دراسة قانونية وبحث كبير عن إثارة الدعوى العمومية في القانون المغربي

مقدمة:

الجريمة كظاهرة اجتماعية، حتى وإن لم تكن قدرا محتوما في حياة الأفراد إلا أنها قدر محتوم في حياة الشعوب والأمم، وإن كان اعتبار مكافحة الجريمة واجبا مقدسا ملقا على عاتق السلطات المختصة التي تسهر على دعم الأمن في الجماعة فإن أنجع وسيلة لمعاقبة الجاني تكمن في الدعوى العمومية التي تباشر باسم المجتمع بواسطة النيابة العامة باعتبار الجريمة تلحق ضررا بالمجتمع المدني ككل. وهذا لا يعني إقصاء المتضرر ومنعه من مباشرة حقه في التعويض، حيث يمكنه مقاضاة الجاني ومطالبته بالتعويض في الضرر الحاصل من جراء فعله الإجرامي، ومن المبادئ السائدة في التشريعات الجنائية المعاصرة ” لا عقوبة بدون محاكمة” ومعنى ذلك أنه ليس للدولة أن تقتضي حقها بالتنفيذ المباشر وإنما عليها أن تتصدر حكما قضائيا يكشف حقها ويقضي بنفاذه بعد ثبوته. وحق الدولة في العقاب يمر بعدة مراحل إجرائية تبتدئ بالبحث في الجرائم وجمع الأدلة وتنتهي بإصدار حكم إما بالبراءة أو بالإدانة وتنفيذ الحكم. وهذه الإجراءات هي التي تشكل موضوع قانون المسطرة الجنائية والتي تتولى تحديد النطاق الإجرائي للإدعاء الجنائي وتنظم مختلف المراحل التي يجتازها حق الدولة في العقاب وهي ما يصطلح عليها ” بالعقوبة الجنائية” وهي تستهدف بالأساس حماية مصلحة الفرد بقدر ما يتيسر لها وحماية مصلحة الجماعة بالأساس. وحماية الجماعة يتطلب بالضرورة ممثل أو ناطق باسم هذه الجماعة ومدافع عنها وهو ما يعرف بحماية الحق العام والذي تتولاه النيابة العامة عن طريق الدعوى العمومية.

فالدعوى العمومية هي وسيلة للمجتمع لتوقيع العقاب على الجاني طرفاها هما النيابة العامة بوصفها ممثلة للمجتمع والجانب باعتباره مرتكبا للجريمة. وباعتماد المبادئ العامة في نظرية الدعوى عموما ونصوص قانون المسطرة الجنائية بوجه أخص، يمكن القول بأن الوسائل التي ينبغي معالجتها بمناسبة البحث في مؤسسة الدعوى العمومية تقتضي الجواب الوافي على التساؤلات الآتية:

من هي الجهة التي تثبت لها حق إقامة أو تحريك الدعوى العمومية باعتبارها الطرف المدعي أو ما يعرف بالطرف الإيجابي في الدعوى؟.
ضد من تقام الدعوى العمومية أو في مواجهة من باعتباره الطرف المدعي عليه فيها أو ما يعرف بالطرف السلبي في الدعوى؟.
ما هي الموانع التي يحتمل أن تقف عائقا في إثارة الدعوى العمومية؟.
ما هي الحالات التي تنقضي فيها الدعوى العمومية لتسقط إن هي أقيمت؟
وكمحاولة منا للإجابة عن هذه التساؤلات ، ارتأينا تقسيم الموضوع إلى فصلين نخصص الأول لتحديد أطراف الدعوى العمومية والفصل الثاني لموانع إقامة الدعوى العمومية وأسباب سقوطها.
الفصل الأول: أطراف الدعوى العمومية
الفصل الثاني: موانع تحريك الدعوى العمومية وانقضاؤها.

لدراسة هذا الفصل لا بد من الإشارة إلى أن أطراف الدعوى العمومية يمكن تصورها من جهتين، أو بعبارة أخرى أن للدعوى العمومية طرفان رئيسيان: طرف المدعى عليه كصرف سلبي في الدعوى العمومية، بالإضافة إلى طرف المدعي كطرف إيجابي في الخصومة الجنائية.
ومن خلال كل ما سبق يقتضي منا التساؤل حول الجهات التي يعهد إليها بحق إقامة أو تحريك الدعوى العمومية باعتبار أحد هذه الجهات كطرف مدعي؟ كما أننا نتساءل أيضا عن الجهة التي تقام ضدها أو في مواجهتها الدعوى العمومية باعتبارها الطرف المدعى عليه فيها؟.
وهذا ما سيتم معالجته من خلال بحثنا هذا عن أطراف الدعوى العمومية، حيث سنخصص (المبحث الأول) لدراسة الطرف المدعي في الخصومة الجنائية، ونخصص( المبحث الثاني) لدراسة طرف المدعى عليه.

المبحث الأول: الطرف المدعي في الدعوى العمومية

إن الدعوى العمومية ملك للمجتمع ككل، لذلك فإن المشرع منح في قانون المسطرة الجنائية لجهاز النيابة العامة حق إثارة الدعوى العمومية باسم المجتمع ، كما منح هدا الحق لبعض الجهات في حدود معينة وكاستثناء.
لذلك سيتم دراسة هذا المبحث من خلال تقسيمه إلى مطلبين نتناول النيابة العامة بوصفها الجهاز المعهود إليه تحريك الدعوى العمومية ومباشرتها بصفة أصلية ( المطلب الأول) ثم بعد ذلك نتعرض للأشخاص والهيئات التي سمح لها المشرع بتحريك الدعوى العمومية كاستثناء ( المطلب الثاني).

المطلب الأول: النيابة العامة

إذا كانت الدعوى العمومية أو الجنائية الوسيلة القانونية التي جاء بها المشرع المغربي لاقتضاء الحق العام والدفاع عن مصالح مجتمعه، فإنه لا يمكن تحريكها بصفة أصلية إلا من طرف جهاز أناط به المشرع هذه المهمة، ويتعلق الأمر بجهاز النيابة العامة. فما هو مركزها القانوني؟ ( الفقرة الأولى). وما هي صلاحياتها المتعلقة بتحريك الدعوى العمومية؟ (فقرة ثانية).
تشكل النيابة العامة جهاز قضائيا يحرك الدعوى العمومية ويسيرها، ويسهر على مراقبتها، وينفذ قرارات المحكمة وكذا القرارات النهائية كما يمتاز هذا الجهاز بمركز قانوني يختلف عن ما يتمتع به قضاة الحكم.
فما هي تمثيلية جهاز النيابة العامة أمام المحاكم بمختلف درجاتها؟ وما هي الخصائص التي تمتاز بها؟ وما هي أنواع مسؤولية أعضائها؟

أورد المشرع المغربي تمثيلية للنيابة العامة أمام مختلف محاكم المملكة، فظهير 15 يوليوز 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي المغربي في فصله التاني وقانون المسطرة الجنائية لسنة 2002، لم يوجبا تمثيلية للنيابة العامة أمام محاكم الجماعات والمقاطعات والتي تشكل استثناء من التوجه الذي يتبناه المشرع المغربي بتواجد تمثيلية إجبارية أمام مختلف محاكم المملكة. فعلى مستوى محاكم الدرجة الأولى، تتكون النيابة العامة من وكيل للملك ونائبه أو نوابه يخضعون لإشرافه ومراقبته طبقا لمقتضيات المادة 39 من ق.م.ج.، فهؤلاء الأشخاص منح لهم القانون حق تحريك الدعوى العمومية وممارستها .

أما أمام المحاكم الاستئناف، فطبقا لمقتضيات المادة 48 من ق.م.ج. والفصل 6 من ظهير التنظيم القضائي ،يمثل النيابة العامة الوكيل العام للملك بوصفه رئيسا لها ونوابه يخلفونه إذا عاقه عائق، ويخضعون لإشرافه وتوجيهاته ومراقبته، وقد أسند المشرع المغربي للوكيل العام للملك اختصاص إثارة الدعوى العمومية وممارستها ( المادة 49 من ق.م.ج).
أما بالنسبة للنيابة العامة أمام المجلس الأعلى، فتمثل بواسطة الوكيل العام للملك ونوابه المحامون العامون. هذا ما يتعلق بالمحاكم غير الاستثنائية، أما بخصوص المحاكم الاستثنائية، فيعتبر مندوب الحكومة ممثلا للنيابة العامة أمام المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية ( ف 23 و 24 من قانون العدل العسكري)، أما أمام محكمة العدل العليا فتمثل النيابة العامة بالوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى ويساعده المحامي العام الأول لدى نفس المجلس وعضوين من أعضاء البرلمان ينتخب كل واحد منهما من طرف مجلس النواب ومجلس المستشارين وذلك عملا بالمادة 5 من القانون رقم 63.00.

كما سبق القول اعتبار النيابة العامة هيئة قضائية وممثلة للجهاز التنفيذي، يترتب عن فروق أساسية بينها وبين قضاة الحكم، فالنيابة العامة تمتاز بعدة خصائص من بينها خضوع المرؤوسين لأوامر وتعليمات رؤسائهم المتسلسلون وطاعتهم، وعدم تحمل مسؤوليتهم بأداء تعويض للمتهم في حالة صدور حكم أو قرار يبرؤه بخصوص الأفعال المنسوبة إليه، كما أكد المشرع المغربي على عدم إمكانية تجريح أعضاء النيابة العامة باعتبارها طرفا أصليا وخصما والخصم غير قابل للتجريح (المادة 274)، كما منحها صفة الاستقلالية عن كل من قضاء التحقيق وقضاء الحكم والمطالب بالحق المدني بحكم وظيفتها وأمانة الدعوى التي في عنقها حرمة، إضافة إلى حق النيابة العامة بتغيير مواقفها وتدارك أخطائها واعتبارها وحدة غير قابلة للتجزئة.

وإذا كان المشرع المغربي أسند لجهاز النيابة العامة اختصاص إقامة الدعوى العمومية والإشراف على تسييرها والسهر على تنفيذ مقررات المحكمة، فإنه عند الإخلال بهذه المهام تثار مسؤوليته، فأعضاء النيابة العامة يتحملون مسؤوليتهم الجنائية عند ارتكابهم لجريمة تعاقب عليها نصوص القانون الجنائي أو النصوص الخاصة بمناسبة أدائهم للمهام التي أسندها لهم المشرع والأمثلة على ذلك كثيرة ومن بينها المواد 225-229-230-248-250 من القانون الجنائي. وتثار المسؤولية المدنية عندما تثبت سوء نية ممثل الحق العام حيث يلزم بالتعويض عن الضرار التي لحقت بالمتضرر بمناسبة ممارسته لمهامه طبقا لأحكام المادة 391و400 من قانون المسطرة المدنية.

كما تثار مسؤولية أعضاء النيابة العامة التأديبية عند عدم احترامهم للضوابط القانونية التي يفرضها عليهم واجبهم المهني أو ما يفرضه القانون عن طريق اعتبار الإخلال بإحدى هذه القواعد خطأ معاقب عليه قانونا، ويتعلق الأمرب:

مراقبة سير الدعوى العمومية وتقديم مختلف أوجه المساعدة لهيئات الحكم والتحقيق.
السهر على تنفيذ أوامر وتعليمات ممثلي للنيابة العامة
السلطة التقديرية في إثارة الدعوى العمومية

فقرة ثانية: صلاحيات النيابة العامة بإثارة الدعوى العمومية
تنص المادة 3 في فقرتها الثانية من ق.م.ج على أن ” الدعوى العمومية يقيمها قضاة النيابة العامة ويمارسونها، كما يقيمها الموظفون المكلفون بذلك”. وتنص مقتضيات المادة 36 من ق.م.ج على تولي النيابة العامة إقامة الدعوى العمومية وممارستها ومراقبتها وتطالب بتطبيق القانون.

فما هي الطرق القانونية التي سمح المشرع المغربي للنيابة العامة بنهجها من أجل تحريك الدعوى العمومية وممارستها؟.
بالنسبة للمخالفات: جاء قانون المسطرة الجنائية لـ 2002 بمهام جديدة للنيابة العامة والتي كانت من اختصاص قضاة الحكم وتتمثل في إصدار السند التنفيذي في المخالفات. وطبقا لمقتضيات المادة 375 من ق.م.ج. ” يجوز للنيابة العامة في حالة ارتكاب مخالفة غير معاقب عليها بعقوبة حبسية شريطة أن تكون مثبتة في محضر أو تقرير مع عدم وجود متضرر أو ضحية من تلك المخالفة المرتكبة، أن تقترح على المخالف أداء غرامة جزافية تبلغ نصف الحد الأقصى لغرامة المنصوص عليها قانونا.
ويبدو أن المشرع توفق في اختياره لتعبير ” السند التنفيذي” بدل استعمال عبارة أمر أو حكم أو قرار، لأن السند التنفيذي لا يعتبر إلا مجرد اقتراح، قد ينقلب إلى سند تنفيذي إجباري في حالة اتخاذ موقف سلبي من طرف المخالف.

ويتأرجح موقف المخالف بين موقف قابل لمقترح النيابة العامة، حيث يبادر بمجرد توصله بالسند بتسديد ما بذمته إلى صندوق كتابة الضبط بأية محكمة ابتدائية بعد الإدلاء بالسند داخل أجل 10 أيام، وتقوم هذه الأخيرة بإشعار النيابة العامة مصدرة السند داخل أجل أسبوع يحسب من تاريخ الأداء ( المادة 379 من ق.م.ج) . وبين موقف رافض لهذا المقترح، حيث يتحول السند إلى استدعاء لجلسة الحكم متضمن لتاريخ انعقادها ( المادة 377 من ق.م.ج) حيث يقوم وكيل الملك بإحالة القضية على المحكمة للبث فيها وفقا للقواعد العامة وتترتب عنها الآثار المضمنة في الفصلين 381 و 382 من ق.م.ج.

إلا أنه تثار مجموعة من الإشكاليات بهذا الخصوص، فهل يتم التبليغ طبقا لمقتضيات المادة 308 من ق.م.ج. التي تحيل بدورها لمقتضيات الفصول 37-38-39 من ق.م.م.؟ وما هو الجزاء في حالة تخلف أحد البيانات الأساسية الواجب تضمينها في السند التنفيذي طبقا لمقتضيات المادة 376 من ق.م.ج؟ ومتى يبتدئ آجال التعبير عن عدم الرغبة في الأداء في حالة رفض توصل وما هي طبيعة هذا الأجل؟ وما هو الحكم إذا لم تتوصل النيابة العامة بموقف رفض الأداء من المعني بالأمر إلا بعد الإحالة على التنفيذ؟ .

وإضافة إلى السند التنفيذي في المخالفات الذي يشكل طريقة من طرق إقامة الدعوى العمومية، يمكن لوكيل الملك استدعاء المخالف لحضور الجلسة العلنية وذلك في الحالات الأخرى التي لا تتوفر فيها شروط مسطرة السند القابل للتنفيذ، مع إمكانية تطبيقها حتى بالنسبة للمخالفات التي يمكن اللجوء فيها إلى إجراء السند التنفيذي.

بالنسبة للجنح: يملك وكل الملك أربعة طرق لإقامة الدعوى العمومية وممارستها.
فبالنسبة للحالة الأولى وتتعلق بالأمر القضائي في الجنح، فطبقا لمقتضيات المادة 383 من ق.م.ج، يمكن لوكيل الملك أن يتقدم بملتمس كتابي إلى قاضي الحكم عندما يتعلق الأمر بجنحة يعاقب عليها القانون فقط بغرامة لا تتجاوز 5000 درهم، ولا وجود للمتضرر فيها مع ضرورة إثباتها في محضر أو تقرير من أجل إصدار أمر قضائي في غيبة المتهم ودون استدعاءه بالأداء، يتضمن مبلغ الغرامة التي ينبغي ألا تتجاوز نصف الحد الأقصى المقرر قانونا كما يتضمن إضافة إلى ذلك المصاريف وأية عقوبة إضافية يمكن الحكم بها ورد ما يلزم رده، ويتم التبليغ استنادا لمقتضيات المادة 308 من ق.م.م.

أما بالنسبة للحالة الثانية فتتعلق بالمطالبة بإجراء التحقيق حيث يلتمس وكيل الملك من قاضي التحقيق بإجرائه بصفة إجبارية في الجنح إذا ورد نص خاص في القانون، أو بصفة اختيارية في الجنح المرتكبة من طرف الأحداث، وفي الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر ( المادة 40و 83 من ق.م.ج).

وتتمثل الحالة الثالثة في استدعاء الجلسة أو الاستدعاء المباشر، وبمقتضاه يتم توجيه وثيقة رسمية وموقعة إلى المتهم حيث يتم إشعاره بأن قضيته ستحال على جلسة الأحكام بتاريخ معين في الاستدعاء ( المادتان 311-312 من ق.م.ج).
وتتمثل الحالة الرابعة في عرض المتهم مباشرة على الجلسة دون اللجوء إلى استدعاءه في حالة ضبطه متلبسا بجنحة ( المادة 56 من ق.م.ج)، أو بسبب انعدام ضمانات الحضور، حيث يتم استنطاقه من قبل وكيل الملك أو نائبه وإشعاره بحقه في تنصيب محام ثم يتم التوقيع على محضر الاستنطاق، وبعدها يتم عرض المتهم في حالة اعتقال على جلسة الأحكام إذا ما كانت منعقدة أثناء ذلك، أو يتم إيداعه في السجن في حالة ما إذا كانت الجلسة غير منعقدة ولكن شريطة عرض المتهم وإحالته على الجلسة داخل أجل ثلاثة أيام ( المادة 385 من ق.م.ج.) إضافة لذلك يمكن تقديم المتهم وهو في حالة سراح مؤقت إلى الجلسة إذا قدم كفالة مالية أو شخصية ( المادة 74 من ق.م.ج).

بالنسبة للجنايات والجرائم المرتبطة بها أو غير القابلة للتجزئة حيث مكن المشرع جهاز النيابة العامة من وسيلتين لتحريك الدعوى العمومية وممارستها. تتمثل الأولى في ضبط المتهم في حالة تلبس بجناية لا يكون التحقيق الإعدادي فيها إجباريا، حيث يحال المتهم بعد استنطاقه من طرف الوكيل العام للملك أو نوابه وبوجود محام له رهن الاعتقال على غرفة الجنايات داخل أجل 15 يوما إذا كانت القضية جاهزة، أما إذا لم تكن جاهزة فيتم تقديم ملتمس إلى قاضي التحقيق لإجراء تحقيق إعدادي ( م 75 من ق.م.ج). ويستشف من هذه الوسيلة مساس كبير بحرية المتهم خاصة الإبقاء عليه إلى حين استنفاد إجراءات التحقيق المتصفة بطولها.

بينما تتمثل الوسيلة الثانية بقيام الوكيل العام للملك بواسطة التماس بإجراء تحقيق إعدادي في القضية سواء كان التحقيق إجباريا أو اختياريا، احتراما لمقتضيات المادتين 83 و 84 من ق.م.ج، وتجدر الإشارة إلى أنه حتى في حالة وجود إمكانية لتطبيق الإحالة المباشرة وفلا مجال لسلوكها إذا تعلق الأمر بإجراء تحقيق إجباري.
المطلب الثاني: الأشخاص والهيئات المرخص لهم استثناء بإثارة الدعوى العمومية
بالرجوع إلى نصوص المسطرة الجنائية، نجد أن المشرع أوكل حق إقامة الدعوى العمومية كحق أصلي لجهاز النيابة العامة، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الحق لا يبقى محتكرا من طرف النيابة العامة دائما، بل إن المشرع أوكل حق إقامتها لجهات أخرى إلى جانب جهاز النيابة العامة.

إن أهم طرف خول له القانون حق تحريك الدعوى العمومية مباشرة بعد جهاز النيابة العامة أ هو المتضرر أو المطالب بالحق المدني وذلك راجع للعلاقة التي تربطه بالوقائع الإجرامية.

مبدئيا يبقى حق المتضرر في إقامة الدعوى العمومية حقا عاما وشاملا لكافة الجرائم إلا ما تم استثنائه من قبل القانون كالمساطر الخاصة لمتابعة بعض القضاة وأصناف من الموظفين، المواد من 264 إلى 268 من ق.م.ج. فهذا الحق الممنوح للمتضرر محصور في الحق في إقامة الدعوى العمومية دون ممارستها وهو ما أكده المجلس الأعلى في إحدى قراراته، حيث جاء فيه ” أن حق المتضرر في إقامة الدعوى العمومية ينحصر أثره في تحريك الدعوى ووضعها في المحكمة، في حين أن النيابة العامة تملك سلطة مباشرتها، ويبقى للمتضرر حق الادعاء فقط”.
ويرجع السبب من منح المشرع للمتضرر حق تحريك الدعوى العمومية، هو بلا شك تفادي الوقوع في أخطاء قد ترتكب من قبل جهاز النيابة العامة، يترتب على على إثرها عدم متابعة المتهم، وهو ما يؤدي إلى عدم حصول المتضرر عن التعويضات المستحقة على الأضرار اللاحقة به، إضافة إلى عدم إنزال العقاب الجنائي على المتهم

كما يتعين علينا أن نشير بأن المشرع أعطى هذا الحق للمتضرر إذا تقاعست النيابة العامة عن ذلك-أي عن تحريك الدعوى العمومية-بالإضافة إلى كونه قد ينتج عنه تخفيف عبء التحقيق في الجرائم التي تمثل جنحا أو مخالفات عن النيابة العامة التي تشكل الحيز الأكبر.

بالإضافة إلى ما سبق يجب أن لا نعتقد بأن المشرع وضع المتضرر على قدم المساواة مع النيابة العامة، لذلك فإن هذا الحق في تحريك الدعوى العمومية يجب ألا يستعمله المتضرر كما يشاء، ومتى شاء، بل إن المشرع تولى تحديد مجاله ونطاق ممارسته من خلال إخضاعه لبعض الشروط التي لابد من توافرها وهي :
-أن يكون الفعل المسبب في الضرر المطلوب تعويضه مشكلا لجريمة
-أن تكون الجريمة مستوجبة العقاب
-أن تكون المحكمة الجنائية المختصة بالبث في الدعوى العمومية تملك قانونيا صلاحية البث في الدعوى العمومية
-منع المطالب بالحق المدني من تحريك الدعوى العمومية، إذا كان ذلك المنع قد تم صراحة بموجب نص خاص كما هو عليه في الفصل 352 من ق.م.ج

كما يتوجب على المتضرر تقديم شكايته يتعين عليه أن ينصب نفسه مطالبا بالحق المدني، وهو ما أكده المجلس الأعلى في إحدى قراراته حيث جاء فيه”يمكن للمتضرر ان يحرك الدعوى العمومية طبقا للشروط المبنية في قانون المسطرة الجنائية (الفصل 2 منه)

لا يكفي لتحريك الدعوى العمومية أن يقدم المتضرر شكاية يبين فيها وقائع الفعل الإجرامي بل يجب أن يعبر عن رغبته في المطالبة بالحق المدني ويحدد مبلغ التعويض عن الضرر الذي حصل له، كما يتوجب على المتضرر أن يختار موطنا بدائرة المحكمة المرفوع إليها الطلب إذا كان مقيما خارج نفوذها (حسب المادة 96 من ق.م.ج).
كما يستلزم عليه أن يضع بكتابة الضبط المبلغ الذي يعتبر ضروري لمصاريف الدعوى داخل الأجل الذي يحدده له قاضي التحقيق أو المحكمة.

كما لا يمكن للمتضرر أن يقيم الدعوى العمومية في مواجهة حدث طبقا للمادة 463 من ق.م.ج) وذلك عن طريق الإدعاء المباشر إلا أنه يمكن له أن ينظم إلى الدعوى التي تقيمها النيابة العامة، وذلك للمطالبة بالحق المدني في مواجهة الحدث بإدخال المسؤول عنه مدنيا.

الفقرة الثانية : الجهات الأخرى التي يحق لها رفع الدعوى العمومية:
كما تمت الإشارة فيما سبق بأن تحريك الدعوى العمومية كحق أصيل مخول لجهاز النيابة العامة، وللمتضرر كحق استثنائي إلى جانب هذا الجهاز الأخير، فإن المشرع أوكل حق تحريك الدعوى العمومية إلى جانب النيابة العامة والمتضرر لجهات أخرى وذلك لاعتبارات معينة يراها المشرع جديرة بالحماية فمن هي هذه الجهات الأخرى التي أوكل لها المشرع حق تحريك الدعوى العمومية؟

-قضاء الحكم:بالرجوع إلى قانون م.ج نجدها خولت للقضاء الجالس الحق في تحريك الدعوى العمومية إلى جانب النيابة العامة، ومن بين الحالات التي يتم فيها تحريك الدعوى من قبل قضاة الأحكام هي تلك الجرائم التي ترتكب أثناء جلسات المحاكم والمنصوص عليها في المواد 269 و357 إلى 362 من ق.م.ج.

بالإضافة إلى دلك، يمكن للغرفة الجنائية بالمجلس الاعلى، بناءا على ملتمسات الوكيل العام للملك بنفس المجلس أن تحرك الدعوى العمومية في مواجهة قضاة المجلس الأعلى والرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين بنفس المحكمة، وعمال الأقاليم، والولادة وأشخاص أخرين طبقا لما هو منصوص عليه في المواد من 264 إلى 268 من ق.م.ج .
-الإدارات العمومية:خول القانون لبعض الإدارات العمومية إثارة الدعوى العمومية، حيث نصت المادة الثالثة من ق.م.ج على ان “يقيم الدعوى العمومية ويمارسها قضاة النيابة العامة، كما يمكن أن يقيمها الموظفون المكلفون بذلك قانونا”، وعليه فان القانون هو الذي منح لبعض الموظفين خارج أسلاك قضاة النيابة العامة حق إثارة الدعوى العمومية.

ومن بين الموظفين الذين أعطى لهم القانون حق إقامة الدعوى العمومية نجد:
*موظفي إدارة الجمارك بحيث نجد أن الفصل 249 من مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة ينص على أن “الدعوى العمومية يمكن تحريكها من قبل النيابة العامة والوزير المكلف بالمالية أو مدير إدارة الجمارك أو أحد ممثليه المؤهلين.
*موظفي إدارة المياه و الغابات ،فبالرجوع إلى الظهير المتعلق بحفظ الغابات و استغلالها الصادر ب 10 /10/1917 و التي حلت محلها المندوبية السامية للمياه و الغابات خول لهؤلاء حق متابعة مرتكبي المخالفات الغابوية و توجيه الاستدعاء إليهم إلى جانب حق ممارستها و استعمال الطعن .و قد جاء في قرار للمجلس الأعلى “أن ضابط مصلحة المياه و الغابات هو محرك الدعوى العمومية في موضوع المخالفات الغابوية و أن النيابة العامة تملك فقط تبني تلك التابعة”
*السلطة التشريعية:بالاطلاع على نصوص الدستور، نجدها تخول للسلطة التشريعية حق تحريك الدعوى العمومية ،و ذلك فيما يخص الجرائم التي ترتكب من قبل أعضاء الحكومة في إطار مزاولتهم مهامهم الحكومية .
المبحث الثاني:الطرف المدعى عليه في الدعوى العمومية
عند ارتكاب فعل معين يعد جريمة طبقا للنموذج المنصوص عليه في القانون الجنائي ،يعتبر مرتكب الفعل مجرما . ومصطلح مجرم له معنيان معنى علمي يندرج في مجال علم الإجرام و يقصد به” الشخص الذي ارتكب جريمة أو أسند إليه ارتكاب جريمة بشكل جدي سواء أدانه القضاء بصفة نهائية أم لا”.

و معنى قانوني، ففي القانون الجنائي مصطلح مجرم يستعمل للدلالة على كل شخص ارتكب فعلا يعد جريمة، وتجب مساءلته مبدئيا عن إرتكابه لهذا الفعل متى ثبتت مسؤوليته الجنائية .

و تجدر الملاحظة إلى أن مفهوم المسؤولية الجنائية أو بمعنى آخر الطرف المدعى عليه لا ينحصر في الشخص مرتكب الجريمة لوحده و الذي يسمى بالفاعل الأصلي “مطلب أول “و إنما يتوسع نطاق المسؤولية الجنائية ليشمل المشارك و المساهم “مطلب ثاني” و هو ما تنص عليه المادة 3 من ق.م ج. ” أن الدعوى العمومية تمارس ضد الفاعل الأصلي للجريمة و المساهمين و المشاركين في إرتكابها ”
المطلب الأول : الفاعل في الدعوى العمومية
على خلاف بعض التشريعات لم يقم المشرع المغربي بتعريف الفاعل الأصلي لتمييزه عن المساهم و المشارك و إنما يمكن استنتاج مفهوم الفاعل الأصلي بمفهوم المخالفة من الفصول المحددة للقواعد الخاصة للمساهمة و المشاركة في الجريمة {الفصول من 128 إلى 131}من القانون الجنائي الذي ينص على أن” كل شخص سليم العقل وقادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا على الجرائم التي يرتكبها “يفهم من هذا النص أنه يعتبر فاعلا أصليا الشخص الذي ارتكب الجريمة لوحده من غير أن يشاركه أحد في ارتكابها ،و إذا كان الفاعل الأصلي هو المرتكب الفعلي للجريمة و بمعنى أدق المرتكب الأصلي للركن المادي للجريمة فانه ولتحقيق العدالة ومعاقبة كل المجرمين وسع المشرع الجنائي من مفهوم الفاعل ليتعدى الفاعل الأصلي (فقرة أولى) ويشمل أيضا الفاعل المعنوي (فقرة ثانية) .

من المبادئ السائدة المتفق عليها في القانون الجنائي أن الدعوى العمومية لا تقام إلا ضد الجاني سواء كان فاعلا أصليا أو شريكا، حيث لا يمكن أن تقام الدعوى العمومية ضد غير الجاني تطبيقا لمبدأ شخصية العقوبة، والذي يقضي بعدم مؤاخذة أحد يجرم غيره، لأن الهدف من إقامة الدعوى العمومية هو توقيع العقوبة على الجاني. لذلك لا يمكن تصور رفع الدعوى العمومية على أبناء أو أصول الجاني وهو ما قضت به الفقرة الأولى من المادة الثالثة من ق.م.ج. وهو ما يقود قانونا إلى استبعاد ورثة الجاني والمسؤول المدني ،كشركات التأمين من دائرة المتابعة الجنائية.

وتجدر الإشارة إلى أن شخص أو هوية الجانب يمكن أن تكون مجهولة وغير معروفة وذلك طيلة فترة البحث التمهيدي والتحقيق الإعدادي نظرا لكونها يعدان مرحلة أولية تهدف أساسا إلى جمع الأدلة والبحث عن الفاعل الأصلي للفعل الإجرامي، إلا أنه وخلافا لهذا، فإنه يتعين أن يكون المتهم في مرحلة المحاكمة معروفا وهويته محددة على وجه دقيق.
والفاعل في الدعوى العمومية يقصد به تبعا لمصطلحات عدة إما المشتكى به أو المتابع أو الظنين أو المتهم أو المجرم، وهو على العموم مرتكب الفعل الإجرامي والذي يكون عادة إما شخصا طبيعيا أو شخصا اعتباريا. وفي الحالة الأولى فإننا نميز تبعا لحالة المجرم بين كمال المسؤولية الجنائية والتي تعني خضوع الفاعل للعقاب ونقصان المسؤولية أو انعدامها والتي يتابع فيها الفاعل بشكل عادي كما لو كان كامل المسؤولية، وإنما الخلاف يكون بخصوص معاقبته حيث ترعى ظروف نقصان مسؤولية في العقاب بينما يعفى نسبيا من العقاب في حالة انعدام مسؤوليته ليعوض السجن بمؤسسة العلاج.

وكما سبقت الإشارة إذا كان الأصل في الدعوى العمومية أن تقام ضد الأشخاص الذاتيين فإنه من المعقول قانونا أن تقام هذه الدعوى ضد الأشخاص المعنوية قصد إثارة مسؤوليتهم الجنائية وهو ما تأكده المادة 9 من ق.م.ج. في فقرتها الثانية والتي تفيد أن الدعوى العمومية يمكن أن تقام ضد كل مسؤول سواء كان شخصا ذاتيا أو معنويا، فإن المشرع المغربي قد سوى بين الشخص الطبيعي والشخص المعنوي ويكون بذلك قد خالف الكثير من التشريعات التي لا تسمح بإقامة الدعوى العمومية ضد الأشخاص المعنوية كالتشريع الفرنسي والتشريع المصري.

و مسؤولية الشخص المعنوي تثار طبعا ضد ممثل هذه الأخيرة إلا أنه وفي حالة ثبوت الفعل الإجرامي في حق الشخص المعنوي، فإن القاضي الجنائي يقوم بتوقيع العقاب عليه والذي يختلف عن عقاب الشخص الطبيعي، حيث تتمثل في عقوبة أصلية كالغرامات وأخرى إضافية كحل الشخص المعنوي أو مصادرته أو إغلاقه.
وعموما فإن عقوبة الشخص المعنوي تم التنصيص عليها في فصول القانون الجنائي ( 36-62 ق.ج).
يطلق مصطلح الفاعل المعنوي على الشخص الذي يكون راغبا في ارتكاب الجريمة بسبب وجود قصد إجرامي لديه، إلا أنه بدل أن يقوم بتنفيذها بنفسه يدفع شخصا آخر إلى ارتكابها دون أن تكون له نية القيام بها وهو الذي يطلق عليه اسم الفاعل المادي ما دام قد نفذ الركن المادي للجريمة.

وقد تظهر لأول وهلة الصعوبة في تمييز الفاعل المعنوي عن المشارك والمساهم، إلا أنه وبالرجوع إلى نصوص القانون الجنائي فإن المشرع أفرز فصلا مستقلا وحدد فيه مفهوم الفاعل المعنوي والعقوبة الواجب تطبيقها عليهن ونقصد هنا الفصل 131 من ق.ج. وبما أن الفاعل المعنوي يختلف عن المساهم والمشارك فإن الأساس الذي اعتمده المشرع للمعاقبة يختلف أيضا عن نظيره لدى المساهم والمشارك.

فالمشرع أراد بمعاقبة الفاعل المعنوي التصدي لكل الحالات التي يمكن أن تتحقق فيها المشاركة والمساهمة لانعدام إمكانية وجود مجرم يعتبر فاعلا أصليا يستعير منه الفاعل المعنوي الإجرام.
وإذا كان الأساس الذي اعتمده المشرع المغربي لإدانة الفاعل المعنوي يختلف عي دلك الذي اعتمده لإدانة المشارك والمساهمين فإنه وعلى العكس من ذلك يعاقب الفاعل المعنوي مثله مثل المشارك والمساهم بنفس العقوبة المقررة للجريمة التي ارتكبها الفاعل المادي، وهو ما جاء في نص الفصل 131 من ق.ج. ومن هنا يتبين أن المشرع المغربي تبنى في تحديده للعقوبة الخاصة بالفاعل المعنوي نظرية استعارة التجريم.

المطلب الثاني: المشارك والمساهم

من خلال استقراء نص الفصل 129 من القانون الجنائي، يتبين أن المشرع المغربي ميز بين المساهم والمشارك، فإذا كان المساهم كل شخص يقوم بعمل من أعمال تنفيذ الجريمة فإن المشارك هو ذلك الشخص الذي يساعد الفاعل الأصلي بعمل من الأعمال التحضيرية لارتكاب الجريمة أو يشجعه على ارتكابها، وبهذا التمييز بين المشارك والمساهم يكون المشرع المغربي قد سلك نفس النهج الذي تبناه المشرع الفرنسي إلا أن السؤال المطروح يبقى هو هل احتفظ المشرع المغربي بنفس النهج في التمييز بين المساهم والمشارك بشأن المتابعة القضائية وتوقيع العقاب؟ أم أنه سلك طريقا آخر؟.
ثم ما مدى إمكانية متابعة المشارك والمساهم وإقحامهم كأطراف مدعى عليهم في الدعوى العمومية؟ الإجابة عن هذه التساؤلات نستشفها من خلال الحديث عن المشارك (فقرة أولى) والمساهم (فقرة ثانية).
لقد نهج المشرع المغربي نفس النهج الذي تبناه المشرع الفرنسي حيث قام بتحديد حالات وصور المشاركة وذلك من خلال التنصيص عليها في الفصل 129 في القانون الجنائي.

وبالاعتماد على هذا الفصل فإن الأمر بارتكاب الجريمة أو التحريض على ارتكابها،فان هدا الأخير يمكن أن يتم بإحدى الوسائل المنصوص عليها في الفقرة الأولى في الفصل 129، والمتمثلة في إعطاء هبة أو وعد، القيام بالتهديد، استغلال سلطة أو ولاية أو تحايل أو تدليس إجرامي، ويعتبر تسليم وسيلة ارتكاب الجريمة صورة من صور المشاركة.فالمشرع المغربي وسع من مفهوم الوسيلة المسلمة لارتكاب الجريمة حيث حددها إما في السلاح أو في الأدوات أو أي وسيلة أخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الصورة من صور المشاركة لا تكون كاملة إلا بتحقيق شرطين: استعمال الفاعل الأصلي للوسيلة المقدمة له من طرف المشارك وعلم هدا الأخير بأن تلك الأدوات ستستعمل لارتكاب الجريمة.
ويضاف إلى صور المشاركة تقديم المساعدة أو الإعانة لإنجاز الأعمال التحضرية أو المسهلة لإرتكاب الجريمة والتي تتحقق بأعمال مادية من شأنها تحقيق الركن المادي للجريمة.

كما اعتبر المشرع الجنائي التعود على تقديم مسكن أو ملجأ أو مكان للاجتماع لفائدة المجرم ضمن صور المشاركة الجنائية، ولاشك أن هذا الشرط يثير صعوبات من الناحية العملية وهو ما جعل المشرع الفرنسي يقدم على الاستغناء عنها في القانون الجنائي الفرنسي الجديد الصادر سنة 1993 والذي دخل حيز التنفيذ ابتداء في فاتح مارس 1994 واعتبرها جريمة مستقلة، وهو الموقف الذي نتوخاه من المشرع المغربي الذي اعتاد السير على نهج نظيره الفرنسي.

ونظرا لاختلاف طبيعة نشاط المشارك عن نشاط الفاعل الأصلي، فقد عرف الفقه تباينا في الرأي بخصوص الأساس الذي يقوم عليه عقاب المشارك حيث ذهب فريق منهم للقول أنه يجب اعتماد نظرية استعارة التجريم وذهب فريق آخر لإعمال نظرية استقلال التجريم لينادي فريق ثالث بتطبيق نظرية استعارة العقاب.
إلا أنه وبالرجوع إلى الفصل 130 من ق.م نجد المشرع المغربي قد تبنى نظرية استعارة التجريم من الفاعل الأصلي، وهذا يعني ضرورة خضوعه لنفس العقوبة المقررة قانونا للفاعل الأصلي كلما تعلق الأمر بارتكاب جناية أو جنحة، أما في مجال المخالفة فلا عقاب على المشاركة.
وللعقاب على المشاركة اشترط المشرع توفر شرطين أساسيين، يتمثل الشرط الأول في وجوب علم المشارك بنية الفاعل الأصلي المتجهة نحو ارتكاب فعل جرمه المشرع ، وهو ما أكده قرار المجلس الأعلى القاضي بأن “عنصر العلم ركن ضروري، في اعتبار وجود المشاركة في الجنحة أو الجناية، والمحكمة بعدم إبرازها عنصر العلم في قيام جريمة المشاركة جعلت قضاءها ناقص التعليل الموازي لانعدامه.

أما الشرط الثاني فيتمثل في وجوب كون الفعل المرتكب من طرف الفاعل الأصلي فعلا مجرما من طرف المشرع ومعاقب عليه بسبب تلك الصفة، وهذا الشرط يرتبط ارتباطا وثيقا بنظرية استعارة التجريم التي أخذ بها المشرع المغربي. ويترتب عن هذا الشرط الأخير عدة نتائج تكمن أهمها في عدم معاقبة المشارك إذا ما عدل الفاعل الأصلي عن ارتكاب الجريمة المرتكبة من طرفه بسبب التقادم أو العفو الشامل أو صدور قانون يلغي صفة الجريمة عن الفعل المرتكب.

– معاقبة المشارك الذي تبتت مسؤوليته الجنائية ولو في حالة عدم متابعة الفاعل الأصلي بسبب تمتعه بعذر من الأعذار القانونية أو عدم تقديم شكاية ضده، وهذه الحالة نلمسها جليا في جنحة المشاركة في الخيانة الزوجية حيث أن عدم تقديم شكاية ضد طرف من أطراف جنحة الخيانة لا يمنع النيابة العامة من متابعة الطرف الثاني الذي تعتبره مشاركا في جنحة الخيانة الزوجية، وهو ما أكدته محكمة الاستئناف بمكناس في قرارها الصادر بتاريخ 18/12/2007 حيث قضت بمتابعة الطرف الثاني في جنحة الخيانة الزوجية رغم عدم تقديم شكاية بالنسبة للطرف الأول.

سيرا منه على النهج الذي تبناه المشرع الفرنسي فقد ميز المشرع المغربي بين المساهم والمشارك، فإذا كان المشارك هو ذلك الشخص الذي يساعد الفاعل الأصلي بعمل من الأعمال التحضيرية لارتكاب الجريمة أو يشجعه على ارتكابها فإن المساهم هو كل شخص يقوم بعمل من أعمال تنفيذ الجريمة، ولا شك في الصعوبة التي يطرحها التميز بين مفهومي المساهم والمشارك مما جعل بعض القوانين تلجأ إلى إلغاء هده التفرقة بين المفهومين، وحددت نفس العقوبة للمساهم والمشارك التي حكم بها على الفاعل الأصلي، وهو ما ذهب إليه المشرع الدانمركي والنرويجي.

بالاعتماد على الفصل 128 من ق.ج فإن المشرع اعتبر المساهم بمثابة الفاعل الأصلي الذي يقوم بارتكاب الأعمال المادية المكونة للركن المادي للجريمة.
والمساهمة في المفهوم الجنائي تعني قيام المجرمين بإعانة بعضهم البعض الأخر في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وبهذا المنظور يعتبر المساهمون في نفس مرتبة الفاعل الأصلي ويعاقبون بنفس العقوبة المقررة للفاعل الأصلي، كما يتابعون من طرف النيابة العامة في الدعوى العمومية طبقا لنص المادة 3 من ق.م.ج.
ومما تجب الإشارة إليه أن توفر صفة المساهم في العمل الإجرامي يستلزم توفر العنصر المعنوي، إلى جانب العنصر المادي، وهذا لا يعني ضرورة وجود اتفاق مسبق بين مرتكبي الجريمة، بل يكفي أن يوجد أثناء تنفيذ الركن المادي للجريمة حتى ولو تم ذلك صدفة.
وتتحقق المساهمة بإحدى الصور التالية:
-قيام الشخص بعمل من الأعمال المكونة للركن المادي للجريمة، ويعتبر العمل مساهمة كلما تدخل المشرع بنص قانوني ليعتبر القيام ببعض الأعمال مساهمة في الجريمة حتى وإن لم تكن تلك الأعمال داخلة ضمن الركن المادي للجريمة، كما هو الحال مثلا بالنسبة للفصل304 من ق.م.ج بخصوص جريمة العصيان.
ويعتد بالمساهمة كلما تبت وجود الاتفاق والتصميم بين الفاعلين على تنفيذ الركن المادي للجريمة.
وتتحقق المساهمة كذلك في حالة وجود اتفاق بين الفاعلين ويكون تحديد فعل كل واحد منهم عسيرا، وهو ما ذهب إليه المجلس الأعلى في قراره الصادر بتاريخ 1977 حيث جاء في حيثياته ” لما استنتجت المحكمة بأن الموت الذي تسبب فيه المتهمان معا وأنهما كانا عالمان بالنتيجة وأن نية العمد كانت متوفرة لديهما فلا ضرر في عدم تبيان الفعل الذي قام به كل واحد من المتهمين”.
وهو ما يفيد أن النيابة العامة بإمكانها متابعة كلا الطرفين دون التفرقة بينهما على أساس أن طرف منهما فاعلا أصلي و الأخر مساهما.
إن ما يمكن استخلاصه من صور المساهمة هو أن مفهوم المساهمة الذي جاء به الفصل 128 من ق.ج يبقى مجرد مبدأ عام لا يمكن تطبيقه في كل الحالات، حيث ينبغي الرجوع في كثير من الأحيان إلى النصوص المتعلقة بكل جريمة على حدة لتحديد المساهم الذي قد يؤثر على تحديد العقوبة ،ومثال ذلك الفصل 306 من ق.ج.

أسند المشرع المغربي للنيابة العامة حق تحريك الدعوى العمومية و ذلك بالاتهام و اتخاذ إجراء أو أكثر من إجراءات التحقيق الجنائي ب،صفتها ممثلة الحق العام في ملاحقة مرتكب الفعل الإجرامي و تقديمه إلى المحكمة من أجل تحقيق الردع العام و الردع الخاص .
إلا أن هذا الاختصاص الأصيل ا لمعترف به للنيابة العامة قد تحد منه قيود تعيق هذا الجهاز من أداء عمله (المبحث الأول}كما أن وصف الدعوى العمومية بشخص طبيعي يجعل لهذه الأخيرة نهاية تتمثل في الوفاة ،حيث يستحيل على النيابة العامة أو أي جهة أخرى تحريك الدعوى العمومية أو ممارستها إذا حصل سبب الانقضاء سواء قبل إحالة القضية على هيئة الحكم أو بعده(المبحث الثاني)
إن ما يثير الانتباه هو أن بعض الفقه لم بجعل من هذه القيود سواء منها المؤقتة(مطلب أول) أو الدائمة( مطلب ثاني) مانعا من تحريك الدعوى العمومية و القيام بالتحريات الضرورية، لان هذا الإجراء (أي المنع )ينصرف إلى ممارسة الدعوى العمومية، و عليه فان اتارة الدعوى العمومية تكون سابقة على هذا المنع ، مما يحتم التأكد من الجريمة و معرفة ما إذا كان هناك مانع أم لا من ممارسة هذه الدعوى ،و بالتالي عدم الخلط بين التحريك و الممارسة .
تحريك الدعوى العمومية و ممارستها من قبل النيابة العامة قد يعوقها بصفة مؤقتة عدة موانع،

و يقصد بالموانع المؤقتة تلك الأسباب التي تمنع النيابة العامة من تحريك الدعوى العمومية بصفة عارضة ،لذلك نقسم هذا المطلب إلى فقرتين نتناول في الأولى الشكاية و تقديم الطلب و في الفقرة الثانية الأمر و الإذن .

بالنسبة للشكاية يشترط القانون في بعض الحالات تقديمها من جهة المتضرر قيل أن يصبح متاحا للنيابة العامة ممارسة الدعوى العمومية وهذا استثناء من المبدأ العام المقرر للنيابة العامة، لأن المشرع قصد حماية مصالح الجهة المتضررة لذلك يترتب على مخالفة هذا الإجراء البطلان ، الذي يتوجب على المحكمة المعروض عليها الخصومة الجنائية إثارته تلقائيا حتى و إن لم يتمسك به أحد الأطراف

إن المبدأ المخول للنيابة العامة ينتقل إلى المطالب بالحق المدني، الذي يرجع له الحق في ممارسة الدعوى العمومية أو عدم ممارستها دون اعتبار وجهات نظر النيابة العامة ،و ذلك حماية للمصلحة المتضرر الذي تكون له الأولية على حماية مصلحة المجتمع.

ومن بين الحالات التي نربط فيها نوع من القرابة العائلية بين الجاني و المجني علية كجرائم الخيانة الزوجية المنصوص عليها في الفصل491 من ق .ج و التي تنص على أنه” يعاقب بالحبس من سنة إلى سنتين أحد الزوجين الذي يرتكب جريمة الخيانة الزوجية ولا تجوز المتابعة في هذه الحالة إلى بناءا على شكوى من الزوجة أو الزوج المجني عليه”
وقد صدر عن المحكمة الابتدائية بمكناس حكم قضى بإدانة الزوجة بجنحة الخيانة الزوجية بعد تقديم شكاية في حقها من طرف الزوج.
وجرائم إهمال الأسرة سواء تعلق الأمر بالزوجة، الفروع أو أحد الأصول طيقا لما هو منصوص عليه في الفصول من 479 إلى 481 من ق.ج. وهو ما أكدته المحكمة الابتدائية بمكناس في حكم لها حيث تمت متابعة ابن ميسور الحال لإهماله لوالديه و ذلك بعد أن قدمت في حقه شكوى من طرف أبيه .

ففي كل الحالات التي يشترط فيها المشرع ضرورة تقديم شكاية من طرف متضرر لا يحق للنيابة العامة إثارة الدعوى العمومية إلى بعد تقديم شكاية .

أما بخصوص تقديم الطلب، فقد اعتبر البعض بأن الطلب يمكن أن يرقى إلى مرتبة شكاية إدا تقدم به المتضرر مباشرة إلى النيابة العامة ،كما يمكن أن يأخذ شكل طلب إدا قدم إلى سلطات البلد الذي ارتكبت فيه الجريمة ،لدلك يجب تقديم الطلب إلى الوزير الأول أو وزير الشؤون الخارجية لإحالتها على النيابة العامة و هي صاحبة الاختصاص.
ومن أبرز الحالات التي يظهر فيها هذا القيد، هوما نص عليه قانون الصحافة في الفصل 71 في فقرته الخامسة على أنه :”في حالة المس بالكرامة أو السب الموجهين إلى رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية للبلدان الأجنبية، والممثلين الدبلوماسيين والقنصليين الأجانب المعتمدين بصفة رسمية لدى المغرب… لا تتم المتابعة إلا بطلب ممن وجهت إليه الإهانة أو الشتم تلقائيا وإما استنادا إلى طلبه الموجه إلى طلبه الموجه إلى الوزير الأول أو وزير الخارجية”.

الفقرة الثانية: الأمر والإذن
هناك حالات اشترط فيها القانون أن يصدر أمر بالمتابعة من جهة معينة لكي يصبح للنيابة العامة حق تحريك المتابعة، ومن أهم الحالات التي يظهر فيها هذا الشرط هو ضرورة إعطاء الأمر من طرف وزير العدل- وهو أمر كتابي-للنيابة العامة لإمكانية ممارسة الدعوى العمومية، ويعتبر هذا الشرط مانعا من الموانع المؤقتة التي يمنع فيها على النيابة العامة ممارسة الدعوى العمومية خارج توصلها بالأمر المذكور.
ويكمن الأساس الذي ينبني عليه هذا الامر بالمتابعة في التردد أو خوف قضاة النيابة العامة من متابعة موظفين سامين، وخوفا منهم من الانتقام ورد الثأر نظرا للعلاقات والسلطات التي يتمتع بها هؤلاء الموظفون.
ولكن إضافة إلى ما سبق فإن جرائم الرشوة واختلاس المال العام يمكن أن يرتكب من قبل صغار الموظفين في هرم الإدارة، ولكن يمكن إرجاع سبب منع النيابة العامة من المتابعة بناءا على أمر صريح لوزير العدل إلى إعطاء الحق للدولة لكي لا تتابع النيابة العامة هؤلاء الموظفين رغبة منها –الدولة- في عدم تشويه صورتها أمام الرأي العام.
-يعتبر الإذن إلى جانب كل من الشكاية والطلب والأمر قيدا لحرية النيابة العامة في إثارة الدعوى العمومية، لذلك فالمقارنة بين الشكاية أو الطلب مع الإذن، كون الأولى-الشكاية والطلب-مقررة لفائدة المطالب بالحق المدني والضحية على وجه الخصوص (م 4 من ق.م.ج)، فإنه خلافا لذلك، لا بد من قرار الإذن كشرط أساسي لإمكانية النيابة العامة من المتابعة، لفائدة المتهم وذلك لاعتبار قانونية كالحصانة البرلمانية.

وقد كان هدف المشرع من تقريره لهدا الشرط هو حماية المتهم اعتبارا لكونه ينتمي للهيئة التشريعية والتي يقتضي القانون حماية أعضائها من كل الاتهامات والمتابعات التي يمكن اللجوء إليها بسبب الحسابات السياسية، حيث كرس الدستور المغربي هذا المبدأ في الفصل 37 الذي ينص على أنه :”لا يمكن في أثناء دورات المجلس متابعة أي عضو من أعضائه ولا إلقاء القبض عليه من أجل جناية أو جنحة… إلا بإذن من المجلس الذي ينتمي إليه، ما لم يكن هذا العضو في حالة تلبس بالجريمة”.

إن اشتراط هذا الإذن كمانع مؤقت لممارسة الدعوى العمومية،يهدف الى حماية النائب البرلماني وتوفير كافة الضمانات الضرورية، من أجل أدائه لمهامه التشريعية والبرلمانية دون مضايقة أو تهديد له.
إضافة إلى كل ما سبق فقد تقررت عدة قيود مؤقتة إلى جانب كل القيود التي تمت دراستها، ومن بينها: ضرورة إشعار جهة إدارية، وفي هذا تنص المادة 3 في فقرتها الرابعة من (ق.م.ج) على أنه “إذا أقيمت الدعوى العمومية في حق قاض أو موظف عمومي أو عون… فتبلغ إقامتها إلى الوكيل القضائي للمملكة”، وعليه يتوجب على النيابة العامة قبل متابعة متهم ينتمي إلى إحدى أسلاك الوظيفة العمومية إشعار العون القضائي للمملكة.
وهناك قيد أخر يتمثل في ضرورة إنذار المتهم من طرف النيابة العامة، وذلك قبل إثارة الدعوى العمومية، كما هو الشأن بالنسبة لتوجيه إنذار للمتهم المنسوب إليه جريمة إهمال الأسرة وعدم أدائه النفقة، وهو ما نص عليه الفصل 481 في فقرتها الثالثة من (ق.ح).

تجد القيود المانعة للنيابة العامة من إقامة الدعوى العمومية وممارستها بصورة دائمة مبررها في كون المشرع المغربي حاول الحد من إمكانية إثارة هذه الدعوى بصفة تلقائية من طرف جهاز النيابة العامة، وذلك بنصه على قيود تغل يد هذا الجهاز عن المتابعة بكيفية دائمة، بغض النظر عن توفر الركن القانوني للجريمة من عدمه، ما دامت هذه الموانع لا تمنح للنيابة العامة حق المتابعة.

وترجع هذه الموانع الدائمة إما لتمتع أشخاص معنيين بحصانة خولها إياهم القانون (فقرة أولى)، أو لسحب الاختصاص من النيابة العامة وإسنادها لجهة أخرى الدعوى (فقرة ثانية).
يقضي الفصل 10 من القانون الجنائي بخضوع كل من الوطنيين والأجانب وعديمي الجنسية المتواجدين فوق إقليم المملكة لمقتضيات القانون الجنائي، ولكن مع مراعاة الاستثناءات المقررة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي.
ويراد بالاستثناءات الواردة في هذا الفصل الحصانة القضائية التي تشكل خروجا عن مبدأ المساواة أمام القانون، حيث أن يد القضاء لا تطال الشخص المتمتع بها باعتبارها نوعا من الحماية أوجدها المشرع المغربي لتجنيب فئات معينة من الأشخاص أو المؤسسات من الخضوع للإجراءات القضائية.
هذه الحصانة القضائية قد تضييق وقد تتسع تبعا للنص الذي يمنحها والغاية التي قررت من أجلها، فبالنسبة لشخص الملك وطبقا لمقتضيات الفصل 23 من الدستور (1996) “شخص الملك مقدس، لا تنتهك حرمته”. ويجسد المبدأ العرفي القائل بأن “الملك لا يفعل إلا خيرا ولا يخطئ” اللامسؤولية المطلقة للملك، فهو غير مسؤول مدنيا وجنائيا أمام المحاكم ويتمتع بحصانة لا حد لها.
أما بالنسبة لأعضاء البرلمان، فتشكل الحصانة إجراء يحمي النائب أو المستشار البرلماني من الملاحقات التعسفية ولممارستهم لمهامهم دون حرج أو تمديد، وقد تناولت كل الدساتير المغربية آلية الحصانة البرلمانية وجعلت منها موضوعا قارا في الهيكل الدستوري بدءا من مشروع دستور 1908.

وتجد الحصانة البرلمانية سندها القانوني في الفصل 39 من الدستور، وهي نوعان :
حصانة موضوعية وحصانة إجرائية، فالحصانة الموضوعية تعتبر حصانة لا مسؤولية يتوفر عليها البرلماني بمناسبة إبدائه لآرائه أو قيامه بالتصويت، سواء أثناء جلسات البرلمان العادية، أو خلال جلسات الأسئلة الشفوية أو في سؤال كتابي موجه للحكومة… وسواء تم داخل بناية البرلمان أو خارجها، شريطة عدم المجادلة في النظام الملكي أو الدين الإسلامي، أو الإخلال بالاحترام الواجب للملك طبقا لمقتضيات الفصل 39 من الدستور فقرته الأولى.
أما بالنسبة للحصانة الإجرائية أو الحرمة البرلمانية، فتعتبر بمثابة مانع مؤقت يحول دون تطبيق الإجراءات الجزائية في حق أعضاء البرلمان ما لم يأذن البرلمان أو مكتبه بذلك ما لم تتوفر حالة التلبس بالجناية أو الجنحة.
وتجدر الإشارة إلى أن الحصانة التي يتمتع بها أعضاء البرلمان، لا يمكن التذرع بها أمام القضاء المدني سواء بدعوى أصلية أو تابعة، إذ يمكن مقاضاتهم دون حاجة لإذن من المجلس البرلماني مع مراعاة الفقرة الأولى من الفصل 39 من الدستور، كما لا تحول الحرمة البرلمانية كذلك دون المتابعات التأديبية أو المقاضاة أمام المحاكم الإدارية.
واعتبارا لدستورية الحصانة البرلمانية، فلا يجوز لنائب أن يتنازل عنها وكل إجراء يتخذ ضده باطل، وذلك لتعلق الحصانة بالنظام العام.
وأخيرا بالنسبة لممثلي الدول الأجنبية، فعلى الرغم من عدم وجود نص صريح في القانون الداخلي المغربي يمنح الحصانة للأعوان الدبلوماسيين ويقيهم من المتابعة، إلا أن الأعراف الدولية أصبحت تلزم الدول باحترام البعثات الدبلوماسية الأجنبية الرسمية، وتبعا لذلك لا يمكن لسلطات المتابعة بالمغرب ملاحقة هؤلاء إلا في حالة ارتكاب جريمة خطيرة، حيث تخبر النيابة العامة وزير العدل وهذا الأخير يتصل بوزير الخارجية الذي يتصل بوزير خارجية الدولة التي يمثلها هذا الدبلوماسي والتي يرجع لها حق محاكمته.

تغل يد النيابة العامة عن إثارة المتابعة في بعض الحالات التي أسند فيها المشرع هذا الاختصاص لجهات غير جهاز النيابة العامة، ويتعلق الأمر بمرتكبي أصناف من الجرائم منها:
-الجنح والجنايات التي يرتكبها أحد أعضاء الحكومة أثناء ممارسته لمهامه، ويثار إشكال بهذا الخصوص، من هي الجهة المختصة بمحاكمتهم، فهل يتم تطبيق مقتضيات الفصل 88 من الدستور والذي ينص على مساءلة أعضاء الحكومة جنائيا عما يرتكبونه من جنح وجنايات أثناء مزاولتهم لمهامهم أمام المحكمة العليا للعدل؟ أم يتم تطبيق مقتضيات المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية والتي تسند الاختصاص للغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى؟
-الجنح والجنايات المرتكبة من طرف مستشار جلالة الملك أو كاتب دولة أو نائب كاتب دولة أو قاض بالمجلس الأعلى أو بالمجلس الأعلى للحسابات أو عضو في المجلس الدستوري، أو والي أو عامل أو رئيس أول لمحكمة استئناف عادية أو متخصصة أو وكيل عام للملك بها (المادة 265 من ق.م.ج).
-الجنح والجنايات المرتكبة من طرف قاض بمحكمة استئناف أو رئيس محكمة ابتدائية عادية أو متخصصة أو وكيل الملك بها أو قاض لمجلس جهوي للحسابات(المادة 266 من ق.م.ج)
-الجنح والجنايات المرتكبة من قبل قاض بمحكمة ابتدائية أو متخصصة (المادة 267 من ق.م.ج)
-الجنح والجنايات المرتكبة من طرف الباشا أو الخليفة أو العامل أو رئيس دائرة أو قائد أو ضابط للشرطة القضائية أثناء مزاولتهم لوظيفتهم (المادة 268 من ق.م.ح).

فهذه المواد، منها من يسند للغرفة الجنائية بالمجلس الأعلى حق ممارسة الدعوى العمومية ومنها من يرجع الاختصاص للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، مما تشكل معه تقييد حرية النيابة العامة من المتابعة.
وما تجدر الإشارة إليه أنه يمكن أن يوجد قانون خاص بقواعد خاصة يعطي حق الملاحقة لغير النيابة العامة، كما هو الشأن في ملاحقة ضباط الجيش (الظهير الشريف رقم 270-56-1 بتاريخ 10 نونبر 1956.

تولى قانون المسطرة الجنائية تحديد أسباب سقوط الدعوى العمومية وذلك على سبيل الحصر في المادة الرابعة والتي تنص على أن “تسقط الدعوى العمومية، بموت الشخص المتابع، وبالتقادم وبالعفو الشامل وبنسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل، وبصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به، وتسقط بالصلح عندما ينص القانون صراحة على ذلك. تسقط أيضا بتنازل المشتكي عن شكايته، إ ذا كانت الشكاية شرطا ضروريا للمتابعة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”.
ويتبين من هذا النص أنه لا يمكن للأطراف الاتفاق على أسباب أخرى لسقوط الدعوى العمومية لأن هذه الأخيرة جاءت واردة على سبيل الحصر لا على سبيل المثال.
ويمكن اعتبار سقوط الدعوة العمومية بمثابة وفاة هذه الأخيرة، بحيث يستحيل قيام النيابة العامة أو أي جهة أخرى بتحريك الدعوى العمومية أو ممارستها ويبنى على هذا الأمر عدم قبولها ابتداء أو عدم جواز استعمالها أو الاستمرار ذلك في مراحلها التالية على تحقق أسباب انقضاء الدعوى.

وأسباب سقوط الدعوى العمومية تتمثل في أسباب عامة (المطلب أول) وأخرى خاصة (مطلب ثاني).
بالاعتماد على المادة الرابعة من ق.م.ج، يمكن استنتاج الأسباب العامة في تلك التي تتعلق بالقانون، أي تلك الأسباب التي يمكن لأي دعوى وأي متابع أن يستفيد منها، وتتجلى في إلغاء القانون الجنائي وصدور حكم نهائي، (فقرة أولى) التقادم والعفو الشامل(فقرة ثانية).
قد يعمد المشرع إلى إلغاء نص جنائي أو نسخ مقتضيات قانونية تجرم فعل من الأفعال لاعتبارات سياسية اقتصادية أو اجتماعية، وأثر هذا الإلغاء يتلخص في محو الطابع الإجرامي عن الفعل، وبالتالي هدم الركن المادي للجريمة وانتقاله من دائرة الأفعال المحظورة إلى دائرة الأفعال المباحة.

وقد كرس المشرع الجنائي المغربي هذا المبدأ في الفصل 5 من ق.ج وتبعا لهدا
الفصل فإنه إذا صدر القانون الجديد الذي يبيح الفعل الجرمي المرتكب، فإنه يتعين على النيابة العامة وضع حد فورا للمتابعة،فادا كانت النيابة العامة لازالت في مرحلة البحت التمهيدي أو كان قاضي التحقيق لا زال في إطار مسطرة التحقيق الإعدادي، فيتعين وضع حد لتحريك الدعوى العمومية. كما يتعين وضع حد لسير جلسات الحكم إذا كانت القضية محالة على المحكمة الابتدائية أو محكمة الاستئناف، بل إلى حدود المجلس الأعلى، ويتعين على قضاة الأحكام الاكتفاء بالتصريح بسقوط الدعوى العمومية بسبب إلغاء النص الجنائي وذلك تطبيقا لمقتضيات المادة 4 من ق.م.ج وتجدر الإشارة إلى أن الفصل5 من ق.ج دهب إلى أبعد من اكتفاء القضاء الجنائي بالتصريح بسقوط الدعوى العمومية، ذلك أنه حتى ولو صدر حكم جنائي بالإدانة اكتسب قوة الشيء المقضي به أم لا، فإنه يتعين وضع حد لتنفيذ العقوبات الجنائية المحكوم بها، سواء كانت هذه العقوبات أصلية أو إضافية (الفصل 96 من ق.ج)،على انه لا يصح التحايل على القانون باللجوء إلى تقيد نفس الأفعال القديمة التي أصبحت مباحة بفعل الإلغاء تكيفا جديدا من أجل متابعة المتهم في جديد وعرفها على القضاء مرة ثانية.

ويندرج أيضا ضمن الأسباب العامة لسقوط الدعوى العمومية بت القضاء وبصفة نهائية في القضية المرفوعة عليه وهو ما أشارت إليه المادة 4 من ق.م.ج حيث نصت على أنه :”…بصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به”
ويترتب على صدور حكم بات منع القضاء من إعادة البت في نفس القضية مرة أخرى تطبيقا لمبدأ سبقية البت، وهو المبدأ الذي جاءت به المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية في فقرتها الثانية.
إلا أنه إذا كان الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به يعتبر سببا من أسباب سقوط الدعوى العمومية، فإنه لإمكانية اعتباره كذلك يجب أن يستجيب لعدة شروط والمتمثلة في أن يكون الحكم الفاصل في الدعوى العمومية صادرا عن سلطة قضائية يدخل ضمن اختصاصها، وأن يكون الحكم نهائيا وغير قابل للطعن بأية وسيلة من وسائل الطعن، كما يجب أن يكون الحكم القضائي الجنائي قد تولى الفصل في الدعوى العمومية نهائيا، ويجب أن يعكس الحكم القضائي نفس خصوم الدعوى العمومية أي نفس الدعوى العمومية كطرف إيجابي ونفس المتهم كطرف سلبي مدعى عليه بنفس الصفة في الدعوى، وأن يتعلق الأمر بنفس الفعل الإجرامي الذي توبع المتهم من أجله.

وبتوفر هذه الشروط التي يتحقق فيها شرط وحدة السبب وبالتالي وحدة سبب الدعوى العمومية، فإنه يتعين على هيأة الحكم التصريح بسقوط الدعوى العمومية، ويمنع عليها إعادة مناقشة جوهر ووقائع القضية.
وتجدر الإشارة في ختام هذه الفقرة إلى أن سقوط الدعوى العمومية، لا يعني تقرير سقوط الدعوى المدنية ولذلك فإن الحكم الجنائي الحائز لقوة الشيء المقضى به لا يمنع المطالب بالحق المدني من اللجوء إلى القضاء المدني للمطالبة بالتعويض عن الأضرار اللاحقة به جراء الفعل الإجرامي.
يندرج كل من العفو الشامل والتقادم ضمن الأسباب العامة لسقوط الدعوى العمومية فبالنسبة للتقادم المسقط للدعوى العمومية هو تلك الواقعة المادية التي تنشأ بمرور وقت محدد بدقة من طرف المشرع ابتداء من تاريخ اقتراف الجريمة دون اتخاذ أي إجراء ضد مرتكبها (فاعلين أصليين وفاعل معنوي ومساهمين ومشاركين) بقصد اقتضاء حق الدولة في العقاب، مما يعني امتناع إقامة الدعوى العمومية بعد انصرام هذه المدة، فيصبح الفعل المجرم بتأثير واقعة التقادم هذه وكأن المشرع نزع عنه صفته الإجرامية فأصبح عدم العقاب عليها والفعل المباح سواء.
فبانصرام مدة التقادم المنصوص عليها تسقط الدعوى العمومية كنتيجة لذلك التقادم تطبيقا للمادة 4 في ق.م.
وبالاعتماد على للمادة 5 من ق.م.ج.فإن الدعوى العمومية تتقادم بمرور عشرين سنة بالنسبة للجنايات وخمس سنوات بالنسبة للجنح وسنتان بالنسبة للمخالفات ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف هذه الآجال.
ومن نفس المادة يستنتج أن آجال التقادم المقررة فيها تشكل القاعدة العامة أو المدة النموذجية في تقادم الدعوى العمومية، مما يعني وجود استثناءات على هذه القاعدة كما هو الحال بالنسبة لقانون العدل العسكري الذي يطيل من مدة التقادم في جريمتي العصيان والفرار من الجندية لتصبح خمسين سنة، وقانون الصيد البحري الذي يكتفي بسنة واحدة لتقادم الجرائم الخاصة بهذا المجال وكذلك جريمة القذف بواسطة الصحافة التي تتقادم بستة أشهر.
ويعتبر تاريخ ارتكاب الجريمة هو منطلق احتساب أجل التقادم، ومعنى ذلك أنه إذا انصرمت المدة التي يحددها المشرع دون أن تبادر النيابة العامة أو الجهة المخول إليها حق إقامة الدعوى العمومية إلى ممارسة هذه الأخيرة فإن الدعوى تعتبر قد سقطت بمضي المدة وتمنع بعد ذلك ممارستها ويتعين على القضاء وفي كل الأحوال التصريح بسقوطها.

إن تحقق شروط التقادم يترتب عنه كما سلف سقوط الدعوى العمومية، وبالتالي منع النيابة العامة بصفة نهائية وحرمانها في آية إمكانية لتحريك الدعوى العمومية وممارستها،وذلك من أجل تطبيق العقوبات الجنائية على المتهم.

ويمكن إجمال شروط التقادم في انصرام مدة التقادم عدم انقطاع مدة التقادم وعدم توقف سريان احتساب أجله.
وبالرجوع إلى المادة 4 من ق.م.ج فإن العفو الشامل يعتبر كذلك أحد أسباب سقوط الدعوى العمومية، وبناءا على ذلك يتم محو الطابع الإجرامي عن الفعل، وهو شبيه من هذه الناحية بإلغاء القانون الجنائي أو نسخ مقتضياته مادام يترتب عنه هدم الركن المادي للجريمة، وبذلك يصبح الفعل الإجرامي مباحا، بمعنى أنه يستحيل ويمنع قانونا على القضاء المعاقبة عنه ومتابعة مرتكبه. كما يمنع في هذه الحالة على النيابة العامة إذا كانت لا تزال مختصة بالقضية الاستمرار في المتابعة بل يجب عليها اتخاذ قرار حفظ القضية بصفة نهائية وإذا كانت قد أحالته على هيأة الحكم فيتعين على قضاة الموضوع وقف المناقشات وإصدار حكم يقضي بسقوط الدعوى العمومية.

وتجدر الإشارة إلى أن سقوط الدعوى العمومية لا يعني بالأساس سقوط الدعوى المدنية فتقادم الدعوى العمومية لا يعني تقادم الدعوى المدنية التي تتقادم طبقا للقواعد المعمول بها في القانون المدني، كما أن صدور العفو الشامل لا يلغي حق الضحية في المطالبة بالتعويض فلا يعقل أن تمارس السلطة التشريعية حقها بالعفو الشامل باسم المجتمع ليتم الإضرار بالمصالح المادية للضحية أو المطالب بالحق المدني، فالمبدأ أنه لا يمكن أن يترتب عن العفو المساس بحقوق خاصة، وقد كرس المشرع المغربي هذا المبدأ، حيث نص على أنه لا يمكن أن يترتب عن العفو… ويلحق في أي حال من الأحوال ضررا بحقوق الغير” في المادة 7 من ظهير 08 أكتوبر 1977.

إضافة إلى الأسباب العامة المسقطة للدعوى العمومية، والتي تشكل وفاة هذه الأخيرة، هناك أسباب أخرى تؤدي إلى نفس النتيجة ويتعلق الأمر بوفاة المتهم والعفو الخاص (فقرة أولى)، سحب الشكاية والصلح (فقرة ثانية). وقد تولت المادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية التنصيص عليها إلى جانب الأسباب السالفة الذكر.
فإذا كانت المادة أعلاه تشير إلى العفو الشامل، فإنه يتعين علينا التذكير بأن العفو الخاص يترتب عنه بدوره سقوط الدعوى العمومية وذلك بالاعتماد على ظهير 8-10-1977، المعدل لظهير 6-2-1958.

بالاعتماد على مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية، تعتبر وفاة المتهم سببا مسقطا للدعوى العمومية، ما لم تكن قد انقضت لسبب آخر مثل مضي مدة التقادم، العفو من الجريمة… وواضح أن وفاة المتهم لا تسمح بكل وضوح في غيابه بإقامة محاكمة عادلة، يدافع فيها عن نفسه، ويستعمل مختلف وسائل الإثبات التي حددها القانون ويقدم مختلف الضمانات التي يتمتع بها.

وطبقا لمقتضيات المادة 4 من ق.م.ج، إن المشرع المغربي لم يحدد أية مرحلة يمكن اعتبار الوفاة فيها سببا يترتب عنه سقوط الدعوى العمومية. في هذا الإطار يجب التمييز بين حالة وفاة المتهم قبل إقامة الدعوى العمومية ووفاته بعدها.
فإذا وقعت الوفاة قبل أن تلجأ النيابة العامة إلى اتخاذ إجراء ما لتحريك الدعوى العمومية، ففي هذه الحالة يتم حفظ الملف بصورة نهائية وبالتالي يصبح متعذرا على النيابة العامة اللجوء إلى تحريكها وذلك لسقوطها، ولكن إذا فرض وأن حركت الدعوى العمومية، وكانت النيابة تجهل بواقعة الوفاة، فإن على هذا الجهاز اتخاذ قرار نهائي يقضي بحفظ الملف، حتى وإن قامت بإحالته على جلسة الأحكام، لان القانون يمنع عليها مناقشة الوقائع والاكتفاء بالتصريح بسقوط الدعوى، بل إنه حتى و إن تم صدور حكم أو قرار يدين المتهم المتوفى أو يبرؤه، فإن هذا الحكم يكون منعدما قانونا ولا يعتد به.

أما إذا وقعت الوفاة بعد تحريك الدعوى العمومية أمام المحكمة المختصة، وجب على هذه الأخيرة إيقاف المناقشات في الدعوى الجنائية وان تصرح بانقضاء الدعوى دون التعرض للموضوع، وسواء وقعت الوفاة قبل النطق بالحكم أو بعده.
أما إذا حدثت الوفاة بعد صدور حكم ابتدائي في الدعوى وقبل الطعن فيه، فلا تستطيع النيابة العامة ولا الورثة سلوك طرق الطعن القانونية، وهذا ما أكده قرار المجلس سنة 1968 ” إذا ثبت أن طالب النقض المحكوم عليه من أجل جنحة قد توفي بعد تقديم طلبه بالنقض، فعلى المجلس الأعلى أن يصرح بسقوط الدعوى العمومية” كما أكده القضاء المصري سنة 1993 ” وفاة الطاعن قبل الفصل في طعنه بالنقض يوجب الحكم بانقضاء الدعوى الجنائية”.
قد يثار الإشكال في حالة تصريح المحكمة بانقضاء الدعوى العمومية لوفاة المتهم ثم يظهر بعد ذلك أنه ما زال على قيد، ففي هذه الحالة أجاز المشرع للنيابة العامة بإقامة الدعوى العمومية مجددا ولا يسوغ للمتهم التمسك بمقتضيات المادة 369 من ق.م.ج.
ويندرج ضمن الأسباب الخاصة لسقوط الدعوى العمومية أيضا العفو الخاص، فخلافا للعفو الشامل كان العفو الخاص في مرحلة من الزمان و بالضبط قبل صدور ظهير 08/10/1977، لا يمكن تصوره سببا في أسباب سقوط الدعوى العمومية وخلال جميع مراحلها على اعتبار أن العفو الخاص كان يصدر فقط ويمارس كصلاحية عند إدانة المتهم بحكم جنائي غالبا ما يكون نهائي، ويترتب على العفو الخاص بناءا عليه إعفاء المتهم من العقوبة، ولذلك كان ينعت ” بالعفو عن العقوبة”.
وإذا كان العفو الخاص يتعلق تاريخيا بالعقوبة فإن الوضع قد تغير منذ تعديل ومراجعة ظهير العفو المؤرخ بـ 06 فبراير 1958 وذلك بموجب ظهير 08 أكتوبر 1977، حيث أصبح ممكنا للملك وهو بصدد ممارسته صلاحيته المتعلقة بالحق في العفو أن يمارس هذا الأخير مباشرة بعد ارتكاب الجريمة، أثناء مرحلة تحريك الدعوى العمومية من طرف النيابة العامة أو أثناء التحقيق الإعدادي أو أثناء جلسات الحكم قبل إصدار الحكم، استعمل طرف الطعن أم لا وسواء كان الأمر يتعلق بحكم نهائي أم لا وهو ما ذهب إليه المجلس الأعلى في أحد قراراته حيث قضى بأن العفو الصادر قبل الشروع في المتابعة أو خلال إجراء يحول دون ممارسة الدعوى العمومية أو يوقف سيرها حسب الحالة في جميع مراحل المسطرة ولو أمام المجلس الأعلى.
وينص الفصل الثالث من الظهير أعلاه على ” أن العفو لا يشمل إلا الجريمة التي صدر بشأنها ولا يحول دون متابعة النظر في الجرائم أو تنفيذ العقوبات الآخر، في حالة تعدد الجرائم…” كما أنه يخص من صدر باسمه فقط دون باقي المشاركين والمساهمين في الجريمة.

الفقرة الثانية: الصلح والتنازل بسحب الشكاية
لا يناقش أحد في أن من أهم غايات العدالة الجنائية المعاصرة جبر الضرر اللاحق بضحايا الجريمة، ولذلك فإن من أهم مظاهر تحقيق الإنصاف الحصول على رضى الضحايا واقتناعهم بالإجراء الزجري، فكلما لم يحقق الإجراء هذا الهدف كلما كان عرضة للانتقاد والتذمر، ولذلك فسح المشرع المغربي المجال لإرادة المتنازعين لتحديد مصير نزاعهم ،وتفعيلا منه لهذا، أعطى القانون لوكيل الملك دورا في التسوية وإجراء السدد بين الخصوم بالنسبة لبعض الجرائم.
فمن حيث المبدأ لا يترتب عن الصلح بين الجاني والمجني عليه سقوط الدعوى العمومية، اعتبارا لكونها حقا للمجتمع تنوب عنه النيابة العامة في ممارستها والتي لا يحق لها قانونا إبرام الصلح مع الجاني والتنازل عن ممارسة الدعوى العمومية، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، وهو ما نصت عليه المادة 13 من ق. م.ج. ” إذ يمكن للطرف المتضرر أن يتخلى عن دعواه، ويصالح بشأنها أو يتنازل عنها دون أن يترتب عن ذلك انقطاع سير الدعوى العمومية أو توقفها”.

ففي الحالات التي يقرر فيها القانون سقوط الدعوى العمومية كنتيجة للصلح المبرم بين الأطراف، فإن تنازل المجني عليه يترتب عنه تصريح المحكمة بسقوط الدعوى العمومية تطبيقا لما قررته المادة الرابعة من ق.م.ج، يمكن للصلح الواقع بين الأطراف طبقا للشروط التي ينص عليها القانون، أن يمنع النيابة العامة من تحريك المتابعة كما هو مقرر ( في المادة 41 ق م.ج) وبالاعتماد على المادة 372 ق م.ج فإن الصلح يوقف سريان الدعوى حتى وإن كانت قد أحيلت على هيئة الحكم.

وتندرج أيضا ضمن الحالات التي أجاز فيها المشرع المغربي قانونيا اللجوء إلى الصلح:
المادة 74 من ظهير 17-10-1917 المتعلق بالمحافظة على الثروة الغابوية والمواد من 273 إلى 277 من مدونة الجمارك (9-10-1977)، إضافة إلى نصوص أخرى تسمح باللجوء إلى تقنية المصالحة كالفصل 53 من قانون الصيد البحري، المؤرخ في 23-11-1973، والفصل 33 من ظهير 11-04-1926 المنظم لصيد الأسماك في المياه الداخلية.
وكما هو معلوم فإن للصلح مزايا عدة ومتعددة يمتاز بها عن مسطرة التقاضي العادية التي تتسم بالبطء وهدر الطاقات والجهود البشرية والمصاريف، إضافة إلى ما يولده من تدهور العلاقات الاجتماعية.
وتجدر الإشارة إلى أن الإحصائيات الأخيرة لسنة 2007 أثبتت أنه تم تسجيل 1851 صلحا من بين 259266 شخصا قدموا للنيابة العامة، وهو ما يوضح ندرة اللجوء إلى مسطرة الصلح.
مبدئيا لا يمكن اعتبار الشكاية قانونيا شرطا لتحريك الدعوى العمومية، وعليه إذا تم سحب هذه الشكاية من قبل الضحية لا يترتب سقوط الدعوى العمومية. إلا أنه لاعتبارات متعددة قرر المشرع إخضاع هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، لاستثناء مفاده سقوط الدعوى العمومية، بالتنازل عن الشكاية متى كانت هذه الأخيرة شرطا ضروريا للمتابعة وهو ما نصت عليه المادة 4 من ق.م.ج في فقرتها الثالثة.
ومن بين الجرائم التي تتوقف المتابعة فيها على تقديم شكاية، جريمة الخيانة الزوجية، إهمال الأسرة، السرقة بين الأقارب… وغيرها من الحالات المنصوص عليها في القانون المغربي.
وعليه، فإن سحب الشكاية يضع حدا لآثار الحكم بالمؤاخذة الصادرة ضد الزوج أو الزوجة، وفق ما جاء في نص الفصل (492 من ق.ج).

وقد قضى حكم المحكمة الابتدائية بمكناس بسقوط الدعوى العمومية في جريمة الخيانة التي تقدمت بها الزوجة ضد زوجها، ولكنها تنازلت عنها خلال مرحلة سير الدعوى، لذلك فإن سحب الزوجة لشكايتها تسقط الدعوى.

وقد قضت كذلك المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء الفداء درب السلطان على أن الدعوى العمومية تسقط في حالة سحب الشكاية إذا كانت شرطا لازما للمتابعة، وبالتالي فإن سحب الشخص المهمل لشكايته يسقط دعوى إهمال الأسرة.
أما فيما يخص تعدد المتهمون، كالمساهمين والمشاركين يترتب على سحب الشكاية والتنازل عن المتابعة من قبل المتضرر، استفادة المتهم الذي قرر المشرع صراحة لفائدته الشكاية كشرط للمتابعة دون باقي المتهمين، وقد أكد المشرع على ذلك في الفصل 492 من ق.ج، حينما نص على أنه:” لا يستفيد مشارك الزوجة ولا مشاركة الزوج من هذا التنازل”.

إن موضوع الدعوى العمومية يحتل بجلاء مكانة رئيسية في المسطرة الجنائية خاصة والسياسية الجنائية التي تنهجها الدولة عامة، في إطار إستراتيجية تهدف إلى مكافحة الجريمة، والإبقاء عليها في المعدلات العامة المقبولة وطنيا ودوليا.
فلا يهم فقط أن يتوفر مجتمع ما على قانون مسطري ينظم الدعوى العمومية بل لا بد وأن تكون لهذا الأخير مميزات معينة وصفات كفيلة بأن تجعل من الدعوى العمومية أداة فعالة وكفيلة بتحقيق الأهداف الإنسانية والقانونية والقضائية وعلى وجه الخصوص تحقيق العدل والإنصاف، ولا يمكن تحقيق هذه الصفات والرقي بالدعوى العمومية ما لم يتم تكريس نصوص مسطريه كفيلة بضمان حقوق الأشخاص، يطورها ويصوغ مبادئها الفكر العلمي الجنائي وذلك في أفق، أنسنة النظام الجنائي ككل.
فعلى اعتبار أن أي نظام قانوني وقضائي يهدف العدل والإنصاف فإن المسطرة الجنائية بكل جزئياتها هي السبيل لتحقيق الهدف المنشود، فهل المسطرة الجنائية المغربية استطاعت أن تحقق الضمانات التي تحصن المتهم ضد أي تجاوز محتمل طوال الإجراءات المتخذة في حقه، انطلاقا من البحث التمهيدي بكل مراحله ووصولا إلى المحاكمة العادلة وكيفيات تنفيذ العقوبة في إطار يضمن ويستجيب لحقوق الإنسان بالمغرب ككل؟