مقال حول التفسير الاسلامي للسلوك الاجرامي

التفسير الاسلامي للسلوك الاجرامي : حسن الحلو

للسلوك الانساني دوافع وبواعث تسببه، وكما يكون الباعث دنيئا يترتب عليه ان يكون الفعل الناتج عن السلوك جريمة يعاقب عليها القانون ، يكون ايضا شريفا اذا ماعبر السلوك عن القيم والمفاهيم السائدة في وجدان المجتمع.

الباعث على السلوك الاجرامي يدخل في اهتمامات علم الاجرام الذي يبحث الاسباب المؤدية الى ارتكاب الجريمة سواء كانت ذاتية تخص الفرد او خارجية. وقد عرف قانون العقوبات السوري الباعث بانه ( العلة التي تحمل الفاعل على الفعل او الغاية القصوى التي يتوخاها ).

اختلفت الاتجاهات في تحديد اسباب السلوك الاجرامي فانقسمت الى مدارس وكل منها انقسم على نفسه فشملت نظريات قد تكون متناقضة في بعض الاحيان. فالمذهب البيولوجي اعتمد في تحليله لاسباب الجريمة على العوامل البيولوجية وارجع سبب الجريمة الى الاختلالات في التكوين العضوي. ثم انقسمت الى عدة نظريات تضاربت مع بعضها في اعتماد هذا السبب او ذاك. فمن قائل بصفات معينة اذا ما توافرت عند شخص فانها تؤهله الى الاجرام كما ذهب الى ذلك لومبروزو. في الوقت الذي خالفه تيليو وقال بالاضافة الى التكوين الاجرامي للفرد فهناك عوامل اخرى تدفعه الى الاجرام، وهكذا كانت المدرسة الاجتماعية. وكانت النظريتان عرضة للنقد بجعلهما الفرد اسيرا لعوامل داخلية او خارجية لا ارادة له تجاههما.

في حين ان النظرية الاسلامية تجنبت النقص الذي انتاب النظريتين السابقتين في تحديدها لاسباب السلوك الاجرامي باعتمادها العوامل الذاتية مع الاخذ بنظر الاعتبار العوامل الخارجية باعتبارها عوامل منشطة للعوامل الداخلية. منطلقة في ذلك من ان الفرد ليس ابن بيئته بل هو ابن ذاته متأثرا ببيئته.

تنطلق النظرية الاسلامية من اعتبار النفس هي مستودع الخير والشر بدليل قوله تعالى في كتابه العزيز (ونفس وما سواها. فالهمها فجورها وتقواها. قد افلح من زكاها. وقد خاب من دساها)*. ويستفاد من هذه الاية امور ثلاثة:

  • 1- تسوية النفس.
  • 2- حالة الهامها الخير والشر، فالاولى تأخذ به الى الكمال وهو سر وجوده فيما الثانية تهبط به الى مستوى الرذيلة بحيث يصبح ( كالانعام بل هم اضل سبيلا )* ليكون للانسان حرية اختيار الطريق الذي يريد. ويُستفاد ذلك من الفعلين افلح ( قد افلح) وخاب ( وقد خاب) .
  • 3- تحول الانسان من الفلاح الى الخيبة ومن الخيبة الى الفلاح تعني امكانية اصلاحه فيما لو خاب في مسعاه. وهذا يعني امكانية تفاعل العوامل الداخلية والخارجية وتعاونها في تحديد سلوك الانسان.

واذا كان العلماء قد اختلفوا في النفس فمثلا الفارابي وارسطو اتفقا على ان النفس صورة للبدن الا انهما اختلفا في علاقتها بالبدن. فارسطو يرى ان النفس منطبعة في البدن انطباع الصورة في المادة. فقد حاول ابن سينا من بعده التوفيق بين رأيي الفارابي وارسطو، فقال ان النفس جوهر وصورة. فاذا نظر اليها في ذاتها فهي جوهر اما اذا نظر اليها من حيث علاقتها بالبدن فهي صورة.

على ان اختلافهم لم يمنعهم من ان للنفس قوى تختلف باختلاف تقسيمهم للنفس فعند الفارابي النفس تنقسم الى ثلاثة اقسام لكل منها قواها وهي.

1. النفس النباتية: ولها ثلاث قوى.

  • a. القوة الغاذية ومهمتها التغذية.
  • b. القوة المربية ووظيفتها نمو الجسم بحيث تبلغ به كماله المادي.
  • c. القوة المولدة التي تحافظ على استمرار النوع.

2. النفس الحيوانية ولها قوتان

  • a. القوة المدركة التي تدرك المحسوسات، وتنقسم الى قوة مدركة من الخارج وهي الحواس الخمسة، وباطنية والتي تتجمع فيها مايرد اليها من الخارج.
  • b. القوة المحركة وهي التي تدفع العضلات والاعصاب لتحقيق ما يريده الحيوان. وتتكون من قوتين الاولى شهوانية مهمتها الحصول على كل شئ مفيد
  • c. والثانية غضبية ومهمتها دفع وتجنب كل مكروه.

3. النفس الناطقة:

وسماها العقل وهي ما يعقل بها الانسان المعقولات كتمييزه بين الحسن والقبيح.

ولا نريد الدخول في متاهات تسمية النفس واقسامها وعلاقتها بالبدن انما نريد ان نصل الى نتيجة مفادها ان النفس الانسانية تتكون من قوى، تشترك في بعضها مع انفس الانواع الاخرى فيما تنفرد بالبعض الاخر. وهذه القوى:

1. القوة العقلية: وتأتي في المرتبة الاولى لتمييزها بين الخير والشر، كونها تدرك حقائق الامور فتدفع الانسان الى فعل ماهو خير وتنهاه عن فعل ماهو شر.

2. القوة الغضبية: وهي اداة القوة الاولى ووسيلتها للسيطرة على القوتين في محاولتهما الافلات من سيطرة القوة العاقلة. وبها يدفع الفرد الاذى عن نفسه واذا ما استقلت عن القوة العاقلة فانها تقوم بهذا الواجب سواء كان مشروعا او غير مشروع.

3. القوة الشهوية: وظيفتها كل ما يتعلق بالجانب المادي للانسان من مأكل ومشرب ومنكح دون ان تراعي المشروعية فيما تحصل عليه.

4. القوة الوهمية: دورها خلق الوسائل والطرق للوصول الى تحيق الهدف. وبذلك يمكن ان تستغلها الشهوية فتخلق لها الحيل التي توصلها الى هدفها المنشود. كما يمكن استغلالها من قبل القوة العاقلة لابتكار الطرق للوصول الى عمل الخير.
لكل من القوى الثلاث (2، 3، 4 ) ثلاث حدود:

  • – حد الوسط وهو حد الاعتدال: عندما تخضع القوى الثلاث الى سيطرة القوة العاقلة . بحيث تسيرها الاخيرة وفق الاهداف التي تسعى الى تحقيقها.
  • – حد الافراط: في حالة انفلات القوى الثلاث من سيطرة القوى العاقلة وتماديها في اشباع ما تهدف كل منهم الى تحقيقة. فالدفاع عن النفس فضيلة يحتاج الى شجاعة وهذه مهمة القوة الغضبية في حالة اعتدالها حيث لا يصدر منها الا الافعال النوعية. لكن فيما لو استقلت في عملها عن القوة العاقلة فان الشجاعة تنقلب الى التهور لتجاوزها حد الاعتدال الذي هو الوسط الى جانب الافراط، وبذلك لا يصدر منها الا ماهو مخالف للقيم والمفاهيم التي اعتادها المجتمع. كذلك الحال بالنسبة للقوة الشهوية فخروجها من حد الاعتدال الى الافراط مالت بذلك الى الشره ومحاولتها اشباع ما تهفو اليه بكل الطرق والوسائل وشره الانسان ليس له حدود.
  • – حد التفريط: لايختلف القول في هذا الجانب عن القول في الافراط الا ان نتائجه تكون عكسية. فمثلا خروج الشجاعة التي هي فضيلة في ذاتها فيما لوكانت في حد الاعتدال الى الجانب المعاكس لجانب الافراط وهو جانب التفريط فانها تكون رذيلة، حيث يكون الانسان عاجزا عن الدفاع عن نفسه وهو الجبن وهو حالة مذمومة لتفريطه بحق منحته له الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. والامر لا يختلف كثيرا بالنسبة لانحراف القوة الشهوية الى جانب التفريط فانه يؤدي الى هلاك الفرد وهو ايضا سلوك منحرف.

وبذلك يكون الاعتدال والفضيلة دائما في الوسط ، بمعنى ان الفضيلة تكون بين رذيلتين، حيث ان الافراط والتفريط رذيلة كما مر بيانه. وتستثنى من ذلك فضيلة العدل ففيها تفريط حيث تنقلب الى ظلم ولكن ليس فيها افراط فمهما بالغ الانسان في عدالته فهو يتسامى في درجاتها.

فاذا ما انفلتت القوى الثلاث ( 2، 3، 4 ) وتعاونت فيما بينها يأتي دور القوة الاولى لتعطي كل ذي حق حقه وبذلك يتحقق التوازن بينها. في حين عدم اعمال القوة الاولى يعني اطلاق العنان للقوى الثلاث لكي تتصارع فيما بينها، وتكون القوى الغلبة هي القوة المسيطرة حتى على القوة العقلية فتدفع الفرد الى تحقيق مايهدف اليه، وبذلك يميل الفرد حيث مالت القوة الغالبة و يسلك سلوكا منحرفا.

واذا ما ارادت القوة الشهوية الافلات من سيطرت العقل وعجز العقل عن تليين عريكتها، فله ان يسخر القوة الغضبية للسيطرة عليها ومنعها من الخروج عن حد الاعتدال. لان هذه القوة وكذلك الوهمية اذا استطاعتا التمرد على القوة العاقلة فانهما لاتستطيعان التمرد على القوة الغضبية، ولان القوة العاقلة يمكن ان تخضعها لها لليونة عريكتها. ويقول افلاطون في هذا الصدد ( واما هذه، اي السبعية، فهي بمنزلة الذهب في اللين والانعطاف، واما تلك البهيمية فهي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع ). كما قال ايضا ( فما اصعب ان يصير الخائض في الشهوات فاضلا فمن لا تطيعه الوهمية والشهوية في ايثار الوسط، فليستعن بالقوة المهيجة للغيرة والحمية – ويعني بها الغضبية – حتى يقهرهما ). اما اذا لم يمتثلا رغم استعانة القوة العاقلة بالغضبية فان ذلك يعني غلبتهما على القوة العاقلة وحضوعها لهما وحينئذ يستمر الفرد في افراطه او تفريطه ولا يقدم الا على ماهو منبوذ في المجتمع.

مما تجدر الاشارة اليه ان هذه النظرية لاتهمل العوامل الخارجية بل تعتبرها مغلبة لاحد القوى على الاخرى ولكنها لا تُرجع لها السبب الرئيسي في تحديد السلوك كما تفعل المدرسة الاجتماعية. ففي التعلم النافع دفع للقوى الفكرية لسلوك طريق الخير وتجنب سلوك الشر. وبعكسها الثقافة الطالحة تؤثر على القوة الفكرية فتنشطها لابتكار كل وسيلة تدفع بالانسان الى العنف اذا اختار الشخص ذلك التوجه. ويستفاد من النظرية الاسلامية الامور التالية:

  • 1. ان المنحرف نتيجة تغلب احدى القوى على القوة العقلية يمكن اصلاحه واعادته الى جادة الصواب. على عكس ما هو مستفاد من من النظرية البيولوجية فان مجرد توافر عدد معين من الصفات التي اسماها لومبروزو ( سمات الانحلال ) لتهيئة شخص ما حتى يكون مجرما. وحيث ان للانسان جهتين منها جهة المادة وليس له خيار امامها، فليس له اختيار ان يكون طويلا او قصيرا، ابيضا اسودا، كما ليس له اختيار في كبر الرأس وصغره وعرض جبهته اوضيقها. فالاصلاح لا ينفع مع هؤلاء طالما لازمتهم هذه الصفات، وحيث لا يمكن تغييرها فلا يمكن اصلاحهم. وعكسه ما ذهبت اليه النظرية الاسلامية لاختيار الانسان في تغليب احدة القوى على الاخرى وما دام ذلك ممكن فالاصلاح ممكن ايضا.
  • 2. لا تفرق النظرية الاسلامية بين بني النوع الانساني، وما ذكرته من قوى هي اساس في كل نفس انسانية بغض النظر عن فقرالفرد وغناه، وسواء عاش في منطقة حارة او باردة، او سكن على اعلى جبل او سهل كما ترى ذلك النظرية الاجتماعية. وبذلك لاتخرج النظرية الاسلامية عن الخط العام الذي اختطه الاسلام للانسانية وهو المساواة بين الناس ( كلكم لادم وادم من تراب ). وعليه فهي تتماشى وحقوق الانسان وخاصة حقه في المساواة بخلاف بعض النظريات التي يحاول الصاق الصفة الجرمية بمجتمعات معينة وابعادها عن مجتمعات اخرى وما في ذلك من تفضيل للبعض على البعض الاخر. وبذلك لم تكن مثل هذه النظريات مقطوعة الجذور عن تلك التي تقسم البشر الى طبقات وتجعل السيادة والافضلية لطبقة معينة.

فمثلا يرى انصار النظرية الاجتماعية ان الفقر والعنف يساعد كل منهما الاخر ويشجعه ويوعزون سبب ذلك بان هذه الطبقات لا تستطيع خرق الحواجز الثقافية التي تفصل بينها وبين المجتمعات الاخرى لذلك تبقى ثقافة الفقر ملازمة لهذه الطبقات ويستمر العنف فيها. وبذلك تكون الكثير من شعوب العالم –لانريد ذكرها– حسب هذه النظرية منحرفة والعنف ملازم لها. في حين تتمثل الفضيلة في الشعوب الغنية– ونمتنع عن ذكرها وان كان المانعان مختلفين – . والمتأمل يجد ان في اتخاذ الفقر معيارا او اساس للاجرام فيه اعتداء على انسانية الانسان الفقير سيما وان الواقع يثبت ان الكثير من الفقراء يدفعهم فقرهم الى التعفف حتى ليحسبهم الناس اغنياء من التعفف. في حين يدفع الغنى الاغنياء الى التهور والرذيلة وارتكاب الجرائم.

تظهر صورة مراعاة النظرية الاسلامية للمساواة في تفسير اسباب الجريمة على اساس واحد عند كل من يرتكبها. فمثلا سيطرت القوة الغضبية عند الانسان المسيحي الامريكي ودفعته لتفجير مبنى اوكلاهوما سيتي في الولايات المتحدة الامريكية عام 1995، وهي التي دفعت المتطرفين اليابانيين من جماعة (اوم شينريكيو) الى استخدام غاز السارين السام لقتل عشرات الابرياء في مترو انفاق طوكيو عام 1995، وذاتها التي دفعت العربي او المسلم الى تفجير مركزي التجارة العالمية في الولايات المتحدة الامريكية عام 2001. وهي نفسها التي دفعت الى الحربين العالميتين الاولى والثانية، وهي التي دفعت الى ضرب اليابان بالقنابل الذرية. فلا يمكن ان نرجع سببها الى مرض نفسي اذا ما ارتكبت من قبل مواطنين ينتمون الى شعوب معينة في حين ننسبها الى الدين او الفقر او المحيط الاجتماعي اذا ارتكبت من قبل مواطنين اخرين.

  • 3. لم تترك النظرية الاسلامية الفرد اسير العوامل الداخلية والخارجية مغلوب على امره لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا، كما ذهبت النظريات الاخرى الى هذا التوجه فجعلته معدوم الارادة تجاه هذه العوامل فهي تعمل عملها فيه دون ان يستطيع تحريك ساكنا تجاهها، انما له الارادة وحرية الاختيار في تغليب احدى القوى على القوى الاخرى. وبذلك يستطيع الانسان التكامل حتى يصل الى مرتبة الملائكة باتخاذه الطريق الوسط وهو طريق الاعتدال، اذ في الوسط الاعتدال وما في عداه الرذيلة. فاذا ما استطاع تغليب عقله على شهوته فهو افضل من الملائكة. كما له ان يتسافل في الرذيلة حتى يصل الى مرتبة الحيوان ( بل هم اضل سبيلا ). وهنا تظهر فائدة الثواب والعقاب فمن القبح ان يعاقب انسان على عمل لا ارادة حرة له فيه بل هو مجبر عليه. فغاية العقاب هو اصلاح المتهم وردع غيره فاذا كان المتهم مكره على السلوك الاجرامي بحكم العوامل البيولوجية او الاجتماعية فتنتفي الغاية من العقاب ويصبح فقط وسيلة للانتقام كما كان الحال قديما.

    حسن الحلو