بحث ودراسة تحليليَّة مقارنة بعنوان النظام القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت

تاريخ تسلم البحث: 14/9/2006م تاريخ قبوله للنشر: 27/5/2007م
أحمد قاسم فرح*

* محاضر متفرغ، قسم الدراسات القانونية، كلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل البيت.

المقدمـة:

مع نهايات القرن العشرين شهد العالم، وبشكلٍ لم يسبق له مثيل، تطوراً هائلاً ومتسارعاً في عالم الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. ونتيجة لهذه التطورات التكنولوجية وما صاحبها من تقدم في صناعة الحاسبات الآلية، بدا العالم كقرية صغيرة اهتزت فيه الحواجز، فتداخل وتشابك وارتبط سكانه بشبكة إنترنت عالمية يسبح فيها الجميع بحريَّة، فإذا بها ثورة معلوماتية، وثقافية، واقتصادية…، عزَّ لها نظير.
وأمام هذا التقدم العلمي والتكنولوجي، وفي ظلِّ غزوِ شبكة الإنترنت لكافة مناحي الحياة، بزغت بوادر الخير لفتحِ آفاقٍ جديدة لتقدم البشريَّة ولجني ثمار التواصل والمعرفة، إلاَّ أنه، وللأسف، ظهرت في نفس الوقت نوازع الشر لاستغلال هذا التقدم لتحقيق أغراضٍ شخصية رخيصة على حساب قيم المجتمع، وحقوق الأفراد والجماعة وأمنهم. فما كان من أصحاب النفوس الضعيفة إلاَّ أن تجرَّؤوا على تحويل شبكة الإنترنت إلى مسرحٍ يرتكبون فيه العديد من الجرائم والمخالفات: فقاموا بنشر الأخبار المزيَّفة، وبثوا الأفكار والممارسات المناهضة للأديان السماوية وللإنسانية، ونشروا الصور الفاضحة للصغار قبل الكبار، وانتهكوا حرمة الحياة الخاصة لأفراد المجتمع، وسبُّوا الأشخاص وقذفهوهم، وتعدُّوا على حقوق الملكية الفكرية… وما هذه إلاَّ نماذج من سلسلة مخالفات تُرتكب عبر الإنترنت يصعب حصرها(1).

والواقع العملي يُثبت أن تداول المعلومات عبر شبكة الإنترنت بحاجة إلى تضافر جهود الأشخاص القائمين على إدارتها، والذين تتنوَّع أدوارهم وأنشطتهم في تشغيلها. فحتى يتمكن مستخدمو الإنترنت من الدخول إلى الشبكة، والإبحار فيها بحرِّية، والوصول إلى ما يصبون إليه من معلومات أو بثِّها، لا بُدَّ من وجود عدَّة أشخاص، يُطلق عليهم عادةً مصطلح “مقدمي خدمات الإنترنت”، أو “الوسطاء في خدمات الإنترنت”، يتولُّون عملية إيواء المعلومات، وبثِّها، وعرضها(2). وهذا التنوُّع في أدوارهم والتعدُّد في أنشطتهم يجعل من اليسير عليهم تتبُّع النشاط المعلوماتي غير المشروع وكشفه، إلاَّ أن تحقيق ذلك يبقى رهن وجود ضوابط قانونية تُحدِّد حقوق أطراف النشاط الإلكتروني والتزاماته في مواجهة بعضهم البعض من جهة، وفي مواجهة المجتمع الذي يعيشون فيه من جهةٍ أُخرى. لذا بدت الحاجة ماسة لإيجاد تنظيم تشريعي متكامل يُحدد المركز القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت، ويُبين في نفس الوقت مسؤولية كلٍّ منهم عمّا يُرتكب من مخالفات عبر الشبكة، الأمر الذي لا يُمكن تحقيقه إلا بتضافر جهود المشرِّعين على الصعيدين: الوطني والدولي.

هذه الحقيقة كانت نواة عمل البرلمان الأُوروبي الذي تبنَّى بالإجماع في 8 حزيران 2000م التوجيه رقم 31/2000، والمتعلِّق “ببعض الأوجه القانونية لخدمات شركات المعلومات، وبصفةٍ خاصَّة التجارة الإلكترونية، في السوق الداخلي”(3)، والذي تمَّ تخصيص القسم الرابع منه لتنظيم المركز القانوني للوسطاء في خدمات الإنترنت، وذلك على غرار القانون الأمريكي الصادر في 28 تشرين الأول 1998م للحد من الاعتداءات على حقوق الملكية الفكرية في نطاق الإنترنت والمسمَّى بـ Digital Millenium Copyright Act (DMCA)(4)، والذي خصص الباب الثاني منه لتحديد مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت عن التعدي على هذه الحقوق. وقد جاءت المادة (22) من التوجيه الأُوروبي لتلزم الدول الأعضاء في الإتِّحاد الأُوروبي على نقل أحكامه إلى تشريعاتهم الداخلية بحلول 17 كانون الثاني 2002م. والتزاماً منها بذلك قدَّمت الحكومة الفرنسية في 14 حزيران 2001م، كمحاولةٍ أُولى، مشروع قانونٍ حول “شركات المعلوماتية”، والذي حدَّدت في قسمٍ منه المركز القانوني لمزودي خدمات الإنترنت، إلا أن هذا المشروع أضحى لاغياً بتغيُّر المشرِّع(5). فجاءت الحكومة الفرنسية من جديد في 15 كانون الثاني 2003م بمشروع قانونٍ حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، والذي تمَّ الموافقة عليه من قِبل المشرِّع الفرنسي في 21 حزيران 2004م(6)، واعتبارا من هذا التاريخ أصبح لمقدمي خدمات الإنترنت في فرنسا نظامهم القانوني الخاص.

على الصعيد التشريعي الأردني، جاء قانون المعاملات الإلكترونية المؤقت رقم 85 لسنة 2001م(7) خالياً من أيِّ نصٍ يُعالج هذه المسألة. وأغلب الظن أنه، عند إصدار هذا القانون، أراد مشرعنا التريُّث في تقنين المسألة لحين استقرار الحلول، ووضوح الرؤية، وتبيُّن أبعاد هذا المجال الذي يتسِّم بسرعة التطوُّر وبصعوبة تحديد الأدوار والأنشطة فيه. ولكن في يومنا هذا، ومع اتضاح الرؤية، وفي ظل وجود العديد من التشريعات المقارنة التي عالجت هذه المسألة، فقد آن الأوان لمشرِّعنا الكريم أن يتدخَّل لتقنينها وتنظيمها. إذ إن الانتشار الواسع واللامحدود لشبكة الإنترنت لا يجعل الأردن بمنأى عمَّا يحدث من نشاطات غير مشروعة عبر الشبكة. فما هو موقف القضاء الأردني من دعوى أقدم على رفعها أحد المواطنين للمطالبة بتعويضه عن الأضرار التي لحقت به جرَّاء نشر أحدهم على شبكة الإنترنت لمعلومات كاذبة عنه، كان لها الأثر في الإساءة إلى سمعته وحياته العائلية والعملية؟ فإذا كان هناك إجماع على قيام مسؤولية صاحب المعلومات الكاذبة، إلاَّ أن الأمر يُثير الجدل بصدد التزامات مقدمي خدمات الإنترنت ومسؤولياتهم، لا سيَّما في ظلِّ غياب الضوابط القانونية الخاصة في هذا المجال. والسؤال الهام الذي يثور هنا هو: مجدوى إعمال القواعد العامة لتحديد المركز القانوني لمقدمي الخدمات، وبالنتيجة مدى ملاءمة الحلول المستقاة في هذا الصدد.
باعتقادنا، إن اللجوء إلى القواعد العامة لتحديد التزامات مقدمي خدمات الإنترنت ومسؤولياتهم أمراً سينتابه القصور، وذلك لسببين: أولهما، حداثة المشاكل التي يُثيرها هذا المجال، وبالتالي عجز هذه القواعد عن المواكبة الدقيقة والفعَّالة للتطور التكنولوجي الحاصل فيه، وثانيهما، خصوصية تقديم خدمات الوساطة على الإنترنت، والتي تحتاج لبيئة تشريعيَّة خاصة ومتوازنة. إن هذه الأسباب، كما سنرى، كانت الدافع الرئيسي للقضاء في فرنسا وأمريكا وغيرهما من الدول لهجر تطبيق القواعد العامة على خدمات الوساطة على الإنترنت، ولابتكار ضوابط قانونية خاصة ذات حلول ملائمة. وبالفعل فقد استمرَّ قضاء هذه الدول على هذا النهج إلى أن تبنِّي مشرِّعوهم قواعد خاصة ومتوازنة أرسوا فيها النظام القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت، من حيث تحديد طبيعة عملهم والتزاماتهم، ومسؤولية كل منهم في مواجهة السلسلة المعلوماتية المتواصلة عبر الشبكة. نهجٌ نتمنَّى على قضاتنا ومشرِّعنا الكريم الاستفادة منه.

من هنا، تبدو أهمية هذا الموضوع، وتتَّضح الأسباب التي دفعتنا لاختياره، والذي سنُلقي الضوء، من خلاله، على تجارب الدول التي سبقتنا ونظَّمت هذا المجال، وبخاصَّةٍ التجربة الأُوروبية والفرنسية، للاستفادة منها قدر الإمكان، ولتسخير ما توصَّل إليه القانون، والقضاء، والفقه، في هذه الدول في خدمة قانوننا وقضائنا وباحثينا. وعلى الرغم من أن تطبيق القواعد العامة في هذه الدول كشف عن قصورها في التصدِّي للمخاطر الإلكترونية، إلاَّ أننا سنحاول جاهدين في الوقت الحاضر، (كلَّما كان ذلك ممكناً، ولحين قول قضائنا ومشرِّعنا لكلمتهم الفاصلة)، إعمال القواعد العامة في القانون الأردني على مستجدَّات المسألة وتطوراتها المتلاحقة.
وتأسيساً على ما تقدم، نتناول دراسة “النظام القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت” من خلال ثلاثة مباحث متلازمة، فنتعرف في مبحثٍ تمهيدي على الطبيعة القانونية لخدمات الإنترنت وصفة مقدميها، ونخصِّص المبحث الأول لتحديد التزامات مقدمي خدمات الإنترنت، ونعالج في المبحث الثاني مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت عمَّا يحدث من مخالفات عبر الشبكة.

المبحث التمهيدي الطبيعة القانونية لخدمات الإنترنت وصفة مقدميها

عندما يرغب مستخدمو الإنترنت الالتحاق بالشبكة، بقصد الحصول على المعلومات، أو بهدف بثِّها، يجب عليهم عدم تجاوز حدود الاستعمال المشروع لها. ذلك أن الطابع العالمي للإنترنت يجب أن لا يكون وسيلةً لاستبعاد تطبيق القانون، أو لإفلات البيانات والمعلومات المتداولة عبر الشبكة من السيطرة والرقابة(8). والواقع أن حصول الجمهور على المعلومات، أو بثها عبر شبكة الإنترنت، لا يُمكن أن يتم دون الاستعانة بخدمات القائمين عليها، وهم، كما عرفتهم المادتان: 14 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية” و6-1/2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”: “الأشخاص الطبيعيون أو المعنويون الذين يتولُّون، ولو بالمجان، تخزين البيانات والسجلاَّت المعلوماتية لعملائهم، ويضعون تحت تصرُّفهم الوسائل التقنية والمعلوماتية التي تُمكِّنهم من الوصول إلى هذا المخزون الإلكتروني على مدار الساعة”.

ومن خلال هذا التعريف، ندرك تنوُّع الخدمات التي يقدمها القائمون على إدارة شبكة الإنترنت، وبالنتيجة اختلاف طبيعتها القانونية وتعدُّد صفة مقدميها. فمن هذه الخدمات ما هو مخصص لتقديم المضمون المعلوماتي لجمهور مستخدمي الشبكة (المطلب الأول)، ومنها ما يهدف إلى توفير الوسائل الفنية اللازمة لربط شبكات الاتصال، وتمكين العملاء من الوصول إلى المادة المعلوماتية المبثوثة عبر الإنترنت (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الطبيعة القانونية لخدمات المعلوماتية وصفة مقدميها:

تختلف الطبيعة القانونية لخدمات المعلوماتية وصفة مقدميها، باختلاف نوع الخدمة المقدمة، فمن هذه الخدمات ما يقتصر على عملية التخزين الإلكتروني للبيانات والمعلومات المتداولة عبر الشبكة (الفرع الأول)، ومنها ما يعمل على جمع المعلومات أو تأليفها، ووضعها تحت تصرُّف جمهور المستخدمين (الفرع الثاني).

الفرع الأول: خدمات الإيواء:

إن مصطلح إيواء (hébergement)، بمعناه الإلكتروني الواسع، يشمل وضع
الوسائل التقنية والمعلوماتية بمقابل أو بالمجان تحت تصرُّف العملاء؛ ليتمكنوا من
الدخول إلى شبكة الإنترنت في أيَّة لحظة، بُغية بث مضمون معلوماتي معين:
(نصوص، أو صور، أو أصوات…) للجمهور(9). ويتولَّى هذه المهمة متعهد للإيواء (fournisseurd’hébergement) يعمل على تخزين البيانات والمعلومات التي يبثها أصحاب المواقع الإلكترونية (site d’Internet) على حاسباته الآلية المرتبطة على الدوام بشبكة الإنترنت، بحيث يتمكن أصحاب هذه المواقع من اطلاع الجمهور على مضمونها المعلوماتي على مدار الساعة(10).
إن خدمة الإيواء، كما عرفتها المادة 14 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية” والمادة 6-1/2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”: عبارة عن نشاط يُمارسه شخص طبيعي أو معنوي، يهدف إلى تخزين مواقع إلكترونية وصفحات ويب (web pages) على حاسباته الآلية الخادمة بشكل مباشر ودائم مقابل أجر أو بالمجان، ويضع، من خلاله، تحت تصرف عملائه الوسائل التقنية والمعلوماتية التي تُمكنهم في أي وقت من بث ما يريدون على شبكة الإنترنت، من نصوص، وصور، وأصوات، وتنظيم المؤتمرات والحلقات النقاشية (forum de discussion)، وإنشاء روابط معلوماتية مع المواقع الإلكترونية الأخرى (liens hypertexts)… ومن الوسائل التي يقدمها متعهد الإيواء لعملائه تخصيص مساحة قرص أو شريط مرور لبث المعلومات التي يرغبون بنشرها على شبكة الإنترنت، وتزويد العميل بحساب خاص يتضمن مفتاح دخول (code d’accès) للتعريف به، وتزويده ببرنامج خاص يُمكنه من الاتصال بمتعهد الإيواء، وإضافة، أو حذف، أو تغيير ما يريد من معلومات(11).
إن الإيواء أو التخزين المباشر والدائم للمواقع الإلكترونية ولصفحات الويب على الحاسبات الآلية لمتعهد الإيواء، والمرتبطة على الدوام بشبكة الإنترنت، هو الذي يُميز هذا الأخير عن الناقل الفني البسيط (cashing) الذي يتولى، في سبيل تسريع عملية اتصال الجمهور بالشبكة، الاحتفاظ أوتوماتيكياً بنسخة مؤقتة عن كل صفحة ويب ينقلها إلى طالبيها من المستخدمين(12). فالدور الهام الذي يضطلع به متعهدو الإيواء في إدارة الإنترنت يفرض، حتماً، على كل من يرغب بالبث المباشر والدائم لمضمون معلوماتي ما على الشبكة، اللجوء إلى واحدٍ منهم للاستعانة بخدماته. فهم كأصحاب أجهزة تخزين مركزية (centres serveurs) يشكلون عنصراً رئيسياً من العناصر المكونة لشبكة الإنترنت، وتربطهم بعملائهم، من أصحاب المواقع الإلكترونية، رابطة تعاقدية يتم تنظيمها من خلال عقد خاص يُسمى عقد الإيواء، وعادةً ما يتم توقيعه إلكترونياً من قبل الطرفين(13). ويلعب هذا العقد دوراًَ جوهرياً في التعرُّف على شخصية طالب الخدمة، وبإحاطته علماً بشروط استعمالها، وبإعلامه بوجوب عدم تجاوز الإطار الصحيح والمشروع لاستخدام الوسائل التقنية والمعلوماتية المخصصة له، وذلك تفادياً لإلحاق الضرر بمتعهد الإيواء وبالغير. كذلك يُعدُّ عقد الإيواء مصدراً مهماً لتحديد التزامات مقدم الخدمة؛ فبالإضافة لالتزام متعهد الإيواء الأصلي، المتمثل بتقديم الوسائل التقنية والمعلوماتية التي تُمكِّن العملاء من بث ما يرغبون من معلومات، يلتزم متعهد الإيواء، أحياناً، ببعض الخدمات الإضافية، كالتزامه بتقديم المساعدة الفنية للعملاء، أو مساعدتهم على إنشاء مواقع إلكترونية خاصة بهم، أو تقديم خدمات البريد الإلكتروني وأنظمة البحث الآلي… فهذا النوع من الالتزامات يُثير إشكاليات تقنية أكثر منها قانونية، الأمر الذي يُؤدي، أحياناً، إلى صعوبة الدخول للمواقع الإلكترونية المطلوبة، إمَّا بسبب التزاحم الشديد على الدخول إلى الشبكة، أو بسبب الانقطاع المفاجئ للاتصال بها، أو لغيره من الأسباب، وهنا تُؤسس مسؤولية مقدم الخدمة على القواعد الخاصة بتنفيذ الالتزام العقدي(14).
وفي إطار الالتزام العقدي، ومن أجل تحديد الطبيعة القانونية للخدمة التي يقدمها متعهد الإيواء، يجب التمييز بين من يُزوِّد خدمة الإيواء بمقابل ومن يُزوِّدها بالمجان؛ فإيواء صاحب الموقع الإلكتروني للمادة المعلوماتية على الحاسبات الآلية لمتعهد الإيواء مقابل أجر، يمكِّنه من الاستفادة من الوسائل التقنية والمعلوماتية لمقدم الخدمة، ومن استخدام مساحة معينة من قرصه الصلب (disque dur)، بحيث يبقى على اتصال مباشر ودائم بشبكة الإنترنت. ويتم تقدير الأجر حسب الاتفاق، وبشكلٍ يتناسب مع حجم المعلومات المراد بثها، ومدة هذا البث. إذن، تقديم خدمة الإيواء بمقابل هو بمنزلة تأجير لجزءٍ من القرص الصلب أو لمكان على الشبكة تابع لمتعهد الإيواء (المؤجر) لصاحب الموقع الإلكتروني (المستأجر). أما الإيواء بالمجان فيتمثل بإعارة جزءٍ من القرص الصلب، أو مكانٍ على الشبكة تابع لمتعهد الإيواء (المعير) لصاحب الموقع الإلكتروني (المستعير)(15).
إن تكييـف خدمة الإيواء قانوناً على أنها إجارة أو إعارة، بحسب وجود المقابل من
عدمه أمرٌ يتفق وأحكام القانون. فالإجارة هي تمليك المؤجِّر للمستأجر منفعة مقصودة من الشيء المؤجَّر لمدة معينة لقاء عوض معلوم، والإعارة هي تمليك الغير منفعة شيء بغير عوض لمدة معينة أو لغرض معين، على أن يرده بعد الاستعمال. ومن المعلوم أن التأجير والإعارة يمكن أن يقعا على أشياء مادية وأخرى غير مادية، وهذا هو حال تخصيص متعهد الإيواء لمساحة معينة من قرصه الصلب لصالح صاحب الموقع الإلكتروني(16). وعلى ذلك، يتوجب على صاحب الموقع الإلكتروني: مستأجراً كان أم مستعيراً، استعمال المساحة المخصصة له استعمالاً مشروعاً متفقاً مع بنود العقد الذي يربطه بمتعهد الإيواء من ناحية، ومع القواعد القانونية الواجبة التطبيق من ناحية أخرى. بالمقابل، على متعهد الإيواء: مؤجراً كان أم معيراً تأمين مساحة من قرصه الصلب المرتبط على الدوام بشبكة الإنترنت لصالح صاحب الموقع الإلكتروني، وتمكينه بشكل مباشر ودائم من بث ما يرغب به من معلومات عبر الشبكة، وذلك وفقاً لما تمَّ الاتفاق عليه في عقد الإيواء. ونُشير في هذا الصدد إلى أن إيواء المعلومات على شبكة الإنترنت يختلف عن توريدها، ذلك أن توريد المعلومات عبر الشبكة يعني نشرها واطلاع الجمهور على مضمونها، وهو ما يتعدى حدود الدور التقليدي لمتعهد الإيواء الذي يقتصر على تخزينها.

الفرع الثاني: خدمات توريد المعلومات:

توريد المعلومات هو نشرها؛ أي اطلاع الجمهور على مضمونها، بحيث تكون مقروءة لهم، أو مرئية، أو مسموعة. وحيث إننا أمام صفحات ويب وشبكة إنترنت، فإن خدمة توريد المعلومات عبرها تأخذ وصف “وسيلة اتصال علنية” هدفها وضع مادة معلوماتية معينة (نصوص، رسائل، صور، أصوات…) تحت تصرف مستخدمي الشبكة(17).
ويُقصد بتوريد المعلومات، عبر الشبكة، تحميل المساحة المستأجرة، أو المعارة من القرص الصلب، أو من أجهزة التخزين المركزية التابعة لمتعهد الإيواء بالبيانات والمعلومات التي يقوم مورد المعلومات (fournisseur du contenu)، باعتباره صاحب وسيلة اتصال علنية، بجمعها أو تأليفها حول موضوع معين(18). فمورد المعلومات قد يكون صاحب المادة المعلوماتية، أي مؤلفها، كما يُمكن أن يقتصر دوره على جمعها، أي التوسُّط ما بين مؤلف المادة ومستخدمي الشبكة الراغبين في الإطلاع على مضمونها(19). فيتخذ في الحالة الأولى، في آنٍ واحد، صفة مؤلف المادة المعلوماتية والناشر لها من خلال خدمة التوريد، ويتخذ في الحالة الثانية صفة الناشر فقط. وبهذه الصفة الأخيرة يقوم مورد المعلومات بنشرها على شبكة الإنترنت بناءً على عقد نشر يربطه بصاحب المادة المعلوماتية. ومن هنا، فإن مورد المعلومات، شخصاً طبيعياً كان أو معنوياً، هو صاحب السلطة الحقيقية في مراقبة المضمون المعلوماتي الإلكتروني؛ لأنه هو من يقوم بتأليفه أو جمعه، وبالتالي فإنه يملك توريده لمستخدمي الشبكة أو الامتناع عن ذلك. وهذا الدور كان وراء تشبيهه بمورد المضمون المعلوماتي التقليدي، مثل مدير النشر ورئيس التحرير في الصحافة المكتوبة، ووكالات الأنباء، ووسائل الاتصال المرئية والمسموعة، والذي يقوم بمراقبة المادة المحررة في وسيلة إعلامه بشكل يضمن تقديم المادة المعلوماتية الحقيقية والمشروعة(20).

وبذلك، فإن مورد المعلومات يتميز عن متعهد الإيواء، من حيث إن هذا الأخير لا يقوم بتأليف أو جمع المضمون المعلوماتي الإلكتروني، وإنما يعمل فقط على تخزينه على أجهزته بناءً على اتفاقه مع مورد المعلومات ليتسنَّى للجمهور الاطلاع عليه على مدار الساعة(21). فخدمة التوريد هي خدمة نشر، والمورد هو الناشر، أمَّا خدمة الإيواء فهي خدمة تأجير أو إعارة مكان على الشبكة، ومتعهد الإيواء هو المؤجر للمكان أو المعير له. وبالرغم من هذا الاختلاف، إلاَّ أنهما يلتقيان في المساهمة بتقديم الخدمة المعلوماتية عبر الإنترنت. فالبيانات والمعلومات لا يُمكن أن تُبث عبر الشبكة دون تدخلهما، ولا يُمكن، في نفس الوقت، أن تصل للجمهور دون وجود الوسائل الفنية اللازمة للربط المادي بين شبكات الاتصال عن بُعد والحاسبات الآلية للمستخدمين.

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للخدمات الفنية وصفة مقدميها:

تتمثَّل الخدمات الفنية التي يُقدمها القائمون على شبكة الإنترنت بنوعين من الخدمات: أولها، إجراء الربط المادي لشبكات الاتصال عن بُعد، من أجل تسهيل عملية نقل المعلومات (الفرع الأول)، وثانيها، تمكين مستخدمي الشبكة من الوصول إلى المادة المعلوماتية المتداولة عبر الإنترنت (الفرع الثاني).

الفرع الأول: خدمات النقل المادي للمعلومات:

إن اطِّلاع مستخدمي الإنترنت على المادة المعلوماتية المنشورة عبر الشبكة يقتضي، عملياً، ربط حاسباتهم الآلية بالمواقع الإلكترونية، وهو ما يحتاج إلى إجراء ربط مادي وفني بين شبكات الاتصال عن بُعد. وعادةً ما تتولَّى هذه العملية الهيئات العامة للاتصال، كهيئة الاتصالات الأردنية في الأردن، و(فرانس تيليكوم) في فرنسا، والتي تلتزم، كناقل مادي للبيانات والمعلومات، وتنفيذاً لعقد نقل المعلومات الذي يربطها بباقي مقدمي خدمات الإنترنت، بتقديم الوسائل والأجهزة الفنية اللازمة لإجراء عملية النقل المادي للمادة المعلوماتية، وذلك من خلال الربط المشترك بين مختلف شبكات الاتصال عن بُعد(22).
فتقديم خدمة نقل المعلومات يتم بموجب عقد نقل، والخدمة هي خدمة نقل، ومقدمها هو الناقل (transmetteur). وبهذا الوصف يُمكن تشبيه ناقل المعلومات، عبر شبكة الإنترنت، بساعي البريد، فكلاهما تنحصر مهمته في تأمين النقل المادي للمعلومات بين الأطراف المختلفة من مرسلين ومرسل إليهم(23). وهذا ما يُميزه عن غيره من مقدمي خدمات الإنترنت، كمتعهد الإيواء ومورد المعلومات، فهو لا يتولَّى عملية التخزين المباشر والدائم للمادة المعلوماتية ولا يقوم بجمعها أو تأليفها، وبالنتيجة فإنه ليس بصاحب سُلطة حقيقية عليها، وإنَّما جُلَّ عمله ينصب على عملية نقلها مادياً من وحدة إلى أُخرى، دون أن يكون مكلَّفاً بمراقبتها أو بمعرفة مضمونها. فهل يختلف الوضع بالنسبة لتقديم خدمات الوصول؟

الفرع الثاني: خدمات الوصول:

تكمن عملية تقديم خدمات الدخول أو الوصول إلى الإنترنت في تزويد متعهد الوصول (fournisseur d’accès) مستخدمي الشبكة المشتركين معه (les abonnés) بموجب عقد “تقديم خدمات الدخول” بالوسائل والأجهزة الفنية اللازمة لدخولهم إلى شبكة الإنترنت، والتي تُمكنهم من الإبحار فيها بحرِّية، ومن الوصول إلى المواقع الإلكترونية التي يرغبون الاطلاع على مضمونها. فالنشاط المحوري لمتعهد الوصول هو تقديم خدمة الدخول إلى شبكة الإنترنت للمشتركين معه من جمهور المستخدمين، الأمر الذي يتطلب تزويدهم بمفتاح دخول، وبكلمة سر، وببريد إلكتروني بُغية استقبال وإرسال الرسائل الخاصة بهم…(24)
وبالإضافة إلى هذا النشاط الرئيسي، يقترح متعهد الوصول على مشتركيه خدمات إضافية أُخرى، كاقتراحه لمضمون معلوماتي معين يتم بثه عبر الشبكة أو التعهد بإيوائه، أو فتح حلقات للنقاش، أو نشر بيانات ومعلومات معينة على صفحات الويب التابعة له، أو حتى تخزين صفحات الويب التي يطَّلع عليها مشتركوه بصورة مؤقتة من أجل تسريع عملية وصولهم إليها عند طلبها مرة أُخرى… ويتم الاستفادة من هذه الخدمات عن طريق الدخول إلى صفحة الويب الرئيسية للموقع الإلكتروني الخاص بمتعهد الوصول، غير أنه لا يُقدمها هنا بصفته متعهد وصول فقط وإنما بوصفه متعهد إيواء. وبالتالي، يخضع فيما يخص الخدمات الإضافية، للأحكام الخاصة بهذا المتعهد(25).
وإذا ما رجعنا إلى طبيعة النشاط أو العمل الرئيسي الذي يُمارسه متعهد الوصول، كعامل فني للاتصالات عن بُعد، نجد أن المادة 32-15 من قانون البريد والاتصالات عن بُعد تُعرِّفه بهذه الصفة، على أساس أنه: “كل شخص طبيعي أو معنوي يستغل شبكة الاتصالات عن بُعد، والمفتوحة للجمهور، أو يُورِّد لهم خدمة الاتصالات عن بُعد”. ولغايات تطبيق هذا النص، أوضحت المادة 32-2 من نفس القانون أن المقصود بشبكة الاتصالات عن بُعد هو “كل تجهيز أو مجموعة التجهيزات التي تُؤمِّن نقل وتوجيه إشارات الاتصالات عن بُعد، وتُمكِّن من تبادل المعلومات، ومن إدارتها بين نقاط النهاية
لهذه الشبكة”(26).
ومن خلال ربطها بين التعريف الوارد في نص هذه المادة وتعريف متعهد الوصول الذي ورد في نص المادة 32-15 السابقة الذكر، عدَّت الهيئة الفرنسية لتنظيم قطاع الاتصالات عن بُعد في تقريرٍ لها صدر في نهاية عام 1998م(27) أن الوصف الوارد في نص المادة 32-2 يتطابق تماماً مع طبيعة العمل الأصلي الذي يقوم به متعهد الوصول، والذي يلتزم من خلاله، استناداً إلى عقد “تقديم خدمات الدخول” الذي يربطه بعملائه، بإيصالهم إلى شبكة الإنترنت وبتأمين التجهيزات اللازمة لنقل إشارات الاتصالات عن بُعد وتوجيهها، ولتبادل المعلومات وإدارتها لقاء مقابل. كل ذلك شريطة أن يتعهد العملاء باحترام شروط الاستفادة من هذه الخدمة.
وعليه، فإن عقد “تقديم خدمات الدخول” هو عقد ملزم لجانبين، محله بالنسبة لمتعهد الوصول تزويد العميل بالوسائل الفنية والبرمجيات التي تمكنه من الالتحاق بشبكة الإنترنت، وبالنسبة للمشترك دفع قيمة الاشتراك حسب ما أُتفق عليه(28). ومن هنا، فإن الخدمة التي يقدمها متعهد الوصول هي أشبه بمقاولة، وبالتالي، فإن “عقد تقديم خدمات الدخول” هو عقد مقاولة يلتزم بمقتضاه متعهد الوصول (المقاول) بتقديم خدمة الدخول، وبعمل ما يلزم لتحقيق هذه الغاية لقاء مقابل يلتزم طالب الخدمة بدفعه(29). ويتطابق هذا التكييف مع تعريف عقد المقاولة الوارد في المادتين 780 من القانون المدني الأردني، و1710 من القانون المدني الفرنسي، إذْ عرفته هاتان المادتان على أنه عقد يتعهد بموجبه أحد الطرفين بأن يضع شيئاً، أو يؤدي عملاً لقاء بدل يتعهد به الطرف الأخر.
وكما لاحظنا يشترك العديد من الأشخاص في إدارة شبكة الانترنت، وتختلف الطبيعة القانونية للخدمات التي يقدمونها، وكذلك تتعدد صفاتهم، الأمر الذي يُؤدي حتماً إلى تنوع التزاماتهم.

المبحث الأول التزامات مقدمي خدمات الإنترنت

يتَّضح لنا جليَّاً مما تقدم، تنوُّع مهام أشخاص القائمين على خدمات الإنترنت، وتعدُّد أدوارهم المتبادلة، إذ من الممكن للشخص الواحد أن يقوم في نفس الوقت بمهمة أو أكثر. ويثور التساؤل حول كيفية تحديد التزامات كل شخص من أشخاص القائمين على خدمات الإنترنت. فمن هؤلاء الأشخاص من يتَّسم عمله على الشبكة بالطابع المعلوماتي، ومنهم من يغلب على عمله الطابع الفني، الأمر الذي يستدعي تحديد التزامات كل من مقدمي الخدمة المعلوماتية (المطلب الأول)، ومقدمي الخدمة الفنية (المطلب الثاني). ولا بدَّ أن ننوه هنا أن المشرِّع الأردني لم يضع، كما أسلفنا، نظاماً قانونياً خاصاً بمقدمي خدمات الإنترنت. لذلك، فإن طرحنا سيعتمد في حدٍّ كبيرٍ منه على موقف التشريعين: الأُوروبي والفرنسي اللذين تناولا هذه المسألة بشيءٍ من التفصيل، فألقيا على عاتق مقدمي الخدمات أنواعاً خاصة من الالتزامات تختلف في طبيعتها عن طبيعة الالتزامات الملقاة على عاتق غيرهم من المهنيين.

المطلب الأول: التزامات مقدمي الخدمة المعلوماتية:

إن من يُقدِّم خدمة الإيواء على الإنترنت، ويأوي على الموقع الذي أنشأه، ويتوَّلى إدارته المعلومات والرسائل الخاصة، ويُتيح لها فرصة الدخول إلى الشبكة لتكون متاحة لكل الراغبين في الإطِّلاع عليها يتجاوز حتماً دوره الفني كناقل للمعلومات(30). فهو يتولَّى، من جانب، إدارة النشاط المعلوماتي على شبكة الإنترنت، ومن جانب أخر فإنه يمد العملاء بالوسائل التقنية التي تُمكِّنهم من الوصول إلى الموقع الذي خُزِّنت فيه المعلومات. فآلية عمل متعهد الإيواء والإمكانيات التقنية والمعلوماتية التي يتمتَّع بها تُساهم، وبشكلٍ فعّال، في تداول المضمون المعلوماتي عبر الشبكة، وبالتالي، في تيسير عملية إيصال الخدمة المعلوماتية لطالبيها من عملاء ومستخدمين (الفرع الأول). كذلك الحال بالنسبة لمورِّد المعلومات والذي يتمتع بالسيطرة الكاملة على المضمون المعلوماتي الذي يقوم بجمعه أو تأليفه، ومن ثم توريده إلى الجمهور عبر شبكة الإنترنت (الفرع الثاني).

الفرع الأول: التزامات متعهد الإيواء:

إن طبيعة الخدمة التي يقدمها متعهد الإيواء تجعله، حتماً، الأقرب والأقدر على معرفة مضمون أيِّ نشاطٍ معلوماتي متداول عبر شبكة الإنترنت، وإذا ما ثبتت عدم مشروعية المضمون المأوي فإن ذلك سيثير عدداً من الإشكاليات القانونية على صعيدين مختلفين: الأول، يتعلَّق بمدى التزام متعهد الإيواء برقابة المضمون المعلوماتي المتداول عبر شبكة الإنترنت، والثاني، يتمثل في الالتزامات التي تقع على عاتق متعهد الإيواء في حال علمه بتداول مضمون معلوماتي غير مشروع عبر هذه الشبكة. وأمام هذه الإشكاليات، وفي ظل غياب نص تشريعي خاص يُعالجها، فرض القضاء الفرنسي حدَّاً معقولاً من الالتزامات على متعهدي الإيواء (أولاً)، فما كان من المشرِّع الفرنسي إلا أن استجاب لهذا القضاء وأن قنَّن هذه الالتزامات أُسوةً بالمشرِّع الأُوروبي (ثانياً). ونتمنَّى كذلك على كل من قضائنا ومشرِّعنا الأردنيين أن يحذوا حذو نظيريهما الفرنسيين، فلا يترددا في التصدِّي لهذه المسائل.

أولاً: موقف القضاء:

لم يكن من السهل في البداية على القضاء الفرنسي، وأثناء نظره الدعاوي المرفوعة ضد متعهدي الإيواء، تحديد نطاق الالتزامات ومضمونها التي تقع على عاتقهم، فحاول جاهداً التغلب على الصعوبات التي واجهته كي لا يكون الإنترنت منطقة بلا قانون. ونظراً لطبيعة الخدمة الي يقدمها متعهدو الإيواء، وفي ظل غياب نصوص قانونية خاصة، أبدى القضاء الفرنسي قدراً من التساهل في نوعية الالتزامات الملقاة على عاتقهم، فلم يفرض عليهم التزاماً عاماً بممارسة الرقابة الدقيقة على محتويات المواقع الالكترونية التي يأوونها، ولم يكلفهم بالبحث النشط عن المضمون المعلوماتي الإلكتروني غير المشروع(31). بالمقابل، ألزمهم القضاء بأخذ الحيطة والحذر، وأقام مسؤولياتهم حيال التقصير، وقد استند القضاء في ذلك على القواعد العامة في المسؤولية، وبالأخص نص المادتين: 1382 و1383 من القانون المدني الفرنسي اللتين تُلزمان صاحب الفعل الضار الذي أدَّى بخطئه، أو بإهماله، أو بتقصيره إلى الإضرار بالغير بضمان هذا الضرر.
وتطبيقاً لذلك، وبمناسبة الاعتداء على الحق في الصورة من قِبل متعهد الإيواء Altern.org، أقامت عارضة الأزياء الفرنسية Estelle Hallyday دعوى قضائية أمام محكمة بداية باريس ضد V. Lacambre مُؤسس وصاحب الموقع Altern.org تُطالبه فيها بالتعويض عن الأضرار التي سببها لها نتيجة لإيوائه موقعاً إلكترونياً نُشر عليه تسع عشرة صورة تظهرها عارية بشكل كلِّي أو جزئي. جاء قرار المحكمة في 9 حزيران 1998م ليضع على عاتق متعهد الإيواء التزاماً ببذل العناية والجهد اللازمين لمراقبة احترام المواقع الإلكترونية المأوية لحقوق الآخرين وللآداب العامة، ويُرتب مسؤوليته في حال إخلاله بهذا الالتزام استناداً إلى المادة 1383 من القانون المدني الفرنسي. وقد ورد في حيثيات قرار المحكمة شروط إعفاء متعهد الإيواء من المسؤولية والتي تمثلت بوجوب إثبات قيامه بإعلام أصحاب المواقع الإلكترونية المأوية بضرورة مراعاة القوانين والأنظمة السارية، وبعدم الاعتداء على حقوق الآخرين وحقوق الملكية الفكرية على الإنترنت. كما يجب عليه أن يُثبت، أيضاً، أنه قام بالإجراءات اللازمة من أجل التقاط المواقع الإلكترونية المأوية التي تحتوي على مضمون معلوماتي غير مشروع. فعلى حد تعبير المحكمة من يأوي البيانات والمعلومات، ويقوم ببثها إلى الجمهور يتجاوز، حتماً، دوره كناقل فني بسيط للمادة المعلوماتية، ويتوجب عليه بالتالي تحمل المسؤولية الناجمة عن ممارسة هذا النشاط في حال انتهاك حقوق الغير(32). وقد تمَّ التأكيد على هذا القرار في مرحلة الاستئناف من قِبل محكمة استئناف باريس(33).
وفي 8 كانون الأول 1999م، وأمام محكمة بداية (نانتير)، كان الدور هذه المرَّة لعارضة الأزياء الفرنسية Lynda Lacoste، والتي توجهت للمحكمة للمطالبة بإدانة أربعة متعهدي إيواء لإيوائهم المباشر والدائم لعدد من الصور التي تُظهرها بشكلٍ فاضحٍ، وعرضها على شبكة الإنترنت دون الحصول على موافقتها. جاء قرار المحكمة في هذه القضية ليُحدِّد، بشكلٍ واضح وصريح، نوعية الالتزامات الملقاة على عاتق متعهدي الإيواء وليطالبهم بوجوب إثبات تقيدهم بالالتزامات الواقعة على عاتقهم، خاصةً تلك المتعلقة بإعلام اصحاب المواقع الإلكترونية المأوية بضرورة احترام حقوق الآخرين، وبذلهم العناية والجهد اللازمين للكشف عن أي مضمون معلوماتي غير مشروع، والتوقف عن بثه حال التقاطه(34). وبقرارها هذا، حدَّدت المحكمة مضمون الالتزامات التي تقع على عاتق متعهدي الإيواء، وحصرتها بثلاثة: أولها الالتزام بالإعلام، وثانيها الالتزام باليقظة، وثالثها الالتزام بوقف بث المضمون المعلوماتي غير المشروع، أو على حد تعبير المحكمة، وجوب اتخاذ موقف إيجابي.
إن التزام متعهد الإيواء بالإعلام يفرض عليه أن يُعلم أصحاب المواقع الإلكترونية المأوية بضرورة احترام القوانين والأنظمة، وعدم الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، ووجوب عدم إلحاق الضرر بالآخرين. بالمقابل، فقد أكَّدت المحكمة عدم التزام متعهدي الإيواء بالكشف عن هويَّة أصحاب المواقع الإلكترونية(35)، وذلك، أولاً، لعدم إمكانيتهم من التأكد من المعلومات التي يُدلي بها الأشخاص عندما يطلبون إيواء مواقعهم، حيث يتم الإدلاء بهذه المعلومات إلكترونياً عن طريق تعبئة نموذج معروض على شبكة الإنترنت، وثانياً، لصعوبة معرفة الرمز التعريفي IP – Internet Protocol للكمبيوتر المُستخدم في إنشاء الموقع الإلكتروني ذي المضمون غير المشروع. إلاَّ أن ذات المحكمة عادت عن موقفها هذا، وقضت في 24 أيار 2000م، بمناسبة دعوى رفعها الاتحاد العام للطلبة اليهود في فرنسا UEJF ضد متعهد الإيواء Multimania نتيجة لإيوائه موقعاً إلكترونياً تضمَّن عرض وبيع أغراض ورموز نازية، بأنه يتوجب على متعهد الإيواء، وبالتعاون مع متعهد الوصول، الكشف عن هويَّة صاحب الموقع الإلكتروني ذي المضمون المعلوماتي غير المشروع أو الضار(36).
أما فيما يتعلق بالالتزام باليقظة، فإن عدم إلزام متعهدي الإيواء بممارسة الرقابة الدقيقة والعميقة على مضمون المواقع الإلكترونية التي يأوونها لم يعفهم من ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لالتقاط أيِّ موقع إلكتروني يتضمن، وبشكلٍ ظاهرٍ، نشاطاً غير مشروع، وذلك بقصد تصحيح وضعه أو قطع الخدمة عنه. ففي قضية Estelle Hallyday أشارت المحكمة إلى التزام متعهدي الإيواء بالبحث عن المواقع الإلكترونية المخالفة للقانون أو تلك التي تُلحق ضرراً بالآخرين. ومن أجل القيام بذلك باشر بعض متعهدي الإيواء بإعداد نظام بحث آلي قادر على التقاط المواقع الإلكترونية المتضمِّنة لكلماتٍ أو لصورٍ ذات علاقةٍ بمواضيع الجنس، أو العرِي، أو الجمال، أو الشهرة، أو الأنوثة، أو العنصرية. وعند التقاط مثل هذا المضمون يتوجب على متعهد الإيواء اتخاذ الإجراءات الضرورية التي تُمكِّنه من إرغام صاحب هذا الموقع على إزالة المخالفة، وعلى احترام القانون وعدم الإساءة للآخرين، وذلك قبل مباشرته بإغلاقه(37). ومن أجل التأكد من عدم إمكانية تكرار المخالفة، أرغمت المحكمة، في قرارها الصادر في قضية Lynda Lacoste، متعهدي الإيواء على البحث عن جميع الصور الفاضحة موضوع الدعوى وعلى إزالتها من على جميع صفحات الويب.
وقد وجدت محكمة بداية (نانتير) في القواعد العامة في المسؤولية، وبخاصة نصِّ المادتين: 1382 و1383 من القانون المدني الفرنسي، أساساً لمجمل قرارها هذا. وبالنسبة للمحكمة فإن تأسيسها على القواعد العامة يأتي كنتيجة طبيعية لغياب التنظيم القانوني الدولي للمسألة في الوقت الحالي(38). وأكدت محكمة بداية (نانتير) على موقفها السابق، من حيث نوعية الالتزامات التي ألقتها على عاتق متعهدي الإيواء وأساسها القانوني، وفي قرار آخر أصدرته في 24 أيار 2000م في الدعوى التي رفعها الاتحاد العام للطلبة اليهود في فرنسا UEJF ضد متعهد الإيواء Multimania، وشددت، في نفس الوقت، على وجوب عدم إلزام متعهد الإيواء بممارسة الرقابة الدقيقة على مضمون المواقع الإلكترونية التي يأويها(39).
ولم تخرج محكمة استئناف (ﭭيرساي) عن المسار الذي رسمه القضاء الفرنسي في هذا المجال، فأكدت في قرارها الصادر في 8 حزيران 2000م(40) على مجموع الالتزامات التي تقع على عاتق متعهد الإيواء: الالتزام بالإعلام، وباليقظة، وباتخاذ موقفٍ ايجابي. وأدانت المحكمة متعهد الإيواء نتيجة إخلاله بالتزاماته هذه استناداً لنص المادة 1382 من القانون المدني الفرنسي(41). بالمقابل، كيَّفت المحكمة هذه الالتزامات على أنها التزامات ببذل عناية، وأوضحت المحكمة أن هذا النوع من الالتزامات لا يفرض الرقابة السابقة والفحص الدقيق لمحتوى المواقع الإلكترونية المأوية، وإنما يُوجب فقط اتخاذ التدابير الضرورية اللازمة للتعرُّف على هويَّة صاحب الموقع الإلكتروني وإعلامه بوجوب احترام القوانين والأنظمة، وعدم الإساءة للآخرين من جهة، وبذل العناية المناسبة لالتقاط المواقع الإلكترونية ذات المحتوى المعلوماتي غير المشروع لتصحيحها أو إقفالها، إذا لزم الأمر، من جهةٍ أُخرى(42). وبخصوص علم متعهدي خدمات الإيواء بالمضمون غير المشروع أو الضار للمواقع الإلكترونية التي يأوونها، فقد بينت محكمة استئناف (ڤيرساي) أن هذا العلم ليس مفترضاً، وأنه لا يُمكن مساءلتهم لعدم اتخاذهم موقفاً ايجابياً طالما أنهم يجهلون وجود المضمون المعلوماتي غير المشروع، وحيث إنهم غير ملزمين بممارسة الرقابة الدقيقة، أو البحث النشط عن المواقع الإلكترونية ذات المضمون المعلوماتي غير المشروع، فإن علمهم بها يتأتى غالباً عند طلب وقف بث المضمون المعلوماتي غير المشروع المقدم من السلطة العامة أو غير المضرور(43).
إن تصدي القضاء لتحديد نطاق التزامات متعهدي الإيواء ومضمونه كان محلاً للنقد من قبلهم، إلاَّ إنه كان خطوةً في الاتجاه الصحيح، ولا أدل على ذلك من تبني المشرِّع الأوروبي، ومن بعده الفرنسي، للمبادئ التي استقرَّ عليها القضاء في هذا المجال.

ثانياً: استجابة المشرِّع:

يبدو، من الاتجاه العام لأحكام القضاء السابقة، أنها تميل إلى إلزام متعهدي الإيواء ببذل العناية اللازمة لمنع تداول المضمون أو المعلومات غير المشروعة، وذلك من خلال الجهود اليقظة التي تتناسب وإمكانياتهم. إلاَّ إن مضمون هذه الجهود ومداها يبقى غامضاً(44). فنص المادة 6-1/7 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” والذي جاء متفقاً مع نص المادة 15-1 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية” يمنع فرض التزام عامٍ على متعهد الإيواء “بمراقبة المعلومات التي يتولى نقلها أو تخزينها، أو البحث النشط عن الوقائع والظروف التي تكشف عن الأنشطة غير المشروعة”. فبموجب هذا النص يجد متعهدو الإيواء أنفسهم أنهم يُعفون، على السواء، من ممارسة الرقابة السابقة على المضمون المعلوماتي غير المشروع، ومن الصعوبات التقنية والاقتصادية التي تصاحب هذه الرقابة، والتي شكك البعض بفاعليتها(45).
غير أنه، وبحسب نص الفقرة الثانية من المادة 6-1/7 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” والتي جاءت متفقةً مع أحكام التوضيح رقم 47 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية”: إن عدم فرض التزام عامٍ على متعهد الإيواء بمراقبة المضمون المتداول عبر شبكة الإنترنت، لا يُعفيه من الالتزام بممارسة هذه الرقابة في حالاتٍ خاصة، بمعنى أنه لا يُعفيه من القيام “بنشاط رقابي موجَّه ومؤقت بناءً على طلب السلطة القضائية”(46). وقد أثار هذا الأمر حفيظة القائمين على هذه الخدمة، ووصل ببعضهم حد القول: بأن هذا الموقف يتَّسم بالتشدد في مواجهتهم، لا سيَّما وأن الفقرة الرابعة من نص المادة 6-1/7، من نفس القانون، تزيد من قسوة هذا الالتزام بوضعها على عاتقهم التزاما من نوع أخر يتمثَّل، من ناحية، في وجوب تأمين الوسائل التقنية اللازمة لمنع نشر مضمون معلوماتي غير مشروع وتداوله عبر شبكة الإنترنت، ومن ناحيةٍ أُخرى، في ضرورة إعداد وسيلة اتصال مفتوحة من شأنها أن تربطهم مباشرةً بمستخدمي الإنترنت، وتُمكِّنهم، في نفس الوقت، من تبليغ السلطات العامة في الدولة عن أيِّ مضمون إلكتروني مخالف للقانون(47).
واتخاذ مثل هذا الموقف من قِبل المشرِّع الفرنسي لم يأتِ إلاَّ تطبيقاً لمبدأ أرسته المادة 15-2 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، والذي بدوره لم يُغفل التزام متعهد الإيواء بممارسة الرقابة اللاحقة على المضمون المعلوماتي غير المشروع، فسمح للدول الأعضاء بأن تفرض على متعهد الإيواء التزاما بإعلام السلطات العامة في الدولة، وذلك بصورةٍ عاجلةٍ، عن أيَّة نشاطات أو معلومات غير مشروعة، كما طالبهم بالكشف عن البيانات والمعلومات التي تسمح بتحديد شخصية صاحب المضمون(48). وتطبيقاً لذلك جاءت المادة 6-2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” لتُؤكِّد على التزام متعهد الإيواء بطلب البيانات والمعلومات الخاصة بعملائه، والاحتفاظ بها من أجل اطلاع السلطة القضائية عليها عند الطلب، وهذا الالتزام هو التزام تبادلي، بمعنى أن صاحب المضمون يلتزم من جهته بتزويد متعهد الإيواء بالبيانات والمعلومات المطلوبة، والتي تسمح بتحديد هويته، وبالمقابل على متعهد الإيواء، وفقاً لنص المادة 6-3/1 و2 من القانون الفرنسي الاحتفاظ بها سرية وعدم إساءة استخدامها وعدم الكشف عنها إلا للضرورة(49). وقد أناطت الفقرة الخامسة من نص المادة 6-2، من نفس القانون، بمجلس الدولة تبنِّي نظام قانوني غايته تحديد البيانات والمعلومات الواجب على متعهد الإيواء حفظها وتحديد مدة هذا الحفظ وطريقته. وفي انتظار اتخاذ المجلس لهذه الخطوة، ومن أجل سدِّ الفراغ القانوني الحاصل في هذا المجال، لم يكن أمام المحاكم الفرنسية وأمام القائمين على هذه الخدمة من سبيلٍ سوى اللجوء إلى القواعد العامة في قانون الإجراءات المدنية(50). فاستناداً لنص المادتين: 809 و872 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي الجديد لرئيس محكمة البداية، بصفته قاضي الأمور المستعجلة اتخاذ الإجراءات الملائمة لحفظ أدلة الإثبات. وتطبيقاً لذلك، أوضحت محكمة بداية باريس في قرارها الصادر في 2 شباط 2004م أن متعهد الإيواء، الذي يُزوِّد قاضي الأمور المستعجلة باسم صاحب المضمون غير المشروع، وعنوانه البريدي والإلكتروني ورمزه التعريفي، يُعدُّ مستجيباً لقرارها القاضي بطلب الكشف عن البيانات والمعلومات الشخصية لصاحب المضمون(51).
ولا شك أن كشف البيانات والمعلومات الشخصية يتعارض مع رغبة مستخدمي الإنترنت في التخفي، ومع اتجاههم العام بضرورة ترك شبكة الإنترنت مجالاً مفتوحاً لحرية التعبير. إلا إننا نؤكد هنا أن الرغبة في التهرب من عالم الواقع إلى عالم الافتراض والحريَّة الشخصية لا يُمكن أن يكوِّنا وسيلةً لارتكاب المخالفات والجرائم عبر الإنترنت؛ فحرية تعني مسؤولية، والمطلوب إذن هو إقامة التوازن بين وجوب طلب البيانات التي تسمح بتحديد شخصية العملاء والاحتفاظ بها بسريَّة، وعدم الكشف عنها إلا للضرورة(52). فلا نستطيع، والحال كذلك، إلا أن نقبل بهذا الحد الأدنى من الالتزامات الملقاة على عاتق متعهدي الإيواء. إذا كان هذا هو حال متعهدي الإيواء، فما هو الوضع بالنسبة لمورِّد المعلومات؟

الفرع الثاني: التزامات مورد المعلومات:

مورِّد المعلومات هو صاحب السلطة الحقيقية في مراقبة المادة المعلوماتية التي تُبث عبر الإنترنت؛ لأنه هو من يقوم بجمعها أو تأليفها، وبالتالي يقع على عاتقه توريد مادة معلوماتية مشروعة وحقيقية(53). وعليه، يتعين على مورِّد المعلومات، الحريص على أداء دوره في إدارة شبكة الإنترنت بمسؤولية وشفافية، إبلاغ السلطات المختصة في الدولة عن أيِّ نشاطٍ معلوماتي غير مشروع، كما يتوجَّب عليه الكشف عن هويَّة جميع القائمين على المضمون المعلوماتي المورَّد عبر الإنترنت، وهو ما يدخل تحت باب التزامه بممارسة عمله بشفافية (أولاً). وكذلك يتوجب على مورِّد المعلومات السماح للجمهور بممارسة حق الرد (ثانياً).

أولاً: الالتزام بالشفافية:

لكونه ناشراً للمعلومات على الموقع الإلكتروني، وبالتالي صاحب القدرة الفعلية في
السيطرة عليها والتحكُّم في نشرها، يتحمَّل مورِّد المعلومات المسؤولية بالدرجة الأُولى عن مضمون الرسائل، والمعلومات، والصور التي يبثها(54). فهو ملتزم مثل مورِّد المضمون المعلوماتي التقليدي بمراقبة المضمون المعلوماتي الذي يصل إليه، وسلطة المراقبه هذه تتفق مع طبيعة عمله كناشر إلكتروني للمادة المعلوماتية(55). وبالنظر إلى طبيعة عمله، فإنه مُلزم بإخطار السلطات المختصة في الدولة عن أيِّ نشاط إلكتروني غير مشروع، وذلك من خلال مدير النشر المسؤول، فيتعيَّن عليه إذن تعيين شخص طبيعي مديرٍ للنشر(56). فضلاً عن ذلك وتطبيقاً لمبدأ الشفافية، يتوجَّب على مورِّد المعلومات اطلاع مستخدمي الإنترنت ومتعهدي الوصول والإيواء على البيانات والمعلومات التي تُعرِّف به وبالنشاط الإلكتروني الذي يُديره. ومن عناصر التعريف التي يلتزم مورِّد المعلومات تقديمها:
– إذا كان مورِّد المعلومات شخصاً طبيعياً، يجب عليه التعريف باسمه، وكنيته، وعنوانه، أمَّا إذا كان شخصاً معنوياً فيلتزم بالتعريف باسم الشخص المعنوي، وطبيعة نشاطه، ومركز إدارته الرئيسي(57).
– على مورد المعلومات، أيضاً، تعيين مدير للنشر، وعند الضرورة رئيساً للتحرير(58)، وعليه كذلك، طبقاً لنص المادة 6-3/1 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، الكشف عن اسم متعهد الإيواء ولقبه، أو عنوانه ومركز إدارته الرئيسي.
إن هذه العناصر يجب أن تكون ظاهرة للعيان ومنشورة على الصفحة الرئيسية للموقع الإلكتروني، أو على الأقل من الممكن الوصول إليها، من خلال الضغط على أيقونة، أو إشارة، أو علاقة معينة أُعدَّت خصيصاً لهذا الغرض(59). كذلك يتوجب على مورد المعلومات تأمين الوسائل التقنية اللازمة للتعريف بصاحب المضمون غير المشروع. ومن المؤكد أن ذلك لا يُثير لمورِّد المعلومات أيَّة إشكاليات نظراً لوجود رمز تعريفي (IP) واسم موقع إلكتروني لكل حاسب آلي مرتبط بشبكة الإنترنت(60). ونُنوِّه هنا إلى أن التعامل مع هذه البيانات والمعلومات، بحسب نص الفقرة الثانية من المادة
6-3/2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، لا بد أن يتم بسريَّة بالغة،
ويجب عدم الكشف عن هذه المعلومات إلا للضرورة.
إن تقيُّدَ مورد المعلومات بجميع التزاماته السابقة، من رقابة على المضمون المعلوماتي، وتعيين مدير للنشر، والكشف عن جميع عناصر التعريف المطلوبة منه، يجعل من الشفافية طابعاً لعمله، الأمر الذي يصعب معه ملاحقته أو إدانته. على أن هذا لا يعني إعفاءَه، بأيِّ حالٍ من الأحوال، من إتاحة حق الرد لأيِّ مستخدم إنترنت يُثبت بطريقة أو بأُخرى أن المادة المعلوماتية المنشورة على الشبكة تُشكِّل مساساً بحقوقه.

ثانياً: الالتزام بإتاحة حق الرد:

وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 6-3/2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، يتمتع كل شخص طبيعي أو معنوي بحق الرد على أيَّة مادة معلوماتية منشورة على شبكة الإنترنت، تمس بشرفه، أو بسمعته، أو تنتهك حقوقه. ويجب عليه أن يُقدم هذا الرد إلى مدير النشر المسؤول خلال مدة أقصاها ثلاثة شهور تبدأ من تاريخ وقف بث المضمون غير المشروع على شبكة الإنترنت، وليس من تاريخ بدء البث. كذلك يقع على عاتق مورِّد المعلومات التزام عامٍ بتأمين الوسائل التقنية والمعلوماتية اللازمة لتمكين الشخص المضرور من ممارسة هذا الحق، وبالتالي من نشر رده مباشرةً على شبكة الإنترنت(61). كما يجب عليه، وفقاً لنص المادة 6-4/2 و 3 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، وتحت طائلة المسؤولية، تمكين الشخص المضرور من المطالبة بتصحيح أو حتى بشطب المادة المعلوماتية غير المشروعة من على صفحات الويب(62).
غير أنه ليس من العدل إلقاء كامل المسؤولية على مورد المادة المعلوماتية غير المشروعة وحده، فهناك أكثر من شخص يتدخَّل في العملية، ومن الممكن بالتالي قيام مسؤوليتهم في حال ثبوت خرقهم لأيٍّ من الالتزامات الملقاة على عاتقهم، ومن هؤلاء الأشخاص الذين يقدِّمون الخدمة الفنية.

المطلب الثاني: التزامات مقدمي الخدمة الفنية:

مقدمو الخدمة الفنية هم أشخاص طبيعيون، أو معنويون، يقومون بدور فني بحت لربط شبكات الاتصال من ناحية، ولتوصيل الجمهور إلى شبكة الإنترنت من ناحيةٍ أُخرى، ويتم ذلك بموجب عقدين مختلفين: الأول: يتمثَّل في عقد نقل المعلومات، ويتولَّى الناقل بمقتضاه عملية الربط الفني بين شبكات الاتصال (أولاً)، في حين يهدف الثاني، من خلال متعهد الوصول، إلى تأمين توصيل العميل إلى الموقع الإلكتروني المنشود (ثانياً).

الفرع الأول: التزامات ناقل المعلومات:

إن عملية نقل المعلومات عبر الإنترنت تقتضي، كما رأينا سابقاً، ربط حاسبات مستخدمي الشبكة بالمواقع الإلكترونية، وذلك من خلال الربط المادي لشبكات الاتصال عن بُعد. ويلتزم ناقل المعلومات، بموجب عقد النقل الذي يربطه بعملائه، بتقديم الوسائل التقنية والفنية اللازمة لعملية النقل المادي للمضمون المعلوماتي. فناقل المعلومات هو كل شخص طبيعي، أو معنوي، يستغل شبكة الاتصالات عن بُعد لإيصال المادة المعلوماتية إلى الجمهور(63). وهذا ما مكننا من تشبيهه بساعي البريد، فدورهما ينحصر في النقل المادي للمعلومات بين الوحدات المختلفة، ولا يُفترض به مراقبة المعلومات التي تمر عبر شبكته، ولا يكون بالتالي مسؤولاً عن عدم مشروعية المادة المعلوماتية المتداولة(64). لا بل أكثر من ذلك، إن ناقل المعلومات مُطالب بالحفاظ على سرية المعلومات التي تمر من خلال شبكته، ومُطالب، أيضاً، بالحياد التام تجاه المضمون المعلوماتي المنقول(65).
ولكن، هل يبقى الحال كذلك فيما لو علم ناقل المعلومات بعدم مشروعية الرسائل والمعلومات المقدمة؟ إن علم الناقل بأوجه عدم المشروعية للمضمون المعلوماتي وبالرغم من ذلك نقله له عبر شبكته، يُشكِّل إخلالاً بالتزامه بضمان احترام نصوص النظام العام، وبواجب الحرص على عدم المساس بحقوق الآخرين(66).
ويثور التساؤل هنا حول مدى شرعية النسخ المؤقت للمضمون المعلوماتي المنقول والذي يقوم به ناقل المعلومات كجزءٍ من عمله، وكخطوة تمهيدية وضرورية لنقل الرسائل والمعلومات عبر شبكة الإنترنت، وفقاً لنص المواد 1-1/3 و 2-1/2 من القانون الفرنسي الصادر في 1 آب 2006م(67)، و5-1/أ وتوضيحها رقم 33 من التوجيه الأُوروبي الصادر بتاريخ 22 أيار 2001م(68) والمتعلِّقين ب “حق المُؤلِّف والحقوق المجاورة له في مجال المعلوماتية”، إن عملية النسخ المؤقَّت لا تُشكِّل انتهاكاً لحق المؤلِّف والحقوق المجاورة له، بشرط انحصار العملية في نطاق وحدود وضرورة إيصال المعلومات كما هي دون إجراء أيِّ تعديلٍ أو تحديثٍ عليها من قِبل ناقل المعلومات؛ أي دون التأثير على حق مؤلِّف المضمون، خاصةً إذا ما التزم الناقل بسحب النسخة التي تم تخزينها بشكل مؤقَّت، وبمنع الوصول إليها في حال أن علم بصدور قرار قضائي أو إداري يقضي بعدم مشروعية المضمون المُخزَّن(69). ويُمكننا أن نلاحظ، بهذا الصدد، أن آلية عمل ناقل المعلومات قريبة جداً من آلية عمل والتزامات متعهد الوصول والتزاماته.

الفرع الثاني: التزامات متعهد الوصول:

نظراً لارتباطه الدائم بشبكة الإنترنت ولطبيعة الخدمة التي يقدمها، يُعدُّ متعهد الوصول واحداً من أهم مقدمي الخدمات في العالم الافتراضي. فنشاطه الرئيسي يتمحور في تزويد مشتركيه بالوسائل الفنية اللازمة لربطهم بشبكة الإنترنت، ولإبحارهم فيها بحريَّة ولوصولهم إلى المواقع الإلكترونية التي يريدون الاطلاع على مضمونها. ومتعهد الوصول هو كل شخص طبيعي، أو معنوي، يستغل شبكات الاتصال عن بُعد في سبيل إيصال عملائه بشبكة الإنترنت، وذلك بموجب “عقد تقديم خدمات الدخول”. لذا يُفترض بمتعهد الوصول المسؤول احترام التزاماته الجوهرية، الإعلامية منها (أولاً)، والتقنية (ثانياً).

أولاً: التزامات ذات طبيعة إعلامية:

وفقاً لأحكام القانون والقضاء، يتوجب على متعهدي الوصول ممارسة عملهم بكل شفافية ووضوح، وبما يتلاءم مع مقتضيات حسن النية، ومن أجل تحقيق ذلك، ألزمت هذه الأحكام متعهدي الوصول بلعب دور اعلامي إيجابي في ادارة شبكة الإنترنت، وأقامت مسؤوليتهم على عدم أدائه، وعليه فقد أصبح لزاماً على متعهدي الوصول، من ناحية، إعلام مستخدمي الشبكة بالبيانات والمعلومات الخاصة بهم وبالمشتركين معهم، ومن ناحيةٍ أخرى، تبصرة المشتركين بمخاطر الإبحار عبر الإنترنت، وإعلامهم بوجوب احترام القوانين والأنظمة السارية، وبعدم الاعتداء على حقوق الغير أثناء هذا الإبحار(70).
وفيما يخص التزام متعهدي الوصول بالإعلام، أو الكشف عن البيانات والمعلومات الخاصة بهم وبالمشتركين معهم، فمن المعلوم أن القواعد العامة في التعاقد تُوجب تحديد هويَّة المتعاقدين، ولم يخرج عقد تقديم خدمات الدخول عن هذه القاعدة. إلا إن عملية إبرام هذا النوع من العقود وطرق تنفيذه عادةً ما تتم عن طريق الإنترنت، الأمر الذي ينتج عنه بعض الصعوبات في تحديد هوية أطرافه. لذا، يتعيَّن على متعهد الوصول، الذي يعرض خدماته على طائفة المستهلكين أو المهنيين، احترام القواعد العامة في حماية المستهلك وقواعد القانون التجاري التي تفرض على كل شخص، يتَّخذ من تقديم خدمات الإنترنت مهنةً له التعريف بنفسه لجمهور المتعاملين(71). فوفقاً لنص المادتين:
5 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، و6-3/1 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”: على متعهد الوصول الكشف لعملائه، على الأقل، عن اسمه وعنوانه البريدي والإلكتروني، ومكان ورقم قيده التجاري. فالاطِّلاع على هذه المعلومات يُضفي حمايةً فعَّالة على جمهور المتعاملين عند إخلال متعهد الوصول بأيٍّ من التزاماته.
وفي المقابل، يقع على عاتق متعهد الوصول، وفقاً لنص المادتين: 15-2 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، و6-2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”: وبمقتضى أحكام القضاء الفرنسي(72) الطلب من عملائه، وذلك في المرحلة ما قبل التعاقدية، تقديم جميع البيانات والمعلومات الشخصية التي تُمكِّنه من تحديد هويَّة العميل، وأهليته، وعنوانه البريدي والإلكتروني. كما يتوجب عليه، وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 6-2 من القانون الفرنسي أعلاه، تحديد آلية جمع هذه المعلومات، أي؛ الوسيلة التي يُمكن للعميل من خلالها تزويد متعهد الوصول بالبيانات والمعلومات المطلوبة. ويثور السؤال هنا حول كيفية تأكد متعهد الوصول من صدق البيانات والمعلومات المقدمة من قِبل العميل، في حال أن أخلَّ هذا الأخير بالتزامه بعدم خرق القوانين والأنظمة السارية، وباحترام حقوق الآخرين على شبكة الإنترنت، خاصةً أن تقديمها يتم عن طريق الإنترنت.
في الحقيقة، إن النصوص القانونية الحالية على الصعيدين الأُوروبي والفرنسي لا تُلزم متعهدي الوصول بضرورة التأكُّد من صدق البيانات والمعلومات المقدمة من قِبل العميل عبر الإنترنت، إلاَّ إن الواقع يُثبت اتِّباع متعهدي الوصول لآلية تسجيل دقيقة للعملاء على مواقعهم الإلكترونية. لا بل إنهم لا يكتفون بذلك، وإنما يقومون –أيضاً- بعملية حجب آني لمفتاح الدخول لشبكة الإنترنت، وذلك بُغية إرساله له على عنوانه الإلكتروني المعلن، ولا يتم حصول العميل على هذا المفتاح إلاَّ بعد دخوله إلى بريده الإلكتروني وقراءة الرسالة الموجهة إليه من متعهد الوصول الذي تعاقد معه(73). إلاَّ إنه، وللأسف، من وجهة نظر عملية باستطاعة العميل سيء النية التغلُّب على هذه الآلية، وذلك عن طريق إجراء عملية تسجيل بريد إلكتروني وهمي من خلال تقديم بيانات ومعلومات غير صحيحة. وباعتقادنا إذن إننا أمام مسألة فنية بحتة، لا تحتاج إلى تدخُّل تشريعي بقدر ما تحتاج إلى فطنة وتعاون متعهدي الوصول في إيجاد وسيلة فنية يصعب معها تقديم بيانات ومعلومات غير صحيحة. وبحسب نص الفقرتين: الأولى والثانية من المادة 6-2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” يجب أن تسمح هذه الوسيلة، من جهة، بتحديد هويَّة العميل قبل إيصاله بشبكة الإنترنت وكشفها للسلطة القضائية المختصة عند الطلب، ومن جهةٍ أخرى، بتتبَّع أثره المعلوماتي، والذي من خلاله يُمكن تحديد تاريخ ومكان الدخول إلى شبكة الإنترنت، وصفحات الويب التي تمَّ زيارتها، والمضمون المعلوماتي الذي تمَّ بثه. على أنه بمجرَّد انتهاء عملية اتصال العميل بشبكة الإنترنت يتعيَّن على متعهدي الوصول، بموجب نص المادة 32-3/1 من قانون البريد والاتصالات عن بُعد، شطب البيانات والمعلومات التي تمَّ تحديدها، أو على الأقل، حسب نص المادة 6-3/2 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، جعلها سرِّية وعدم الكشف عنها إلاَّ للسلطة القضائية المختصة عند طلب ذلك.
أما فيما يتعلَّق بمدَّة حفـظ البيانات والمعلومات وآلياتهـا، فمن المتوقَّع، طبقاًً لنص
الفقرة الخامسة من المادة 6-2 من نفس القانون، أن يصدر قريباً نظامٌ لتحديد ذلك. ولحين صدور هذا النظام، فإنه لا مناص أمام القضاء الفرنسي من الاستمرار في إعمال القواعد العامة الخاصة بحفظ البيانات والمعلومات بشكلٍ عام من قِبل مقدمي خدمات الاتصال. وتطبيقاً لذلك، فإن المادة 32-3 بفقرتيها الأولى والثانية من قانون البريد والاتصالات عن بُعد، والذي تمَّ تعديله في 15 تشرين الثاني 2001م(74)، تنص على أن مدَّة حفظ البيانات والمعلومات المقدمة لمتعهدي خدمات الاتصال يجب أن لا تتجاوز، في حدِّها الأقصى، السنة الواحدة.
ومن ناحيةٍ أُخرى، يُوجب القضاء الفرنسي على متعهدي الوصول، وذلك تنفيذاً لعقد تقديم خدمات الدخول، تبصرة العملاء بالمخاطر التي من الممكن أن يتعرضوا لها خلال عملية إبحارهم في عالم الإنترنت ودخولهم إلى مواقع إلكترونية معينة أو التعامل معها. كما يضع على عاتقهم الالتزام بإعلام عملائهم بضرورة احترام القوانين والأنظمة السارية، ووجوب عدم استخدام شبكة الإنترنت كوسيلة للاعتداء على حقوق الغير(75). كذلك يتوجب على متعهدي الوصول، وفقاً لنص المادة 14/3 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، وانطلاقاً من مبدأ حُسن النية في إدارة شبكة الإنترنت، التعاون مع جميع المعنيين بالخدمات المقدمة على الشبكة من جهات إدارية وقضائية، ومن جمهور المستخدِمين، ومن العاملين في قطاع خدمات الإنترنت. ويأتي هذا الالتزام مكمِّلاً لالتزاماته الأخرى ذات الطبيعة التقنية.

ثانياً: التزامات ذات طبيعة تقنية:

سبق أن أوضحنا بأن متعهد خدمات الوصول يقوم بدور فني بحت، يكمن في توصيل عملائه بشبكة الإنترنت، وفي فتح الطريق أمامهم للوصول إلى المعلومات المطلوبة دون أن يكون له أيَّة علاقة بالمادة المعلوماتية المنقولة، أو بمضمونها، أو بموضوع الرسائل المتبادلة عبر الإنترنت. فدوره يتميَّز بالحياد التام وليس له حق الاطِّلاع على مضمون المعلومات التي تمر من خلاله ولا يُمكن بالتالي تحميله المسؤولية عن مضمون الرسائل المتبادلة، أو عن طبيعة المادة المعلوماتية المقدمة، إلا ضمن شروط مُعيَّنة(76).
جاءت أحكام القضاء الفرنسي في هذا المجال لتؤكِّد هذا الدور ولتُقرِّر انحصار دور متعهد الوصول في تأمين نقل البيانات والمعلومات بطريقة فورية. وبالتالي، لا يقع على عاتقه التزام عام بمراقبة مضمون المادة المعلوماتية التي تمر من خلاله(77). وتمَّ تبنِّي نفس الموقف من قِبل مجلس الدولة الفرنسي والذي أعلن صراحةً في تقريرٍ له صدر عام 1998م(78) إعفاء متعهد الوصول من واجب الرقابة السابقة للمضمون المعلوماتي الذي يمر من خلاله. وقد حاول بعضهم إقامة التوازن ما بين مبدأين أساسيين: أولهما الحياد التام لمتعهدي الوصول، وثانيهما واجب أخذ الحيطة والحذر الذي يتعيَّن على كل مهني مراعاته(79).
المشرِّع الأوروبي بدوره لم يشذ عن هذا الموقف، فقد أعلن في المادة 15-1 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية” أنه يحظر على الدول الأعضاء فرض التزام عامٍ على مقدمي خدمات الإنترنت برقابة المعلومات التي يتولُّون نقلها أو تخزينها، أو التزام بالبحث النشط عن الوقائع والظروف التي تكشف عن الأنشطة غير المشروعة. وباعتبار فرنسا إحدى الدول الأعضاء في الإتحاد الأُوروبي كان لزاماً على المشرِّع الفرنسي تبنِّي موقف مطابق لموقف المشرِّع الأُوروبي، وتم ذلك بالفعل، فجاء نص المادة 6-1/7 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” ليضع على عاتق متعهدي الوصول التزاما بالحياد التام فقط، وبالتالي عدم التدخُّل في مضمون المادة المعلوماتية المنقولة، مع ما يتطلَّبه ذلك، بحسب نص المادة 6-3/2 من نفس القانون، من وجوب المحافظة على سرِّية الاتصالات، وعدم الكشف عن مضمونها إلاَّ للسلطة القضائية المختصة عند الضرورة.
غير أنه، وفقاً لنص الفقرة الثانية من المادة 6-1/7 من القانون الفرنسي، والتي جاءت متفقةً مع أحكام التوضيح رقم 47 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، إن التزام متعهدي الوصول بالحياد التام لا يُعفيهم، لا من الالتزام بممارسة الرقابة الموجَّهة والمؤقَّتة للمعلومات التي تمر من خلالهم، بناءً على أمرٍ صادرٍ من السلطة القضائية المختصة، ولا، بحسب نص الفقرة الرابعة من نفس المادة، من واجـب
تبليغ السلطات العامة في الدولة عن أيِّ مضمون إلكتروني غير مشروع.
نوعٌ آخرٌ من الالتزامات يقع على عاتق متعهدي الوصول، يتمثَّل في وجوب اقتراحهم على عملائهم الوسائل الفنية اللازمة لمنع الوصول إلى بعض المواقع الإلكترونية المشبوهة. فالمادة 6-1 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” تُلزم هؤلاء المتعهدين بتزويد المشتركين بالوسيلة الفنية التي تسمح لهم، إن أرادوا ذلك، بفرض نوع من الرقابة الذاتية على أنفسهم أو على أفراد أُسرهم في هذا المجال. ومن الوسائل التي يقترحها متعهدو الوصول على عملائهم، في سبيل تحقيق هذا الغرض، تلك المتعلِّقة بتقنية تصفية أو تنقية (Filtrage) المعلومات الإلكترونية. فمن خلال هذه التقنية يُمكن للعملاء إجراء عملية فلترة للمعلومات الواردة عبر متعهد الوصول الخاص بهم، بحيث لا يتم استقبال إلاَّ تلك التي تتفق مع قيمهم ومعاييرهم الدينية والأخلاقية، والثقافية…(80)
وبالرغم من عدم وجود أيِّ نص قانوني يفرض على متعهدي الوصول مراقبة المعلومات التي تمر من خلالهم، وبالتالي تنقيتها، من أجل استبعاد ما هو غير مشروع منها، إلاَّ إن القضاء حاول تدريجياً رسم الملامح العامة لمضمون الالتزام بتنقية المضمون الإلكتروني. فبالنسبة للقضاء، نظراً للحجم الهائل للبيانات والمعلومات التي تمر يومياً عبر متعهدي الوصول، فإن فرض التزام عامٍ بممارسة الرقابة الأُوتوماتيكية والدقيقة لمضمون المعلومات المارَّة، من خلالهم، ضربٌ من المستحيل. لذلك، فقد اكتفت بعض قرارات المحاكم بإلزامهم فقط بممارسة رقابة عشوائية وانتقائية، من وقتٍ لأخر، للمضمون الإلكتروني المتداول عبر الإنترنت.
وتطبيقاً لذلك، حكمت المحكمة العليا في أمريكا في 22 حزيران 1998م في دعوى أقامها المواطن Kenneth ZERAN، والذي وقع ضحية مزاح صدر من شخص مجهول الهويَّة، قام بالنشر على صفحات إحدى المواقع الإلكترونية عن رغبته ببيع قمصان يمتلكها مطبوعٌ عليها شعارات متصلة بالحادث المأساوي لمدينة Oklahoma الأمريكية، والتي انفجرت في أحد أحيائها قنبلة أودت بحياة المئات من الأشخاص. وحيث إنه لم يكن بالإمكان تحديد هويَّة ناشر الخبر، توجَّه ZERAN إلى القضاء، وأقام دعوى تعويض ضد متعهد الوصول AOL مستنداً إلى أنه كان يعلم بمضمون الرسالة المتداولة عبر الإنترنت، ولكنه لم يتَّخذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون وصولها إلى العملاء، مما ألحق ضرراً معنوياً فادحاً بهم. وقضت المحكمة في هذا الصدد بعدم إمكانية مساءلة شركة AOL بصفتها متعهداً للوصول عن المعلومات التي قام الآخرون ببثِّها من خلالها. كذلك رفضت المحكمة في قرارها الصادر، وللمرَّة الأولى، إقامة أي تشابه بين متعهد الوصول ومحرري الصحافة المرئية والمكتوبة، وذلك لأن سرعة انتقال المعلومات عبر شبكة الإنترنت تجعل من المستحيل إخضاعها للرقابة الفعلية(81).
أما في فرنسا، فقد ثار الموضوع بمناسبة الدعوى التي رفعها اتِّحاد الطلاب اليهود أمام قاضي الأمور المستعجلة لمحكمة بداية باريس ضد عدد من متعهدي الوصول، الذين سمحوا بنشر عدد من الخطابات والإشارات العنصرية المُعادية للساميَّة على شبكة الإنترنت. وطالب اتِّحاد الطلاب القاضي الفرنسي بإصدار قرارٍ يُلزم فيه متعهدي الوصول بشطب المادة المعلوماتية المذكورة من على صفحات الويب، أو على الأقل منع وصول العملاء إليها، بصرف النظر عن موقعها على الإنترنت. ونظراً لاتصاف طلبهم هذا بالعمومية وعدم الدِّقة، ونظراً لاستحالة تحقيقه من الناحية الفنية، لعدم إمكانية مراقبة ملايين الرسائل التي تُبث يومياً عبر الشبكة، جُوبه طلبهم بالرفض من قبل القاضي الفرنسي، وقد أعلن القاضي الفرنسي في هذا الصدد، في قراره الصادر في 20 تشرين الثاني 2000م، عدم التزام متعهد الوصول بالمراقبة الفعلية للمضمون المعلوماتي الذي يعبر من خلاله(82).
وفي قضيةٍ أُخرى l’affaire j’accuse، قامت إحدى جمعيات مقاومة العنصرية برفع دعوى أمام قاضي الأمور المستعجلة لمحكمة بداية باريس على ستة عشر متعهد وصول، وذلك بهدف وقف بث أو منع وصول العملاء لعددٍ من الرسائل الإلكترونية التي تحض على العنصرية. وقررت المحكمة في هذه الدعوى عدم إلزام متعهد الوصول بممارسة الرقابة الفعلية على المضمون الإلكتروني المبثوث، وألزمته، فقط، بتزويد المشتركين بالوسائل الفنية اللازمة لتنقية المعلومات المبثوثة. وأضافت المحكمة أيضاً أن متعهد الوصول لا يلتزم بمباشرة هذه التنقية بنفسه، ولكن يكفي بأن يسمح بها لعملائه من خلال الوسائل الفنية التي يُقدِّمها لهم(83)، فيكون بذلك لكل عميل كامل الحرِّية في استقبال المعلومات التي يُريدها وفي استبعاد تلك التي تتعارض مع قيمه، ومبادئه، وديانته. وحريٌّ بنا هنا الثناء على موقف المحكمة هذا، إذ إن إلزام متعهد الوصول بمباشرة تنقية المعلومات بنفسه لا يخلو من الصعوبات. فبالإضافة للصعوبات الفنية الناجمة عن حجم المعلومات الهائل المتداول عبر شبكة الإنترنت، يثور السؤال الهام حول المعيار الذي يُتخذ أساساً للقيام بهذه التنقية. فما يُمكن اعتباره مشروعاً في مكان، قد يُعدُّ غير مشروعٍ في مكانٍ آخر. فحسب أيِّ نظامٍ قانوني إذن يجب أن تتم هذه التنقية؟
ولو تتبَّعنا قرار المحكمة الفرنسية السابق لوجدنا أنها قد أعلنت صراحةً أن تدخُّل متعهد الوصول في تنقية المعلومات التي تمر من خلاله لا يُمكن أن يتم إلاَّ بأمرٍ من السلطة القضائية المختصة. والحكمة من ذلك، باعتقادنا، هي تفادي أن تدخل مزاجية متعهد الوصول في شطب أو منع وصول مستخدمي الإنترنت إلى معلومةٍ أو أُخرى، دون وجود أدنى رقابة. ومن هنا، جاء نص المادة 6-1/8 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي ” ليُقرِّر بأن السلطة القضائية هي الوحيدة المخوَّلة بتحديد عدم مشروعية المضمون الإلكتروني المتداول عبر شبكة الإنترنت، وبالتالي شطبه أو منع وصوله للمشتركين. ومُؤدى هذا الموقف أن قيام متعهدي الوصول بشطب المادة المعلوماتية المتداولة عبر الإنترنت، أو بمنع الوصول إليها دون وجود قرارٍ قضائي يسمح بذلك، يُشكِّل مخالفة قانونية تستوجب المساءلة. فمخالفة الالتزام يُقابله قيام المسؤولية. وعليه، فإن دراسة النظام القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت لا يُمكن أن تكتمل إلاَّ بتحديد مسؤوليتهم عن المخالفات المرتكبة عبر الشبكة.

المبحث الثاني مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت عمّا يحدث من مخالفات عبر الشبكة

إن تحديد مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت يُعدُّ من أصعب المواضيع الممكن مواجهتها. ومرد ذلك عدَّة أسباب: أولها: الطابع الفني المعقَّد للشبكة، وثانيها: عالمية النشاط الإلكتروني غير الخاضع لسيطرة دولة معينة أو لإدارة مركزية، وثالثها: تعدُّد الهيئات التي تعرض خدماتها في هذا المجال، ورابعها: وجود كم هائل من المتدخِّلين في تسيير هذه الشبكة… والتساؤل الذي يثور هنا هو مدى مسؤولية كل متدخِّل عن السلسلة المعلوماتية المتواصلة عبر الإنترنت. فإذا كان هناك إجماع على تحقُّق مسؤولية صاحب المعلومة، أو منتجها، أو مؤلِّف الرسالة التي تُبث عبر الإنترنت عن كل ما تتضمنه من مخالفة للقوانين، أو أُمور غير مشروعة، أو ما قد تُسببه من أضرار للآخرين، إلاَّ إن الأمر يُثير الجدل حول مسؤولية القائمين على إدارتها من مقدمي خدمات الإنترنت(84).
إن الحقيقة الواضحة أمامنا تقودنا إلى القول بأن هذا الجدل لا يُمكن أن يُؤدِّي بأيِّ شكلٍ من الأشكال إلى استبعاد مسؤولية مقدمي الخدمات، بحيث يُصبح الممنوع مشروعاً. والواقع أن مسؤوليتهم يُمكن أن تجد أُسساً مختلفة، كالإخلال بالتزام تعاقدي، أو انتهاك حقوق الملكية الفكرية، أو إفشاء أسرار مهنية، أو المساس بحرمة الحياة الخاصة، أو عبارات السب والقذف. فإزاء هذه المخالفات المتعددة يثور السؤال حول الطريقة الأنسب لمعالجتها. فهل من الأمثل الأخذ بعين الاعتبار خصوصية بعض المخالفات، كتلك المتعلقة بحقوق الملكية الفكرية مثلاً، وبالتالي تخصيص النصوص القانونية لمعالجة كل مخالفة وحدها؟ أم من الأفضل وضع قواعد عامة للمسؤولية عن المخالفات المرتكبة على الإنترنت بصرف النظر عن مضمونها(85)؟
على خلاف القانون الأمريكي الصادر في 28 تشرين الأول 1998م للحد من الاعتداءات على حقوق الملكية الفكرية في نطاق الإنترنت والمسمَّى بـDigital Millenium Copyright Act (DMCA)، والذي خصص الباب الثاني منه لتحديد مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت عن التعدي على هذه الحقوق، فحماهم من بعض دعاوى التقليد والتزييف، واشترط لقيام مسؤوليتهم في هذا المجال تحقق شروط معينة، ترك التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية” الخيار للدول في هذا المجال. فعملت أغلب الدول الأُوروبية على تبني اتجاه عامٍ، مُؤدَّاه وضع قواعد عامة للمسؤولية على الإنترنت دون أيِّ تخصيص(86). فجاء القانون الفرنسي الصادر في 21 حزيران 2004م حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، والقانون البلجيكي الصادر في 11آذار 2003م حول “التجارة الإلكترونية”، والقانون الألماني الصادر في 22 تموز 1997م وتعديلاته حول “الاتصالات عن بُعد” وغيرها من قوانين الدول الأُوروبية، لتُنظِّم مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت من خلال تبنِّي قواعد عامة، دون إجراء أيَّة تفرقة بين نوعيَّة المخالفات المرتكبة باستخدام الشبكة. فتمَّ بذلك، للمرَّة الأُولى وبشكلٍ كُلِّي، تحديد نطاق هذه المسؤولية (المطلب الأول)، وشروط تحقُّقها (المطلب الثاني)، وأساسها القانوني (المطلب الثالث).

المطلب الأول: نطاق مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت:

لا تختلف طبيعة مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت باختلاف نوعيَّة المخالفات المرتكبة على الإنترنت، ولكن باختلاف مضمونها. فقد تكون هذه المسؤولية جزائية إذا تضمَّن المضمون الإلكتروني على ما يُدخله في نطاق التجريم كانطوائه على عبارات السب والقذف، وقد تكون المسؤولية مدنية إذا احتوى هذا المضمون على تعدٍّ على حقوق الآخرين، أو أمرٍ أضرَّ بهم، كانتهاك حرمة الحياة الخاصة، أو التعدّيِ على حقوق الملكية الفكرية. وفيما يتعلَّق بالمسؤولية المدنية بوجهٍ خاص، يُمكن أن تثور لنوعين من الأسباب: فإمَّا أن يكون سببها إخلال مقدم خدمات الإنترنت بالتزاماته التعاقديَّة، وإمَّا أن ترجع إلى نشر مضمون معلوماتي غير مشروع على صفحات الويب.
يلزمنا إذن لتحديد نطاق مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت أن نُحدِّد، بدايةً، بُعديها: الجزائي والمدني (الفرع الأول)، ومن ثمَّ ننتقل إلى التمييز في داخل المسؤولية المدنية نفسها بين المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية لهؤلاء المقدمين (الفرع الثاني).

الفرع الأول: المسؤولية الجزائية والمسؤولية المدنية:

كان لتناول الصحافة المتكرِّر لمسألة انتهاك حرمة الحياة الخاصة، وقداسة الأديان على شبكة الإنترنت الأثر الأكبر في انتشار الحديث عن المسؤولية الجزائية لمقدمي خدمات الإنترنت(87). غير أن اختلاف المضمون الإلكتروني غير المشروع، وانتفاء القصد الجرمي، في بعض الأحيان، للمتدخِّلين في خضم الشبكة، كان وراء ظهور الحديث عن نوعٍ آخر من المسؤولية، وهي المسؤولية المدنية عن الأضرار المسبَّبة للآخرين عبر الإنترنت. وثار السؤال حول إمكانية المطالبة بالتعويض عنها. ومن هنا، كان لزاماً قانوناً، وقضاءً، وفقهاً، الفصل الدقيق بين كل من المسؤولية الجزائية والمسؤولية المدنية لمقدمي خدمات الإنترنت، على الرغم من الصلة الوثيقة بينهما في هذا المجال.
وفيما يتعلَّق بالمسؤولية الجزائية، جاء القضاء الفرنسي ليُقرر بأن مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت الجزائية يُمكن أن تقوم على أساس التدخُّل في الجريمة أو الاشتراك الجرمي. ففي قرارها الصادر في 10 تموز 1997م، أعلنت محكمة بداية باريس أن مساهمة مقدم خدمات الإنترنت في بث مضمون معلوماتي غير مشروع، من الممكن أن يُشكِّل تدخُّلاً منه في ارتكاب الجريمة، الأمر الذي يستوجب معه إدانته إلى جانب الفاعل الأصلي على هذا الفعل(88). وفي قرارٍ لها صدر بتاريخ 28 أيار 1998م، أدانت محكمة صلح ميونخ الألمانية أحد مقدمي خدمات الإنترنت كشريك في جريمة نشر صور جنسية للأطفال على صفحات الويب(89).
جاء المشرِّع الفرنسي متفقاً بهذا الخصوص مع الاتجاه العام للتوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، حيث نصَّت المادة 6-1/3 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي: “أن أفعال مقدمي خدمات الإنترنت الخاطئة لا يُمكن أن تدخُل في نطاق التجريم إلاَّ إذا ثبت علمهم الفعلي بالمضمون الإلكتروني غير المشروع، وعلى الرغم من علمهم هذا لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لشطبه، أو على الأقل لمنع وصول الجمهور إليه. فكل دولة في هذا الشأن تنتظر، بالتأكيد، من مقدمي خدمات الإنترنت الذين يُمارسون أنشطتهم من على أراضيها، وفيما لا يُجاوز في حدِّه الأعلى الشروط السابقة، مساعدة السلطات العامة فيها على مُحاربة الجريمة الإلكترونية. وبخلاف ذلك، سيجدون أنفسهم تحت طائلة المسؤولية الجزائية كمتدخِّلين في الجريمة، أو كمشتركين فيها. غير أنه وبالرجوع إلى نصوص قانون العقوبات الأردني والفرنسي، نجد بأنه لا يُمكن أن يُدان شخص بجريمة التدخُّل أو بالاشتراك الجرمي ما لم يثبت علمه بالأفعال المرتكبة(90). وتطبيقاً لذلك، فإن القصد الجرمي لمقدمي خدمات الإنترنت ينتفي في حال ثبت عدم علمهم الفعلي بالمضمون الإلكتروني غير المشروع، أو إذا ما قاموا بمجرد علمهم بعدم مشروعية هذا المضمون، بشطبه، أو بمنع وصوله للجمهور.
من جهته حصر القانون الأمريكي (DMCA) مساءلة مقدمي خدمات الإنترنت جزائياً في حدود الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية في نطاق الإنترنت، فأقام مسؤوليتهم فقط في حال علمهم بعدم مشروعية المضمون المعلوماتي الإلكتروني الذي يقومون بنقله أو تخزينه. ويثبت علمهم هذا في حالتين: الأولى: أن تكون عدم المشروعية ظاهرة إلى حدٍّ لا يُمكن تجاهلها، والثانية: قيام السلطات الأمريكية المختصة أو الشخص المتضرر من نشر المضمون المعلوماتي بإبلاغ مقدم الخدمة بوجه عدم المشروعية. فإذا ما تحقق علمه بعدم المشروعية، وعلى وجه الخصوص بالعمل المقلَّد أو المنسوخ بصورة غير شرعية، توجب عليه المبادرة إلى اتخاذ موقف إيجابي بشطب المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو على الأقل منع وصوله لجمهور مستخدمي الشبكة. وبخلاف ذلك، يُعدُّ مقدم الخدمة مُخلاًّ بالتزاماته، مما يستوجب قيام مسؤوليته(91). ونلاحظ في هذا الصدد تطابق حالات قيام المسؤولية وانتفائها في التشريعات الثلاث: الأوروبي، والفرنسي، والأمريكي.
ولكي تنتفي مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت الجزائية، بشكلٍ كُلِّي، وفي إطار مساعدتهم للسلطات العامة في الدولة في مُحاربة جرائم انتهاك حقوق الملكية الفكرية، وحرمات الحياة الخاصة وقداسة الأديان وجرائم الحث على المشاعر العنصرية، والاعتداء الجنسي على الأطفال، فإنهم مُطالبون، أيضاً، وفقاً لنص الفقرة الثالثة من المادة 6-2/7 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، والتي جاءت متفقةً مع الاتجاه العام للمواد 13 و14 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، ومع المادة 512//g3 من القانون الأمريكي (DMCA)، والخاصة بالتعدي على حقوق الملكية الفكرية في نطاق الإنترنت، بأن يضعوا تحت تصرُّف عملائهم الوسائل اللازمة لتسهيل عملية التبليغ عن أيِّ مخالفات قد تتم عبر الشبكة. وبعد تحقق مقدم الخدمات من صحة موضوع التبليغ ومن عدم مشروعية المضمون الإلكتروني عليه أن يُبادر فوراً إلى إبلاغ السلطات العامة في الدولة عن هذه الواقعة، وذلك من أجل استصدار أمرٍ إداريٍّ أو قضائيٍّ بشطب هذا المضمون، أو منع وصوله لمستخدمي الشبكة.
ولكن كيف بالإمكان ضمان جدِّية التبليغ وبالتالي تجنُّب التبليغات التعسُّفية أو الكيدية؟ أجابت على هذا التساؤل المادة 6-1/4 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، والتي نصَّت على أن كل من بلَّغ مقدمي خدمات الإنترنت بوجود مضمون إلكتروني غير مشروع، من أجل شطبه أو منع الجمهور من الوصول إليه، مع علمه المسبق بعدم صحَّة تبليغه، يُعاقب بالسجن لمدة عام وبغرامة مقدارها خمس عشرة ألف يورو.

مسؤوليةٌ من نوعٍ آخر تثور عند الحديث عن نشر مضمون إلكتروني غير مشروع، أو بصفةٍ عامة عند الحديث عن إخلال مقدمي الخدمات على شبكة الإنترنت بأيٍّ من التزاماتهم، وتتمحور هذه المرَّة حول إمكانية مطالبة الشخص الذي لحقه ضرر جرَّاء هذا الإخلال بالتعويض، استناداً لقواعد المسؤولية المدنية. فممَّا لا شكَّ فيه أن مبدأ قيام هذه المسؤولية متفقٌ عليه، إلا إن الخلاف ثار حول طبيعة هذه المسؤولية وأساسها، ونطاق تطبيقها. بل أكثر من ذلك، إن مقدمي خدمات الإنترنت أنفسهم لم يُراودهم أيِّ طموحٍ في إعفائهم تماماً من التعويض عن الأضرار التي من الممكن أن يُلحقوها بالآخرين خلال قيامهم بعملهم، إلاَّ إنهم، في المقابل، بذلوا أقصى ما في وسعهم من أجل تحديد نطاق مسؤوليتهم بشقيها: العقدي، والتقصيري، ونادوا بالتخفيف من آثارها، وعملوا على تفادي مخاطرها(92). ولإعطاء المسألة أهميتها وأبعادها القانونية، فقد ارتأينا أن نُفرِدَ فرعاً خاصاً لتحليلِ الشقِّ العقدي والشقِّ التقصيري لمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت المدنية.

الفرع الثاني: المسؤولية العقدية والمسؤولية التقصيرية:

تتنوَّع العقود التي تعنى بتجهيز وتقديم والاستفادة من خدمات الإنترنت، ويتم إبرام هذه العقود المتفق على تسميتها “بعقود الخدمات الإلكترونية”، بين القائمين على تقديم خدمات تلك الشبكة والمستفيدين منها. ومن الأمثلة على هذه العقود: عقد الدخول إلى الشبكة، وعقد توريد المعلومات، وعقد الإيواء، وعقد تقديم المساعدة الفنية. وبموجب هذه العقود، والتي يتم إبرامها وتنفيذ بنودها من كلا الطرفين عبر شبكة الإنترنت نفسها، يلتزم مقدمو خدمات الإنترنت، كقاعدة عامة وكما سبق وأن أوضحنا، بتخزين المادة المعلوماتية وإيصالها إلى مستخدمي الشبكة عن طريق تزويدهم بالوسائل الفنية التي تسمح بذلك. وبالمقابل يلتزم مستخدمو الشبكة والمستفيدون من هذه الخدمات بتأدية ما ترتَّب في ذمَّتهم من استحقاقات مالية، وكذلك باحترام القوانين والأنظمة السارية والأعراف، وقواعد السلوك الثابتة في هذا المجال.
وفيما يخص مقدم خدمات الإنترنت، محور دراستنا، فإن مسؤوليته العقدية تثور في حال إخلاله بالتزامه بتقديم الخدمة. حيث يحق لكل مشترك الحصول على خدمة الإنترنت المتعاقد عليه، وفي حال أن استحال ذلك، كتعذُّر اتصاله بالشبكة، أو عدم وصوله إلى المادة المعلوماتية المطلوبة لأيِّ سببٍ كان، تُطبَّق مباشرةً قواعد المسؤولية العقدية(93).
وعلى غرار المشرِّع الأُوروبي فإن المشرِّع الفرنسي لم يتناول المسؤولية العقدية لمقدمي خدمات الإنترنت إلاَّ من خلال تنظيمه لأحكام المسؤولية في التجارة الإلكترونية، ولكنَّه على خلاف المشرِّع الأُوروبي الذي لم يُوفَّق في تعريفها، فقد أعطاها المشرِّع الفرنسي تعريفاً قانونياً واسعاً. إذ جاءت المادة 14 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” لتُعرفها على أنها كل نشاط اقتصادي مُُوجَّه من قِبل شخص معنوي أو طبيعي يتوَّلى عملية اقتراح وتقديم بضائع، أو خدمات، باستخدام وسائل الاتصال عن بُعد أو الوسائل الإلكترونية(94).
والمشرِّع الأردني بدوره لم يستخدم مصطلح “التجارة الإلكترونية”، وإنما ارتأى أن يُوسِّع هذا المفهوم، وأن يستخدم بدلا ًمنه مصطلح “المعاملات الإلكترونية”، والذي يمتد ليشمل، وفقاً لنص المادة الثانية من قانون المعاملات الإلكترونية المؤقت، جميع “المعاملات التي تُنفَّذ بوسائل إلكترونية”. وقد عرَّف المشرِّع الأردني مصطلح “المعاملات”، في ذات المادة السابقة، على أنها “إجراء أو مجموعة من الإجراءات، يتم بين طرفين أو أكثر لإنشاء التزامات على طرف واحد، أو التزامات تبادلية بين أكثر من طرف، ويتعلَّق بعمل تجاري، أو التزام مدني، أو بعلاقة مع أي دائرة حكومية”.
ومن الملاحظ أن كلا المشرِّعيْن: الفرنسي والأردني قد وسَّعا من مفهوم التجارة الإلكترونية ليشمل الغالبية العُظمى من العقود التي تُبرم عن بُعد، لا سيَّما عقود تزويد المعلومات عن طريق الإنترنت، وعقود الدخول إلى الشبكة، وعقود الإيواء، وعقود تزويد خدمات البحث الآلي. وإذا ما ربطنا بين هذا التعريف ونص المادة 121-20/3 من قانون الاستهلاك الفرنسي لوجدنا أن مقدمي خدمات الإنترنت مسؤولون بقوُّة القانون تجاه المشتركين عن تنفيذ كامل التزاماتهم التعاقدية، وأنه ليس بإمكانهم أن يتنصَّلوا من أحكام هذه المسؤولية إلاَّ إذا أثبتوا أن سبب عدم التنفيذ لا يرجع إليهم، وإنما إلى قوة قاهرة، أو فعل الآخرين، أو فعل المشترك نفسه(95). إذن الهدف هو إصباغ حماية فعَّالة للمشترك وبسطها لتمتد، ليس فقط لطائفة المستهلكين، وإنما لكل من يستفيد من هذه الخدمات، بغض النظر عن صفته(96).
وبما أن عقد تقديم الخدمات الإلكترونية وليد الإرادة، يثور التساؤل حول إمكانية اتفاق المتعاقدين على عدم مسؤولية مقدم الخدمات، أو على الأقل التخفيف منها عند إخلاله بالتزامه بتقديم الخدمة المتفق عليها. وفي الواقع، إن الاتجاه العام في فرنسا يذهب إلى أن ذلك يعتمد على سبب هذا الإخلال، فمن الممكن بالتالي تصوُّر صحة شروط استبعاد أو تحديد مسؤولية مقدم الخدمة في عقد الخدمات الإلكترونية إذا أهمل أو قصَّر في تنفيذ التزامه، وذلك دون أن يتعمَّد أو يرتكب خطأ جسيماً. ويعني هذا أنه يقع على المشترك عبء إثبات غش مقدم الخدمة حتى يرفع عنه شرط الإعفاء. وبهذا، فإن البطلان في هذا النوع من العقود لا يلحق من الأساس إلاَّ الشروط التعسُفيَّة(97).
ولم يخرج المشرِّع الأردني عن هذه القواعد، فمن خلال استقرائنا لبعض النصوص
في القانون المدني الأردني يُظهر لنا، ولو بصورة ضمنية، جواز الإعفاء من المسؤولية أو تحديدها. فالمادة 358-1 من هذا القانون تنص على أنه: “إذا كان المطلوب من المدين هو المحافظة على الشيء، أو القيام بإدارته، أو توخِّي الحيطة في تنفيذ التزامه، فإنه يكون قد وفَّى بالالتزام إذا بذل في تنفيذه من العناية كل ما يبذل الشخص العادي، ولو لم يتحقق الغرض المقصود. هذا ما لم ينص القانون او الاتفاق على غير ذلك”، كما تنص الفقرة الثانية من هذه المادة على أنه: “وفي كل حال يبقى المدين مسؤولاً عمَّا يأتيه من غش أو خطأ جسيم”. وبتطبيق ما تقدَّم من قواعد عامة على مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت فإنه يُمكننا القول بجواز إعفائه من المسؤولية إذا لم يرجع سبب الإخلال إلى خطأ جسيم أو غش من جانبه(98). فلا شكَّ إذن في صحَّة هذا الشرط، إلاَّ إنه لا يُعتد به، طبقاً للقواعد العامة وإعمالاً لمبدأ نسبية آثار العقد، إلاَّ في مواجهة المتعاقد معه، ولا يسري في مواجهة الغير الذي يُضار من المخالفة المرتكبة.
وعلى صعيد المسؤولية التقصيرية، يبدو من الاتجاه العام لنصوص المواد 6 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” و12-14 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية” أنها تميل إلى إعفاء مقدم خدمات الإنترنت من المسؤولية، إلاَّ في حال أن ثبت علمه الفعلي بالمضمون الإلكتروني غير المشروع، ومع ذلك لم يتَّخذ الإجراءات اللازمة لشطبه أو لمنع وصوله للجمهور، أو في حالةٍ أُخرى، إذا طُلب منه شطب هذا المضمون أو منع وصول الجمهور إليه من قِبل السلطة القضائية، ولم يستجب لهذا الطلب.
ويتَّضح، أيضاً، من القانون الأمريكي (DMCA) أن مقدمي خدمات الإنترنت غير مسؤولين عن المضمون الإلكتروني غير المشروع، طالما أنهم يجهلون سبب عدم المشروعية، ولم يتلقُّوا مكسباً ماديَّاً من وراء المخالفة، وقاموا بسحب هذا المضمون بمجرَّد تلقِّيهم تحذيراً من الشخص المتضرِّر. وينتج عن مجموع هذه الشروط أن مقدم الخدمات لا يُسأل عن فعل الآخرين ويتحمَّل، فقط، نتيجة خطئه الشخصي، وهذا يتَّفق بدوره مع القواعد العامة في المسؤولية في القانون الفرنسي، وبوجهٍ خاص، مع نص المادتين: 1382 و1383 من القانون المدني واللتين تُلزمان صاحب الفعل الضار الذي أدَّى بخطئه، أو إهماله، أو تقصيره إلى الإضرار بالآخرين بضمان هذا الضرر. وترتيباً على ذلك، يجب على من تضرَّر من نشر مضمون إلكتروني غير مشروع على شبكة الإنترنت التأسيسِ على الخطأ الثابت لمقدم الخدمات لكي يتمكَّن من تضمينه الضرر الذي لحقه(99).
وفي القانون الأردني، حتى يكون الشخص ضامناً للضرر الذي يُلحقه بالغير يجب أن يتَّصف عمله بعدم المشروعية. فقد نصَّت المادة 256 من القانون المدني على أن “كل إضرار بالغير يُلزم فاعله، ولو غير مميِّز بضمان الضرر”. فالإضرار، وليس الخطأ، هو مناط المسؤولية المدنية في القانون الأردني. وبحسب المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني، يُقصد بالإضرار: “مُجاوزة الحد الواجب الوقوف عنده، أو التقصير عن الحد الواجب الوصول إليه في الفعل، أو الامتناع مما يترتَّب عليه الضرر”(100) فالإضرار، بهذا المعنى، يختلف عن الضرر وهو يعني في الحقيقة إحداث الضرر بفعل غير مشروع أو على نحوٍ مُخالفٍ للقانون(101). وتأسيساً على ما تقدَّم، إن مقدم الخدمات الذي يُلحق ضرراً بالغير نتيجة مساهمته في نشر مضمون إلكتروني غير مشروع يلتزم، بحسب أحكام القانون الأردني، بضمانه حتى ولو انتفى خطأه. ومُؤدَّى ذلك أنه وفي ظل غياب نص خاص يحكم مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت ويُبيِّن شروطها وأساسها، فإن تنصُّلهم من المسؤولية عن المضمون الإلكتروني الضار بالغير لن يكون بالأمر الهيِّن. فمقدم الخدمات لا يستطيع أن يُثبت أنه لم يأتِ بفعلٍٍ غير مشروعٍ عند نشره لمضمون إلكتروني مُخالف للقانون، ولو لم يكن عالماً بهذه المخالفة، لأن مناط المسؤولية هو الإضرار، وليس العلم والإدراك. وبالنتيجة، فإن تطبيق القواعد العامة في المسؤولية في القانون الأردني على مسؤولية مقدمي الخدمات سيتَّسم بالتشدُّد في مواجهتهم، ولن يُلائم بالتالي الطبيعة الخاصة لآليَّة عملهم، والتي من أجلها جاءت التشريعات المعاصرة بأحكامٍ خاصة. ناهيك عن أن تطبيق القواعد العامة سيترك آثاراً سلبية، من شأنها أن تُعيق حركة النشاط الإلكتروني، وأن تُثقل الكاهل المادي لمقدمي الخدمات جرَّاء التعويضات التي سيضطرُّون دائماً لدفعها. لكُلِّ ذلك نتوجَّه بدعوة مشرِّعنا الكريم إلى تخصيص بعض النصوص التي تتلاءم مع طبيعة عمل مقدمي خدمات الإنترنت، فيُحدِّد من خلالها، إضافةً لالتزاماتهم الخاصة، نطاق مسؤوليتهم وأساسها وشروط تحقُّقها.

المطلب الثاني: شروط تحقق مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت:

البحث عن مساءلة مقدمي خدمات الإنترنت يعكس رغبة المشرِّع الحقيقية في إيجاد مسؤول مُحدَّد الهويَّة، وموسر لضمان الأضرار التي يُسبِّبها نشر مضمون إلكتروني غير مشروع. غير أن العدالة تقتضي عدم مساءلة مقدمي الخدمات وحدهم، بل البحث عن مُؤلِّف هذا المضمون، أو صاحبه والذي هو بالأساس مصدره. من هنا فإن المسؤول الأول: قانوناً وقضاءً عن المضمون الإلكتروني غير المشروع هو الشخص الذي أوجده(102)، وذلك بالطبع في حدود عدم علم مقدم الخدمات بوجوده، وعدم قيام الشخص المضرور بتبليغه بأسباب عدم مشروعيته، خاصةً أن مقدمي الخدمات غير ملزمين بممارسة الرقابة العامة على المحتوى المعلوماتي لشبكة الإنترنت. ولهذا، يلزم لتحقُّق مسؤولية مقدمي الخدمات عمَّا يحدث من مخالفات عبر الشبكة توافر عدد من الشروط، منها ما هو موضوعي (الفرع الأول)، ومنها ما هو إجرائي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: الشروط الموضوعية:

أمام تنامي ظاهرة مُخالفة القانون، والاعتداء على حقوق الغير باستخدام شبكة الإنترنت، وفي ظلِّ غياب قواعد قانونية مُحدَّدة لحكم مسؤولية مقدمي الخدمات، لم يجد القضاء له من بُدٍّ سوى اللجوء إلى القواعد العامة لتقرير حالات قيام مسؤوليتهم، وليردع، في نفس الوقت، من اعتقدوا أن الإنترنت منطقة بلا قانون يستطيعون أن يصنعوا فيها ما شاءوا دون رقابة أو مساءلة. فانطلق القضاء، في بداية أحكامه، من افتراض الخطأ لقيام المسؤولية، وانتهى، لاحقاً، بتكريس الخطأ الثابت لتحقُّقها (أولاً)، مُتَّفقاً بذلك مع التشريعات اللاحقة له، خاصةً التشريعين: الأُوروبي والفرنسي، والتي جاءت لتُبيِّن حدود هذه المسؤولية ولتُقرِّر الشروط الواجب توافرها لقيامها (ثانياً).

أولاً: موقف القضاء:

حاول قضاء الدول جاهداً، منذ اللحظـة الأولى التي بدأ فيها النظـر في الدعاوى
المرفوعة على مقدمي خدمات الإنترنت لمساءلتهم عن المضامين الإلكترونية غير المشروعة، أن يفرض عليهم حداً أدنى من الالتزام بأخذ الحيطة، والحذر، والتيقُّظ، في مُراقبة المعلومات الإلكترونية التي يتولون بثِّها عبر الشبكة. وقد اختلف مضمون هذا الالتزام باختلاف طبيعة الخدمة المقدمة على شبكة الإنترنت، فبمناسبة نشر صور عارية لإحدى الفنانات على صفحات أحد المواقع الإلكترونية، دون أخذ موافقتها، حمَّلت محكمة بداية (نانتير) المسؤولية لمتعهد الإيواء لعدم بذله العناية اللازمة لالتقاط هذا المضمون غير المشروع(103). وقد اتخذت المحكمة من نص المادة 1383 من القانون المدني الفرنسي أساساً لحكمها هذا. وفي دعوى مُشابهة، وتأسيساً على نفس النص، فرضت محكمة استئناف (ڤيرساي) التزاماً باليقظة على متعهد الإيواء، ووصفت هذا الالتزام بأنه التزام ببذل عناية يُرتِّب مسئوليته في حال أن قصَّر في بذل الجهود اليقظة لكشف المواقع الإلكترونية المأوية ذات المضمون غير المشروع(104). إلاَّ أن المحكمة رفضت في قرارها هذا تحميل مقدم الخدمة لأيّ التزام عامٍّ بالرقابة، واكتفت، فقط، بالإشارة إلى واجبه بأخذ الحيطة والحذر، وهو ما يفرض عليه المبادرة إلى شطب أيِّ مضمونٍ غير مشروع، أو على الأقل منع وصول المشتركين إليه، بمجرَّد أن يصل لعلمه، أو أن يتمَّ تبليغه بأسباب عدم مشروعيته.
ولم يفت القضاء، أيضاً، تحديد أُسس مساءلة مورد المعلومات على شبكة الإنترنت، فقد عدَّت محكمة صلح (بوتوه) في قرارها الصادر في 28 أيلول 1999م أن مورد المعلومات، ونظراً لطبيعة الخدمة التي يُؤديها، هو المسؤول الأول عن بث المعلومات الإلكترونية غير المشروعة عبر الشبكة، وقامت بمساءلته جنباً إلى جنب مع متعهد الإيواء بوصفهم مسؤولين عن تقديم الخدمة المعلوماتية(105). وقد أكدت هنا محكمة استئناف ﭭيرساي في قرارها الصادر بتاريخ 8 حزيران 2000م على أن قيام مسؤولية مورد المضمون المعلوماتي غير المشروع يجب أن لا يكون سبباً لاستبعاد مسؤولية متعهد الإيواء في حال ثبوت خطئه. وفي قرارها الصادر في 31 تموز 2000م استندت محكمة بداية باريس في مساءلتها لمورد المعلومات على نص المادة 1382 من القانون المدني الفرنسي، وقد جاءت مساءلته نتيجةً لاستخدامه على شبكة الإنترنت اسم رجل سياسي كأيقونة إحالة على صفحات الإنترنت إلى موقع إلكتروني إباحي، وعدّت المحكمة أن هذه الإحالة تُؤدي إلى إلحاق الضرر بصاحب الاسم المستخدم، مما يستوجب قيام مسؤوليته وتضمينه الضرر الحاصل(106).

وفي قضيَّةٍ من نوعٍ آخر تتعلَّق هذه المرَّة بمتعهد خدمات الوصول “Yahoo”، اتخذ قاضي الأُمور المستعجلة لمحكمة بداية باريس من القواعد العامة في المسؤولية أساساً لمساءلته(107)، فحدَّد قواعد هذه المسؤولية بما يتلاءم مع طبيعة الخدمة التي يُقدمها متعهد الوصول، وقرَّر بالتالي إدانته وإلزامه بتنقية المضمون المعلوماتي الإلكتروني غير المشروع لمنع وصول مستخدمي الشبكة في فرنسا إلى هذا المضمون، والذي تمثل بعرض أدوات وشعارات نازيَّة وبيعها على بعض المواقع الإلكترونية التي يسمح الدخول إليها. ولكون نشاطه الرئيسي يقتصر على تقديم الوسائل والأجهزة الفنية اللازمة لإيصال المشتركين بالإنترنت، دون أن يتدخل في المضمون المعلوماتي الإلكتروني، فما كان من المحكمة إلاَّ أن أعلنت صراحةً إعفاء متعهد الوصول من المسؤولية لكونه قد التزم بأمر المحكمة، ومنع الوصول إلى هذه المواقع انطلاقاً من الأراضي الفرنسية. وقد تمَّ التأكيد على هذا القرار في 16 أيار 2002م من قِبل محكمة استئناف (ڤيرساي)(108)، ليُسجِّل بذلك القضاء الفرنسي توافقاً تامَّاً في هذا المجال مع موقف التشريعات اللاحقة له، وعلى وجه الخصوص مع موقف المشرِّع الأُوروبي ومن بعده الفرنسي.

لم يختلف الموقف بالنسبة لقضاء بعض الدول الأُوروبية والأمريكية، فقد سبق لمحكمة (لاهاي) في هولندا أن أعلنت في قرارها الصادر في 9 حزيران 1999م عدم مسؤولية متعهد الوصول، الذي يمنع وصول مستخدمي الشبكة إلى المضمون الإلكتروني غير المشروع، بمجرَّد علمه أو تبلُّغه بأسباب عدم المشروعية، ولكنها، في نفس الوقت، ألزمته بوجوب الكشف، خلال ثلاثة أيام من تاريخ صدور القرار، عن هويَّة صاحب هذا المضمون(109). وقضت المحكمة العليا في نيويورك بمسؤولية مقدم الخدمات عن المضمون غير المشروع للرسائل الإلكترونية التي تمَّ بثها عبر الشبكة؛ لأنه كان يمتلك من أدوات الرقابة ما يسمح له بفحصها واستبعادها. كذلك قضت محكمة كاليفورنيا بقيام مسؤولية مقدم الخدمات استناداً للاشتراك في التقليد أو النسخ لعلمه بالواقعة، حيث تمَّ إخطاره ومطالبته بوقف القيام بذلك، إلاَّ إنه لم يستجب لهذا الطلب. وقضت، أيضاً، المحكمة العليا في لندن في عام 1999م بمسؤولية متعهد الإيواء الذي كان يأوي رسالة سب وقذف على أجهزته، وعدّته مسؤولاً عن مضمون حلقات النقاش التي كانت تعبُر من خلاله، حيث تمَّ تحذيره من قِبل الشخص المتضرِّر بضرورة وقف ذلك، إلاَّ إنه لم يستجب لطلبه(110). في نفس هذا الاتجاه العام صبَّ قرار المحكمة التجارية البلجيكية في بروكسيل الصادر في 2 تشرين الثاني 1999م، والذي أعلنت فيه مسؤولية متعهد الإيواء عن إيوائه لبعض المواقع الإلكترونية التي تتضمن عروضاً، بتزويد مستخدمي الشبكة بعناوين مواقع إلكترونية أجنبية تُمكِّنهم من إجراء عملية شحن إلكتروني لمقطوعات موسيقية مقرصنة، وقد تمَّ إخطار متعهد الإيواء المعني من صاحب الشأن بضرورة التوقُّف عن إيواء هذه المواقع لعدم مشروعية عملها، إلاَّ إنه لم يستجب لهذا الطلب، رغم تأكُّده من صحَّة الإخطار(111).
إن المتتبع لمجمل قرارات القضاء السابقة، يكتشف مدى ارتكازها على مبدأ جوهري واحد، وهو المسؤولية عن الخطأ، ولا يُتصوَّر بالتالي إمكانية تهرُّب مقدمي خدمات الإنترنت على اختلاف أعمالهم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، من هذه القاعدة، والتي تتفق في حيثياتها مع ما جاءت به تشريعات بعض الدول الأُوروبية والأمريكية التي رسمت ملامح وأساس مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت، فرفعت بذلك عن كاهل القضاء عبء التصدي وحده لتقرير القواعد الخاصة بالمسؤولية في هذا المجال.

ثانياً: تدخُّل المشرِّع:

مع التطوُّر الهائل الذي شهدته تقنية الإنترنت، اتسع الجدل الدائر بين الفقه والقضاء حول مسؤولية مقدمي الخدمات، مما تطلَّب تدخُّل المشرِّع في كثير من الدول لتقنينها. ويبدو من الاتجاه التشريعي العام في هذا المجال أنه يميل إلى مساءلة مقدمي الخدمات عن خطئهم الشخصي، فقط، وإعفائهم من المسؤولية عن فعل الغير(112). ويتَّضح من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، والذي أبدى اهتماماً بالغاً في تحديد مسؤولية متعهدي الوصول والإيواء دون غيرهم من مقدمي خدمات الإنترنت، أنه قد وضع قواعد عامة لتحديد مسؤولية هؤلاء المتعهدين دون التفرقة بين متعهد وآخر. أما بخصوص باقي متعهدي الخدمات، الذين لم يأتِ التوجيه الأوروبي حتى على ذكرهم، كمورد المعلومات ومورد نظام البحث الآلي، فقد تمَّ إخضاع مسؤوليتهم للقواعد العامة في المسؤولية. وبالنتيجة، لم يُحمِّل التوجيه الأوروبي المسؤولية لمتعهد الوصول إلا في حال أن رفض التعاون مع السلطة العامة أو القضائية في الدولة التي يُمارس أعماله فيها، فيما تطلبه منه بصورة قانونية(113). فوفقاً لنص المادة 12 من هذا التوجيه، على متعهد الوصول المبادرة إلى شطب المضمون الإلكتروني غير المشروع الذي يمر من خلاله، أو منع الوصول إليه بمجرَّد علمه، أو إخطاره من قِبل السلطات المختصة، أو من قِبل الشخص المتضرِّر بأسباب عدم المشروعية.
وفيما يتعلَّق بناقل المعلومات، والذي يقوم في سبيل تسريع عملية اتصال العملاء بشبكة الإنترنت بتخزين نسخة مؤقتة على أجهزته عن صفحات الويب المطلوبة (caching)، فإن المادة 13 من التوجيه الأوروبي نصت على عدم امكانية مساءلته إلا إذا ثبت أنه هو مصدر المضمون المعلوماتي غير المشروع، أو أنه قام بالتغيير فيه أثناء عملية نقله أو تخزينه بشكلٍ أضفى عليه صفة عدم المشروعية، أو أنه تقاعس عن وقف بث المضمون المعلوماتي غير المشروع، رغم تحقق علمه بعدم المشروعية. ووفقاً لنص المادة 14 من نفس التوجيه، والتي اهتمت بتحديد مسؤولية متعهد الإيواء، فإن هذا الأخير غير مسؤول عن الموقع الإلكتروني ذي المضمون غير المشروع الذي يأويه، إلاَّ إذا لم يتَّخذ الإجراءات اللازمة لوقف بثِّه بمجرَّد ثبوت علمه الفعلي بوجود هذه الأنشطة، أو المعلومات غير المشروعة.

وبهدف نقلِ هذه القواعد الخاصة التي تبنَّاها المشرِّع الأُوروبي لتنظيم مسؤولية مقدمي الخدمات إلى تشريعه الداخلي، تبنَّى المشرِّع الفرنسي، كما سبق وأوضحنا، قانوناً حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، فسار فيه على نفس النهج. وجاءت بالنتيجة المادة السادسة من هذا القانون لتنص على عدم مسؤولية متعهد الإيواء المدنية، أو الجزائية عن المضمون الإلكتروني غير المشروع الذي يأويه إذا لم يثبت علمه بعدم مشروعيته(114). وقد أعفاه –أيضًا- نص هذه المادة من المسؤولية، إذا قام بمجرَّد علمه بأسباب عدم مشروعية هذا المضمون، أو بالوقائع والظروف التي تُضفي عليه صفة عدم المشروعية، باتخاذ ما يلزم من أجل شطبه، أو منع وصول مستخدمي الشبكة إليه.
ولكن، يثور التساؤل حول وسيلة إثبات علم متعهد الإيواء بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني الذي يأويه. لقد بيَّن نص المادة السادسة المذكورة أعلاه بأن هذا العلم يثبت بمجرَّد أن يكشف له الشخص المتضرِّر طالب وقف البث عن هويَّته، ويُحدِّد له المضمون المشتكى منه وأسباب عدم مشروعيته، ويُزوِّده بما يُثبت قيامه بإرسال نسخة من طلب وقف المضمون غير المشروع إلى صاحبه أو مُؤلِّفه، ولا بد أن يكون هذا التبليغ مُحدَّد التاريخ(115). وهكذا، فإنه يلزم لقيام مسؤولية متعهد الإيواء المرور بمرحلتين أساسيتين: بدايةً يجب إثبات علمه بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني الذي يأويه، ويتمَّ ذلك عادةً من خلال الإخطار الذي يتم توجيهه إليه، ومن ثُمَّ إعطاؤه فرصةً من اجل وقف البث، وفي حال عدم قيامه بذلك، فإنه يتحمَّل المسؤولية الناشئة عن خطئه الثابت.

عالجت المادة التاسعة من القانون الفرنسي المذكور الوضع بالنسبة لمتعهد الوصول وناقل المعلومات. وجاءت هذه المادة متفقةً مع أحكام المادتين: 12 و13 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، فنصت على عدم إمكانية مساءلتهم: مدنياً أو جزائياً إلاَّ إذا ثبت أنهم مصدر هذا المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو في حال أن بحثوا عنه، أو غيَّروا في محتوياته، وقاموا بإيصاله إلى مستخدمي الشبكة لجذبهم، لما في ذلك من إخلال بالتزامهم بالحياد التام، وبعدم التدخُّل في المضمون المعلوماتي الذي يمُر من خلالهم(116).
ويتضح لنا من استعراض نصوص التوجيه الأوروبي والقانون الفرنسي الخاصة بمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت أن المبدأ العام الذي يُساءل، بناءً عليه، مقدم الخدمة بغض النظر عن طبيعة النشاط الذي يُقدمه هو تحقق علمه بوجود المضمون الإلكتروني غير المشروع، وبالرغم من ذلك، فإنه لا يتخذ أي موقف إيجابي لشطبه، أو لوقف وصوله
إلى جمهور المستخدمين.
أما فيما يتعلق بمورد المعلومات المسؤول المباشر عن المادة المعلوماتية المتداولة عبر الإنترنت؛ لأنه هو من يقوم بجمعها أو تأليفها، ومن ثم نشرها، فقد تمَّت مساءلته في العديد من المرَّات، وفقاً لقواعد المسؤولية بالتتابع (responsabilité en cascade) المطبقة في مجال جرائم النشر(117). فوجود مورد معلومات يفترض مباشرة وجود مديرٍ للنشر، وفي نطاق الإنترنت في فرنسا فإن مسؤولية مدير النشر في الموقع الإلكتروني الذي يحتوي على مضمون معلوماتي غير مشروع تجد أساسها في المادة 93/3 من قانون الاتصالات السمعية والبصرية لسنة 1982م(118) والتي تنص على أنه متى ما تمَّ ارتكاب أحد المخالفات المنصوص عليها في قانون حرية الصحافة لسنة 1881م(119) باستخدام وسيلة سمعية أو مرئية، وهو ما ينطبق على شبكة الإنترنت، فإن مدير النشر يكون مسؤولاً كأنه فاعل أصلي إذا ما اطَّلع أحد على المضمون الإلكتروني غير المشروع(120). وفي حال عدم تعيين مديرٍ للنشر فإن قواعد المسؤولية بالتتابع تقتضي مساءلة المؤلف أو الناشر لكونه الفاعل الأصلي، مضافاً إليهم منتج المادة المعلوماتية، أي الذي قدَّم الدعم المادي لإبرازها إلى حيِّز الوجود على شبكة الإنترنت. وهكذا، فإن توريد مضمون معلوماتي غير مشروع عبر الإنترنت يضع على قائمة المساءلة الجزائية كل من اشترك أو تدخل في هذا التوريد من مؤلف، وناشر، ومنتج، ومدير للنشر(121).

على أن مساءلة مورد المعلومات عبر شبكة الإنترنت جزائياً، بالرجوع للنصوص الخاصة بالمسؤولية بالتتابع، لا يمنع من مساءلته مدنياً، حتى في ظل غياب نص خاص، استناداً لنصوص المواد 1382 وما تلاها من القانون المدني الفرنسي، وذلك للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي أصاب الآخرين جرَّاء نشر المضمون المعلوماتي غير المشروع(122).
وفي الأردن، يُمكن مساءلة مورد المعلومات بالرجوع إلى قواعد المسؤولية في قانون المطبوعات والنشر(123)، وعلى وجه الخصوص نص المادة 41 من هذا القانون، والتي تسمح برفع دعوى الحق العام في جرائم المطبوعات الدورية على رئيس التحرير المسؤول وكاتب المادة الصحفية كفاعلين أصليين. ويكون مالك المطبوعة مسؤولاً بالتضامن عن الحقوق الشخصية المترتبة على تلك الجرائم، وذلك دون أن تترتب عليه أية مسؤولية جزائية إلاَّ إذا ثبت اشتراكه أو تدخله الفعلي في الجريمة. وفي المطبوعات غير الدورية تقام الدعوى على مؤلفها كفاعل أصلي، وعلى ناشرها كشريك، وفي حال تعذر معرفتهم تقام الدعوى على مالك المطبوعة ومديرها المسؤول. وباعتبار أن الإنترنت وسيلة علنية للنشر، وأن المطبوعة، وفقاً لنص المادة الثانية من هذا القانون تعني “كل وسيلة نشر دونت فيها المعاني، أو الكلمات، أو الأفكار بأي طريقة من الطرق”، فإنه بالإمكان، بتصورنا، تطبيق نص المادة 41 سالفة الذكر لمساءلة مورد المعلومات عبر شبكة الإنترنت جزائياً، ولا يوجد ما يمنع من تضمينه الضرر الناجم عن نشر المضمون المعلوماتي غير المشروع، بالاستناد إلى القواعد العامة في المسؤولية في القانون الأردني. أمَّا فيما يتعلق بالقانون الأردني المؤقت للإعلام المرئي والمسموع(124)، فقد استثنى صراحةً من نطاق تطبيقه بث المعلومات عبر شبكة الإنترنت، فقد جاء في المادة الثانية منه أن المقصود بالبث هو “إرسال الأعمال أو البرامج الإذاعية والتلفزيونية بواسطة موجات كهرومغناطيسية، أو عبر أقمار صناعية، أو تقنيات، أو وسائل أخرى مهما كان وضعها أو طبيعتها تمكن الجمهور من استقبالها عبر جميع الوسائل الفنية، بمختلف مسمياتها، ويستثنى من ذلك الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)”.

وبالرجوع إلى الوضع في فرنسا، فإننا نُشير إلى أنه يحق للسلطة القضائية المختصة، بموجب نص المادة 6-1/8 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” بأن تأمر مقدمي خدمات الإنترنت، بصورة عاجلة وبغض النظر عن صفاتهم أو طبيعة الخدمة التي يقدموها، باتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف بثِّ أيِّ مضمونٍ ثبتت عدم مشروعيته. وبالطبع تقوم مسؤوليتهم في حال عدم استجابتهم لهذا الأمر(125). إذن يجب تبليغ مقدم الخدمات بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني الذي يتولَّى تخزينه أو نقله من أجل سحبه أو منع الوصول إليه، إمَّا من قِبل السلطة القضائية المختصة، أو في حال أن كانت عدم المشروعية ظاهرة بما يكفي، من قِبل المتضرِّر نفسه، وفي حال لم يستجب لهذا الطلب تثور مسؤوليته استناداً لخطئه الثابت. وقد تمَّ تأكيد هذه الآلية في قيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت من قِبل المجلس الدستوري الفرنسي، وذلك في قراره الصادر بتاريخ 10 حزيران 2004م، والذي أعلن فيه عدم قيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت الذين لا يتوقَّفون عن بثِّ المضمون الإلكتروني الذي يقومون بتخزينه أو بنقله، والمطعون بمشروعيته من قِبل الآخرين، إذا لم تكن عدم المشروعية ظاهرة بما يكفي، أو لم يتم طلب هذا الوقف من قِبل السلطة القضائية المختصة(126).

ويتَّضح لنا مما سبق أن المواد: 6 و9 من القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي”، و12-15 من التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية” غدت القواعد العامة التي تُحدِّد حالات وشروط قيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت على المستويين: الأوروبي والفرنسي. ومُؤدَّى ذلك عدم قيام المسؤولية عن تحمُّل التبعة، بل تقوم، فقط، في حالة ثبوت الخطأ. وتطبيقاً لذلك، لا يُمكن مساءلة مقدم الخدمات الذي لم يثبت إخلاله بالتزامه العقدي بتقديم الخدمة للمشترك، والذي يُبدي تعاوناً مع السلطة العامة في الدولة في مُحاربة المضمون الإلكتروني غير المشروع، ويبذل جهده اليقظ في التقاط أيِّ موقعٍ إلكترونيٍ ذي مضمون غير مشروع لشطبه أو لمنع وصوله لمستخدمي الشبكة. ولكن كما عبَّر أحد الكُتَّاب إن مضمون هذه الجهود يبقى غامضاً(127)، إذْ تحظر المادة 15-1 من التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية” على الدول الأعضاء فرض التزام عامٍ على مقدم الخدمات: “بمراقبة المعلومات التي يتولى نقلها أو تخزينها، أو البحث النشط عن الوقائع والظروف التي تكشف عن الأنشطة غير المشروعة”.
ويُؤخذ، في هذا الصدد، على المشرِّع الفرنسي سكوته، شأنه في ذلك شأن المشرِّع الأُوروبي، عن مسألة تنظيم أحكام المسؤولية بالنسبة لباقي مقدمي خدمات الإنترنت، خاصةً مورِّد المعلومات ومقدم خدمة البحث الآلي. وهذا السكوت يأتي مُحيِّراً، ولا يُبقي لنا خياراً سوى إخضاعهم للقواعد العامة في المسؤولية. وقد تمَّت مساءلتهم بالفعل وفي أكثر من مناسبة، وكان هذا قبل صدور التشريعين المذكورين: الأُوروبي والفرنسي، إعمالاً لتلك القواعد، ولكن مع تطويعها بما يتناسب مع خصوصيَّة تقديم خدمات الإنترنت. واستقرَّ الرأي، أخيراً، على أن قيام مسؤوليتهم يعتمد على مدى علمهم بالمضمون الإلكتروني غير المشروع الذي يُقدِّمونه لجمهور المستخدمين(128)، وهذا ما يأتي متوافقاً مع الأحكام الخاصة بمسؤولية مقدمي الخدمات، والتي وضعها المشرِّع الأُوروبي، ومن بعده الفرنسي. لذا، سيكون من المستحسن، باعتقادنا، من الآن فصاعداً، اللجوء في هذا المجال إلى هذين التشريعين لإرساء السلوكيَّات الحسنة التي يجب أن يتقيَّد بها هؤلاء المقدمون أثناء مزاولتهم لأعمالهم على شبكة الإنترنت(129).

والمشرِّع الأمريكي بدوره كان أشمل من المشرِّعيْن: الأُوروبي والفرنسي في تنظيمه لمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت، فقام بتقسيمهم في القانون الصادر بتاريخ 28 تشرين الأول 1998م (DMCA) حسب الدور المناط بهم في إدارة الشبكة إلى أربع فئات، ولكنه حصر هذا التنظيم، فقط، في حدود الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية(130). فتحدَّث أولاً عن ناقل المعلومات وأعفاه، بشكل مُطلق، من المسؤولية نظراً للدور الفني البحت الذي يقوم به، ومن ثُمَّ تناول متعهد الوصول، فمتعهد الإيواء، وانتهى بمقدم خدمات البحث الآلي. وبيَّن أن مسؤولية هؤلاء تتوقف على مدى علمهم بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني الذي يتولَّون تخزينه أو نقله. وحدَّد هنا، شأنه في ذلك شأن نظيريه: الأُوروبي والفرنسي، أنه لا يُمكن مساءلة مقدم الخدمات الذي لم يثبت علمه بالمضمون الإلكتروني غير المشروع، والذي لم يتم تبليغه: لا من قِبل السلطات الأمريكية المختصة، ولا من قِبل الآخرين بوجوده(131). على أنه بمجرَّد تلقيه مثل هذا التحذير، أو إذا كانت عدم مشروعية المضمون ظاهرة بما يكفي، يتوجَّب عليه أن يُبادر فوراً إلى شطبه، أو على الأقل إلى منع وصوله لجمهور مستخدمي الشبكة(132).
ونُلاحظ هنا التوافق الكبير الذي يجمع ما بين التشريعات الأمريكية، والأُوروبية، والفرنسية، فجميع هذه القوانين لا تستند في تحميلها المسؤولية لمقدمي خدمات الإنترنت إلى فعل الآخرين، أو إلى تحمُّل التبعة، أو إلى حراسة الأشياء، بل تستند، فقط، لحالة الخطأ الثابت(133). ونُضيف في هذا المقام أن القانون الإنجليزي حول “بعض الجوانب القانونية لخدمات شركات المعلومات”(134)، والقانون البلجيكي حول “التجارة الإلكترونية”(135) والمكلَّفان، بناءً على عضويتهما في الإتحاد الأُوروبي، بنقل أحكام التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية” إلى تشريعاتهما الداخلية، لم يخرجا في تنظيمهما لمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت عن الأحكام الخاصة بالمسؤولية التي تبنَّاها هذا التوجيه. فجاء بالنتيجة الفصل الثالث والرابع من القانون الإنجليزي، والمادة 20 من القانون البلجيكي ليُكرِّسوا مبدأ الخطأ الثابت بجميع تفاصيله السابقة، كأساسٍ لقيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت.
إلى جانب الشروط الموضوعية لقيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت، يلزم، أيضاً، توافر بعض الشروط الإجرائية والمُتعلِّقة بآلية تبليغهم وإعلامهم من قِبل السلطات المختصة في الدولة، أو من قِبل الآخرين بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني الذي يتولُّون تخزينه، أو نقله.

الفرع الثاني: الشروط الإجرائية:

تتحقَّق مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت، إمَّا لارتكابهم المخالفة، وإمَّا لامتناعهم عن وقف بثِّها. وارتكاب المخالفة أو عدم وقفها مفاده علم مقدم الخدمات بمضمونها غير المشروع. وبحسب أغلب التشريعات التي نظَّمت هذه المسألة، فإن العلم مقترن بالتبليغ(136)، لاسيَّما إذا لم تكن عدم المشروعية ظاهرة بما يكفي. لذا، لكي تثور مسؤولية مقدم الخدمات عن المضمون الإلكتروني غير المشروع يلزم إثبات تبلُّغه بعدم مشروعيته، وبالتالي، إثبات سلبيَّته بوضع حدٍّ للمخالفة أو تجنُّب وقوعها. فما هي الإجراءات الواجبة الاتِّباع في هذا الإطار، ومَن صاحب الحق في طلب وقف بثِّ المضمون؟
بالنظر لأهميَّة المسألة، حاولت أغلب التشريعات المعاصرة التصِّدي لها، فنصَّ التوجيه الأوروبي حول “التجارة الإلكترونية” من خلال مواده: 12/3، و13/2، و14/3 والتوضيح رقم 45 على حق السلطات الإداريَّة أو القضائية في الدول الأعضاء بإصدار قرارات تُلزم مقدمي خدمات الإنترنت، بغض النظر عن صفتهم أو طبيعة الخدمة التي يقدمونها، بوقف بثِّ المضمون الإلكتروني المخالف للقانون. ووفقاً لنص المادة 8-1/3 وتوضيحها رقم 59 من التوجيه الأُوروبي حول “حق المُؤلِّف والحقوق المجاورة له في مجال المعلوماتية” فإن التطوُّر الحاصل في شبكة الإنترنت من الممكن أن يزيد من الاعتداء على حقوق الآخرين، مما يستدعي تدخُّل مقدمي الخدمات لوضع حدٍّ لتلك الاعتداءات. وعليه، مع عدم الإخلال بأيِّ جزاء أو إجراء يتمتَّع به صاحب الحق، يجوز لهذا الأخير التوجُّه للقضاء، وتقديم طلب على عريضة من أجل استصدار قرار يأمر مقدم الخدمات بسحب العمل المُقلَّد أو المنسوخ الذي يأويه أو ينقله على أجهزته. ويتم تنظيم شروط هذا الطلب وإجراءاته حسب قانون كل دولة من الدول الأعضاء(137).
تبنَّت بعض التشريعات الأُوروبية، بالفعل، هذه النصوص. ففي فرنسا، يُعطي القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” الحق في تبليغ مقدم الخدمات بوقف المضمون الإلكتروني غير المشروع للسلطة القضائية وللشخص المتضرِّر من بثِّه. فطبقاً لنص المادة 6-1/8 من هذا القانون، فإن السلطة القضائية تملك إصدار قرار مستعجل، أو أمر على عريضة تطلب فيه من مقدم الخدمات وقف بث المضمون الإلكتروني غير المشروع. وتبليغه بهذا الطلب يُثبت علمه بعدم مشروعية المضمون الذي يأويه أو ينقله، وهو ما يُفترض من أجل قيام مسؤوليته في حال أبدى موقفاً سلبياً من طلب المحكمة(138). أمّا إذا قرَّر الشخص المتضرِّر عدم اللجوء لدعاوى الوقف، والتوجُّه بطلبه مباشرةً إلى مقدم الخدمات المعني فيلزمه، لكي يُثبت علم هذا الأخير بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني بحسب نص المادة 6-1/5 من نفس القانون، بأن يكشف له عن هويَّته، وأن يُحدِّد له المضمون المشتكى منه، وأسباب عدم مشروعيته، وأن يُزوِّده بما يُثبت قيامه بإرسال نسخة من طلب وقف المضمون غير المشروع إلى صاحبه أو مُؤلِّفه، ولاشكَّ، أن سلبيَّة مقدم الخدمات، في هذه الحالة، تُثير مسؤوليته عن خطئه الثابت(139). وبمفهوم المخالفة، إعفاء مقدم الخدمات من المسؤولية إذا امتثل لقرار القضاء، أو استجاب لإخطار الشخص المتضرِّر، في حال أن كانت عدم المشروعية ظاهرة، وقام بسحب المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو منع الوصول إليه(140). لا بل أكثر من ذلك، فإن مسؤولية مقدم الخدمات عن المضمون الإلكتروني غير المشروع يُمكن أن تثور دون تبليغه به، أي أن علمه بوجوده يكون مفترضاً، وذلك عندما تكون عدم مشروعية المضمون ظاهرة بما يكفي، والمعيار هنا موضوعي(141). وقد سبق للقضاء الفرنسي أن أصدر حكماً مستعجلاً أمر فيه مقدم الخدمات Yahoo بمنع وصول مستخدمي الشبكة إلى بعض المواقع الإلكترونية التي تحث على العنصرية، وألزمه بضرورة تحذير جميع المشتركين من مغبَّة الدخول إلى تلك المواقع. ونتيجةً لاتخاذ مقدم الخدمات موقفاً إيجابياً، وامتثاله للحكم القضائي الصادر، أعلنت المحكمة عدم مسؤوليته(142). هذا ولم يأتِ القانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” بقواعد خاصة بإجراءات دعاوى وقف المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو بشكل الإخطار، مما يفسح المجال، كما أسلفنا، لإعمال القواعد العامة في قانون الإجراءات المدنية، خاصةً نصوص المواد: 808 و 809 من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي الجديد، والتي تعنى بتحديد تلك الإجراءات.

يُقابل هاتين المادتين في التشريع الأردني نص المادة 32 من قانون أُصول المحاكمات المدنيَّة رقم 24 لسنة 1988م وتعديلاته(143). إلا إن هذا النص لم يتضمَّن، للأسف، ما يُفيد إعطاء قاضي الأُمور المستعجلة سُلطة درء الضرر الناشئ عن بثِّ مضمونٍ غير مشروع، أو مُكنة وقفه. لذا، فإننا نقترح على مُشرِّعنا الكريم المبادرة إلى تضمينه ما يُخوِّل القاضي الأردني القيام بذلك. وفي انتظار هذه المبادرة، لن يكون أمام المُتضرِّر من بثِّ المضمون الإلكتروني غير المشروع سوى اللجوء إلى نص المادة 115 من نفس القانون، والتي تُجيز لصاحب المصلحة التقدُّم إلى المحكمة بطلب إجراء تحفُّظي أو مُؤقَّت. فبموجب هذا الطلب، يستطيع المُتضرِّر طلب سحب المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو منع الوصول إليه، ولو بشكلٍ مُؤقَّت لحين حسم المحكمة لموضوع النزاع.

وفيما يتعلَّق ببعض الدول الأُوروبية الأُخرى، كألمانيا، وسويسرا، وإيطاليا، فإنها تُعطي حق طلب وقف المضمون الإلكتروني غير المشروع لسلطات الضبط الإداري. فيُمكن لهذه السلطات أن تُلزم مقدم الخدمات بشطب المضمون، أو بمنع وصوله لجمهور المستخدمين. وفي حال عدم استجابته، بالإمكان اللجوء إلى القوَّة الجبريَّة القانونية للقيام بذلك(144).
وفي الولايات المتحدة الأمريكية يُمكن الطلب من مقدمي الخدمات وقف بثِّ المضمون الإلكتروني غير المشروع من خلال ما يُسمَّى بإجراءات الإخطار والسحب، أو الرفع (procedure de notice et take down). فطبقاً لهذه الإجراءات، يجب على مقدم الخدمات التصرُّف بعناية من أجل سحب العمل المُقلَّد أو المنسوخ بصورةٍ غير شرعيَّةٍ، أو منع الوصول إليه بمجرَّد تبليغه بذلك من قِبل صاحبه أو مُؤلِّفه الحقيقي. ومن أجل استلام التبليغات وتنظيمها حسب الأُصول والتأكُّد من جدِّيتها، على مقدم الخدمات أن يُعيِّن وكيلاً له، مهمته القيام بذلك، وبمجرَّد أن يُرسل الشخص المتضرِّر إلى الوكيل إخطاراً مكتوباً وموقَّعاً منه، ومبيَّناً فيه العمل المُقلَّد أو المنسوخ ومكان تواجده، ويتأكد الوكيل من ذلك، على مقدم الخدمات المباشرة فوراً بسحب العمل موضوع التبليغ، أو منع الوصول إليه. وفي المقابل، لحفظ حقوق مورِّد العمل، على مقدم الخدمات إخطاره بالواقعة، فإن أرسل ردَّاً مضادَّاً قام مقدم الخدمات بإرساله إلى مدَّعي الحق، وأخطره بأن العمل موضوع النزاع سيُبث من جديد، خلال مدَّة أقصاها أربعة عشر يوماً من تاريخ الإخطار، إذا لم يرفع خلالها دعوى يعرض فيها الأمر بمجمله على القضاء، وذلك لحسم النزاع(145).
احتج بعض القائمين على خدمات الإنترنت على هذه الإجراءات، وعلى تحميلهم المسؤولية بناءً عليها، وتذرَّعوا بأنه يصعب عليهم، في أغلب الحالات، تقدير مدى جدِّية أو حقيقة طلبات الوقف أو الغلق، وأن وضعهم القانوني لا يسمح لهم بممارسة أيَّة رقابة على المضمون الإلكتروني احتراماً لحرِّية التعبير عن الرَّأي. ولاشكَّ، أن الأمر دقيقٌ بالنسبة لمقدمي الخدمات، حيث يجدون أنفسهم، باستمرار، محل لوم، سواء بسبب تدخُّلهم، أو بسبب سلبيَّتهم، إلاَّ إن هذا لا يُبرِّر المجاملة أو السلبيَّة تجاه المضمون غير المشروع(146)، خاصةً إذا ما باشروا بإجراءات الوقف هذه، استناداً لقرار صادر من السلطة القضائية المختصة، وهو ما سيُعفيهم من أيَّة مسؤولية محتملة، وذلك بسبب انتفاء خطئهم.

المطلب الثالث: أساس مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت:

يتَّضح، من تفحُّصنا للنصوص القانونية التي وضعتها أغلب التشريعات التي نظَّمت مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت، أن قيام هذه المسؤولية يتوقَّف على علم مقدمي الخدمات بالمضمون الإلكتروني غير المشروع، والمُتحصِّل من تبلُّغهم بوجوده. فأساس المسؤولية إذن هو الخطأ الثابت المتمثِّل في تدخُّل مقدمي الخدمات في المخالفة، أو في سلبيَّتهم باتخاذ الإجراءات اللازمة لسحب المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو لمنع الوصول إليه. وتأسيس مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت على الخطأ الثابت يجد مُبرِّراً له، في أنه في عالم الإنترنت الذي يتَّصف باللامركزيَّة، والذي يعمل فيه كل مُتدخِّل لحسابه الخاص دون الخضوع لتنظيم إداري تدرُّجي مُعد مُسبقاً لتوزيع الأدوار والمهام(147)، لا يُمكن أن يكون الشخص مسؤولاً إلاَّ عمَّا يُمكنه مراقبته والسيطرة عليه. ومن ثُمَّ فلا مجال للبحث، وقت تحقُّق الضرر، عن مسؤولية المتبوع أو عن المسؤولية عن حراسة الأشياء طبقاً لنص المادتين: 1384 من القانون المدني الفرنسي و289، 291 من القانون المدني الأردني، أو فيما عدا مسؤولية مورد المعلومات، عن المسؤولية بالتتابع المعمول بها في نطاق الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، والتي تستند لتحمُّل المخاطر والتبعيَّة(148)، بل يجب تحديد المسئول شخصيَّا، وإثبات ارتكابه للخطأ بالمعنى الذي أوردته نصوص المواد: 1382 و1383 من القانون المدني الفرنسي واللتان تشترطان لقيام المسؤولية عن الفعل الشخصي خطأ ثابت، وضرر، وعلاقة سببيَّة تجمعهما.
وتطبيقاً لذلك، قرَّر القضاء الفرنسي في قضيَّة عارضة الأزياء Estelle Hallyday، سابقة الذكر، عدم إعفاء مقدم الخدمات من المسؤولية إلا إذا أثبت قيامه بجميع الالتزامات الملقاة على عاتقه. كما أعلن هذا القضاء أن نشاط مقدم الخدمات لا يقتصر على الدور الفنِّي لنقل المعلومات، ويُمكن في حال إخلاله بالتزاماته قيام مسئوليته على أساس الخطأ الثابت، طبقاً لنص المادة 1383 من القانون المدني الفرنسي. ذلك أن إعفاءه من ممارسة الرقابة العامة والدقيقة على مُحتوى الشبكة المعلوماتي لا يمنع من اتخاذه للإجراءات اللازمة والمعقولة، التي يُفترض بكل مهني يقظ اتخاذها من أجل التقاط المعلومات الإلكترونية التي تتَّسم بعدم المشروعية الظاهرة. ويتَّفق هذا الحل المتوازن مع النظام القانوني لمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت الذي أرساه التوجيه الأُوروبي حول “التجارة الإلكترونية”، والقانون الفرنسي حول “الثقة في الاقتصاد الرقمي” واللذان يميلان إلى وضع معيارٍ عامٍّ للخطأ الثابت، يتمثَّل في ارتكاب مقدم الخدمات للمخالفة، أو سلبيَّته في وقفها.

فطبقاً لنصوص المواد 12-14 من التوجيه الأُوروبي، لا يجوز، كما سبق وبينَّا، مساءلة مقدمي الخدمات إلاَّ على أساس خطئهم الثابت. بل لم يكتفِ هذا التوجيه بذلك، وإنما حظر على الدول الأعضاء بأن تفرض عليهم التزام عامٍ بمراقبة المعلومات الإلكترونية التي يتولُّون تخزينها، أو نقلها، أو حتَّى التحرِّي النشط عن الوقائع والظروف التي تكشف الأنشطة غير المشروعة. ونفس الوضع أصبح في فرنسا، فجاء نص المادة السادسة من قانون “الثقة في الاقتصاد الرقمي” لِيُقرِّر عدم إمكانيَّة مساءلة مقدمي الخدمات في حال أن وضعوا حدَّاً للمخالفة، أو عملوا على تجنُّب وقوعها، بما في ذلك سحب المضمون الإلكتروني غير المشروع، أو منع وصوله لمستخدمي الشبكة. وبتبنِّيهما لهذا الموقف، كرَّس المشرِّعيْن: الأُوروبي والفرنسي مبدأ المسؤولية عن الفعل الشخصي القائم على أساس الخطأ الثابت.

أمَّا عن أساس مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت في القانون الأردني، فمن الممكن أن يجد أثره في نص المادة 256 من القانون المدني، والتي تُحدِّد بأن “كل إضرار بالغير يُلزم فاعله، ولو غير مميِّز بضمان الضرر”. إلاَّ إن هذا النص لا يُقيم المسؤولية على أساس الخطأ الثابت، وإنما على أساس الإضرار، أي مُجاوزة الحد الواجب الوقوف عنده، أو التقصير عن الحد الواجب الوصول إليه(149). وعلى هذا، فإن اتخاذ الإضرار كمناطٍ لمسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت في القانون الأردني سيصعِّب من مهمتهم في إدارة الشبكة، وسيجعلهم، دائماً، محلَّ لومٍ، فطبيعة الإضرار الموضوعيَّة المحضة لا تستند إلى أيِّ عنصرٍ شخصيٍّ كامنٍ في الإرادة. مفاد ذلك أن مُجرَّد بثِّ المضمون الإلكتروني غير المشروع على أجهزة مقدمي الخدمات يُثير مسؤوليتهم عن هذا المضمون، حتَّى في غياب علمهم بعدم مشروعيته. كما أنه ليس بالإمكان مساءلتهم، استناداً لأحكام مسؤولية المتبوع أو حراسة الأشياء، والتي يُشترط لقيامها إثبات تقصير، أو تعدِّي من جانب المتبوع أو الحارس. فالعالم الافتراضي عالم لامركزي، لا يُوجد فيه خضوع أو تبعية مُتدخِّل لآخر، ومقدِّمو خدمات الإنترنت ليسوا بحرَّاسٍ للمنظومة المعلوماتية الإلكترونية، فلا ينطبق عليهم بالتالي وصف حارس الأشياء(150).

إشكاليات قانونية كثيرة يُمكن إذن أن يُواجهها مقدمو خدمات الإنترنت، إذا ما استمررنا في إعمال القواعد العامة لتحديد التزاماتهم، ولحُكم مسؤوليتهم. وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على أن الطبيعة الخاصة لآلية عمل مقدمي خدمات الإنترنت تحتاج إلى حلول مُناسبة آن الأوان لمشرِّعنا الكريم أن يتدخُّل لوضعها.

الخاتمـة:

رافق ثورة تكنولوجيا المعلومات زيادة ملحوظة في حجم الاعتداء على حقوق الآخرين ومخالفة القانون، وبهدف الوصول إلى الاستخدام الأمثل لشبكة الإنترنت، وضبط قواعد السلوك على السواء، لكل من مستخدمي الشبكة والمهنيين، كان التدخُّل التشريعي في عدد من الدول. فجاءت النصوص القانونية المتبناة في هذا الصدد، خاصةً من قِبل المشرِّع الأُوروبي ومن بعده الفرنسي، عبر صياغة تشريعية إلكترونية، لتُرسي نظاماً قانونياً متوازناً وملائماً لطبيعة العمل على الإنترنت، ولتُحدِّد بالنتيجة التزامات كل من مستخدمي الشبكة والقائمين على إدارتها من مقدمي خدمات، والأحكام الخاصة بمسؤولية كلٍّ منهم.
فرض هذا النظام القانوني على مقدمي خدمات الإنترنت وجوب اتِّباع قواعد السلوك الصحيح، سواء في تقديمهم للخدمة المتعاقد عليها مع المشترك، أو في إيوائهم ونقلهم للمعلومات الإلكترونية عبر أجهزتهم. وبالرغم من رفض التشريعات والقرارات القضائية المعاصرة فرض التزام عامٍ برقابة المحتوى المعلوماتي للشبكة على مقدمي الخدمات، إلاَّ إن هذا لم يُعفهم لا من الالتزام بممارسة هذه الرقابة في حالات معيَّنة، ولا من بذل العناية والجهود المعقولة لالتقاط أيِّ موقعٍ إلكتروني ذي مضمون معلوماتي غير مشروع، وهنا يقع عليهم واجب الكشف للسلطات العامة في الدولة عن وجود هذا المضمون، وعن هويَّة صاحبه أو مُؤلِّفه.
ووفقاً لهذا النظام، فإن قيام مسؤولية مقدمي الخدمات يتوقَّف على مدى علمهم بعدم مشروعية المضمون الإلكتروني المأوي أو المنقول. وباستثناء حالة عدم المشروعية الظاهرة، فإن علم مقدمي الخدمات بالمضمون الإلكتروني غير المشروع يتحصَّل بتبلُّغهم به سواء من قِبل السلطة القضائية، أو الإدارية المختصة في الدولة، أو من قِبل المتضرِّر نفسه. فإذا ما استجاب مقدمو الخدمات للأمر القضائي، أو الإداري، أو لطلب المتضرِّر، وقاموا بسحب المضمون المخالف، أو منعوا الوصول إليه، انتفت مسؤوليتهم الجزائية والمدنية، وإذا ما رفضوا القيام بذلك تحققت، لا على أساس تحمُّل التبعة أو المخاطر أو حراسة الأشياء، وإنما على ثبوت الخطأ الراجع لارتكابهم المخالفة، أو لسلبيَّتهم في وقفها.

والمشرِّع الأردني، بدوره، كان، بالنسبة لنا، الغائب الأكبر عن مُجاراة هذا التطوُّر، فجاء قانون المعاملات الإلكترونية المؤقَّت خالياً من أيَّةِ إشارةٍ للمركز القانوني لمقدمي خدمات الإنترنت. ونرى، من الأهمية هنا، إبداء التوصيات الآتية:
1- ضرورة مُبادرة المشرِّع الأردني لإيجاد قواعد قانونية خاصة ناظمة لالتزامات وحالات قيام مسؤولية مقدمي خدمات الإنترنت: الجزائية، والمدنية، وحالات الإعفاء منها. وهو ما سيترك آثاراً إيجابيَّةً ستؤدي إلى زيادة حجم التبادل المعلوماتي الإلكتروني، وستُشجِّع الإقدام على الاستثمار في هذا القطاع الشرياني، فتعم المنفعة على اقتصادنا الوطني.
2- أغفلت الكثير من التشريعات المعاصرة في هذا المجال، دون أن نعلم الحكمة من ذلك، تنظيم المركز القانوني لبعض مقدمي خدمات الإنترنت، كمقدم خدمة البحث الآلي وخدمة العلاقات النشطة، مما يستوجب على هذه التشريعات تلافي هذا النقص، والمبادرة لتحديد مركزهم القانوني. فالدور المناط بهم القيام به في إدارة الشبكة لا يقل أهميَّةً عن دور باقي المقدمين الذين تمَّ تنظيم مركزهم القانوني.
3- ضرورة أن تسمح التشريعات، في هذا المجال، باللجوء لدعاوى أو لطلبات وقف بثِّ المضمون الإلكتروني غير المشروع، وأن يتمَّ، بدقَّة، تحديد الإجراءات الواجب إتِّباعها لسحبه، أو لمنع وصوله لمستخدمي الشبكة.
4- إلى جانب دعوى المسؤولية عن المضمون الإلكتروني غير المشروع، يجب تبنِّي فكرة التصحيح الذاتي الفردي والجماعي للأوضاع على الإنترنت، والتعاون من أجل الوصول إلى أمثل استخدام للشبكة، وهذا بدوره يحتاج إلى:
أ. تثقيف مستخدمي الشبكة، وخلق روح المسؤولية لديهم في عمليَّة اختيار المعلومات
على الإنترنت، وفي وجوب اتِّباع قواعد السلوك الصحيح أثناء إبحارهم في العالم الافتراضي، بما في ذلك احترام حقوق الآخرين، وعدم الاعتداء على حقوق الملكية الفكرية، وتزويد مقدمي الخدمات بمعلومات حقيقية
ب. قيام مقدمو الخدمات ببيان القواعد الأخلاقية، وقواعد السلوك الحسن للمشتركين، والتي تكفل احترام القوانين والأنظمة السارية، وعدم المساس بحقوق الآخرين.
5- وأخيراً، إلى جانب أُسلوب التصحيح الذاتي، العمل على إيجاد أُسلوب دولي مُشترك لتصحيح الأوضاع على الإنترنت، من ناحية، ولبيان الأخلاقيات وقواعد السلوك الحسن الواجب على الجميع التحلِّي والتقيُّد بها، من ناحيةٍ أُخرى. ومن الممكن أن يتمثَّل هذا الأُسلوب في إنشاء منظَّمة دولية للإنترنت، تضم حكومات الدول والقائمين على إدارة الشبكة، وتأخذ على عاتقها هذه المهمَّة، أو في وضع ميثاق شرفٍ للتعاون الدولي في هذا المجال.