نظرة قانونية على البطلان في التشريع المصري

تعريف البطلان ومذاهبه

البطلان هو جزاء إجرائي يصيب الإجراء الذى تخلف عنه كل أو بعض شروط صحته فيصبح عديم الأثر

ويتنازع البطلان مذهبان

الأول: مذهب البطلان القانوني.

والثاني: مذهب البطلان الذاتي.

1- مذهب البطلان القانوني:

ومقتضى هذا المذهب أن المشرع هو الذى يتولى تحديد حالات البطلان بحيث لا يجوز للقاضي أن يقرر البطلان إلا فى هذه الحالات دون غيرها أو بعبارة أخرى فإنه “لا بطلان بغير نص”، ولقد أخذ بهذا المذهب قانون الإجراءات الجنائية الإيطالي (184/1 إجراءات). ويمتاز هذا المذهب بالوضوح والتحديد، ويحول دون اختلاف الآراء وتضارب أحكام القضاء نظرا لأن حالات البطلان قد حصرها وحددها المشرع سلفا. بيد أن هذا المذهب يعاب عليه أنه يستحيل على المشرع أن يحصر مقدما جميع حالات البطلان

2- مذهب البطلان الذاتي

ومقتضى هذا المذهب أن المشرع لا يحدد حالات البطلان على سبيل الحصر وإنما يعطى للقاضى مكنة القضاء بالبطلان إذا كان الإجراء المعيب جوهريا. أما إذا كان الإجراء المعيب غير جوهري فلا يقضي بالبطلان

ويمتاز هذا المذهب بالمرونة، وتخويل القاضي سلطة تقدير مدى جسامة مخالفة القاعدة الإجرائية. بيد أنه يؤخذ عليه أنه يثير مشكلة التمييز بين القواعد الإجرائية الجوهرية والقواعد الإجرائية غير الجوهرية فيفتح بذلك بابا للخلاف فى الآراء وتضارب الأحكام

موقف المشرع المصري

اعتنق المشرع المصري مذهب البطلان الذاتي فميز بين مخالفة القواعد الجوهرية ومخالفة القواعد غير الجوهرية أو بالأحرى الإرشادية، وجعل البطلان جزاء مخالفة الأولى دون الثانية. ولقد عبر المشرع عن موقفه بنص المادة 331 من قانون الإجراءات الجنائية بقوله “يترتب البطلان على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بأي إجراء جوهري”.

معيار التمييز بين القواعد الإجرائية الجوهرية والقواعد الإجرائية غير الجوهرية

أقام المشرع معيار البطلان على التمييز بين القواعد الإجرائية الجوهرية والقواعد الإجرائية غير الجوهرية أو الإرشادية. فرتب البطلان على مخالفة الأولى دون الثانية، وهذا التمييز مستفاد من نص المادة 331 من قانون الإجراءات المتعلقة بأي إجراء جوهري” ومؤدي ذلك – بمفهوم المخالفة أن البطلان لا يترتب إذا كان الإجراء قد خالف قاعدة من القواعد الإجرائية غير الجوهرية.

ولم يضع المشرع معيارا للقاضي يهتدي به فى التمييز بين القواعد الجوهرية والقواعد غير الجوهرية وإنما ترك له تحديد هذا المعيار. ولكن المذكرة الإيضاحية لقانون الإجراءات الجنائية قد أعطت للقاضي الفكرة العامة التى يستعين بها فى التفرقة بين القواعد الإجرائية الجوهرية والقواعد الإجرائية غير الجوهرية فقالت “لتعرف الأحكام الجوهرية يجب دائما الرجوع إلى علة التشريع، فإذا كان الغرض منه المحافظة على مصلحة عامة أو مصلحة للمتهم أو غيره من الخصوم فإنه يكون جوهريا ويترتب على عدم مراعاته البطلان” وأضافت أنه لا يعتبر من الإجراءات الجوهرية ما وضع من الإجراءات لمجرد الإرشاد والتوجيه

ويتضح من ذلك أن المعيار الذى تبنته المذكرة الإيضاحية للتفرقة بين القواعد الجوهرية والقواعد غير الجوهرية أو الإرشادية هو “علة التشريع” أو بالأحرى الغاية التى استهدفها المشرع من نصه على القاعدة الإجرائية: فإذا كانت الغاية – هى المحافظة على مصلحة عامة أو مصلحة خاصة بالمتهم أو غيره من الخصوم كالمدعي المدني – كانت القاعدة جوهرية وترتب على مخالفتها البطلان. أما إذا كانت الغاية منها مجرد إرشاد وتوجيه الهيئات القائمة على مباشرة وظائف الاستدلال أو الاتهام أو التحقيق أو الحكم إلى الأسلوب الأمثل لأداء عملها فهي قاعدة إرشادية لا يترتب على مخالفتها البطلان

وتطبيقا لهذا المعيار فإن القانون إذ تتطلب أن تكون جلسات المحاكمة علانية فإنه يكون قد استهدف بهذا الإجراء صيانة مصلحة عامة تتمثل فى اطمئنان جمهور الناس إلى عدالة القضاء ومصلحة للمتهم فى الحماية من تعسف يتخذ فى غيبة رقابة الرأي العام ومن ثم تكون العلانية إجراء جوهريا تستوجب مخالفته البطلان، أما إذا حدد القانون إجراءات تحرير الأشياء المضبوطة أو بين ترتيب الإجراءات فى الجلسة من حيث تسلسلها وتعاقبها فإنه يكون قد استهدف من ذلك الإرشاد إلى السبيل الأكثر ملاءمة والأدنى إلى المنطق فى مباشرة الإجراء. ومن ثم لا يترتب على مخالفة هذه القواعد البطلان لأنها محض قواعد إرشادية لا تتعلق بمصلحة عامة أو خاصة.

صور البطلان

ميز المشرع بين صورتين للبطلان، المطلق، والنسبي. وجعل مناط التمييز بينها تعلق الإجراء الجوهري بالنظام العام. فإذا كان الإجراء الجوهري متعلقا بالنظام العام كان البطلان المترتب على مخالفته هو البطلان المطلق، أما إذا كان الإجراء الجوهري متعلقا بمصلحة المتهم أو الخصوم كان البطلان المترتب على مخالفته هو البطلان النسبي.

أ-البطلان المطلق

البطلان المطلق هو بطلان متعلق بالنظام العام، ومن ثم فيجوز التمسك به فى أية مرحلة كانت عليها الدعوى، وأن تقضي به المحكمة من تلقاء نفسها، ولقد ورد النص على البطلان المطلق فى المادة 332 من قانون الإجراءات الجنائية بقولها: “إذا كان البطلان راجعا لعدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بتشكيل المحكمة أو بولايتها بالحكم فى الدعوى، أو باختصاصها من حيث نوع الجريمة المعروضة عليها أو بغير ذلك مما هو متعلق بالنظام العام، جاز التمسك به فى أية حالة كانت عليها الدعوى وتقضي به المحكمة ولو بغير طلب.

ويفهم من هذا النص أن المشرع لم يحدد حالات البطلان المطلق على سبيل الحصر، بل إن الحالات التى ضربها المشرع جاءت على سبيل المثال، وهو ما تؤكده عبارة “أو بغير ذلك مما هو متعلق بالنظام العام” الواردة بالنص.

ولقد أضافت المذكرة الإيضاحية لقانون الإجراءات الجنائية أمثلة أخرى لحالات البطلان المطلق بقولها “مخالفة الأحكام المتعلقة بعلانية الجلسات، وتسبييب الأحكام، وحضور مدافع المتهم بجناية، وأخذ رأي المفتي عند الحكم بالإعدام، وإجراءات الطعن فى الأحكام.

وواقع الأمر أن المشرع قد حدد حالات البطلان المطلق على سبيل المثال لا الحصر؛ لأنه لم يكن فى مقدوره أن يحصر، والقوانين السياسية والإدارية والمالية والجنائية أبدا متغيرة – المسائل المتعلقة بالنظام العام فذكر البعض من هذه المسائل فى المادة 332، وترك للقاضي استنباط غيرها وتمييز ما يعتبر من النظام العام وما هو من قبيل المصالح الخاصة التى يملك الخصوم وحدهم فيها أمر القبول من عدمه

وأهم الأحكام التى يتميز بها البطلان المطلق أنه لا يقبل التصحيح بالتنازل. ويتعين على المحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها ولو بغير طلب. كما أنه يجوز التمسك بهذا البطلان فى أية مرحلة كانت عليها الدعوى ولو لأول مرة أمام محكمة النقض مادام لا يتطلب تحقيقا فى الموضوع

ب-البطلان النسبي

البطلان النسبي هو ذلك الذى لا يتعلق بالنظام العام، وقد ورد النص عليه فى المادة 333 من قانون الإجراءات الجنائية بقولها: “فى غير الأحوال المشار إليها فى المادة السابقة -المادة 332 – من قانون الإجراءات الجنائية- يسقط الحق فى الدفع ببطلان الإجراءات الخاصة بجمع الاستدلالات أو التحقيق الابتدائي أو التحقيق بالجلسة فى الجنح والجنايات إذا كان للمتهم محام، وحصل الإجراء بحضوره دون اعتراض منه.

أما فى مواد المخالفات فيعتبر الإجراء صحيحا، إذا لم يعترض عليه المتهم ولو لم يحضر معه محام فى الجلسة.

وكذلك يسقط حق الدفاع بالبطلان بالنسبة للنيابة العامة إذا لم تتمسك به فى حينه.

ويتضح من هذا النص أن المشرع أخذ بتعريف سلبي للبطلان، فكل بطلان ليس مطلقا يكون بالضرورة نسبيا. ويعني ذلك أنه إذا لم تكن القاعدة الجوهرية متعلقة بالنظام العام استوجبت مخالفتها البطلان النسبي لا المطلق. وقد عبرت المذكرة الإيضاحية لقانون الإجراءات الجنائية عن ذلك بقولها: “يكون البطلان نسبيا إذا كان الإجراء الجوهري متعلقا بمصلحة المتهم أو الخصوم”. وضربت أمثلة لحالات البطلان النسبي، فذكرت مخالفة الأحكام الخاصة بالتفتيش والضبط والقبض والحبس والاختصاص من حيث المكان. ولا شك أن الأساس الذى تبناه المشرع للتفرقة بين البطلان المطلق والبطلان النسبي وهو فكرة النظام العام غير سديد؛ إذ أن العبرة يتعين أن تكون بأهمية المصلحة التى تحميها القاعدة الإجرائية، وليس بنوعها. فقد تكون هذه المصلحة خاصة بالمتهم أو غيره من الخصوم، وتتعلق مع ذلك بالنظام العام لكونها ترقي من حيث الأهمية إلى مرتبة المصلحة العامة، فتستوجب مخالفتها البطلان المطلق لا النسبي(

ويتميز البطلان النسبي بأنه لا يجوز إبداؤه لأول مرة أمام محكمة النقض، إذ لا يجوز التمسك به إلا أمام محكمة الموضوع، ويسقط الدفع إذا وقع البطلان فى حضور محامي المتهم دون اعتراض منه، كما أنه يجوز التنازل عن الاحتجاج به، ولا يمكن للمحكمة أن تقضي به من تلقاء نفسها فهي لا تقضي بهذا النوع من البطلان إلا إذا طلب الخصوم منها ذلك

أثر البطلان

بينت المادة 336 من قانون الإجراءات الجنائية الأثر المترتب على بطلان الإجراء بقولها:” إذا تقرر بطلان أي إجراء فإنه يتناول جميع الآثار التى تترتب عليه مباشرة، ولزم إعادته متى أمكن ذلك”. وعلى ذلك فإنه متى تقرر بطلان الإجراء زالت عنه آثاره القانونية، فيصبح كأن لم يكن. فإذا تقرر بطلان الاعتراف فلا يجوز الاستناد إليه فى الإدانة. ولا يمتد هذا الأثر إلى الإجراءات الصحيحة التى سبقت الإجراء الباطل، وإنما يمتد إلى الإجراءات اللاحقة عليه مباشرة إعمالا لقاعدة “إن ما بني على الباطل باطل”

وبذلك نكون قد انتهينا من إعطاء فكرة عامة عن جزاء البطلان، وننتقل لإعطاء فكرة عامة أخرى عن جزاء الانعدام.