النيابة العامة استعمل لفظة “التحقيقات”، وهذا يعني أن النيابة العامة تمارس أكثر من نوع من التحقيق، فهناك تحقيق تجريه كسلطة اتهام وتحقيق آخر تجريه كسلطة تحقيق أما قاضي التحقيق فيمارس نوعاً واحداً فقط من التحقيق كسلطة تحقيق.

ويقطع في دلالة ما تقدم أن النيابة العامة حين تندب قاضياً للتحقيق فإنها تندبه للتحقيق مع شخص يكون قد اكتسب بالفعل صفة المتهم قبل مثوله أمام قاضي التحقيق، ولا يتصور أن يكون قد اكتسب هذه الصفة إلا بناء على تحقيق قامت به النيابة العامة أو بناء عل ضبطه متلبساً.

وبناء على ما تقدم، فإننا نرى أن الأمر بألا وجه لعدم الأهمية يصدر من النيابة العامة كسلطة اتهام
لا كسلطة تحقيق وهو بذلك قرار إداري ذو صبغة جنائية لا يحوز حجية شأنه شأن الأمر بالحفظ، على أنه يلاحظ عدة فروق بين خصائص كل منهما، على النحو التالي:

1-    الأمر بالحفظ لا يلزم تسبيبه في حين أن الأمر بألا وجه لعدم الأهمية يجب أن يكون مسبباً صراحة
أو ضمناً.

2-    الأمر بالحفظ يصدره عضو النيابة بمجرد إطلاعه على محضر جمع الاستدلالات أما الأمر بألا وجه لعدم الأهمية فلا يصدر إلا بعد إجراء عضو النيابة قدراً من التحقيق.

3-    الأمر بالحفظ هو إجراء إداري ذو صبغة جنائية أما الأمر بألا وجه لعدم الأهمية فهو قرار إداري ذو صبغة جنائية، ويترتب على ذلك نتيجة عملية مؤداها أن الأمر بالحفظ يجوز إلغاؤه من أي عضو نيابة وفتح باب التحقيق حتى إذا كانت درجة العضو الوظيفية أقل من الدرجة الوظيفية لمصدر الأمر بالحفظ، في حين أن الأمر بألا وجه لعدم الأهمية لا يجوز إلغاؤه إلا من عضو نيابة من نفس درجة مصدره
أو من درجة أعلى منه.

المطلب الثالث: الطبيعة القانونية للأمر بألا وجه لإقامة الدعوى

لا خلاف حلول الطبيعة القانونية للأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فثمة إجماع في الفقه والقضاء على أنه قرار قضائي يحوز حجية ويكاد يجمع الفقه على أنها حجية مؤقتة. إذ تنته بأحد الأسباب الآتية:

1-         إذا ظهرت دلائل جديدة قبل انتهاء المدة المقررة لانقضاء الدعوى الجنائية (المادتان 197، 213) إجراءات.

2-         إذا ألغى من محكمة الجنح المستأنفة أو من محكمة الجنايات (منعقدتين في غرفة المشورة) بحسب الأحوال.

3-         إذا كان القرار صادراً من أحد أعضاء النيابة وألغاه النائب العام في خلال ثلاثة شهور من تاريخ صدوره (المادة 211) إجراءات.

رأي مخالف لإجماع الفقه والقضاء:

نحن من جانبنا نرى أن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى إذا كان صادراً من قاضي التحقيق فهو قرار قضائي خالص، أما إذا كان صادراً من النيابة  العامة فهو قرار قضائي منشوب بالصبغة الإدارية نظراً لتبعية عضو النيابة العامة للسلطة التنفيذية وعدم استقلاله الكامل وذلك على النحو الذي أوردناه تفصيلاً في المبحث التمهيدي.

ولذا نجد أن المشرع قد غاير في المعاملة التشريعية لكل من الأمر بألا وجه الصادر من قاضي التحقيق والآخر الصادر من النيابة العامة في المادتين (197) و (213) فنص في الأولى على “الأمر الصادر من قاضي التحقيق بأن لا وجه لإقامة الدعوى يمنع من العودة إلى التحقيق إلا إذا ظهرت دلائل جديدة قبل انتهاء المدة المقررة لسقوط الدعوى الجنائية.

ونص في المادة (213) على “الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى لا يمنع من العودة إلى التحقيق إلا إذا ظهرت أدلة جديدة طبقاً للمادة 197”.

فالمشرع في حالة قاضي التحقيق استعمل لفظة دلائل أما في حالة النيابة العامة استعمل لفظة أدلة. وعلة هذه المغايرة واضحة فالذي سيقدر نشوء هذه الدلائل الجديدة هو قاضي التحقيق أما في المادة (213) فالذي سيقدر نشوء الأدلة هي النيابة العامة التي تنتمي إلى السلطتين القضائية والتنفيذية.

كما أننا من جانبنا نرفض تماماً القول بأن الأمر بأن لا وجه لإقامة الدعوى يحوز حجية مؤقتة بل إننا نرفض هذا المصطلح أياً كان موضعه في أي فرع من فروع القانون.

وإذا نظرنا إلى الثلاث حالات التي يعتقد الفقه والقضاء أن حجية الأمر بأن لا وجه من الممكن أن تزول بهم.

1-    لو نظرنا إلى الحالة الأولى (المادتين 197 و213) إجراءات، لوجدنا أنه ليس صحيحاً أن الأمر بألا وجه يحوز حجية مؤقتة لأنه يزول إذا ظهرت دلائل أو أدلة جديدة، لأن ظهور هذه الدلائل أو الأدلة يجعلنا بصدد واقعة قانونية جديدة تمثل عنصر سبب جديد ومن ثم فالعودة إلى التحقيق لظهور هذه الأدلة لا يعني أن الأمر بأن لا وجه الذي صدر من قبل كانت له حجية مؤقتة وإنما مرد ذلك إلى أننا أصبحنا بصدد دعوى جديدة تختلف عن الدعوى الأولى.

2-    ولو نظرنا إلى الحالة الثانية (إلغاء الأمر بأن لا وجه من غرفة المشورة) لوجدنا أن الأمر بألا وجه كأي قرار قضائي يصدر من قضاء أول درجة من الممكن إلغاؤه أمام قضاء ثاني درجة ولا يشترط أن يكون ذلك سببه أن الأمر بأن لا وجه يحوز حجية مؤقتة.

3-    أما عن الحالة الثالثة (وهي حالة إلغاء النائب العام للأمر بألا وجه) فسوف نرى في المبحث التالي أن هذا الإلغاء لا يعني أن الأمر بأن لا وجه يحوز حجية مؤقتة.

المبحث الثاني: إلغاء الأمر بالحفظ والأمر بألا وجه

نتناول في هذا المبحث إلغاء الأمر بالحفظ والأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية في مطلب أول لنوضح من منظور دستوري هل يحقق قانون الإجراءات الجنائية حماية قضائية للمدعي بالحق المدني إذا صدر أمر بحفظ الأوراق في جريمة تمثل جناية ولم تقم الجهات الرئاسية لعضو النيابة مُصدر القرار بإلغائه.  أم أننا في هذه الحالة يصدد ما يسميه الفقه الدستوري بالقصور التشريعي أو الإغفال التشريعي نظراً لأن القانون لا يبيح الإدعاء المباشر إلا أمام محاكم الجنح فقط وليس الجنايات.

ثم نتحدث في مطلب ثان عن إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فنركز على الطبيعة القانونية لاختصاص النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى من منظور دستوري والنتائج العملية لذلك.

المطلب الأول: إلغاء الأمر بحفظ الأوراق والأمر بأن لا وجه لعـدم الأهميـة

          بعد أن انتهينا في المبحث السابق إلى أن الطبيعة القانونية للأمر بحفظ الأوراق أنه عمل إداري ذو صبغة قضائية وإلى أن الطبيعة القانونية للأمر بألا وجه لعدم الأهمية أنه قرار إداري ذو صبغة قضائية. وكلاهما يصدران عن النيابة العامة كسلطة اتهام. وهذه الطبيعة الإدارية لكل منهما تجعل كلاً منهما ليس بمنأى عن الرقابة القضائية طبقاً للمادة (68) من الدستور التي تقرر حظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء. فهل أتاح قانون الإجراءات الجنائية بالفعل للمضرور من الجريمة الصادر فيها أمر بالحفظ أو أمر بألا وجه لعدم الأهمية. هل أتاح له فرصة الطعن القضائي، أم لم يتح له ذلك فنكون بصدد ما يسميه الفقه الدستوري بالقصور التشريعي.

موقف الفقه المصري من هذا الموضوع :

  • ذهب رأي فقهي إلى جواز الطعن في أمر الحفظ أمام محكمة القضاء الإداري لأنه أمر إداري وليس أمراً قضائياً([24]). وذهب رأي آخر إلى القول بأنه “إذا كان القانون يخول المدعي حق الطعن في قرار قاضي التحقيق بأن لا وجه لإقامة الدعوى، فإنه يجب أن يكون هذا  الحق من باب أولى في قرار النيابة بحفظ الأوراق، كما أن المدعي المدني رغم تخويله حق رفع دعواه مباشرة في الجنح والمخالفات، قد فقد ضمانة الطعن في قرارات النيابة بالحفظ في الجنايات([25]).
  • وذهب رأي إلى أنه لا يترتب على عدم جواز الطعن في أمر الحفظ ضرر بالمجني عليه إذا كانت الجريمة جنحة أو مخالفة، إذ يجوز غالباً طرق سبيل الادعاء المباشر فيها، ولكن الضرر يكون جسيما إذا كانت الجريمة جناية حيث لا يجوز الادعاء المباشر([26]).
  • وذهب رأي آخر إلى أن عدم إباحة الطعن في أمر الحفظ الصادر من النيابة العامة في جناية هو قصور في التشريع ، ولكنه محدود الأثر من الوجهة العملية ، لأنه من المستبعد عملاً أن تعمد النيابة العامة إلى حفظ الجناية بناء على محضر جمع الاستدلالات ، دون أن يقتضي الأمر منها تحقيقاً بالمعنى الضيق، وإذا أريد صرف النظر عن الدعوى بعد هذا التحقيق فلا يكون ذلك الإ أمراً بأن لا وجه لإقامة الدعوى وهو ما يجوز للمدعي بالحق المدني الطعن فيه بالاستئناف([27]).

رأينا في هذه المسألة :      

          نحن من جانبنا نرى أن المشرع أتاح بالفعل للمدعي بالحق المدني فرصة الطعن القضائي على الأمر بحفظ الأوراق، سواء تعلقت الجريمة بجنحة أم بجناية، وليس في حالة الجنحة فقط كما يعتقد الكثيرون. وآية ذلك أن المادة (305) إجراءات جنائية التي تنص على “إذا تبين للمحكمة الجزئية أن الواقعة جناية أو أنها جنحة من الجنح التي تقع بواسطة الصحف أو غيرها من طرق النشر على غير الأفراد، تحكم بعدم اختصاصها وتحيلها إلى النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم فيها”

          هذا النص استعمل فيه المشرع لفظة “تبين” وورد في الفصل التاسع من الباب الثاني المتعلق بالحكم في الدعوى الجنائية “هذه  اللفظة” تعني أن المحكمة قامت بالفعل بالتحقيق في الدعوى وفحص أدلة الثبوت والنفي ضد المتهم، ثم اتضح لها أن القضية متعلقة بجناية لا بجنحة، فكان لزاما عليها أن تحيلها إلى النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم فيها، وهذا يعني أنه لا يتصور ًأن تقوم النيابة العامة بحفظ أوراق القضية دون تحقيق قضائي بعد أن تبين لقضاء الحكم بالفعل أن الواقعة جناية، وهذا يعني أن عبارة “لاتخاذ ما يلزم” قصد بها المشرع أمرين لا ثالث لهما، أولاً: أن تتولى النيابة العامة التحقيق في الواقعة بنفسها أو أن تندب لذلك قاضيا للتحقيق.

          ومفاد ما تقدم أن المشرع أتاح للمدعي بالحق المدني حق اللجوء إلى محكمة الجنح، سواء تعلقت الواقعة بجنحة  أم بجناية ، يؤكد صحة ما نذهب إليه أن النيابة العامة حين تصدر أمراً بحفظ الأوراق فإنها لا تحدد في الأمر بالحفظ إن كانت الجريمة تمثل جنحة أم جناية ، فمثلاً حين تصدر النيابة العامة أمراً بحفظ الأوراق لعدم الجريمة ، فإن مثل هذا الأمر لا يفيد إن كانت الجريمة جنحة أم جناية.

          وهكذا نرى أنه ليس ثمة قصور تشريعي على الإطلاق وأن المشرع الجنائي حقق للمدعي المدني حماية قضائية كاملة عملاً بالمادة (68) من الدستور، إذا صدر أمر بحفظ الأوراق في الجريمة سواء تعلقت الجريمة بجناية أم بجنحة.

          ومن البدهي أن الأمر بألا وجه لعدم الأهمية نظراً لأنه لا يصدر إلا في جنحة فهو خاضع لرقابة محاكم الجنح عن طريق الإدعاء المباشر أمامها.

المطلب الثاني: إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى

يلغى الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى إما بواسطة محكمة الجنايات أو الجنح منعقدة في غرفة المشورة وذلك بناء على طعن من المدعي بالحقوق المدنية وذلك طبقاً للمادة (210) إجراءات، وإما بواسطة النائب العام طبقاً للمادة (211) إجراءات. وسوف نتناول الحالة  الأخيرة فقط في هذا المطلب ثم نتناول في المبحث القادم الحالة الأولى لنوضح ما بها من مسائل دستورية.

المادة (211) إجراءات جنائية :

تنص المادة (211) على “للنائب العام أن يلغي الأمر المذكور في مدة الثلاثة أشهر التالية لصدوره ما لم يكن قد صدر قرار من محكمة الجنايات أو من محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة المشورة بحسب الأحوال برفض الطعن المرفوع في هذا الأمر”

والسؤال الذي يطرح نفسه – هنا – ما هي الطبيعة القانونية لاختصاص النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى؟

يكاد يجمع الفقه والقضاء على أن اختصاص النائب العام– هنا – هو اختصاص قضائي، والصحيح – عندنا – أنه ليس اختصاصً قضائياً ولكنه اختصاص ولائي فقط Jurisdiction gracious   وسوف نعرض فيما يلي لأسباب ذلك من منظور قانوني وأيضاً من منظور دستوري.

1- من منظور قانوني :

          أن المشرع ناط بغرفة المشورة في المادة (210) إجراءات بالاختصاص القضائي بإلغاء الأمر بألا وجه كدرجة ثانية لقضاء التحقيق. ولا يتصور أن يمنح المشرع هذا الاختصاص القضائي لأكثر من جهة يؤكد هذا النظر ويعززه أن النائب العام تغل يده عن إلغاء الأمر بألا وجه إذا صدر قرار من غرفة المشورة برفض الطعن المرفوع في هذا الأمر طبقاً لنص المادة (210) إجراءات.

2- من منظور دستوري :

1-  أن عضو النيابة العامة يصدر الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى كتصرف في التحقيق الذي باشره كقاض تحقيق بصفته أصيلاً يستمد سلطته من القانون مباشرة لا من وكالته عن النائب العام، كما هو الحال عند مباشرته لسلطة الاتهام، وفي ذلك إعمال صحيح لمبدأ دستوري هو مبدأ الفصل بين السلطات (أي سلطتي الاتهام والتحقيق).

2-  إن مباشرة النائب العام لاختصاصه بإلغاء الأمر بألا وجه عمل لا يحقق للمتهم ضمانة الدفاع المنصوص عليها في المادة (69) من الدستور من خلال ضرورة تحقق مبدأ المواجهة بين الخصوم، فالنائب العام يباشر – عادة – هذا الاختصاص، بناء على عريضة تقدم له من المجني عليه أو المدعي بالحق المدني شارحاً فيها أوجه القصور في تحقيقات النيابة العامة، ولم يوجب القانون على النائب العام دعوة المتهم لإبداء دفاعه قبل إلغاء الأمر بألا وجه الذي يحوز حجية لصالحه، فلو كان مباشرة النائب العام لهذا الاختصاص عملاً قضائياً لسقط نص المادة (211) إجراءات في حومة المخالفة الدستورية، لمخالفته للمادة (69) من الدستور.

       ولقد اضطردت أحكام المحكمة الدستورية العليا على “أن القرار الذي يصدر عن جهة خولها المشرع ولاية الفصل في نزاع معين، لا يكون قراراً قضائياً، إذا كانت ضمانة  الدفاع غائبة عن النصوص القانونية التي تنظم هذه الولاية، وتبين حدودها”.*

3-  استعمل المشرع في المادة (211) لام الملكية وهو يمنح النائب العام سلطة تقديرية في مباشرة هذا الاختصاص، فربما شغلته اختصاصاته القضائية عن مباشرة هذا العمل الولائي.

       وأسمع صيحات الاحتجاج تتعالى وتقول إن لام الملكية – هنا – تمنح النائب العام السلطة في إلغاء الأمر بألا وجه أو عدم إلغائه ولا تعني السلطة التقديرية في نظر الطلب بإلغاء الأمر بألا وجه من عدمه، فالنائب العام ملزم بالبحث فيما يقدم له من طلبات بإلغاء الأمر بألا وجه، ليقرر بعد ذلك إلغاءه من عدمه وإلا كنا بصدد حالة إنكار عدالة من النائب العام.

       وهذا القول مردود عليه: بأنه لو قصد المشرع إلزام النائب العام بالفصل في طلبات إلغاء الأمر بألا وجه لقام المشرع بتحديد ميعاد المطالبة القضائية الذي يلتزم به الأشخاص لتقديم هذا الطلب إلى النائب العام، كما فعل – مثلاً – في المادة (210)، حين قرر أن للمدعي بالحقوق المدنية الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، وحدد ميعاد المطالبة القضائية بعشرة أيام من تاريخ إعلان المدعي بالحق المدني بالأمر ولكن المشرع في المادة (211) قرر الميعاد الذي يقوم فيه النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه وهو الثلاثة أشهر التالية لصدوره، فلو افترضنا أن أحد الأشخاص قدم هذا الطلب للنائب العام قبل انقضاء مدة الثلاثة أشهر بيوم واحد فقط أو يومين، فهل يسوغ القول بالتزام النائب العام بالفصل في هذا الطلب؟؟

       وهل يسوغ القول بأن النائب العام منكراً للعدالة لإغفاله البحث في هذا الطلب؟!

4-  إن استعمال المشرع لام الملكية وهو يخول النائب العام هذا الاختصاص يعني أن له القيام بهذا العمل حتى لو لم يقدم له طلب من الأشخاص، فهناك بعض الجرائم يكون الاعتداء فيها على المصلحة العامة للمجتمع، دون أن يكون ثمة مجني عليه أو مضرور مباشر ومحدد من الجريمة مثل جرائم المخدرات، ففي هذه الجرائم يقوم النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه دون تقديم طلب من الأشخاص، فلو كان اختصاص النائب العام اختصاصاً قضائياً لما أمكنه إلغاء الأمر بألا وجه في مثل هذه الجرائم إعمالاً للقاعدة العامة التي تقضي بأن القاضي لا يقضي بغير طلب أي مبدأ حياد القاضي وهو من الضمانات الأساسية لحق التقاضي، ولسقط النص في حومة المخالفة الدستورية للمادة (68) من الدستور.

النتائج العملية المترتبة على الاختلاف في التأصيل العلمي لاختصاص النائب العام في المادة (211) إجراءات:

1-   أن النائب العام غير ملزم قانوناً أن ينظر ما يعرض عليه من طلبات بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، فهو ليس جهة طعن على  القرار كغرفة المشورة.

2-   لا يجوز للنائب العام إلغاء الأمر بألا وجه إقامة الدعوى، إذا كان صادراً من النائب العام المساعد أو المحامي العام الأول، كما ورد بالفعل بالعديد من كتب الفقه ولكن دون ذكر السبب، والسبب –عندنا – أن هؤلاء على نفس مستوى النائب العام من الخبرة القانونية، والعمل الولائي من قاض إلى آخر، لا يكون من قاض إلى قاض أقل منه خبرة.

3-   لا يجوز للنائب العام إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، إذا كان منعدماً، وعلة ذلك أن القرار القضائي المنعدم يعني أن ثمة خطأً جسيماً وقع فيه عضو النيابة العامة، والخطأ الجسيم لا يتصور أن يكون محلاً ينصب عليه القرار الولائي، لأن العمل الولائي – في هذه الحالة – ينطوي على نقد وتجريح وهو أمر يأباه طبيعة العمل الولائي، كما يأباه أيضاً انتفاء الصفة الرئاسية للنائب العام تجاه عضو ا لنيابة وهو يباشر سلطة التحقيق.

4-   أن ميعاد الثلاثة أشهر المنصوص عليه في المادة (211) إجراءات، ليس ميعاد سقوط،
كما ورد بكتب الفقه، لكنه ميعاد تنظيمي فقط وذلك طبقاً لكل من قواعد التفسير اللغوي أو قواعد التفسير المنطقي.

أ‌.    فبالنسبة لقواعد التفسير اللغوي:  فالمشرع يقصد الثلاثة أشهر التالية لشهر صدوره وليس ليوم صدوره، كما يعتقد الفقه والقضاء، فالصفة تتبع الموصوف.

يؤيد صحة ذلك، أن نفس الصياغة تقريباً وردت في المادة (543) في الباب التاسع الخاص برد الاعتبار، وغنى عن البيان، أن الميعاد المذكور في هذه المادة، لا يتصور إلا إن يكون ميعاداً تنظيمياً وليس ميعاد سقوط، فقد وردت عبارة “في الثلاثة أشهر التالية”.

وإذا كان المشرع قد أضاف على هذه الصياغة لفظة “مدة” في المادة (211) إجراءات فهذا ليقرب هذا الميعاد من ميعاد السقوط أو بتعبير أدق أراد المشرع في المادة (211) إجراءات أن يلزم النائب العام بهذا الميعاد، لكنه – فقط – التزام أدبي وليس التزاماً قانونياً وكأن المشرع يريد أن يقول، أنه بالرغم من أن هذا الميعاد هو ميعاد تنظيمي وليس ميعاد سقوط، فعلى النائب العام، بقدر الإمكان أن يلتزم بهذه المدة، حتى يستقر المركز القانوني للمتهم، فلا يظل قلقاً ومضطرباً.

ب‌.  بالنسبة لقواعد التفسير المنطقي:  أن القرار الولائي الصادر من النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لن يرتب أثراً قانونياً بمفرده، وإنما سوف يرتد مرة أخرى إلى مصدر الأمر بألا وجه ليعمل هو آثاره في مواجهة الخصوم.

وفي حكم حديث لمحكمة النقض، أبقت المحكمة على أمر بألا وجه لإقامة الدعوى لأن النائب العام ألغاه بعد فوات ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من صدوره، أي أنها ألغت قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه، لأنه صدر بعد الميعاد المنصوص عليه في المادة (211). وفي هذا  الحكم يظهر بوضوح التباين في الرأي بين محكمة النقض والنائب العام بالنسبة لميعاد الثلاثة أشهر فالنائب العام يرى أن هذا الميعاد هو ميعاد تنظيمي بينما ترى محكمة النقض أنه ميعاد سقوط.*

5-   القرار الصادر من النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى طبقاً للمادة (211) إجراءات، هذا  القرار يرتد إلى النيابة التي أصدرته لتعمل – هي – آثاره، في مواجهة المتهم، وهي بين خيارين:

أ – إما أن توافق على قرار النائب العام فيتحول القرار الولائي الصادر من النائب العام إلى قرار قضائي فيتحقق بذلك الإلغاء الفعلي للقرار، وليس صحيحاً أن إلغاء الأمر بألا وجه قد تم لأنه عند صدوره كان حائزاً لحجية مؤقته – كما يذهب إلى ذلك الفقه والقضاء – ولكن إلغاء الأمر بألا وجه قد تم بناء على فكرة قانونية أخرى هي مبدأ عدم استنفاد القاضي سلطته فيما فصل فيه. فالأمر بألا وجه صدر حائزاً لحجية شأنها شأن الحجية التي يحوزها أي حكم قضائي يؤكد صحة ما نذهب إليه، أنه خلال الفترة الزمنية ما بين صدور قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه، وموافقة مصدر القرار على قرار النائب العام.

خلال هذه الفترة الزمنية يمتنع على أي نيابة أخرى التحقيق في نفس الدعوى التي صدر فيها الأمر بألا وجه، وإن هي فعلت، فاللمتهم، أن يرفع الدعوى بعدم جواز نظرها لسبق الفصل فيها بقرار بألا وجه لإقامة الدعوى حائزاً للحجية، وذلك بالرغم من صدور قرار النائب العام بإلغاء الأمر بألا وجه طبقاً للمادة (211) إجراءات.

وهذا يؤكد ما سبق أن قلناه في المبحث السابق من أن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى هو قرار قضائي يحوز الحجية. وليس ثمة ما يسمى حجية مؤقتة.

المبحث الثالث: إلغاء الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى

أمام غرفة  المشورة

تنص المادة (210) إجراءات على “للمدعي بالحقوق المدنية الطعن في الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى إلا إذا كان صادراً في تهمة موجهة ضد موظف أو مستخدم عام أو أحد رجال الضبط لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة (123) من قانون العقوبات.

ويحصل الطعن بتقرير في قلم الكتاب في ميعاد عشرة أيام من تاريخ إعلان المدعي بالحق المدني بالأمر ويرفع الطعن إلى محكمة الجنايات منعقدة في غرفة المشورة في مواد الجنايات وإلى محكمة الجنح المستأنفة منعقدة في غرفة  المشورة في مواد الجنح والمخالفات. ويتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن استئناف الأوامر الصادرة من قاض التحقيق”.

وثمة تساؤلات طرحت نفسها، وتساؤل لا يزال يطرح نفسه بالنسبة لمدى دستورية فقرات هذا النص.

أما عن التساؤلات التي طرحت نفسها، فقد عرضت بالفعل على المحكمة الدستورية العليا وقالت فيها كلمتها، وبقى تساؤل لم يطرح بعد.

    والمسائل الدستورية التي طرحت على المحكمة الدستورية لتقضي في مدى دستوريتها هي:

1-  حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين أو المستخدمين العامين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها.

2-     حرمان المتهم من الطعن على الأمر بألا وجه لعدم الأهمية بما يعد قصوراً تشريعياً.

3-     حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى بما يعد قصوراً تشريعياً.

أما المسألة الدستورية التي لم تطرح بعد على المحكمة الدستورية، فهي مدى دستورية الفقرة  الأخيرة من المادة (210) إجراءات التي تقرر أن الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن استئناف الأوامر الصادرة من قاضي التحقيق، وذلك بعد ربطها بالفقرة الأخيرة من المادة (167) إجراءات التي تقرر أن تكون القرارات الصادرة من غرفة  المشورة في جميع الأحوال نهائية وبعبارة أخرى، ما مدى دستورية القاعدة القانونية التي لا تجيز الطعن بالنقض في القرار الصادر من غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى؟

وسوف نتناول هذه المسائل في أربعة مطالب:

المطلب الأول:

حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين أو  المستخدمين العامين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها:

      تعرضت المحكمة الدستورية بالفعل لهذه المسألة الدستورية، حين طعن المدعي الدستوري بعدم دستورية نص الفقرة الأولى من المادة (210) إجراءات، فيما تضمنه من عدم تخويل المدعي بالحقوق المدنية حق الطعن في أمر النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة  الدعوى الجنائية الصادر في تهمة موجهة إلى موظف أو مستخدم عام لجريمة وقعت منه أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، ما لم تكن من الجرائم المشار إليها في المادة (123) عقوبات.

          وأسس المدعي الدستوري دعواه على مخالفة هذا النص لمبدأ المساواة أمام القانون لأنه يمنح الموظفين العموميين حصانة غير مقررة بالنسبة إلى غيرهم من المواطنين. ومخالفة النص كذلك للمادة (3) من الدستور التي تعقد السيادة للشعب وحده، والمادة (64) من الدستور التي تنص على أن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، والمادة (65) التي تقرر خضوع الدولة للقانون كما أن النص حصن قراراً صدر عن النيابة العامة من رقابة القضاء بالمخالفة للمادة (68) من الدستور.

قضاء المحكمة الدستورية العليا :

          قضت المحكمة برفض الطعن الدستوري، وأسست قضاءها على أن النص في المادة (210/أ) إجراءات جنائية على حظر طعن المدعي بالحقوق المدنية في قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية في تهمة موجهة إلى أحد الموظفين لجريمة وقعت منه أثناء تأديته لوظيفته أو بسببها – المطعون عليها – لا يتضمن تمييز بعض المتهمين على بعض، وإنما تحقيق غاية بعينها تتمثل في صون الآداء الأفضل للوظيفة العامة من خلال توفير ضمانة لازمة تكفل لمن يقوم بأعبائها أن يوزن ا لاتهام الموجه إليه بمقاييس دقيقة لا يكون معها العمل العام موطئاً لشهوة التشهير بسمعته أو الازدراء بقدره دون أدلة كافية تظاهر الاتهام وترجحه بما لا مخالفة فيه لمبدأ المساواة أمام القانون.

      وأضافت المحكمة بأن نعي المدعي على النص المطعون عليه بمخالفته للمواد (3)، (64)، (65) من الدستور مردود عليه ، بأن الأصل في النصوص الدستورية أن المعاني التي تتولد عنها يتعين أن تكون مترابطة فيما بينها بما يرد عنها التناقض، وكان الدستور بعد أن نص في المادة (3) على أن السيادة للشعب وحده ، ضمن أن تكون ممارستها وحمايتها على الوجه المبين في الدستور، وكان الدستور قد خول المحكوم له الحق في الادعاء المباشر في حالة بذاتها هي جريمة الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية الواردة في المادة (72) منه، وفوض المشرع فيما عداها – وعلى ما تنص عليه المادة 70 – لتحديد الأحوال التي تقام فيها الدعوى الجنائية عن غير طريق الجهة القضائية، ويندرج تحتها الحق في الإدعاء المباشر، وكان المشرع في إطار هذا التفويض قد استبعد من نطاق الإدعاء المباشر أي جناية  أو جنحة يكون الاتهام بارتكابها أثناء تأدية الوظيفة العامة أو بسببها موجهاً إلى أحد الموظفين العامين، وذلك لضمان الأداء الأفضل للوظيفة العامة. وكان النص التشريعي المطعون عليه متعلقاً بجرائم الوظيفة العامة واقعاً في إطارها، مستلهما الاعتبارات عينها التي قرر المشرع من أجلها استبعاد الإدعاء المباشر في مجال الجرائم الوظيفية وكان حظر الطعن متعلقاً بقرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية صدر عن النيابة العامة على ضوء تحقيقاتها، وكان هذا القرار قضائياً بمعنى الكلمة، فإن حظر الطعن فيه يدخل في نطاق السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق، بما لا مخالفة فيه لأحكام المواد 3، 64، 65 من الدستور.

          وأضافت المحكمة: وحيث إن المدعي ينعى على النص التشريعي المطعون عليه إخلاله بالحق في التقاضي إذ منع المضرور من الجريمة التي ارتكبها موظف أو مستخدم عام أثناء تأدية وظيفته أو بسببها، من اللجوء إلى قاضيه الطبيعي لطلب التعويض من المسئول عن الفعل الضار، فضلاً عن القصاص منه.

          وحيث إن هذا النعى مردود، ذلك أن المشرع وإن خول من لحقه ضرر من الجريمة أن يدعى بحقوق مدنية أثناء إجراء التحقيق، إلا أن اللجوء إلى القضاء الجنائي للفصل في الحقوق المدنية لا يعدو أن يكون استثناء من أصل اختصاص القضاء المدني بنظر الدعوى المتعلقة بها، بما مؤداه أن الأصل هو أن يكون الفصل في الدعوى المدنية بيد هذا القضاء بوصفه قاضيها الطبيعي. ومن ثم لا يكون النص التشريعي المطعون عليه قد حال دون لجوء المدعي بالحقوق المدنية إلى قاضيه الطبيعي.

          وأضافت المحكمة: بأن ما ينعاه المدعي على النص التشريعي المطعون عليه من أنه حصن قراراً صدر عن النيابة العامة بالمخالفة للمادة (68) من الدستور، مردود بأن ما قررته هذه المادة من عدم جواز النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، لا ينسحب إلى القرارات القضائية ويندرج تحتها الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى، إذ يعتبر قراراً قضائياً بمعنى الكلمة*.

رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا:

أولاً  :  نحن من جانبنا، لا نؤيد هذا القضاء، ونرى أن النص التشريعي المطعون عليه يمثل مخالفة دستورية من عدة وجوه. ونحن نعترض بشدة على القول بأن النص التشريعي لم يمنع المدعي بالحقوق المدنية من اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، لأن القضاء المدني هو صاحب الاختصاص الأصيل بنظر الدعوى المدنية وأن اختصاص القضاء الجنائي هو اختصاص استثنائي، لأن هذه المقولة إن كانت تصدق بالنسبة للدعاوي المدنية الناشئة عن بعض الجرائم، فهي لا تصدق بالنسبة لبعضها الآخر وعلة ذلك، أنه إذا كانت أركان المسئولية المدنية هي الخطأ والضرر وعلاقة السببية، وكانت الجريمة بأركانها الثلاثة المادي والمعنوي وعلاقة السببية تمثل ركن الخطأ في الدعوى المدنية التبعية للدعوى الجنائية، فإنه في كثير من الحالات يتعذر إثبات هذا الخطأ بوسائل القانون المدني وإنما يكون القاضي الجنائي هو الأقدر على إثباته بوسائل القانون الجنائي، ومن ثم يكون هذا القاضي – في هذه الحالات – قاضياً طبيعياً للدعوى المدنية الناشئة عن الجريمة إلى جانب القاضي المدني، يؤكد هذا النظر ويعززه، أن القاضي المدني يرتبط بالحكم الجنائي بالنسبة للوقائع التي فصل فيها هذا الحكم، وكان فصله فيها ضرورياً، وذلك طبقاً للمادة (102) من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية وطبقاً لنص المادة (456) إجراءات جنائية، في حين أن القاضي الجنائي لا يرتبط بما يصدر عن القاضي المدني من أحكام.

ثانياً :  إن قصر التقاضي في المسائل التي فصل فيها على درجة واحدة، وإن كان يدخل في إطار السلطة التقديرية للمشرع، إلا أن ذلك مشروط بأن يكون القرار القضائي الصادر في الدرجة الواحدة صادراً من هيئة قضائية أي من محكمة، وليس صادراً من النيابة العامة، لأن مثل هذا القرار لا يعد قراراً قضائياً نقياً على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي, ومن ثم يجب أن يظل خاضعا لرقابة القضاء، وذلك ليس إعمالاً للمادة (68) من الدستور، لأننا لسنا بصدد قرار إداري، ولكن إعمالاً لنص المادة (165) من الدستور التي تقرر أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم، ومن ثم فإن القرار القضائي الذي يشوبه أي قدر من الصبغة الإدارية، يوجب على المشرع أن يفتح طريق الطعن فيه أمام المحاكم ليكتسب الصفة القضائية كاملة بتأييد المحكمة له إن كان قد صدر صحيحاً خالياً من أي عيب يبطله.

يؤكد صحة ما نذهب إليه أن المشرع الجنائي قد غاير في المعاملة التشريعية بين القرار الصادر من النيابة العامة برفض الإدعاء المدني ممن لحقه ضرر من الجريمة والقرار الصادر بذلك من قاضي التحقيق فأجاز للمدعي المدني الطعن في القرار الأول أمام غرفة المشورة حتى وإن كان المتهم (المدعي عليه) موظفاً عاماً، في حين حصن القرار الثاني، فجعله قراراً نهائياً غير قابل للطعن فيه. ولا شك أن هذه المغايرة في المعاملة التشريعية، تؤكد أن ثمة اختلاف في الطبيعة  القانونية لكل من القرارين، فالقرار الأول هو قرار قضائي ذو صبغة إدارية، أما الثاني، فهو قرار قضائي نقي. والقول بغير ذلك يعني أننا بصدد مخالفة دستورية للإخلال بمبدأ المساواة بين فئتين من المدعين بالحقوق المدنية تماثلت مراكزهما القانونية بالنسبة لحق التقاضي.

أي أن إسناد المشرع سلطة  التحقيق للنيابة العامة لا تجعل من عضو النيابة قاضياً. فعضو النيابة يستمد صفته من المركز القانوني للنيابة العامة في النظام الدستوري المصري، وعدم تحررها الكامل من التبعية للسلطة التنفيذية، وذلك على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي.

ثالثا :  إن المشرع في المادة (199 مكرراً) يجيز “لمن لحقه ضرر من الجريمة” الذي رفض طلبه بالإدعاء المدني أمام النيابة العامة، أن يطعن على قرار النيابة أمام غرفة المشورة، ويمنحه بذلك حماية قضائية على درجتين، مع أن المكتسب لصفة “لحقه ضرر من الجريمة” هو المضرور من الجريمة، ولكن ليس طبقاً للمجرى العادي للأمور، على النحو الذي أوضحناه في المبحث التمهيدي، لأن المكتسب لصفة “يدعي حصول ضرر” يكون قد اكتسب صفة المدعي المدني أمام سلطة الاتهام، ويكون قرار سلطة التحقيق بقبوله في التحقيق بهذه الصفة هو مجرد قرار كاشف وليس قراراً منشئاً، فكيف يسوغ القول أن يمنح المشرع “من لحقه ضرر من الجريمة” حماية قضائية كاملة، في حين أن المجني علين المضرور من الجريمة يحول المشرع بينه وبين الطعن على قرار النيابة العامة بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة، مع أنه الأحق بالحماية القضائية، لأن الضرر الذي أصابه ضرر مباشر وضرر مادي ونفسي معاً وهذا يعني إخلالاً بمبدأ المساواة بين اثنين من المتقاضين بتسوىء مركز المتقاضي الأحق بالحماية  القضائية عن نظيره الذي يحتاج إلى درجة أقل من هذه الحماية.

رابعاً:   إن المشرع يخول النائب العام اختصاصاً ولائياً بإلغاء الأمر بألا وجه الصادر من النيابة العامة طبقاً للمادة (211) إجراءات، وفي هذا النص إقرار ضمني من المشرع بوقوع قصور في تحقيقات أعضاء النيابة العامة، سواء من ناحية  الواقع أو القانون، فإذا لم يقم النائب العام بمباشرة هذا الاختصاص الولائي نتيجة لانشغاله بأعماله القضائية الأخرى. ألا يعني هذا أن ثمة قرارات قضائية سوف تصدر من أعضاء النيابة  العامة مشوبة بقصور في التحقيقات وسوف تتحصن لحظر القانون الطعن عليها من المدعي المدني أمام غرفة المشورة، الأمر الذي يعد انتقاصاً من حق التقاضي وإخلالاً بحق الدفاع أي مخالفة دستورية للمادتين (68)، (69) من الدستور.

المطلب الثاني

حرمان المتهم من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية طبقا للمادة (210) إجراءات

عرضت هذه المسألة على المحكمة الدستورية، حين طعن المدعي الدستوري بعدم دستورية نص الفقرة الأولى التي تقصر حق الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية على المدعي بالحقوق المدنية دون المتهم، قد أخلت بمبدأى تكافؤ الفرص والمساواة، فضلاً عن إخلالهما بحق المتهم في محاكمة عادلة وإهداره لحق الدفاع.

قضاء المحكمة الدستورية العليا:

حكمت المحكمة بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة (210) إجراءات جنائية فيما تضمنته من قصر الحق في الطعن على الأمر الصادر من النيابة العامة بأن لا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية، على المدعي بالحقوق المدنية دون المتهم..

وأسست المحكمة قضاءها على “أن المدعي بالحق المدني والمتهم طرفان في خصومة جنائية واحدة بما يعد معه الاثنان في مركز قانوني متماثل في هذا المقام، فإذا اختص النص المطعون فيه المدعي بالحق المدني بحق الطعن على القرار بألا وجه، وحرم منه المتهم، كان ذلك إهداراً لمبدأ المساواة بما يناقض نص المادة (40) من الدستور. ومن ناحية أخرى، فإن حرمان المتهم من الطعن على القرار بألا وجه لعدم الأهمية يصادر حقه الدستوري في المثول أمام قاضيه الطبيعي ويهدر حقه في التقاضي لنيل الترضية القضائية المنصفة، ذلك أن القرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم الأهمية، فضلاً عن أنه لا يبرئ ساحة المتهم – على خلاف الحكم القضائي البات – كما لا يمنع صدور هذا الأمر النيابة العامة من العودة إلى التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة قبل انقضاء المدة المقررة لسقوط الدعوى الجنائية طبقاً لنص المادة (197) إجراءات. ومؤدى ما تقدم أن مصادرة حق المدعي في الطعن على القرار بألا وجه لعدم الأهمية من شأنه أن يجعل – في حالات معينة – مهدداً بإلغائه وإعادة التحقيق معه في أي وقت بما ينطوي على  تغيير واقعي – وليس مجرد تغير نظري – في المركز القانوني للمدعي يفقد في ظله ضمانات الدفاع عن نفسه، ويعجز عن الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، فضلاً عن أن المتهم من حقه أن يناضل في سبيل إبراء ساحته والدفاع عن سمعته واعتباره. وسبيله في ذلك ووسيلته محاكمة عادلة يصدر فيها حكم قضائي نهائي بذلك، ومن ثم فإن النص المطعون عليه يخالف نصوص المواد 64، 65، 67، 68، 165 من الدستور*.

رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا :

نحن من جانبنا ننتقد بشدة هذا القضاء للأسباب الآتية:

أولاً  :  أن الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى لعدم الأهمية – كما أوضحنا في المبحث الأول – هو قرار يغلب عليه الطابع الإداري وليس قراراً قضائياً، ويصدر عن النيابة العامة كسلطة اتهام لا كسلطة تحقيق، ومن ثم لا يجوز الطعن عليه أمام غرفة المشورة لا من المدعي بالحقوق المدنية ولا من المتهم، وإلا كان بمثابة تدخل من سلطة التحقيق في اختصاص سلطة الاتهام.

ثانياً  :    أن طعن المتهم على الأمر بألا وجه لعدم الأهمية يجعل من الدعوى الجنائية دعوى تحفظية بما يخرجها عن أهدافها الأصلية التي تتمثل في تحقيق الردع العام والردع الخاص لحماية أمن المجتمع.

ثالثاً  :    أنه إذا صدر الأمر بألا وجه لعدم الأهمية من النيابة العامة لصالح أكثر من متهم في دعوى واحدة فإن طعن أحدهم على هذا القرار أمام غرفة المشورة، سيؤدي إلى نتيجة شاذة وغير منطقية وهو أن إلغاء غرفة المشورة لهذا القرار قد يؤدي إلى الإضرار بالمركز القانوني لمتهم آخر لم تكن لديه الرغبة في هذا الطعن لأن إلغاء الأمر بألا وجه سوف يؤدي إلى إعادة التحقيق معه، أي تسوئ مركزه القانوني. وهذا يعني أن المتهم الطاعن أمام غرفة المشورة، سوف يختصم في طعنه هذا متهم آخر أو أكثر، وليس فقط المدعي بالحق المدني، وهي نتيجة شاذة وغير منطقية.

المطلب الثالث

حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى

          عرضت هذه المسألة الدستورية على المحكمة الدستورية حين طعن المدعي الدستوري أمامها بعدم دستورية نص المادة (210) إجراءات الذي قصر الحق في الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة على المدعي بالحقوق المدنية دون المجني عليه الذي لم يدع مدنياً.

          وأسس المدعي الدستورية دعواه على أن نص المادة (210) إجراءات جنائية المطعون عليه، فيه إخلال بمبدأ تكافؤ الفرص وعدوان على سيادة القانون، وإهدار لمبدأ المساواة وحق التقاضي بالمخالفة لنصوص المواد 8، 40، 64، 65، 67، 68 من الدستور.

          وقضت المحكمة الدستورية برفض الدعوى، وأسست قضاءها على أن المشرع إذ قصر – بالنص المطعون عليه – الحق في الطعن على الأوامر بأن لا وجه لإقامة الدعوى الصادرة من النيابة العامة على المدعي بالحقوق المدنية دون المجني عليه الذي لم يدع مدنياً . فذلك مرده إلى اختلاف المركز القانوني لكل منهما باعتبار أن الأول هو الشخص الذي أضير من الجريمة. وأراد أن يباشر حقه المدني بنفسه إلى جانب الحق الجنائي  الذي تمثله وتباشره النيابة  العامة . أما الثاني، فإنه – وإن كان قد أضير كذلك – إلا أنه ترك الأمر للنيابة العامة باعتبارها ممثلة للمجتمع فلم يدع مدنياً، وكان متاحاً له ذلك فأسقط بنفسه الحق الذي كان يمنحه له القانون. فضلاً عن أن المشرع لم يسلب المجني عليه الذي لم يدع مدنياً حق الاعتراض على الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى. ومنحه حق التظلم إلى الجهات الرئاسية بالنيابة  العامة. كما منح النائب العام سلطة إصدار قرار قضائي بإلغاء الأمر خلال مدة الثلاثة أشهر التالية لإصداره ومن ثم فإن النص المطعون عليه لا يكون قد انطوى على مخالفة لمبدأ المساواة أو إخلال بمبدأ سيادة القانون أو إهدار لحق التقاضي أو مصادرة لحق الدفاع*.

رأي مخالف لقضاء المحكمة الدستورية العليا:

          نحن من جانبنا لا نؤيد هذا القضاء ونرى أن حرمان المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من الطعن على الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يمثل حالة من الحالات التي يسميها الفقه الدستوري بالقصور التشريعي
أو الإغفال التشريعي وفي هذا الإغفال التشريعي مخالفة دستورية للمادة (68)، (69) من الدستور، لأن فيه انتقاص من حق التقاضي وإخلال بحق الدفاع.  فليس صحيحاً ما ذهبت إليه المحكمة الدستورية في حكمها من أن المجني عليه الذي لم يدع مدنياً أسقط بنفسه الحق الذي كان يمنحه له القانون لأن التنازل عن الحق لا يفترض ولا يتصور أن يسقط حق المجني عليه في الطعن على الأمر بألا وجه طالما أن الحق في الدعوى الذي يحميه لم يسقط بعد بالتقادم.  وإذا كان القانون يخول المجني عليه الذي لم يدع مدنياً أمام سلطة  التحقيق أن يدعي مدنياً لأول مرة أمام قضاء الحكم. فكيف يسوغ القول أن يبيح القانون له ذلك ولا يبيح له الطعن على الأمر بألا وجه أمام الدرجة الثانية لقضاء التحقيق، وهي مرحلة سابقة على مرحلة قضاء الحكم؟!

          يؤكد صحة ما نذهب إليه أن القانون القديم كان يسمح للمجني عليه بالطعن على  الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة إلى أن صدر التعديل التشريعي بالقانون رقم 107 لسنة 1962 فمنع المجني عليه الذي لم يدع مدنياً من مباشرة هذا الحق.

          وقد انتقد الفقه الجنائي بالفعل هذا التعديل بسبب أن المدعي المدني ليس دائماً هو المجني عليه وإنما هو المضرور من الجريمة. وأن المجني عليه لشدة ما أصابه. قد لا يقدم على  الإدعاء المدني مكتفياً بمراقبة التحقيق، حتى إذا ما أسفر عن صدور أمر بأن لا وجه، وهو تصرف لا يرضيه يكون له حق في الطعن عليه. وأنه من الغبن حرمانه من هذا الحق بمجرد أنه لم يدع مدنياً أمام سلطة التحقيق، كما أنه من الضروري إنصاف المجني عليه، وهو أولى بالرعاية من المدعي المدني، صاحب المصلحة المالية في الواقعة*.

          والحقيقة أن استبعاد المجني عليه من حق الطعن على  الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى سواء الصادر من النيابة العامة أو من قاض التحقيق، هو تطبيق خاطئ من المشرع ومن المحكمة  الدستورية لمبدأ الأثر الناقل للاستئناف، وعلة ذلك أن هذا المبدأ  إن كان يصدق أمام قضاء الحكم فهو لا يصدق أمام قضاء التحقيق، فلا يصح تطبيقه إلا إذا كنا بصدد دعوى استئنافية، ونص المادة (210) لا يعبر عن استئناف لدعوى، صحيح أننا بصدد ثلاثة عناصر حاضرة هي الخصومة والسبب والمحل، وهو ما يوحي للبعض من ظاهر الأمر أننا بصدد دعوى ولكن في الحقيقة أن جوهر الدعوى ذاته غائب تماماً. فالدعوى هي وسيلة الحصول على الحماية القضائية، وقضاء التحقيق لا يمنح المدعي المدني حماية قضائية. ومن ثم فنحن في هذه الحالة لسنا بصدد أي نوع من الدعاوي، لا دعوى تقريرية ولا دعوى منشئة ولا دعوى إلزام، فكل ما يستهدفه المدعي المدني من سلطة التحقيق هو إصدار قرار تمهيدي بإحالة الدعوى الجنائية من ساحة قضاء التحقيق إلى ساحة قضاء الحكم حتى يتحول طلبه من إدعاء إلى دعوى.

          وبعبارة أخرى فإن طلبات المدعي المدني أمام قضاء التحقيق هو مجرد إدعاء وليس دعوى بالمعنى الفني الدقيق للدعوى، واستئنافه لطلباته طبقاً للمادتين (162، 210) إجراءات هو استئناف للخصومة وليس استئناف للدعوى، فلا يوجد ما يسمى دعوى مدنية أمام قضاء التحقيق يؤكد صحة ما نذهب إليه، أن سلطة التحقيق حين تصدر قرارها بألا وجه لإقامة الدعوى لا تتعرض على الإطلاق للادعاء المدني، لأن ما يستهدفه المدعي المدني من قضاء التحقيق هو إصدار قرار تمهيدي بإحالة الدعوى الجنائية إلى قضاء الحكم وهو نفس ما تستهدفه سلطة الاتهام. ومن ثم فحين تقضي سلطة التحقيق بألا وجه لإقامة الدعوى، فإن قضاءها هذا ينطوي على رفض لطلب النيابة العامة والمدعي المدني معاً.

          ولذا فقد كان حرص المشرع الجنائي ذاته ألا يستعمل عبارة الدعوى المدنية في الكتاب الأول من قانون الإجراءات الجنائية المتعلق بتنظيم الإجراءات أمام سلطتي الاتهام والتحقيق ولم تظهر لنا عبارة الدعوى المدنية إلا في الكتاب الثاني الذي ينظم الإجراءات أمام المحاكم.

خلاصة القول :  إن طلبات المدعي المدني أمام قضاء التحقيق هو ادعاء وليس دعوى فالدعوى هي وسيلة الحصول على الحماية القضائيةن وقضاء التحقيق لا يمنح المدعي المدني حماية قضائية.

          وأسمع صيحات الاحتجاج تتعالى مرددة أن المادة (169) إجراءات تمنح المدعي بالحقوق المدنية حماية قضائية من خلال استئنافه للأمر بألا وجه لإقامة الدعوى.

          والحقيقة أن مثل هذا الاعتقاد يشدنا إلى البحث في التفسير الصحيح للمادة (169) إجراءات التي تنص على:

          “إذا رفض الاستئناف المرفوع من المدعي بالحقوق المدنية عن الأمر الصادر بأن لا وجه لإقامة الدعوى جاز للجهة المرفوع إليها الاستئناف أن تحكم على المتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف إذا كان لذلك محل”.

          والحقيقة أن الفقه الجنائي لم يتمكن من الفهم الصحيح لهذا النص فقام بتحوير النص وتغييره على نحو يخالف ما ورد بالجريدة الرسمية، ثم راح ينتقد النص.

          فقد ذهب رأي في الفقه الجنائي وسايره بعد ذلك شباب الباحثين إلى القول “وقد نص القانون على أنه إذا رفض الاستئناف المرفوع من المدعي المدني عن الأمر الصادر بعدم وجود وجه، جاز للجهة  المرفوع إليها الاستئناف أن تحكم عليه للمتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف إن كان لذلك محل (المادة 169) إجراءات. ويتحتم بطبيعة  الحال أن يدعي المتهم مدنياً بهذا التعويض وأن يثبت التعسف في استعمال حق المدعي المدني في الاستئناف. وهذا النص معيب لأنه يعطي لجهة من جهات التحقيق اختصاص يتعلق بقضاء الحكم*.

          والتفسير الصحيح لهذا النص: أنه في حالة انتفاء المسئولية الجنائية للمتهم لأي سبب من الأسباب كانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم مثلاً أو توافر سبب من أسباب الإباحة، مع ثبوت المسئولية المدنية فإن الجهة  المرفوع إليها الاستئناف يجوز لها أن تحكم على المتهم بالتعويضات الناشئة عن رفع الاستئناف وذلك بحكم ولائي يرتد بعد ذلك إلى  القضاء المدني، ليعمل – هو – آثاره بحكم قضائي.

          وهذا يؤكد صحة قولنا بأن قضاء التحقيق لا يمنح المدعي بالحق المدني حماية قضائية.

المطلب الرابع

          ثمة مسألة دستورية خاصة بالمادة (210) إجراءات لم تطرح بعد على المحكمة الدستورية وهي مدى دستورية الفقرة الأخيرة من المادة (210) إجراءات التي تقرر أن الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى يتبع في رفعه والفصل فيه الأحكام المقررة في شأن  استئناف الأوامر الصادرة من قاضي التحقيق وذلك بعد ربطها بالفقرة الأخيرة من المادة (167) إجراءات التي تقرر أن تكون القرارات الصادرة من غرفة المشورة في جميع الأحوال نهائية.

          وبعبارة أخرى، ما مدى دستورية القاعدة القانونية التي لا تجيز الطعن بالنقض في القرار الصادر من غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى؟

          والجواب – عندنا – هو عدم دستورية هذه القاعدة القانونية، وعلة ذلك، هو أن المدعي بالحق المدني الذي يلجأ إلى القضاء الجنائي بالإدعاء المباشر، إذا رفضت دعواه المدنية أمام محكمة الموضوع (بدرجتيها) ينفتح أمامه طريق الطعن بالنقض على حكم محكمة الجنح المستأنف، في حين أن المدعي بالحق المدني الذي لجأ إلى تحريك الدعوى الجنائية أمام قضاء التحقيق بواسطة سلطة الاتهام – وهو الأصل في القضاء الجنائي – إذا صدر أمر بألا وجه لإقامة الدعوى من قضاء التحقيق في غير صالحه – وربما يكون صادراً في جناية وليس مجرد جنحة – فإن طريق الطعن بالنقض يكون منغلقاً أمامه، إذا رفض الطعن المقام منه في الأمر
بألا وجه لإقامة الدعوى أمام غرفة المشورة.  الأمر الذي يعد إخلالاً بمبدأ المساواة بين فئتين من المدعين بالحق المدني تماثلت مراكزهما القانونية بالنسبة لحق الطعن بالنقض. أي مخالفة دستورية للمادة (40)
من الدستور.

          وفضلاً عن ذلك، فإن انغلاق طريق الطعن بالنقض – هنا – يعد انتقاصاً من حق التقاضي وإخلالاً بضمانة  الدفاع، أي مخالفة دستورية للمادتين (68, 69) من الدستور، لأنه إذا كان الهدف من الطعن بالنقض على الأحكام الانتهائية هو مراقبة محكمة النقض لصحة تطبيق القانون، فلا يسوغ استبعاد نوع من هذه الأحكام من هذه الرقابة دون مبرر.

          ولا ينال من هذا النظر القول، أن ما يصدر عن غرفة المشورة برفض الطعن في الأمر بألا وجه لإقامة الدعوى هو قرارات وليس أحكام، إذ أن هذا القول مردود عليه، بأن الفارق هنا يتعلق – فقط – بالشكل وليس بالمضمون، فالحكم هو قرار قضائي أفرغ في قالب معين فاكتسب شكلية خاصة، والقرار هو حكم تحرر من هذا القالب فتجرد من هذه الشكلية.

          وقد قررت المحكمة الدستورية العليا في أحد أحكامها “أن طرق الطعن في الأحكام لا تعتبر مجرد وسائل إجرائية ينشئها المشرع ليوفر من خلالها سبل تقويم اعوجاجها، بل هي في واقعها أوثق اتصالاً بالحقوق التي تتناولها، سواء في مجال إثباتها أو نفيها، ليكون مصيرها عائداً أصلاً إلى انغلاق هذه الطرق أو انفتاحها، وكذلك إلى التمييز بين المواطنين الذين تتماثل مراكزهم القانونية في مجال النفاذ إلى فرصها”*.

طارق محمود محمد جعفر

باحث قانوني


(1)  Mangin, Traité de l’action rublique et de l’action civil en matière criminelle; Paris, 1837, T.1 No. 12.

       Garraud (R); Op.Cit. T. 1, No. 89, P. 1980

(2)  Faustin (H.); Op.Cit. T.1, No. 971, P. 556.

(3) أ. عدلي عبد الباقي – أ. فتحي عبد ا لصبور – أ. جندي عبد الملك

(4) حكم محكمة  النقض بجلسة 13 مارس 1932 – مجموعة القواعد القانونية، ج2، رقم 342، ص492.

(5) Merle (R) et Vite (A): Op.Cit; No. 1009; Stefoni (G), Lenosserur (G) et Boulac (B); Op.Citk No. 1 Bouzat (P): Le role des organs de poursuite dans le process pénal; Rev. Intern. De Droi, Pénal, 1963, P. 141., Pordel (J): Droit Pénal, T. 2, Procédure Pénal,Paris, 1976, No. 109, Garraud (R): Op.Cit., T. 1. No. 150.

(1) Cass. Crim. 14 pluviose an IX, Merlin Recueil alphebetique de questions de droit, 1829, V. Ministère Public. Cité por Rassat (M.L); Op.Cit, P. 144.

(2)     حكم النقض بجلسة 18/2/1935: مجموعة القواعد القانونية، ج3 رقم 336، حكم النقض بجلسة 2/12/1935 مجموعة القواعد القانونية، ج3، رقم 404

(4)    حكم الإدارية العليا في 10/6/1978 – مجموعة المبادئ القانونية التي قررتها المحكمة في خمسة عشرين عاماً (1965-1980) ج1 رقم 74، 23، ص 139.

(5)     د. جلال ثروت – د. محمود نجيب حسني – د. سليمان عبد المنعم.

(5)  Rassot (M.L); Op.Cit; P. 145.

      Goyet (F); Op.Cit; P. 13.

(6)     د. أحمد فتحي سرور – د. محمود مصطفى – د. رؤوف عبيد – د. نبيل مدحت سالم – د. توفيق الشناوي.

(1)     حكم النقض بجلسة 9/1/1961 – مجموعة أحكام النقض، س 12، رقم 7، ص58

(2)    قرار تفسيري للمحكمة العليا بتاريخ أول أبريل 1978: مجموعة أحكام وقرارات المحكمة العليا، ج2 القسم ا لثاني، رقم3، ص 334.

(3)     القرار التفسيري رقم 3 لسنة 26 قضائية “تفسير” بجلسة 7 مارس سنة 2004

          بشأن تفسير الفقرة الثانية من الماد ة(24) من القانون رقم 73 لسنة 1956

(1)     د. أحمد فتحي سرور – الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية – الناشر دار النهضة العربية

(2)     حكم الدستورية العليا بجلسة 17 ديسمبر 1994 في القضية رقم 13 لسنة 15 قضائية دستورية.

(1)     م (176) من دستور 1956   و م (153) من دستور 1964

(2)     م (181) من دستور 1956   و م (158) من دستور 1964

(3)     د. أحمد فتحي سرور – مرجع سابق.

(1)    أنظر في ذلك بحثنا: حدود الاختصاص بالدعوى الدستورية بين القضاء العادي والمحكمة الدستورية العليا

(2)     د. أحمد فتحي سرور – د. محمود  نجيب حسني – أ. على زكي العرابي – د. محمود مصطفى – د. رؤوف عبيد

([16])   د. عبد الفتاح الصيفي – د. على راشد – د. محمد مصطفى القللي – د./ حسن المرصفاوي

([17])   أ. زكي العرابي – د. محمود مصطفى – د. إدوارد غالي

([18])   د. محمد مصطفى القللي – د. حسن المرصفاوي – د. مأمون سلامة

([19])   نقض 16 مايو سنة 1932 – مجموعة القواعد ج2، رقم 350، صـ540

        نقض 14 مايو سنة 1957 – مجموعة الأحكام س8

(1)  André Vitu, Op.Cit., P: 510 et Suiov, Michéle – Laure Rassat, Op.Cit; P: 221/

(2)  Op.Cit., P:221.

(3)  A. Glesener, Op. Cit., P: 358

([23])   د. عمر السعيد رمضان   – د. مامون محمد سلامة  – د. رؤوف عبيد

(2)    د. أحمد فتحي سرور – د. توفيق الشناوي – د. على فاضل

([24])   الأستاذ أحمد عثمان حمزاوي: موسوعة التعليقات على قانون الإجراءات الجنائية، صـ382 وما بعدها.

([25])   الأستاذ على زكي العرابي: المبادئ الأساسية للتحقيقات والإجراءات الجنائية، صـ113 وما بعدها.

([26])   د. فوزية عبد الستار: الادعاء المباشر صـ125 وما بعدها – ا لناشر، دار النهضة العربية، 1977

([27])   د. رءوف عبيد: مبادئ الإجراءات الجنائية في القانون المصري صـ 325