بحث ودراسة هامة عن سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية

– مفهوم المنازعات الأسرية.
– السلطة التقديرية للقاضي.
– سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية وفيه ثلاثة محاور:
– المحور الأول: العمل القضائي.
– المحور الثاني: العمل الولائي.
– المحور الثالث: العمل الإصلاحي.
وأخيراً، فهذه بضاعتنا مزجاة، فإن أحسنت فمن الله وإن أسأت فمن نفسي ومن الشيطان، وما هي إلا مساهمة متواضعة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والفائدة والعون لي ولزملائي أصحاب الفضيلة قضاة الشرع الشريف على المهمة الجليلة العظيمة وهي إحقاق الحق وإنصاف المظلوم وكف يد الظالم ومحاولة النجاة بالأسرة المسلمة والوصول بها إلى شاطئ الأمان إنه وليُّ ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
القاضي الشرعي
د. واصف البكري
عضو محكمة استئناف عمان الشرعية

مفهوم المنازعات الأسرية:

المنازعات جمع نزاع أو منازعة وهما الخصومة. يقال: نازعته في كذا منازعة ونزاعاً أي خاصمته. وتنازع القوم أي اختلفوا([2]).
إذن فالمنازعات الأسرية هي الخصومات أو الاختلافات التي تنشأ بين أفراد الأسرة. وأسرة الرجل رهطه أي قومه وقبيلته([3]). أي قرابته: فالعلاقة الأسرية هي العلاقة الناتجة عن الزوجية أو البنوة أو الأبوة أو العمومة أو غير ذلك من علاقات وصلات القرابة.
وعندما نتحدث عن سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية لا نعني بذلك المنازعات أو الخلافات بين أفراد الأسرة بالمفهوم العام بحيث يشمل كل خلاف بين أفراد الأسرة وإنما نعني بذلك المنازعات بمفهومها الخاص وهي المنازعات التي تكون من وظيفة القاضي الشرعي النظر فيها عند رفعها إليه والنظر فيها من قبله وهذه الوظيفة حددتها المادة (2) من قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم (31) لسنة 1959م وتعديلاته في العديد من فقراتها وخاصة الفقرات التالية:
الفقرة (8): المناكحات والمفارقات والمهر والجهاز وما يدفع على حساب المهر والنفقة والنسب والحضانة.
الفقرة (9): كل ما يحدث بين الزوجين ويكون مصدره عقد الزواج.
الفقرة (16): كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية بين المسلمين.
الفقرة (17): كل عقد زواج سجل لدى المحاكم الشرعية أو أحد مأذونيها وما ينشأ عنه.

إذن فالمنازعات الأسرية هي الوقائع أو الحوادث التي تحصل بين أفراد الأسرة ويكون النظر فيها من وظيفة القضاء الشرعي، ويُطلب الفصل فيها بحكم شرعي قضائي. ويضاف إليها الوقائع أو الحوادث التي يُطلب توثيقها وتسجيلها لدى المحاكم الشرعية كحوادث الزواج والطلاق وغير ذلك من أنواع الحجج الشرعية.

السلطة التقديرية للقاضي:

قبل الحديث عن سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية، لا بد من التعرف على طبيعة عمل القاضي بوجه عام، وبيان مدى السلطة التقديرية الممنوحة والمفوضة له شرعاً وقانوناً، وبعد ذلك ربط ذلك في الحد من المنازعات الأسرية.
يُعرف القضاء بأنه الإخبار عن الحكم الشرعي على سبيل الإلزام([4]) وهو بذلك يُخالف الفتوى في عنصر الإلزام حيث إن الفتوى هي الإخبار عن الحكم الشرعي من غير إلزام([5]).
فالقضاء فصل للخصومة وقطع للنزاع([6]) وذلك من خلال بيان الحكم الشرعي وإلزام الخصمين به، وهو يعتمد على الأدلة والحجج والبراهين لأنه يقوم على الظاهر خلافاً للفتوى، لأن المفتي يفتي بالديانة –أي على باطن الأمر-([7]). فهذا هو جوهر العمل القضائي، -أي فصل الخصومة وقطع المنازعة- فإذا رفعت إلى قاضي دعوى معينة، وأثبت المدعي دعواه بوسيلة من وسائل الإثبات المشروعة كالإقرار أو البيّنة أو النكول عن اليمين أو غير ذلك من الوسائل المعتبرة شرعاً وخلت هذه البيّنة عن الطعون والاعتراضات من قبل الخصم، أو عجز عن إثبات طعونه أو اعتراضاته وجب على القاضي فصل الخصومة ببيان الحكم الشرعي فيها من خلال إصدار الحكم القضائي سواء أكان قضاء إلزام([8]) أو قضاء ترك([9]) ، ولا يجوز له تأخير الحكم إذا حضرت أسباب الحكم وشروطه بتمامها([10]) . أي يكون واجباً على القاضي أن يحكم فوراً بمقتضى تلك الدعوى، فإذا أخر ذلك يكون آثماً بترك الواجب ويستحق العزل، فلذلك إذا أخَّر القاضي الحكم خوفاً من المدعى عليه، أو أمر المدعي بالصلح، فاضطر المدعي لمصالحة المدعى عليه بناءً على أمر وإلحاح القاضي يأثم القاضي([11]) .

هذا هو الحكم الشرعي في عدم جواز تأخير الحكم إذا حضرت أسبابه وشروطه بتمامها، وهو ما أخذت به ونصت عليه القوانين الحديثة، حيث نصت المادة (23) من قانون تشكيل المحاكم الشرعية في الأردن رقم (19) لسنة 1972 في الفصل العاشر في محاكمة القضاة وتأديبهم على أن كل إخلال بواجبات الوظيفة، وكل عمل يمس الشرف والكرامة أو الأدب يشكل خطأً يعاقب عليه تأديباً ويشمل الإخلال بواجبات الوظيفة تأخير البت بالدعاوى وعدم تحديد موعد لافهام الحكم.

وبناءً على القول بعدم جواز تأخير الحكم إذا حضرت شروطه وأسبابه بتمامها، هل يُفهم من ذلك أنه لا سلطة تقديريه للقاضي مطلقاً في الدعوى المنظورة أمامه؟
والجواب على هذا التساؤل أن الحقيقة خلاف ذلك، لأن العلماء ذكروا مسائل يجوز معها للقاضي تأخير البت في الدعوى وهذه المسائل هي:
1- إذا كان عند القاضي شبهة في الشهود فله تأخير الحكم وتجسس أحوال الشهود.
2- إذا تأمل القاضي وقوع الصلح بين الطرفين فله تأخير الحكم بناءً على ذلك الأمل سواء اكان الطرفان أقرباء أو أجانب، لأن القضاء يورث الحقد والعداوة بين الناس فيجب الاحتراز من ذلك بقدر الإمكان.
3- إجابة طلب المدعي أو المدعى عليه الإمهال لإثبات الدعوى أو دفع الدعوى.
4- إذا إستفتى القاضي علماء بلدته في مسألة ولم يعتمد على الفتوى التي أفتوها واستفتى من علماء بلدة أخرى فله تأخير الحكم حتى ترد إليه الفتوى([12]).
هذه المسائل نص عليها علماء الحنفية باعتبارها أسباباً مجيزة لتأخير البت في الدعوى من قبل القاضي، وإن الناظر فيها يجد أنها تدور حول سلطة تقديرية للقاضي أثناء نظره للدعوى ولكنها سلطة منضبطة بمقصد شرعي لا سلطة مطلقة وبيان ذلك أن وظيفة القاضي إقامة العدل بين المتخاصمين، فكل ما من شأنه تمكين القاضي من هذه المهمة يكون سبباً مجيزاً لتأخير البت في الدعوى.
وإن الناظر في القوانين المعمول بها في المحاكم الشرعية الأردنية الموضوعية منها أو الإجرائية يجد أن هذه القوانين قد أعطت القاضي نوعاً من السلطة التقديرية في كثير من الأمور والمسائل المعروضة عليها، وهي أيضاً سلطة محدودة ومنضبطة بضوابط محددة وليست سلطة مطلقة.
ومن المسائل التي خول القانون القاضي سلطة تقديرية فيها ما يلي:
1- وزن البيّنات: حيث نصت المادة (67) من قانون أصول المحاكمات الشرعية على أنه إذا اقتنعت المحكمة بشهادة الشهود حكمت بموجبها وإلا ردتها دون حاجة إلى إجراء تزكية مع بيان أسباب ذلك في الحالتين بناءً على تحقيقات المحكمة.
فيظهر من هذا العرض أن القانون أعطى القاضي سلطة تقديرية لقبول البيّنة الشخصية أو ردّها ولكنها ليست سلطة مطلقة، فلا يجوز أن تكون القناعة الوجدانية المحضة سبباً في رد الشهادة أو قبولها، بل لا بد أن تكون القناعة مبنية على وقائع محددة ومسببة.
2- قرارات منع سفر المدعى عليه أو منعه من التصرف بأمواله: حيث نصت المادة (54) من قانون أصول المحاكمات الشرعية على أنه إذا قدمت لائحة الدعوى واقتنعت المحكمة بناءً على ما قدم إليها من بيّنات بأن المدعى عليه على وشك مغادرة المملكة أو أنه ينوي التصرف بأمواله أو تهريبها للخارج رغبة منه في تأخير دعوى الخصم أو تجنب إجراءات المحاكمة أو في عرقلة تنفيذ أي قرار يحتمل أن يصدر في حقه فعلى المحكمة أن تصدر مذكرة إحضار من أجل جلبه في الحال وأن تمنع سفره حتى يقدم كفالة لضمان دفع ما قد يحكم به عليه أو لضمان عدم مغادرته المملكة وذلك حتى مضي عشرة أيام من تاريخ صيرورة الحكم قطعياً.
ففي هذا النص أيضاً إعطاء سلطة تقديرية للقاضي حال القناعة المبنية على ما قدم من بيّنات بنية سفر المدعى عليه أو تهريبه أمواله لإصدار القرار اللازم بهذا الخصوص.

وهنالك العديد من المسائل التي أعطى القانون القاضي فيها سلطة تقديرية محدودة ومنضبطة أعرض عن ذكرها خشية الإطالة.

سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية:

بعد التعرف على طبيعة المنازعات المعروضة أمام القضاء الشرعي والمتعلقة بالأسرة، وكذلك السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي لا بد من الربط بينهما للوقوف على سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية.
لقد سبق الحديث عن طبيعة عمل القاضي الشرعي، وأن جوهر العمل القضائي هو فصل الخصومات وقطع المنازعات ببيان الحكم الشرعي في الحادثة المعروضة عليه على سبيل الإلزام، وإن هذا العمل هو الأبرز في العمل القضائي، ولكن مع هذه المهمة الجليلة فإن للقاضي الشرعي مهام أخرى لا تقل أهمية عن وظيفة فصل الخصومات وقطع المنازعات ومنها: النظر في أمر الأوصياء والأمناء والقوام، والنظر في أمر اليتامي الذين هم تحت نظرة([13])، وغير ذلك من المهام التي ذكرها العلماء في مصنفاتهم الخاصة بأدب القضاء. وقد أخذت بعض القوانين المعاصرة بكثير منها وجعلتها من وظائف القاضي الشرعي، ومنها قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني في المادة الثانية([14]) منه التي احتوت على سبع وعشرين فقرة فصلت وظائف ومهام القاضي الشرعي أو المحكمة الشرعية. ويمكن القول أن عمل القاضي الشرعي يتجلى في ثلاثة محاور رئيسة وهي: العمل القضائي، والعمل الولائي، والعمل الإصلاحي، وسافصل الحديث في هذه المحاور على النحو التالي:

المحور الأول: العمل القضائي
إن العمل الأبرز للقاضي هو العمل القضائي البحت المتمثل في فصل الخصومات وحسم النزاعات من خلال تطبيق النصوص الفقهية أو القانونية ذات العلاقة في النزاع المعروض عليه. وعندما يكون الحديث عن القضاء الشرعي الأردني بوجه خاص، فإن القاضي ملزم بتطبيق القانون الموضوعي المعمول به في المحاكم الشرعية وهو قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (61) لسنة 1976م وتعديلاته إضافة إلى مجموعة التشريعات الإجرائية الأخرى الخاصة بالمحاكم الشرعية ومنها قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم (31) لسنة 1959م وتعديلاته.

إن قانون الأحوال الشخصية مستمدٌ من أحكام الشريعة الإسلامية بمذاهبها المختلفة. وقد اشتمل على معظم مسائل الأحوال الشخصية إلا أنه لم يستغرق جميع هذه المسائل ولذلك نصت المادة (183) منه على أنه ما لا ذكر له في هذا القانون يرجح فيه إلى الراجح من مذهب أبي حنيفة النعمان. وقد سلك المشرع في هذا القانون مسلك الإنتقاء والتخير بين الآراء والمذاهب الفقهية المختلفة ولم يتلزم مذهباً بعينه وذلك محاولة منه تبني الآراء الفقهية التي رأى أنها محققة لمصلحة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي من شأنها المحافظة على الأسرة المسلمة وحمايتها من التفكك قدر الإمكان خاصة الآراء الفقهية التي تؤدي إلى الحد من وقوع الطلاق باعتباره العامل الأكبر في هدم وتفكيك الأُسر إذ أنه لا يستخدم بالطريقة التي شرعها الله سبحانه وتعالى وهي ما يُعرف بطلاق السُنة، ضمن ضوابط وقيود يجعل من الطلاق حلاً وعلاجاً للمشكلة لا المشكلة ذاتها، حيث أصبح استخدام الطلاق بغير الطريقة التي شرعها الله سبحانه وتعالى يؤدي إلى مشاكل كبيرة تعصف بالأسرة واستقرارها، لذلك جاءت نصوص قانون الأحوال الشخصية لتحد من غلو الناس في إساءة استخدام حق الطلاق على غير الوجه المشروع، وعليه تكون سلطة القاضي في الحد من النزاعات الأسرية من خلال تطبيق نصوص القانون التطبيق الأمثل، حيث أنه لا اجتهاد في مورد النص من حيث استنباط الحكم، ولكن لا شك أن هنالك اجتهاد في التطبيق، وهو لا يقل أهمية عن الاجتهاد في الاستنباط، لأن النص الشرعي أو القانوني له طاقات متعددة؛ ويحتمل أوجهاً مختلفة في التفسير، فالاجتهاد في استثمار طاقات النص القانوني من خلال التوسع في مجال التطبيق وعدم حصره في أفق معين بالوقوف على ظواهر النصوص وعدم النظر في المقاصد والمآلات والحكمة التشريعية المتوخاة من النص القانوني([15]). هو لبَّ العمل القضائي، فالقضاء فهم وتقوى، ولا تستقيم مسيرة العدالة إلا باجتماعهما معاً.

إذن فالاجتهاد في التطبيق والتفسير هو محور سلطة القاضي في الحد من النزاعات الأسرية في المحور الأول من عمله وهو العمل القضائي، وقد قيل في هذا الصدد:
»أعطني قاضياً ولا تعطني قانوناً«.
ولإلقاء بعض الضوء على سلطة القاضي من خلال تطبيقه للنصوص القانونية أعرض لبعض الأمثلة ومنها:
1- نصت المادة (85) من قانون الأحوال الشخصية الأردني على: »يملك الزوج على زوجته ثلاث طلقات متفرقات في ثلاث مجالس«.
ومن الواضح أن المشرع لم يأخذ برأي جمهور الفقهاء القائلين بوقوع الطلاق المكرر في مجلس واحد([16])، وإنما أخذ برأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وجماعة من أهل العلم الذين ذهبوا إلى القول بأن الطلاق المكرر في مجلس واحد لا تقع به إلا طلقة واحدة([17]).
ولست بصدد بحث فقهي متخصص لأعرض حجج كل منهما، فالمسألة خلافية معروفة لا تخفى على طلبة العلم، فكيف بالعلماء والفقهاء الأجلاء.
ومع ذلك فإنني أرى أن المشرع قد أحسن صنعاً عندما ذهب هذا المذهب لما هو مُشاهد من إساءة استخدام الناس واستعجالهم لأمر الطلاق بحيث يؤدي القول إلى وقوع الطلاق المكرر في مجلس واحد إلى هدم أسرة وضياع أطفال نتيجة قرار متسرع أو سورة غضب أو موقف انفعالي سرعان ما يندم عليه الزوج ويتمنى أنه لو لم يقدم على هذا الطلاق.
وأما بيان كيفية الاجتهاد في التطبيق واستثمار طاقات النص للحد من وقوع النزاعات الأسرية فيكون بعده أمور منها: الفهم الجيد لمسألة اختلاف مجلس الطلاق وتعدده بحيث لا يكون الفهم الخاطئ لهذه المسألة عائداً على أصله بالنقض وسبباً لإضاعة الحكمة التشريعية لهذا النص من خلال سوء التطبيق وسوء الفهم، وكذلك الأمر مسألة تكرار اللفظ في مجالس مختلفة فقد تكون دائرة بين التأسيس وبين التأكيد فسوء الفهم أو التطبيق يؤدي إلى إيقاع طلاق مكرر من شأنه القضاء على أسرة، بينما حسن الفهم وحسن التطبيق قد يؤدي إلى حفظ هذه الأسرة وتماسكها.

وأرجو أن لا يُساء فهم ما أقول وأعني فيقال: أن الدعوة إلى حسن التطبيق وحسن الفهم هي في حقيقتها دعوة إلى ليِّ أعناق النصوص والتفلت من الأحكام الشرعية بعدم الحكم بترتيب آثارها عليها، فأقول عياذاً بالله أن يكون هذا القصد، بل القصد أن يتحرى القاضي في تحرير المسائل المعروضة عليه من خلال تحقيق المناط([18]) الشرعي، فإذا تحقق المناط أنزل الحكم على الواقع، وإن اختلف المناط كان الواجب حكماً آخر يوافق هذا المناط.

2- نصت المادة (91) من قانون الأحوال الشخصية على: »إذا طلق الزوج زوجته لدى القاضي طائعاً مختاراً وهو في حالة معتبرة شرعاً أو أقر بالطلاق وهو بتلك الحالة فلا تسمع الدعوى منه بخلاف ذلك«. ويفهم من هذا النص القانوني أن الطلاق المسجل لدى القاضي لا يقبل الطعن فيه، باعتباره مسجلاً بوثيقة رسمية لا يقبل الطعن فيها إلا بالتزوير كما نص على ذلك قانون أصول المحاكمات الشرعية في المادة الخامسة والسبعين منه.

ولكن واقع الحال أن كثيراً من المرضى النفسيين أو المصابين بحالات عقلية معينة، ولا تُظهر عليهم أعراض واضحة تظهر أنهم مرضى يراجعون المحاكم الشرعية ويقومون بإيقاع الطلاق على زوجاتهم وهم ليسوا في الحالة المعتبرة شرعاً لما يعتريهم من أمراض نفسية أو عقلية غير ظاهرة، وقد يكون هذا الطلاق رجعياً أو بائناً بينونة صغرى، أو مكملاً للثلاث وهي المعضلة الكبرى في هذه الحالة، لأنها تؤدي إلى تدمير الأسرة وضياعها دون وعي أو قصد من المطلق، فإذا وقف القاضي عند ظاهر النص القانوني المشار إليه حكم برد أي دعوى مقامة لإبطال هذا الطلاق المسجل بموجب حجة رسمية وهذا ما سار عليه بالفعل بعض قضاة الدرجة الأولى فأصدروا أحكاماً برد الدعاوى المقامة لإبطال هذه الحجج كون المطلق لم يكن في الحالة المعتبرة شرعاً من حيث أهليته لإيقاع الطلاق لكونه مصاباً بمرض نفسي أو عقلي يؤثر على إدراكه ووعيه وقوفاً من هؤلاء القضاة عند ظاهر النص المذكور، ولكن محكمة الاستئناف الشرعية كان لها اجتهادي قضائي متميز في فهم هذا النص فذهبت إلى القول بأن الحجج والوثائق الرسمية لا تثبت إلا الأمور التي يمكن إثباتها بشهادة منظم الحجة (المأمور)، ولكنها لا تثبت الأمور التي لا يتعلق إثباتها بذلك المأمور ككون العاقدين بصحة العقل، وسلامة البدن، ولهذا لو كان مصرحاً في الحجة أو الوثيقة بأنهما حضرا أمامه وهم بصحة العقل والجسم لا يكون ذلك كافياً لإثبات هذه الناحية، لذلك تسمع الدعوى ممن يدعي أنه لم يكن في الحالة المعتبرة شرعاً وقت إيقاع الطلاق وعليه إثبات ذلك من خلال شهادة الأطباء المختصين بذلك([19]). فهذا مثال يشير بوضوح إلى أن الفهم الجيد للنص القانوني يؤدي في كثير من الأحيان إلى حفظ الأسرة وحمايتها من الضياع، في حين أن سوء الفهم يؤدي إلى نتيجة عكسية. وفي هذا تظهر سلطة القاضي في الحد من المنازعات الأسرية من خلال حسن التطبيق للقانون.

هذه بعض الأمثلة سقتها كشواهد على أهمية دور القاضي في الحدِّ من المنازعات الأسرية من خلال حسن الفهم وحسن التطبيق للنص القانوني الموكل إليه تطبيقه، فهو لا يملك سلطة التشريع بالاجتهاد في الاستنباط، ولا سلطة تبني الآراء الفقهية التي يراها راجحة أو محققة للمصلحة، حيث إن هذه السلطة منوطة بولي الأمر، أو بالمجالس التشريعية من خلال القنوات أو المراحل الدستورية الخاصة بذلك.

ومع هذا كله فإنني أرى أنه من الضرورة بمكان ونحن نتحاور في مؤتمر قضائي شرعي دولي أن نطلق دعوة جادة لإعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية من خلال إدخال تعديلات تكون من شأنها المساهمة في المحافظة على تماسك الأسرة المسلمة وحمايتها مما يتهددها في زمن العولمة.

وأنني في هذا المجال أرى أنه لا بد من إعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية المدونة في كثير من قوانين الأحوال الشخصية ومنها القانون الأردني كمسائل وقوع الطلاق البدعي، والطلاق المعلق على شرط، والطلاق المضاف إلى المستقبل، ووقوع الطلاق خارج مجلس القاضي، وكذلك صحة الرجعة دون تسجيل أو إشهاد، حيث أن هذه المسائل وفي ضوء الجهل بالأحكام الشرعية وضعف الوازع الديني أصبحت تؤدي في كثير من الأحيان إلى هدم الأسر، وتشريد الأطفال، وتضييع الحقوق وغير ذلك من المفاسد، لذلك فإنني أرى ضرورة إعادة النظر في هذه المسائل وأمثالها من خلال اجتهادات شرعية جماعية من خلال المجامع الفقهية والمؤتمرات القضائية خاصة وأن القول بعدم وقوع الطلاق في الحالات المذكورة ووجوب تسجيل الرجعة والإشهاد عليها هو من الأقوال الفقهية التي ذهب إليها بعض الفقهاء المعتبرين ولهم في ذلك حجج وأدلة شرعية([20])، قد لا تكون راجحة بالمعنى الفقهي الدقيق، ولكنها محققة لمصالح معتبرة شرعاً، وإن لولي الأمر أن يتبنى من هذه الآراء مايراه محققاً للمصلحة وسبيلاً لإصلاح الفرد والمجتمع حتى ولو كان الرأي المتبنى مرجوحاً عند المخالف لأنه يجوز لولي الأمر فعل ذلك. ويقول الأستاذ مصطفى الزرقاء رحمه الله في هذا الصدد: »إن الفقهاء قد اعتبروا أوامر السلطان –ولي الأمر- مرعية نافذة شرعاً، ولو كانت تتضمن تقييد مطلق، أو منع جائز، أو ترجيح رأي فقهي مرجوح، ما دامت تستند إلى مصلحة يرجع إلى ولي الأمر تقديرها بحسب قاعدة المصالح المرسلة«([21]). وإنني لا أبحث هنا هذه المسائل تفصيلاً، ولا أرجح رأيا على آخر، فليس هذا المقام مقام ذلك، بل غاية ما أريده إطلاق دعوة جادة بضرورة الاجتهاد الشرعي المنضبط بالضوابط الشرعية، والمنفتح على الواقع في آن واحد، وعدم الجمود على آراء فقهية اجتهادية بعينها.

فالشريعة أوسع من مذهب بعينه، بل هي متسعة لكل المذاهب، فكل يأخذ منها نصيباً بقدر ما يسر له الله وفتح عليه في فهم أحكامها ومقاصدها وأسرارها، وهي جميعاً تتكامل في إعطاء صورة ناصعة بهية عن هذه الشريعة المحمدية.

المحور الثاني: العمل الولائي
إن القسم الثاني من أقسام عمل القاضي هو العمل الولائي، ويقصد به ما يقوم به القاضي من أعمال غير فصل الخصومات وحسم النزاعات، وقد ذكر القرافي في هذه الرتبة باعتبارها نوع من أنواع الولاية حيث قال: »الرتبة الرابعة عشرة: ولاية ليس فيها من الحكم البتة، بل تنفيذ مصالح وترتيبها على أسبابها، فأهلها كالقضاة في التنفيذ لا في الإنشاء، كالولاية على قسمة الغنائم، وإيصال أموال الغائبين إليهم، وصرف النفقات والفروض المقدرة لمستحقيها، وإيصال الزكوات لأصنافها، ونحو ذلك مما فيه تنفيذ ليس إلا، وليس فيه إنشاء حكم البتة«([22]).
ويظهر من هذا النص الفقهي أن هنالك أعمالاً منوطة بالقاضي وتدخل في ولايته غير إصدار الأحكام وفصل النزاعات، ولا شك أن ليس كل ما ذكره القرافي يدخل في ولاية القاضي في هذا الزمان، حيث أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والموضوع([23]).
وعند الحديث عن القضاء الشرعي الأردني نجد أن قانون أصول المحاكمات الشرعية رقم (31) لسنة (1959) وتعديلاته قد حدد الاختصاص الوظيفي للقضاء الشرعي في المادة الثانية والتي احتوت على تسعة عشر بنداً كان منها:
1- مداينات أموال الأيتام.
2- الولاية والوصاية والوراثة.
3- الحجر وفكه وإثبات الرشد.
4- نصب القيم والوصي وعزلهما.
5- المناكحات والمفارقات والمهر والجهاز وما يدفع على حساب المهر والنفقة والنسب والحضانة.
6- كل ما يحدث بين الزوجين ويكون مصدره عقد الزواج.
7- تحرير التركات.
8- التخارج.
9- كل ما يتعلق بالأحوال الشخصية بين المسلمين.

هذا بالإضافة إلى أمور أخرى لا علاقة لها بالأحوال الشخصية، ويظهر من ذلك أن للقاضي الشرعي ولاية واسعة في كل ما يتعلق بالأسرة، ولهذا كان من الواجب على القاضي أن يستخدم هذه الولاية في الحد من المنازعات الأسرية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

وهذا ما يحصل بالفعل من خلال الممارسة العملية للعمل القضائي الولائي وسأوضح ذلك من خلال بعض الأمثلة:
1- إن للقاضي سلطة تأجيل تسجيل الطلاق المدة التي يراها مناسبة، فإذا ما طلب شخص إلى القاضي سماع طلاقه وتسجيله، ووجده القاضي في حالة انفعالية أو غضب أو ما شابه ذلك بادر فوراً إلى إمهاله وتأجيل سماع طلاق، بل إن العمل جارٍ على تأجيل كل طلاق رجعي، وكل طلاق بائن بينونة كبرى مدة لا تقل عن شهر حتى يراجع المطلق نفسه، ويتخذ قراره بعيداً عن الغضب والانفعال وردة الفعل. وكثيراً ما يكون لهذا التأجيل من ثمار إيجابية في عدم إيقاع الطلاق، حيث لا يعود طالب الطلاق إلى المحكمة مما يعني عدوله عن رغبته في إيقاع الطلاق.

2- نصت المادة (2) من قانون الأحوال الشخصية المعدل رقم (82) لسنة 2001 على: »يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين وأن يكون كل منهما قد أتم الثامنة عشرة من عمره إلا أنه يجوز للقاضي أن يأذن بزواج من لم يتم منهما هذا السن إذا كان قد أكمل الخامسة عشرة من عمره وكان في مثل هذا الزواج مصلحة تحدد أسسها بمقتضى تعليمات يصدرها قاضي القضاة لهذا الغاية«.

يلاحظ من هذا النص القانوني أن من أهلية الزواج بلوغ سن الثامنة عشرة ولكن يجوز للقاضي أن يأذن بزواج من بلغ الخامسة عشرة من عمره إذا كان في هذا الزواج مصلحة له. وعلى ذلك فإن للقاضي سلطة تقدير هذه المصلحة، فإذا وجد أن الإذن بالزواج لا يحقق مصلحة لأحد الخاطبين، وأن عوامل استمرار ونجاح هذا الزواج غير متحققة، منع هذا الزواج بما له من سلطة ولائية ولم يعط الإذن لإتمامه، ومن المعروف أن من أهم العوامل في الحد من النزاعات الأسرية هي حسن اختيار كل واحد من الخاطبين للآخر، وكذلك تحقق الكفاءة بين الزوجين، فإذا منع القاضي سوء الاختيار، أو عدم الكفاءة لا شك أنه قام بدور هام في الحد من المنازعات الأسرية من خلال معالجة جذور المسألة وأسبابها.

3- إن من وظيفة القاضي الشرعي حسب المادة المشار إليها نصب القيم والوصي وعزلهما. فتعيين الأوصياء على القاصرين إن لم يكن لهم ولي أو وصيٌ مختار من قبل الأب هي من صلاحية القاضي وسلطته، ولا ريب أن إختيار الوصي الأصلح والأكفأ هو أحد ضمانات المحافظة على أموال القاصرين وبالتالي وضع حد المنازعات الأسرية المالية الناشئة عن تقسيم التركات واستثمار أموال الأيتام والتصرف بها.

فولاية القاضي في هذا المجال أحد العوامل الهامة التي تحد من المنازعات الأسرية ذات المنشأ المالي.
والأمثلة كثيرة ومتعددة اكتفي بما ذكرت خشية الإطالة وكلها تدور حول سلطة القاضي الولائية وما لها من أثر من الحد من المنازعات الأسرية، ولكن ذلك منوط بالقاضي الحصيف الذي يحسن استخدام سلطته، ويبتغي بذلك وجه ربه، وهنا لا بد من التوصية بحسن اختيار القضاة عند تعيينهم ممن يتصفون بالعلم والتقوى لقوله تعالى: ﴿ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﴾ [سورة القصص: 26] فهم المؤتمنون على أموال الناس وأعراضهم.

المحور الثالث: العمل الإصلاحي.
إن هذا المحور لا يقل أهمية عن المحورين السابقين، كما أنه لا ينفك عنهما، فالصلح بين الخصمين هو سبيل لإنهاء الخصومة بينهما، وما جعل القضاء إلى لحسم الخصومات وقطع المنازعات، فإذا كان الصلح عقداً يرفع النزاع بالتراضي([24])، فهو يتفق والغاية المنشودة من القضاء، لذلك كان مندوباً للقضاة عرض الصلح، ومحاولة إنهاء النزاع بالتراضي بين الخصوم.
فالصلح مشروع ومأمور به في هذه الشريعة الغراء في كتاب الله وسنة رسوله ×، وعمل السلف الصالح !.
أما في كتاب الله تعالى، فقد قال عز وجل: ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ﴾ [سورة النساء: آية 114].
وأما في سنة رسول الله × فقد روي عنه × أنه قال: »الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرم حلالاً«([25]).
وأما السلف الصالح فقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ÷ أنه قال: »ردّوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن«([26]).
وقد استدل الفقهاء بهذه النصوص على مشروعية عرض القاضي للصلح على الخصمين وأنه يندب له ذلك إذا كانا من أهل الفضل، أو بينهما رحم، أو خشي من تفاقم الأمر بينهما([27]).
ومع ذلك فإنه يندب إلى القاضي عرض الصلح على الخصمين، ولكن إن أبيا أو أبى أحدهما لم يُلح عليهما إلحاحاً يُشبه الإلجاء، بل يفصل بينهما بالواجب([28]).

وهذا يدل على أن للقاضي دوراً إصلاحياً اجتماعياً من خلال عمله القضائي، بل هو الأقدر من غيره في كثير من الأحيان على تحقيق الصلح بين الخصمين، لما يتمتع من هيبة وإجلال في نفوس الخصوم، فيقع كلامه من نفوسهم موضع الاحترام والتقدير والقبول خاصة إذا كان متصفاً بصفات العدالة والنزاهة والحياد المطلق والتنزه عن المآرب والغايات الشخصية.

وإذا كان من المندوب للقاضي بوجه عام عرض الصلح على الخصمين، فإن ذلك آكد في حق القاضي الشرعي في هذا الزمان الذي اختص، بقضايا الأسرة والأحوال الشخصية، لما لهذه القضايا من خصوصية كونها متعلقة بالأسرة والأطفال والزوجات، لذلك لم تغفل قوانين الأحوال الشخصية بوجه، وقانون الأحوال الشخصية الأردني بوجه خاص دور القاضي في الإصلاح الأسري، وحلّ المنازعات الأسرية بطريق الصلح وذلك في العديد من القضايا سواء قضايا النفقات، أو التفريق للشقاق والنزاع، أو التفريق بالخلع القضائي، أو أي قضية أخرى من قضايا الأحوال الشخصية.

ففي قضايا النفقات سواء أكان نفقات زوجة، أو صغار، أو أقارب أو غير ذلك من النفقات يكون سبيل فرضها والحكم فيها أحد أمرين: التراضي بين الخصوم على مقدارها، أو عن طريق الإخبار الذي هو نوع من أنواع التحكيم.

ويكون دور القاضي الشرعي غالباً محاولة التوفيق بين الخصوم على مقدار النفقة، وتقريب وجهات النظر بينهم في هذا المجال، أو على إيصالهم للاتفاق على انتخاب خبير أو حكم من قبلهم يلتزمون بإخباره، باعتبار ذلك نوعاً من أنواع التحكيم.
وأما قضايا التفريق للشقاق والنزاع وكذلك التفريق للخلع القضائي فقد أوجب القانون على القاضي أن يعقد جلسة صلح بين الزوجين يبذل القاضي فيها جهده للإصلاح بينهما، وتذكيرهما بما أوجب الله سبحانه وتعالى على كل منهما تجاه الآخر، فإن أفلح في ذلك وأثمرت جهوده في إيصالهما إلى الصلح والمحافظة على عرى الزوجية وعلائق المودة بينهما انتهت القضية، وإن لم يفلح في ذلك أوجب القانون على القاضي بعث حكمين من أهلهما إن أمكن ذلك وإلا فمن غيرهما لمحاولة متابعة جهود الإصلاح بينهما، فإن لم يفلحا في ذلك كان التفريق هو مآل الأمر ونتيجته على تفصيل بيّنته المادة (132) من قانون الأحوال الشخصية الأردني فيما يتعلق بالشقاق والنزاع، والمادة (126) فيما يتعلق بالخلع القضائي.

وكثيراً ما يفلح القضاة بحمد الله بالتوفيق بين الزوجين ورأب الصرع بينهما. ولمِّ شمل الأسرة من خلال الموعظة الحسنة، وإثارة تقوى الله سبحانه وتعالى في نفسيهما، وبيان العواقب الوخيمة المترتبة على الطلاق من هدم للأسرة وضياع للأولاد، خاصة وأن للقاضي تأثيراً على الخصمين كما أسلفت سابقاً، ولكن في أحياناً أخرى ليست بالقليلة لا تفلح جهود القضاة في الصلح بين الخصمين، وكذلك لا تفلح جهود الحكمين فتبوء جميع مساعي الصلح بالفشل.

وهنا لا بد من وقفة تحليل وتأمل لفشل جهود الإصلاح المبذولة من القاضي أو من الحكمين، لأن الأصل أن تفلح هذه الجهود بدليل قوله تعالى: ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ﴾ [سورة النساء: 35].
حيث إن المراد بقوله تعالى: ﴿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ يعني الحكمين في قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، أي إن يرد الحكمان إصلاحاً يوفق الله بين الزوجين. وقيل: المراد الزوجان أي إن يُرد الزوجان إصلاحاً وصدقاً فيما أخبرا به الحكمين يوفق الله بينهما([29]). فالضمير في قوله تعالى: ﴿ ﮉ ﮊ ﮋ﴾ يجوز أن يكون للحكمين ويجوز أن يكون للزوجين، وكذلك الضمير في قوله تعالى: ﴿ﮌﮍ ﮎ﴾ والأوفق جعل الضمير الأول للحكمين والثاني للزوجين أي أن يقصد الحكمان إصلاح ذات البين بنية صحيحة مع إخلاص النصيحة لوجه الله تعالى: إن يقصدا ذلك يوفق الله بين الألفة والمحبة، ويلقي في نفسهما الموافقة وحسن العشرة([30]).
فإذا كان الأصل أن تفلح جهود القاضي أو الحكمين، ولكن أصبح الغالب عليها عدم النجاح، فذلك مؤشر على خلل ما في هذه الجهود، وهذا الخلل له عدة أسباب منها:

1- ازدياد عدد القضايا المنظورة من قبل القاضي الواحد، بحيث يتعذر مع هذه الكثرة إعطاء كل قضية حقها من بذل الجهد ومحاولة الإصلاح، حتى أصبح في كثير من الأحيان عرض الصلح أمراً إجرائياً شكلياً، لا يستغرق سوى دقائق معدودة لا يتصور معها نجاح في تحقيق صلح، أو رأب صدع، أو توفيق بين الآراء. لذلك كان من الضرورة بمكان دعم الجهاز القضائي بالعدد الكافي من القضاة لكي يستطيعوا القيام بمهامهم الجليلة.

2- إن عدم الخبرة الكافية عند بعض القضاة خاصة في مجال الإصلاح والتوفيق الأسري سبب هام في فشل جهود الوساطة والإصلاح، لذلك لا بد من تدريب وتأهيل مستمرين للقضاة، من خلال عقد دورات متخصصة في مجال الإصلاح والتوجيه الأسري، يُستعان فيها بأهل الخبرة والاختصاص في هذا المجال.
3- عدم الجدية والاهتمام الكافي من قبل بعض القضاة أثناء عرضهم للصلح، فيتعاملون مع المسألة وكأنها أمر شكلي عرضي، وهنا لا بد للقاضي أن يستشعر خطورة وأهمية منصبه وعمله، وأنه مراقب من الله سبحانه وتعالى ومسؤول عن عمله ومحاسب عليه، كما أنه لا بد من تفعيل دور التفتيش القضائي الذي يقوم بدور الرقابة والتقييم لعمل القاضي وعلى أساس هذا التقييم يكون وضع القاضي المناسب في المكان المناسب، وبموازاة ذلك لا بد من التأكيد على حسن اختيار القضاة عند التعيين، فلا يعين إلا من كان أهلاً لتولي هذا المنصب العظيم بعلمه وأخلاقه ودينه. وما يقال عن القضاة يقال أيضاً عمن ينتخون ويبعثون حكاماً بين الزوجين من قبل القضاة.

ولا شك أن إيلاء أمر الإصلاح بين الزوجين العناية اللازمة له أثر كبير في الحد من المنازعات الأسرية، كما أن إيجاد قسم خاص بالإصلاح والتوجيه الأسري تابع للمحاكم الشرعية، يكون اللجوء إليه أمراً واجباً قبل اللجوء إلى القضاء أضحى مطلباً ضرورياً.

وإدراكاً من المسؤولين والقائمين على دائرة قاضي القضاة، وخاصة سماحة الأستاذ الدكتور أحمد محمد هليل قاضي القضاة إمام الحضرة الهاشمية لأهمية إيجاد قسم خاص بالإصلاح والتوجيه أو الإرشاد الأسري، قامت دائرة قاضي القضاة بإعداد مشروع نظام خاص بذلك ثم رفعه إلى الجهات المعينة ليصار إلى إقراره، ومن ثم العمل به، ليرى هذا القسم النور ويباشر عمله مستعيناً بذلك بأهل الخبرة والاختصاص في شتى المجالات سواء أكانت قضائية، أو اجتماعية أو نفسيةلتتضافر الجهود وتتكامل في العمل على الحد من المنازعات الأسرية وحلها عن طريق الصلح بين الزوجين فإن لم يمكن ذلك، فليكن الفراق بالتي هي أحسن من خلال ما يعرف بالطلاق الصحي، وهو الطلاق الذي يتفق فيه الزوجان على الانفصال وعلى كافة الحقوق المترتبة على هذا الطلاق سواء ما يتعلق بالمطلقة أو المطلق أو أولادهما. بحيث يخففان من الآثار السلبية المترتبة على هذا الطلاق والواقعة على أي فرد من أفراد الأسرة.

وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك هذه الجهود المبذولة للعمل الجاد على حل النزاعات الأسرية بالطرق السلمية الصحيحة دون اللجوء إلى أروقة المحاكم، وإفشاء أسرار الأُسر، وهتك حرمات البيوت.

وبعد:
فهذه عجالة سلطت فيها بعض الضوء على سلطة القاضي في الحدِّ من المنازعات الأسرية، أرجو أن أكون قد وفقت لبيان هذه السلطة وأهميتها، سائلاً المولى أن يبارك هذا المؤتمر والقائمين عليه، وأن يجعل ذلك في صحائف أعمالهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

النتائج والتوصيات

1- إن للقاضي الشرعي سلطة تقديرية أثناء نظره للدعاوى والقضايا المختلفة، ولكنها سلطة مقيدة منضبطة وليست سلطة مطلقة.
2- تظهر سلطة القاضي التقديرية في الحد من المنازعات الأسرية من خلال ثلاثة محاور: العمل القضائي، والعمل الولائي، والعمل الإصلاحي.
3- يفلح القضاة في الحد من المنازعات الأسرية في بعض الأحيان، ويخفقون في أحيان أخرى نتيجة ظروف وعوامل لا بد من معالجتها.
4- إن من عوامل نجاح القاضي في الحد من المنازعات الأسرية ما يلي:
أ- التشريعات المناسبة التي تعطي القاضي سلطة أوسع للحد من المنازعات الأسرية.
ب- التدريب والتأهيل للقاضي في مجالات الإصلاح الأسري.
جـ- الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص.
د- توفير الظروف المناسبة لبذل الجهد ومحاولات الإصلاح.
5- إن اختيار القاضي الكفوء علمياً وأخلاقياً ومهنياً أحد الأسباب الرئيسة في الحد في المنازعات الأسرية.
6- إن إيجاد مكاتب التوجيه والإرشاد الأسري باعتبار اللجوء إليها أمراً لازماً قبل اللجوء إلى القضاء عنصر هام من عناصر الحد من المنازعات الأسرية.
7- الوقاية خير من العلاج في مسألة الحد من المنازعات الأسرية وذلك من خلال منع حصول الأسباب التي قد تؤدي إلى وجود النزاعات الأسرية.
8- ضرورة العمل على إيجاد قانون أحوال شخصية عصري مستمد من أحكام الشريعة الإسلامية يراعي الظروف والمتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المسلمة.
9- الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي المنضبط بضوابط الشريعة لحل المشكلات والنوازل التي تواجه المجتمعات الإسلامية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قائمة المراجع والمصادر

1- القرآن الكريم.
2- الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للإمام شهاب الدين القرافي المالكي، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة، الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب.
3- أدب القضاء للقاضي شهاب الدين أبي إسحق الهمداني الحموي المعروف بابن أبي الدم الشافعي المتوفى 642هـ، تحقيق محي هلال السرحان، مطبعة الإرشاد، بغداد، الطبعة الأولى 1404هـ – 1984م.
4- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، تأليف الشيخ زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، دار الكتب العلمية – بيروت – 1405هـ – 1985م.
5- إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف ابن قيم الجوزية، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1374هـ – 1955م.
6- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام للقاضي برهان الدين ابن فرحوت المالكي المتوفى سنة 799هــ بهامش فتح العلي المالك للشيخ أحمد عليش، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأخيرة، 1378هـ – 1958م.
7- التعريفات للشريف علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة الأولى سنة 1403هـ – 1983م.
8- تفسير آيات الأحكام للشيخ محمد علي السايس، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع – القاهرة، الطبعة الأولى سنة 2001م.
9- الجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد بن أحمد القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى 1416هـ – 1995م.
10- درر الحكام شرح مجلة الأحكام تأليف علي حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
11- الدستور الأردني، منشور في الجريدة الرسمية في العدد رقم (1093) الصادر بتاريخ 8/ 1/ 1952م.
12- شرح أدب القاضي للخصاف، تأليف برهان الأئمة حسام الدين عمر بن عبدالعزيز بن مازة البخاري المعروف بالصدر الشهيد المتوفى سنة 536هـ تحقيق محيي هلال السرحان، الدار العربية للطباعة، بغداد 1398هـ – 1978م.
13- شرح قانون الأحوال الشخصية، الأستاذ الدكتور محمود السرطاوي، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة الأولى 1417هـ – 1997م.
14- شرح قانون الأحوال الشخصية، الدكتور مصطفى السباعي، دار الورّاق للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة التاسعة 1422هـ – 2001م.
15- شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني، الدكتور عمر سليمان الأشقر، دار النفائس، عمان الأردن، الطبعة الأولى، 1417هـ – 1997م.
16- شرح مجلة الأحكام، سليم رستم باز اللبناني، دار إحياء التراث العربي، بيروت 1986م.
17- علم أصول الفقه، الشيخ عبدالوهاب خلاف، الناشر دار القلم للطباعة والنشر، الطبعة الثانية عشرة 1398هـ – 1978م.
18- قانون أصول المحاكمات الشرعية الأردني رقم (31) لسنة 1959م وتعديلاته، منشور في الجريدة الرسمية عدد رقم (1449) الصادر بتاريخ 1/ 11/ 1959م.
19- قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (61) لسنة 1976م وتعديلاته منشور في الجريدة الرسمية عدد رقم (2668) الصادر بتاريخ 1/ 12/ 1976م.
20- قانون تشكيل المحاكم الشرعية الأردني رقم (19) لسنة 1972م وتعديلاته منشور في الجريدة الرسمية عدد رقم (2375) الصادر بتاريخ 6/ 5/ 1972م.
21- القرارات الاستئنافية في الأحوال الشخصية، الشيخ أحمد محمد علي داود مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، عمان، الطبعة الأولى سنة 1999م.
22- مجلة الأحكام العدلية.
23- مختار الصحاح، تأليف محمد بن أبي بكر الرازي المتوفى سنة 666هـ، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الأولى سنة 1967م.
24- مشروع قانون الأحوال الشخصية الموحد للإقليميين المصري والسوري في عهد الوحدة بينهما مع مذكرته الإيضاحية، ثم وضعه على يد لجنة خاصة، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى 1416هـ – 1996م.
25- مشروع القانون العربي الموحد للأحوال الشخصية مع المذكرة الإيضاحية.
26- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي تأليف أحمد بن محمد المقري الفيومي، دار الكتب العلمية، بيروت.
27- معجم لغة الفقهاء، وضعه: أ. د. محمد رواس قلعة جي، دار النفائس، الطبعة الأولى 1416هـ- 1996م.
28- معين الحكام على القضايا والأحكام للشيخ أبي إسحق بن عبدالرفيع المتوفى 733هـ، تحقيق د. محمد بن قاسم عياد، دار الغرب الإسلامي، بيروت –لبنان 1989م.
29- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام تأليف الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1393هـ – 1973م.
30- الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، مطابع دار الصفوة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1415هـ – 1995م.
31- المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، د. فتحي الدريني، الشركة المتحدة للتوزيع، دمشق – الطبعة الثانية، 1405هـ – 1985م.