دراسة توضح العلاقات الدولية من حيث الروابط بين النظرية و الممارسة في السياسة الدولية

العلاقات الدولية: الروابط بين النظرية والممارسة في السياسة الدولية.
ستيف سميث
ترجمة: عادل زقاغ وعبد الله راقدي.

أهدف من هذه المداخلة المفتوحة إلى طرح تساؤل واحد: ما هي طبيعة العلاقة القائمة بين دراسة العلاقات الدولية وممارستها؟ أود الإجابة عن هذا التساؤل عبر استعراض ومن ثم استبعاد سببين يحظيان بالرواج والإقناع والجاذبية، لكن قبل ذلك، سأقدم ثلاث ملاحظات حول السياق الذي يميز طرح مثل هذا التساؤل.

الملاحظة الأولى تتعلق بـ “التوقيت”، حيث تزامن طرح هذا السؤال مع حالة الحرب على العراق، تلك الحرب التي نأت فيها الأوساط الأكاديمية بنفسها بعيدا عنها، وكأن لا علاقة لهذه الحرب بما يتم دراسته في حقل العلاقات الدولية. وبالفعل، فعندما عقدت جمعية الدراسات الدولية ملتقى بـ بورتلاند في فيفري 2003، أي عشية اندلاع الحرب على العراق، لم يتم التعرض بأدنى إشارة لموضوع الحرب، عدا بعض المتظاهرين اللذين احتجوا بشجاعة ضد الحرب الوشيكة. ليجلبوا لأنفسهم انتقادات تتهمهم بالخلط بين قيمهم ونشاطهم المهني (ولأكون صريحا وصادقا، بحيث تكون قيمي معرضة للتمحيص، فقد انضممت إلى معسكر الرافضين جنبا إلى جنب مع جون فاسكواز الذي كان آنذاك رئيسا للجمعية”. وحتى قبل الحرب كانت هناك حرب أفغانستان وأحداث 11 سبتمبر، وما تخلل كل هذه الفترة من المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. إن الطريقة التي تعاطى بها الأكاديميون مع الأحداث السابقة والتي اتسمت بالجمود في أغلب الأحيان، تجعل من الوقت الحاضر مناسبا للبحث في الروابط بين النظرية والممارسة.

الملاحظة الثانية تتعلق بـ “المجال الجغرافي”، فقد تم إلقاء هذه المحاضرة في بودابست بأوروبا الوسطى، وهي مكان ملائم جدا لطرح التساؤل بشأن العلاقة بين الدوائر الأكاديمية والعمل السياسي، وهذا بالنظر للسجل التاريخي للبحث الأكاديمي في هذه المنطقة خلال فترة الحكم الشيوعي، لاسيما التقليد البحثي الذي أملته الأيديولوجية المهيمنة المتنفذة. هذا التقليد البحثي ناجم عن تحديد الجمعيات الرسمية سلفا لماهية الحقيقة مما ترك هامشا ضيقا للنقاش، وساهم في إرساء شكل معين للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية والعمل السياسي. وهكذا، فإنه حان الوقت لطرح التساؤل بخصوص الربط بين حقل العلاقات الدولية والمجتمع المدني والوفاء بالتزاماته تجاه هذا الأخير.

أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتتعلق بـ “الثقافة”، إذ أن أحداث 11 سبتمبر نبهت الباحثين في العلاقات الدولية إلى وجود نظم عقدية متباينة وعوامل ذاتية، في السياسة الدولية. وقد جعل الكثير من الافتراضات الأساسية في علم الاجتماع الغربي محل استفهام، لاسيما تلك التي تعتقد بعقلانية الفعل الإنساني الاجتماعي. ترى هذه العقلانية أن العالم يتجه نحو مصير مشترك، يتسم بالديموقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، وأن المجتمعات تتمايز بحسب موقعها في مسار عجلة التاريخ، التي تقود جميع المجتمعات نحو وضعية واحدة، حيث الأفراد ذرائعيون عقلانيون، يعملون على تعظيم القيمة وفق النمط الذي يطرحه علم الاجتماع الغربي. وحسب وجهة النظر هذه، فإن الذاتانيات المتميزة هي مجرد وجه للعولمة والتحديث “الحتميين”. هذه النظرة للمجتمع تمنحنا إجابة دقيقة عن العلاقة بين النظرية والممارسة، تلك التي تلح على الفصل بين الاثنين، وهو ما يجعلني أطرح استفهاما بشأنه في هذه المداخلة.

من وجهة نظر شخصية، يعتبر السؤال الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذا الحقل المعرفي، هو ما إذا كان الأكاديميون ملزمون بالتوجه نحو التمرس في الشؤون الدولية، أم أنه يتوجب عليهم الابتعاد عن ذلك طالما أن التوجه الأكاديمي يعني أن يلتزم المرء بالحياد، وأن يبتعد عن الاهتمامات الآنية للأجندة السياسية؟ دعوني أقدم لكم طريقتين للإجابة عن هذا التساؤل، واللتان أود استبعادهما في النهاية.

تقتضي الطريقة الأولى بضرورة أن ينأى الأكادميون بأنفسهم بعيدا عن النقاشات الدائرة حول قضايا العلاقات الدولية، لأنه يفترض فيهم أن يحافظوا على حيادهم القيمي إزاء الأحداث السياسية. ووفقا لهذه النظرة، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب تفادي طرح أسئلة معيارية. ترتبط هذه النظرة بالتصورات ذات النزعة الإمبريقية في المعرفة مجازة في ذلك من طرف المنهج الوضعي، وتلقى رواجا كبيرا عند علماء الاجتماع الأمريكيين (ليس فقط في مجال العلاقات الدولية، بل أيضا في علم الاقتصاد، وعلم السياسة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع)، وهي تسلم بضروروة فصل العمل الأكاديمي عن العالم “الواقعي” للسياسة، والمجتمع، والاقتصاد، وترى أن هذا العمل يقتصر على نقل وقائع هذا العالم. وبناء على ذلك، فإن الاستقامة الأكاديمية تستوجب الحفاظ على مسافة فاصلة بين الباحث والعالم الواقعي الذي يستمد منه ملاحظاته، ويعتبر ذلك نتيجة لالتزام علماء الاجتماع الأمريكيين بالحياد القيمي في مسعاهم للبحث عن المعرفة، الحياد الذي يستوجب التمييز بين القيم والحقائق، بين الذات الملاحظة وموضوع الملاحظة، بين المحلل وموضوع التحليل، وبين عالم السياسة المتعفن، والبرج الأكاديمي الآمن والتأملي المحايد.

لا تكتفي وجهة النظر هذه فقط بأهمية الإبقاء على الفصل بين النظرية والممارسة، ولكنها أيضا تكيل انتقادات لاذعة لكل من لا يحترم هذا التمايز. لقد حدثت هناك العديد من النقلات النظمية في حقل العلاقات الدولية في اتجاه تكريس هذا التمايز، وينسحب ذلك على التفريق بين المثالية والواقعية وتجسد كذلك في النقاشات المحتدمة بين الاتجاه السلوكي والكلاسيكي، وهو متجسد حاليا في تهجم الباحثين ذوي النزعة العقلانية على الأعمال التأملية، وأعني تلك التي تدخل في نطاق ما بعد الحداثة، النسوية والجندر، والنظرية النقدية، والمقاربات الإثنية والثقافية في العلاقات الدولية. من المهم جدا من الناحية النقدية الإشارة إلى أن التهجم على أعمال التأمليين لا يعود إلى أنهم يرسمون صورا لعوالم أخرى غير عالم العلاقات الدولية، بل لأن هذه المقاربات لا تحظى بالشرعية الأكاديمية مع ما يعنيه ذلك على الصعيد المهني وعلى صعيد فرص النشر.
إن المشكلة مع هذه الرؤية للعلاقة بين الأوساط الأكاديمية وعالم السياسة، هي أنها تستند إلى نظرة محكومة بخصوصيات تاريخية معينة لطبيعة علم الاجتماع، وهي نظرة تبقى محل استفهام، ويمكن لأي تحليل من وجهة النظر هذه أن يكون مضبوطا إذا ما تم اللجوء إلى أسس ثابتة للطرح المعرفي. غير أن هذه النظرة تستدعي المزيد من التمحيص من حيث أنه لا يوجد فعليا أسس إبستمولوجية مضبوطة على المستوى الماوراء نظري والعبر-ثقافي. ومن وجهة نظري، فإن المشكلة ليست مطروحة مع ما يسمى “بالنسبيين”، ولكن بالأحرى هي مطروحة مع أولئك اللذين يرفضون الإقرار بالطابع النسبي لأعمالهم بسبب السياق العام والثقافة التي وجدت في ظلها هذه الأعمال. وبعبارة أخرى، فإن أولئك الذين يتهجمون على المقاربات باعتبارها نسبية، إنما يفعلون ذلك على أساس خلفيات معرفية تعتبر هي ذاتها متحيزة، وتشكلت عبر تفاعل اجتماعي تاريخي، وهم بذلك يعكسون قوى ودوافع سياسية واقتصادية، واجتماعية معينة. وهو ما أشار إليه كوكس Cox عام 1981 في عبارته الشهيرة:” النظرية هي دوما من أجل أحد ما، ولهدف معين”.

أعتقد أنه لا توجد نظرة من لاشيء، ولا توجد نظرة مضبوطة صادرة عن ملاذ أكاديمي بمعزل عن تأثيرات القوة والسياق الاقتصادي والسياسي، والاجتماعي والثقافي وأن كل المعارف متحيزة، وبهذا فإنه لا توجد نظرة تتوافق مع الحقيقة، فالنظرية ليست مرآة للطبيعة، ونخلص من ذلك إلى أن كل الطروحات المعرفية هي نتاج سياق القوة الذي نشأت فيه. يؤثر هذا السياق على مستويين أساسيين:

في طبيعية الأسئلة المطروحة(مثلا، التفكير في العلاقة بين حقل العلاقات الدولية في الثلاثينات من القرن العشرين ومصالح القوى المهيمنة، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ أو العلاقة بين المواضيع الأساسية للعلاقات الدولية منذ 1945 أجندة صياغة السياسة الأمريكية). أما المستوى الثاني من التأثير فيتعلق بالتأثيرات السياقية، والمتأثرة بدورها بطبيعة الفئات التي تنتمي إليها، تلك التي تتشكل فيها علومنا وعوالمنا الذاتية. وأحسن مثال على ذلك، هو الطريقة التي تم فيها التميز بين الداخل والخارج، بين السياسة والاقتصاد، بين “النحن” و”الهم”، بين “الموت” الناجم عن السياسة و”الموت” الناجم عن الاقتصاد.
وهكذا، فإن الإقرار بوجود مكان معزول ومؤمن حيث يتيسر للأكاديميين الحقيقيين ملاحظة العالم، يتوقف على تصور مسبق للعالم، لا يتم الإقرار به في العادة. مثلا، النظرة للعلوم الاجتماعية تقارب للعالم كمعطى مسبق تماما مثلما تقدم نفسها للمحللين كطرف خارجي ومنفصل، وهي بذلك لا تبحث في الطريقة التي تتشكل بها النظرية والعالم، لتعاود النظرية تشكيله ليقوم بعدها في الأخير، ومن ثمة، بإعادة تشكيل النظرية. بطبيعة الحال فإن نظرتي الخاصة في حد ذاتها متفتحة للنقد. والقضية الأساسية في هذا النقد تتركز حول احتمال أن أكون ساعيا إلى محاولة تمرير قيمي الخاصة في التحليل، بذريعة أن الكل يفعل ذلك، أو أنني أرتكب خطأ في تقديم طبيعة علم الاجتماع بحيث تسببت في تقويض دعائم البحث الأكاديمي المستقل. لقد تمت مناقشة هذه المواقف من طرف وولت (1998) Walt، كيوهان (1998) Keohane، وكاتزنشتاين وآخرون…، في تقديمهم لأعمال التأمليين، وبحسب هؤلاء الباحثين، فإن أي طرح لا يقبل بإمكانية الحياد القيمي يوجد خارج المسعى الاجتماعي العلمي، لذلك سيتعرض لمخاطر التهميش طالما أنه يتحاشى الإقرار بإمكانية استقلالية العمل الأكاديمي. وفي هذا الصدد يقول كاتزانشتاين وآخرون (1998:ص 618) بأن مجلة المنظمة الدوليةInternational Organization قامت بنشر القليل فقط من الأعمال التأملية:” طالما أن مجلة “المنظمة الدولية” التزمت بخط يقضي بأن ما بعد الحداثيين لا يقرون باستعمال الشواهد لإصدار حكم إزاء إدعاء الحقيقة. كما أنه وخلافا للبنائية الاتفاقية أو النقدية، فإن ما بعد الحداثة تقع خارج مسعى علم الاجتماع. وفي العلاقات الدولية، يخشى أن تؤدي بحقل العلاقات الدولية لأن يصبح ذاتي الاستشهاد وأن تفك ارتباطه بالعالم، ولا يهم إن وجدت ادعاءات تناقض هذا الطرح.

وجهة النظر الثانية، بخصوص العلاقة بين النظرية والممارسة، تتمحور حول الواجب الملقى على عاتق الأكاديميين لمساعدة صانعي السياسة في بلدهم، وبذلك فإن دورهم يتمثل في تزويد السلطة بالحقيقة، وحسب والاس Wallace ، فإن على باحثي العلاقات الدولية أن يتجندوا لنقد بناء ومنفتح لتزويد السلطة بالحقيقة، وعدم إخفاء المعرفة في عبارات لغوية منمقة وغامضة، أو إدخال أنفسهم في متاهات الجدال اللغوي أو حتى تداول الحقيقة سرا بينهم. يحذر والاس من أن هذا الحقل المعرفي في حالة خطر، إذا ما ستمر في اللجوء إلى المزيد من التجريد وإلى المزيد من النظريات والنظريات الماورائية، والذي يرى أنه أسهل وأكثر متعة من العمل الشاق في تفاصيل دراسة الحالة. ويقترح والاس (والاس:317) على الباحثين أن يندمجوا في العالم الذي تمارس فيه السياسة بدلا من الانفصال المثير الذي تدعوا إليه ما بعد الحداثة بإدعاء منهم بأنهم يرغبون في تحويل العالم، بينما هم يتفادون الاحتكاك بأولئك اللذين يمارسون نفوذا معتبرا في العالم. ولقد تم اقتباس عبارات والاس مؤخرا من قبل كاتب الدولة البريطاني للتربية تشارلز كلارك؛ حيث رأى على أن التركيز على النظرية يؤدي إلى قطع التمويل على المعاهد الجامعية، قال:”لا يمكننا تبرير تخصصاتنا أساسا من منطلقات فلسفية أو جمالية… كما أنه لا يفترض أن نعمل على إنشاء نظام رهبنة. إذ يجب أن نبقي أبواب الجامعة مفتوحة… وهذا لنزود أولئك اللذين يتعين عليهم أن يتعاملوا مع مشاكل السلطة بالحكمة والخبرة” (والاس1996،ص ص. 320-321).
طرح شارلز كلارك في الأشهر الثلاثة الماضية نفس التحد أمام الجامعات في إنجلترا، عندما تساؤل عن مبرر وجودها، وقال أن مبرر ذلك هو اندماجها في المجتمعات التي وجدت فيها، وأن جامعة لا تأخذ ذلك بعين الاعتبار فإنها لن تحصل على التمويل الحكومي.

تطرح مثل هذه النظرة للعلاقة بين النظرية والممارسة العديد من المشاكل، سأعدد خمسة منها.

  • أولا، أنها تركز على العملية الشكلية أو الرسمية بدلا من العمليات السياسية في تصورها الأوسع والذي تضم المجتمع المدني، وبالمثل، فإن المرجعية بالنسبة لهذه النظرة تتمثل في الدولة واهتماماتها وليس اهتمامات المجتمع المدني، وباختصار فهي نظرة ضيقة جدا للسياسة.
  • ثانيا، تتبنى هذه النظرة الأجندة السياسية للدولة، وبذلك فهي تفترض علاقة وثيقة بين حقل العلاقات الدولية والسلطة، مما يعني أن الطلبة سيمزجون بين عالم السياسة والعالم الخاص بالسياسيين البارزين ويقبلون بذلك أجندتهم كما هي.
  • ثالثا، تتجه نحو مواجهة الفكر طالما أنها تنفي إمكانية حصول تقييم ذاتي والقيام بالتفكير في مضامين المفاهيم التي تعمل في حدودها.
  • رابعا، الإيعاز بتبليغ الحقيقة للسلطة يفترض أن أولئك اللذين هم في السلطة ينصتون. وفي الواقع فإنه ليس من الواضح إن كانت السلطة ترغب في سماع ما يقوله الأكاديميون إلا إذا كان ما يقولونه يتوافق مع رغباتهم.

وليس من الواضح إطلاقا ما إذا كان السياسيون ينصتون إلى الأفكار الجديدة والتفسيرات الابتكارية، وبدلا من ذلك، فإنهم ينتقون الأفكار (تماما مثل ما يفعل المتسوق في المراكز التجارية) بالشكل الذي يتناسب مع خياراتهم السياسية القائمة. وأخيرا، فإن مثل هذه النظرة تجعل من حقل العلاقات الدولية نظرية لحل المشكل بدلا من أن تؤدي دور الإنعتاقية. ويعني ذلك أن الحقل المعرفي يأخذ الأجندة السياسية كما هي، بحيث أن العالم برمته يتم التعامل معه كما يتم التعامل مع حالات التجنس. سوف يصبح عسيرا حينذاك على البعض ربط علاقة بالسلطة إذا لم يقبلوا بأجندتها، وسيؤثر ذلك على علم العلاقات الدولية، إذ سيصبح الحديث بالكاد يكون ممكنا عن قضايا عديدة في علم السياسة، مثل المجاعة، الفقر، والجندر والعنصرية طالما أنها ليست محورية في أجندة السياسي.

تعتبر كلتا المقاربتين مثيرتين للجدل، كونهما تنطويان على افتراضين خاطئين، بالنسبة للأولى يتعلق الأمر بكونها تنظر للنظرية كأداة مفسرة، وبهذا فإنه يمكن فصلها عن السياسة والسلطة. ومن جهة أخرى، فإنها تفترض تبليغ الحقيقة لصانع القرار. وفي كلتا الحالتين، فإن هذين الافتراضين يقومان على أساس الفصل بين الأكاديميين والسلطة، بالنظر إلى التزام مسبق مسلم به للتصور الذي ينيط بالنظرية دورا تفسيريا. أما بالنسبة للثانية فيتعلق الأمر بنظرة المقاربتين اللتين تدعوان إلى الفصل بين النظرية والممارسة، إذا ما أراد المنظرون إبقاء قيمهم بعيدا عن التحليل. ومن جانب آخر، للمرافعين عن السياسة المتبعة، فإن مجالي النظرية والممارسة منفصلين إلا أنه يمكن الجمع بينهما بشكل معين يساعد على تبليغ الحقيقة للسلطة. باعتقادي فإن العلاقة بين النظرية والممارسة تتوقف على طرح الافتراضين السابقين وبدلا منهما التسليم بعلاقات مختلفة بين الاثنين. وهكذا، وردا على النظرية التي تنيط بالنظرية دورا تفسيريا أود القول أن النظرية تشكل الممارسة، وردا كذلك على الطرح القائل بضرورة الفصل بين النظرية والممارسة، أقول أن مجالي هذين النشاطين مرتبطين ببعضهما ارتباطا وثيقا بشكل لا يمكن تجنبه. أكرر القول أنه لا توجد نظرة من فراغ، ولذا فإن النظرية والممارسة تتجهان دوما للتشابك. لا يوجد باعتقادي تحليل سياسي محايد ولا حقيقة (مطلقة) يمكن تبليغها للسلطة. وبالمثل لا يوجد وسط أكاديمي غير متحيز ولا يوجد فضاء محمي بأسوار قلعة أصولية إبستيمولوجية.

بل أن كل النشاطات الأكاديمية يتم تفعيلها في سياق سلطوي معين، في ثنائية السلطة/المعرفة. في اعتقادي، فإن كل نظرياتنا تعكس وتعزز قوى اجتماعية محددة، وكل منهما تتعامل مع جوانب المجمع كجوانب تحظى بالأولوية والحظوة بحسب السياق الذي نشأت فيه. هناك العديد من الأمثلة حول كيفية التعامل بشكل ملموس مع مثل هذه القضايا. وأود هنا أن أشير إلى أعمال كل من بوث Booth و كامبيل Campbell كنماذج لكيفية طرح هذه الاهتمامات بشكل يسمح بجعلها مؤهلة لإفادة صانعي القرار السياسي من جهة، ومتفتحة على اهتماماتهم من جهة أخرى.

وبذلك، فإن الخيارات المتاحة لباحثي العلاقات الدولية ليست أن ينأوا بأنفسهم بعيدا عن الممارسة، أو أن يدعوا فهما متميزا للعلاقات الدولية يتيح لهم معرفة الحقيقة والهمس بها لصانعي القرار، بل عليهم تقبل حقيقة أن الاعتبارات الأخلاقية لا يمكن فصلها عن البحث، ولا يمكن إدراك أهميتها إلا عندما تتم الدعوة إلى تغييبها أو الإلحاح على ذلك. وبهذا فإن الخطابات السياسية الأكثر بلاغة تأتي من أولئك الذين يرون في غيابها إحدى خصائص عملهم، ما يتيح لهم التركيز على “الحقائق” والخروج منها باعتبارات عملية ما يجعل العديد من تحركاتهم تبدوا أكثر “حصافة” من أخرى.

يعيدني ذلك للحديث عن العراق. بناء على ما سبق، فإن أية توصية عملية هي سياسية ومعيارية في جوهرها، وبالمثل فإن أي رفض للحقائق يركب الحرب يعكس قوى اجتماعية وسياسية، وتناسقا دقيقا لثنائية القوة/المعرفة. وباعتقادي فإن على العاملين في حقل العلاقات الدولية أن يدركوا بأنهم مندمجون في العمل السياسي والأخلاقي في آن واحد في كل مرة يقومون فيها بتدريس الممارسة السياسية، والبحث فيها، أو الدفاع عنها. التسليم بشيء من قبيل وجود نظرية بمعزل عن السلطة السياسية والقبول بعدم وجود مجال مستقل للممارسة السياسية لا تسنده نظرية، أو بوجود طروحات نظرية ومعرفية يمكن إبقاءها منفصلة عن بعضها البعض أو تركيبها ضمن توليفات شرعية، يعتبر من وجهة نظري الخطوة الأولى التي سيخطوها علم العلاقات الدولية، على حساب علوم اجتماعية تدعوا إلى التخلص من التأثيرات القيمية. وذلك ببساطة لأن الادعاء بإمكانية التمييز بين الحقائق والقيم ينطوي في حد ذاته على تحيز لمواقف معينة من السياسة والأخلاق. لقد تعرضت وجهة نظري للانتقاد من حيث أن ما أدعو إليه من حوار وتركيب يعتبر مستحيلا، كما أنه يستحيل إلى نسبية عدمية، ومثل هذه الانتقادات نجدها عند مورافسيك الذي يقول بهذا الشان: “إن البديل الذي يطرحه سميث، والذي يدعو من خلاله إلى تعدد نظري أشمل يعتبر تعسفا، وهو يعبر عن التماس المحافظين لتجميد هذا الحقل المعرفي… (إنه) لا يقترح بديلا عمليا بل يدعو إلى الإبقاء على الوضع القائم… وهو يتعامل مع التعدد كشيء أسمى من اللاتعدد- وهذا نوع من الجزم الذي يسمح بتمرير أي شيء من خلاله.”

عوضا عن وجهة النظر الحالية المهيمنة في العلوم الاجتماعية، التي جمدت هذا الحقل المعرفي، توجد نظرة تقوم على موقف معين تجاه العلاقة بين النظرية والممارسة تنم عن خلفيات ثقافية محددة. لقد حان الوقت ليدرك الباحثون في هذا الحقل المعرفي بأننا جميعا انجذبنا إلى حلقات هيرمونيتقية وتركيب للذاتانيات. كون كل وجهات نظرنا مستمدة من خلفيات معينة. فلا يوجد شكل محدد للعالم، لأنه ليس بالشيء الذي يمكن الإمساك به وتحسسه، أو تحقيقه أو الولوج إليه، طالما أن كل الحقائق متحيزة. إن العمل الأكاديمي الناضج يحتاج إلى أن يعكس أكثر القوانين التي نتفاوض من خلالها، وليس بالإلحاح على الطرق التي يتم من خلالها تمييز وتركيب تلك التفسيرات المختلفة للحقيقة. الحقيقة ليست بشيء ما نجده، إنما هي شيء ننشه، سواء بوعي أو من دونه بدعم من بعض القوى الاجتماعية دون أخرى. ومن هنا فإن الاعتراف بأن تداخل القوة والمعرفة شيء لا مفر منه، هو المرحلة اللاحقة في تطوير حقل أكثر نضجا للعلاقات الدولية، إن هذا الإقرار يتطلب منا التحقق من القواعد التي نفاوض من خلالها عند الالتحاق بعالم العلاقات الدولية(عالم الممارسة).
————————————————
تمت إعادة النشر بواسطة محاماة نت.