بحث ودراسة قانونية مميزة عن براءة الذمة

عنوان البحث : قاعدة الأصل براءة الذمة
الباحثة : المحامية عبير مازن العمايرة

المقدمة

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد،

فإن قاعدة الأصل براءة الذمة قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الانسان عليها ، فالإنسان بفطرته يدرك أن تحقيق العدالة وصون الحرية الشخصية للأفراد لا يتأتيان الا باستصحاب البراءة التي تقررت للفرد منذ ميلاده وخلال كافة مراحل عمره ، فافتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده ، بل يمتد الى مراحل حياته حتى نهايتها .
فهذه القاعدة أصل شرعي عظيم يتمثل فيها مظهر من مظاهر اليسر والرأفة في الشريعة الاسلامية ، وهي تهدف الى رفع الحرج وحفظ الحقوق من الاعتداء عليها ، حيث أن فيها تقريرا للبراءة باعتبارها أصلا للحكم في الكثير من المسائل .
ولهذا جاء اختياري البحث في هذا الموضوع ، ذلك أن هذه القاعدة من امهات القواعد التي عليها مدار الأحكام الفقهية ، فهي تدخل في جميع أبواب الفقه والمسائل المخرّجة عليها من عبادات ، ومعاملات ، وأحوال شخصية ، وغيرها .
وحيث أن معظم كتب أصول الفقه اشارت الى هذه القاعدة تحت باب الاستصحاب ولم تتناولها بالتفصيل ، فقد رأيت في هذا البحث أن أجمع ما ورد في كتب أصول الفقه من شرح لهذه القاعدة بحيث تشتمل الدراسة على جميع جزئيات المواضيع ، ما أمكن ، مع بيان مدى تطبيق هذه القاعدة في القانون الوضعي مقارنة بالفقه الاسلامي ، وبناءا على ذلك اشتملت الدراسة على النقاط التالية :

أولا : تعريف مفردات القاعدة .
ثانيا : أصل القاعدة .
ثالثا : نطاق تطبيق القاعدة .
رابعا : تطبيق القاعدة في القانون .
الخاتمة .

أولا : تعريف مفردات القاعدة

الأصل – لغةَ (أصل ) الشىء : أساسه الذي يقوم عليه ، و- منشؤه الذي ينبت منه [1]. وأصل كل شيء هو ما يستنذ تحقيق ذلك الشيء اليه . وعرّف بأنه هو ما ينبني عليه غيره ولا ينبني هو على غيره [2].
أما في الاصطلاح : فالأصل هو الحالة العامة التي هي بمثابة قانون مرعي ابتداء بلا حاجة الى دليل خاص عليه ، بل يعتبر مسلما بنفسه [3].
البراءة – لغة – من برأ وهي تدل على عدة معان ، منها الخلق ، وتعني أيضا التباعد من الشيء ومزايلته . ومن ذلك براءة الذمة من الدين ، أي انقطاعه عن المدين وخلو الذمة منه [4].وتأتي أيضا بمعنى الإعذار والإنذار ، وفي التنزيل ((براءة من الله ورسوله ))[5].
أما في الاصطلاح :

الذمّة – لغةَ – المهد والأمان والكفالة . وفي الحديث ((المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ))[6] . ومنها قيل المعاهدين من الكفار ذمي لأنه أومن على ماله ودمه بالجزية ، ويسمى محل التزام الذمّة بها في قولهم ثبت في ذمّة كذا [7].
أما في الاصطلاح : فهي وصف يصير الشخص به أهلاَ للإيجاب له وعليه ، ومنهم من جعلها ذاتا فعرفها بأنها ” نفس لها عهد ، فإن الإنسان يولد وله ذمة صالحة للوجوب له وعليه عند جميع الفقهاء بخلاف سائر الحيوانات “. وعرّفها بعض المالكية بأنها : “أمر تقديري يفرضه الذهن وليس ذاتا ولا صفة لها ، أو أنها معنى في المكلف قابل للالزام والالتزام ” [8].
المعنى الإجمالي للقاعدة : أي الحكم ببراءة ذمة المكلف من التكاليف والواجبات والحقوق الشرعية الى أن يثبت ذلك بدليل ، لأن الناس يولدون وذممهم فارغة . والتحمل والالتزام صفة طارئة ، فيستصحب الأصل المتيقن به ، وهو فراغ الذمة الى أن يثبت خلاف ذلك . ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر )) . ولذلك لم يقبل في شغل الذمة شاهد واحد ، ما لم يعتضد بآخر ، أو يمين المدعي ، ولذا أيضا كان القول قول المدعى عليه ، لموافقته الأصل ، فمن ادعى على غيره شيئا لزمه الدليل لأنه يدعي خلاف الأصل ، ولا يطالب الطرف الآخر بالدليل لأنه متمسك بالأصل وهو أن ذمته بريئة فلا تشغل الا بينة شرعية ثابتة كالشهود والوثائق الدالة على صحة الدعوى ، ومن هنا كلف المدعي بالبينة دون المدعى عليه [9].ومن ذلك أيضا الحكم على براءة الذمة من التكاليف الشرعية حتى يدل الدليل على شغلها ، فالدليل الشرعي قد دل على ايجاب خمس صلوات ، فبقيت السادسة غير واجبة للعلم بعدم الدليل على وجوبها ، إذ أن نفيها ثابت بدليل العقل حيث لم يرد في الشرع ما يخالف البراءة من هذا الحكم العقلي ويوجب صلاة سادسة علينا . فنستصحب هذا الحكم الى الزمن الحاضر ، والعقل يدل على براءة الذمة من جميع الأشياء فمن ادعى اشتغالها فعليه الدليل . بينما لا يحتاج النفي ( أي عدم الفعل أو عدم الالتزام ) الى دليل ، لأنه الأصل المتفق عليه .[10]

ثانيا : أصل القاعدة

هذه القاعدة متفق عليها بين الفقهاء ، وقد استدل الفقهاء على اعتبارها بأدلة من القرآن والسنة والعقل :
أدلة القاعدة من القرآن الكريم :
1- قوله تعالى : (( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله )) ووجه الدلالة في هذه الآية : أن سبب نزولها أشار الى هذا المبدأ ، وهو لما نزل تحريم الربا ساورت الناس الخشية من الأموال التي اكتسبوها عن طريق الربا ، فنزلت الآية وبينت أن ما اكتسبوه من الربا قبل نزول التحريم فهو حلال على البراءة الأصلية ولا حرج عليهم فيه [11].
2- قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور رحيم )) في هذه الآية تقديم وتأخير ، ووجه الدلالة فيها : أن ما لم يذكر في القرآن ، فهو مما عفا الله عنه على البراءة الأصلية ، فما أحل الله فهو حلال ، وما حرّم فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو [12].
3- قوله تعالى : ((ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الا ما قد سلف )) وقوله تعالى : (( وأن تجمعوا بين الأختين الا ما قد سلف )) . فقوله تعالى ((إلا ما قد سلف )) في الآيتين استثناء منقطع . ومعناه أن ما مضى قبل التحريم فهو على البراءة الأصلية معفو عنه ولا حرج فيه ، وفي هذا كله دلالة واضحة على اعتبار البراءة الأصلية . [13]

أدلة القاعدة من السنة النبوية :

1- قول الرسول- صلى الله عليه وسلم – : (( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر )). فهذا الحديث يدل على أن من يدعي حقا على غيره فعليه أن يقيم الدليل على ما يدعيه ; ذلك لأن المدعي يخالف الأصل في ما يدعي ، وهو براءة ذمة المدعى عليه ، ومن يخالف الأصل فعليه البينة [14].
2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه )) أخرجه مسلم . فدل الحديث على أن ذمة المدعى عليه بريئة حيث لم يقبل شغلها مجرد شاهد واحد ما لم يعتضد بآخر أو يمين المدعي لأنه لولا الحكم ببراءة الذمة ، لادعى الناس على بعضهم حقوقا موهومة ، فالحكم ببراءة الذمة وعدم شغلها بالشك يقطع مثل تلك الدعاوى المجردة .
3- عن عبد الله بن زيد ، قال : سكي الى النبي – صلى الله عليه وسلم – : (( الرجل يخيّل إليه في صلاته أنه يخرج منه شيء ))، قال : (( لا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا )).أخرجه البخاري ، ومسلم ، فالأصل هو بقاء الوضوء ، ولا يصرف عنه الا بدليل .

أدلة القاعدة من العقل

1- إن الأخذ بهذه القاعدة يتفق مع مقاصد الشريعة الاسلامية والأساس الذي قامت عليه فهي تهدف الى حماية حقوق الناس من الاعتداء عليها ، وبتطبيق هذه القاعدة نسد الطريق أمام من يدعي أموال الناس ودمائهم فلا يقدم ادعاءه الّا بدليل لأن الأصل هو براءة ذمة المدعى عليه .
2- إن العقل يدل على نفي الأحكام وسقوط التكاليف عن العباد قبل ورود الشرع ، ، فإن لم يأتي دليل شرعي يدل على وجوب حكم من الأحكام ، فإن الحال يبقى على ما كان عليه من البراءة الأصلية .
3- ان كل من يتمسك بخلاف الظاهر ويريد اثبات أمر عارض فهو مدع ، وعليه البينة لأنه مثبت والمنكر متمسك بالأصل وليس عليه سوى اليمين ولا يكلف إقامة البينة على النفي [15].
ثالثا : نطاق تطبيق القاعدة
يتفرع عن هذه القاعدة العديد من الأمثلة والتطبيقات في مختلف نواحي الحياة في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجنيات نورد بعضا منها :

في باب العبادات

لو وجد انسان ماء قليلا في مغارة ، وجوّز نجاسته بولوغ كلب أو سبع ، أو خنزير فإنه يجب عليه التطهر به ، ويجوز له شربه تمسكا بحكم الأصل ، وهو طهوريته ، وما خلق عليه ، فلا يعدل عنه إلا بدليل يوجب نجاسته ، وانتقاله عن الحال الأولي ، وكذلك حكم الثوب والمكان والطعام ، مع تجويز نجاسة ذلك كله بالعوارض النجسة ، من أبوال الحيوان النجسة ، وورود النجاسات ، فالأصل فيها الطهر تطبيقا لقاعدة الأصل البراءة [16].
إن الدليل الشرعي قد دل على ايجاب خمس صلوات فبقيت السادسة غير واجبة للعلم بعدم الدليل على وجوبها فبقيت على العدم الأصلي ، كذلك الحج الى غير مكة أو في غير أشهر الحج ، فالأصل هو براءة الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق حتى يدل الدليل على شغلها [17].
ومنها : لو تسحر رجل ، وشك هل كان طلع الفجر وقت سحوره ، أو لم يطلع بنى على بقاء الليل وعدم طلوع الفجر ، لأنه الأصل ، ولو أكل ، وهو شاك في غروب الشمس ، أفطر وكان عليه القضاء ، تمسكا ببقاء النهار الذي هو الأصل .
ومنها ما ورد عن عبد الله بن زيد أنه قال : شُكي الى النبي – صلى الله عليه وسلم – ((الرجل يخيل إليه في صلاته أنه يخرج منه شيء )) . قال : (( لا ينصرف حتى يسمع صوتاَ ، أو يجد ريحا )) [18].لأن الأصل هو بقاء الطهارة ولا يثبت خلافه إلا بدليل .
ويعتبر تطبيقا للقاعدة أيضا الحكم بطهارة طين الطرقات وممر الدواب والمشي بالأمدسة التي يجلس بها في المراحيض …فهذه الغالب فيها النجاسة ، وكذا الحكم بطهارة النعال وما نسجه المسلم الذي لا يحترز عن النجاسة والصلاة بثوب من رمي بشرب الخمر او لا يصلي ، والحكم بطهارة الطعام الذي يصنعه الكفار مع مباشرتهم للخمر والميتة والخنزير وغيرها [19].
اذا صلى المصلي فرضه باجتهاد ، ولم يتبين له هل صلى في الوقت أو قبله فلا إعادة عليه ، لأن الأصل براءة ذمته .
ويستثنى من ذلك أن يكون الأصل هو انشغال الذمة ، وذلك كمن شك في صلاته هل صلى ثلاث ركعات أو أربعة ، فالحكم هو ثبوت ثلاث ركعات ، ويجب عليه أن يأتي بركعة رابعة ، لأن الأصل هو انشغال الذمة بالصلاة [20].

باب الأحوال الشخصية

اذا غاب انسان وطالت غيبته وخفيت حاله ، فلا يجوز لزوجته أن تتزوج ولا يجوز قسمة ماله ، لأن الأصل بقاء حياته ، حتى يقوم الدليل على وفاته أو يحكم القاضي بوفاته [21].
ومنها : لو بعث الزوج الى زوجته شيئا ثم اختلفا ، فقالت : أرسلته هدية ، وقال : أرسلته من المهر ، فالقول قول الزوج بيمينه في غير المهيأ للأكل ، لأن الهدية تبرع ، والمهر واجب في ذمته ، فالظاهر أنه يسعى في اسقاط الواجب عن ذمته .
وكما في مسألة العنين اذا ادّعى الوصول الى زوجته التي تزوجها بكراَ وأنكرت الوصول إليها ، فإن الأصل هو عدم الوصول لأنه من الأمور العارضة فالأصل عدمه ، الا إذا ثبت غير ذلك بدليل ، حيث قالت النساء أنها ثيّب يكون القول للزوج [22].
ومنها مسألة اختلاف الزوجين في مقدار المهر المسمى ، إذا كان مهر المثل شاهدا لقول الزوجة ، فإن الأصل وهو عدم الزيادة التي تدعيها المرأة شاهد للزوج ، فالقول قول الزوج ما لم يرد دليل على غير ذلك [23].

باب الجنايات

لو قال الجاني : هكذا أوضحت ، وقال المجني عليه بل أوضحت موضحتين وأنا رفعت الحاجز بينهما ، صُدِّق الجاني لأن الأصل براءة ذمته [24].
ومنها : إذا قطع الرجل عضوا باطشا من رجل ، واختلفا في سلامته وشلله ، فالأصل سلامة العضو . والأصل براءة ذمة الجاني مما زاد على صورة العضو من البطش الزائد على غرامة عينه ، دون بطشه ، فمن الناس من يجعل القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته ومنهم من يجعل القول قول المجني عليه لأن بقاء العضو على سلامته الأصلية وعدم شلله وتعطله هو الأصل ، كذلك الحال لو ضرب ملفوفا بكساء فقد بنصف ، ثم اختلف الضارب له وأولياء المضروب في حياته ، فقال الجاني ، كان ميتا ، وقال الأولياء : كان حيا فإن القول قول الجاني لأنه الأصل .
ومنها أيضا قبول قول القاتل غائب العقل مع يمينه ، بأنه كان حال قتله مجنونا ، لا سكرانا كما يدعي أولياء القتيل ، لأنه أعرف بنفسه ، والأصل براءة ذمته .

باب المعاملات

إذا ادّعى شخص على آخر دينا ، فعليه إقامة الدليل على أن ذمة المدعى عليه مشغولة بهذا الدين ، فإذا لم يستطع اثباته ، كانت ذمة المدعى عليه بريئة ، لأن الأصل هو البراءة حتى يثبت المدعي دينه .
ومنها : اذا اتلف انسان لآخر مالا واختلفا في قيمة المال المتلف ، حيث تجب قيمته على متلفه ، كالمستعير والغاصب ، والمودع المتعدي ، فالقول قول المتلف والبينة على صاحب المال لإثبات الزيادة ، لأن الأصل براءة ذمة المتلف مما زاد [25].
ومنها : لو اختلف المؤجر مع المستأجر في مقدار الأجرة ، فالقول قول المستأجر مع يمينه ، وعلى المؤجر البينة ، لأن الأصل براءة ذمة المستأجر من الزيادة [26].
ومنها : لو اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن بعد هلاك المبيع أو خروجه عن ملكه فإن القول قول المشتري وعلى البائع البينة لاثبات الزيادة . كذلك لو ادعى المستعير رد العارية فإن القول قوله ، إذ الأصل براءة ذمته ، وكذلك لو ادعلى الوديع رد الوديعة .
ومنها : لو أقر انسان لآخر بمجهول ، بأن قال : لفلان علي شيء أو حق ، فإنه يصح ويلزمه تفسيره ، أي بيانه ، ويقبل منه أن يبينه بما له قيمة ، فلو بينه وادعى المقر له أكثر مما بينّه المقر فإن القول للمقر ، وعلى المدعي إثبات الزيادة [27].
وأنهما اذا اختلفا في المال المأخوذ هل هو أمانة أم قرض ، فالقول قول مدعي الأمانة لأن في القرض الضمان والأصل براءة الذمة من الضمان كذلك الحال اذا اختلف المقرِض ( معطي المال ) و المقرَض ( الآخذ ) في قيمة القرض ، فالقول قول الآخذ ( المقرَض) لأن الأصل براءة ذمته مما زاد الآخر ، وكذلك اذا ادعى البائع على المشتري عدم الدفع ، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته .

رابعا : التطبيق القانوني للقاعدة

الأصل في المتهم البراءة …حق من حقوق الانسان ، وعنوان من عناوين الحرية انتزعته الشعوب عبر ثورات عنيفة بعد عهود من التحكم والتسلط حُكم فيها على الأبرياء على مجرد الظن والشبهة والنميمة ، نما وتراجع عبر العقود التاريخية ، حتى وقف شامخاَ في العصور الحديثة ، وهو حق تبنّته جميع المواثيق الدولية التي تعنى بحرية الانسان وكرامته ، ومبدأ أصيل ترسخ عبر الزمن لا يخلو منه دستور معاصر وقانون اجرائي ، وأصبح ركنا أساسيا من أركان المحاكمة العادلة المنصفة .
انطلق في الفكر القانوني الحديث كمبدأ دستوري بعد أن نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 في المادة (11/1) منه والتني تنص على أن : ” كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت ادانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات للدفاع عن نفسه ” ، وعلى هذا النحو ذهب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 ، حيث جاء في المادة (14/2) منه : ” لكل فرد متهم بتهم جنائية الحق في أن يعتبر بريئا ما لم تثبت ادانته طبقا للقانون ” . وكذلك نص المادة (6) من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الانسان وحرياته الأساسية لسنة 1950 ، كما نصت عليه معظم دساتير الدول المختلفة .

مدى تطبيق القاعدة في القانون الأردني

يعتبر القانون الأردني من التشريعات المتميزة التي استفادت من الفقه الإسلامي عموما والقواعد الفقهية خصوصا متأثرا في ذلك بمجلة الأحكام العدلية ، وهو بذلك من القوانين القليلة التي استعانت بالفقه الإسلامي في فهم النص وتفسيره ، فقد نصت المادة (3) من القانون المدني الأردني على أنه : ” يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته الى قواعد أصول الفقه الإسلامي ” ، هذا وقد أورد القانون المدني الأردني أكثر من خمسين قاعدة فقهية في مواضع مختلفة منه ، ومن بينها قاعدة الأصل براءة الذمة , وقد نص القانون المدني الأردني على هذه القاعدة تحت باب قواعد عامة في الإثبات في المادة (73) منه ، حيث جاء فيها : ” الأصل براءة الذمة وعلى الدائن أن يثبت حقه وللمدين نفيه ” .
كما قررت مجلة الأحكام العدلية هذه القاعدة في المادة (8) حيث جاء فيها : ( الأصل براءة الذمة ) فإذا أتلف رجل مال آخر واختلف في مقداره يكون القول للمتلف والبينة على صاحب المال لإثبات الزيادة .
فقد طبق القانون المدني الأردني هذه القاعدة تطبيقا واسعاً في مختلف المعاملات ، وهو بذلك عمل على حماية حقوق الأفراد من الاعتداء عليها ، فلا تقبل الدعوى ضد أي شخص الا إذا أقام الدليل على دعواه .
كذلك الحال في القانون الجنائي فقد قرر قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة (147/1) منه على أن : ” المتهم بريء حتى تثبت إدانته ) . وهذه القاعدة تعد سياجا لحماية الحريات الشخصية من أي تعسف أو تحكم من طرف أجهزة التحري عن الجرائم ، فكل شخص يعد بريئا حتى تثبت ادانته ، وهو بذلك لا يطالب بإثبات برائته التي هي أصل وحقيقة ثابتة وعلى أعضاء الضبط القضائي الذين يباشرون تحرياتهم عند وقوع جريمة ما أن يبحثوا عن الأدلة والقرائن والدلائل التي تجعل الشخص مشتبها فيه ، وذلك باتباع الإجراءات التي ينص عليها القانون لتكون أعماله مشروعة ، فتفتيش المساكن مثلا يجب ألا يتم الا في وقت محدد وطبقا لإجراءات مضبوطة ، كل ذلك حرصا من المشرع على حماية حقوق المشتبه به .
فقانون أصول المحاكمات الجزائية يُعرف في فقه القانون بأنه قانون الحريات العامة ، لما يمثله من ضمانة أساسية للحقوق والحريات الشخصية وضمان التوازن بينها وبين المصلحة العامة .

وهذه القاعدة تشمل بحمايتها كل الأشخاص سواء كانوا مشتبه بهم ، أو متهمين ، ولا فرق إن كانوا متهمين لأول مرة أو معتادين على الإجرام وبالنسبة لجميع أنواع الجرائم سواء كانت جناية أم جنحة أم مخالفة ، كما تغطي كل الإجراءات الجنائية في أية جريمة وأيا كانت طبيعتها وجميع مراحل الدعوى الجزائية ، ففي مرحلة التحري وجمع الأدلة لا تصلح الشبهات التي توصي بها إجراءات الاستدلال لاتخاذ أية إجراءات مقيدة للحرية ، وفي مرحلة التحقيق الابتدائي لا يجوز لقاضي التحقيق إحالة الدعوى الى المحكمة المختصة الا إذا توافرت أدلة تكفي للإحالة ، وفي مرحلة المحاكمة لا يجوز الحكم بالإدانة إلا إذا توافر اليقين القضائي على سبيل الجزم ، وينبغي استكمالا لأصل البراءة تفسير الشك لمصلحة المتهم [28] .
فبموجب هذا الأصل ، فإن القانون يكفل حرية الشخص ، فإذا لم تتوفر أدلة أو كانت الأدلة غير كافية في مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة فيجب غلق الدعوى أو الحكم بالبراءة حسب الأحوال وبناء على ذلك يجب أن يصل اقتناع القاضي في إصدار حكمه الى حد اليقين التام ، فالأحكام لا تبنى على الظن أو الاحتمال بل على الجزم واليقين ، لكن هذا الضابط يوجب التفرقة بين مرحلتي التحقيق والمحاكمة ، ففي مرحلة التحقيق لا يشترط أن تصل قناعة القاضي الى حد اليقين الكامل بإدانة المدعى عليه ، إذ أن مهمة القاضي التحقيق وليس الحكم عليه ، بل التأكد من مدى كفاية الأدلة للاتهام ، وبالتالي إحالة المدعى عليه أو عدم احالته على قضاء الحكم لذا فإن الأدلة تعد كافية لإحالة المدعى عليه حتى يحاكم أمام المحكمة إذا كانت تؤدي الى مجرد ترجيح الإدانة على البراءة ، أما في مرحلة المحاكمة فإن حكم الإدانة يجب أن يبنى على اليقين الكامل لاستبعاج قرينة البراءة اللاحقة بكل انسان ، فالمتهم بريء حتى تثبت ادانته بحكم جزائي قائم على أدلة كافية لذلك ، وعلى ذلك لا يكفي لإصدار حكم البراءة مجرد الشك في الإدانة ، فإذا حكمت المحكمة بالإدانة رغم تشككها في ذلك كان حكمها جديرا بالنقض[29].
ويترتب على إعمال هذه القاعدة النتائج التالية :

1- لا يرغم المتهم على إثبات براءته لأن الأصل فيه أنه بريء .
2- إن الحكم بالإدانة يتطلب اعتقادا كاملا بثبوت التهمة ، ذلك أن وجود الشك بثبوت التهمة معناه تأرجح اقتناع القاضي بثبوت التهمة وبالتالي يترتب على الشك أثره في كونه دليلا ايجابيا للبراءة فيصبح الحكم بالبراءة لازما .
3- أي ضعف في الأدلة يقوي أصل براءة المتهم ولا تفترض إدانته ولا تجوز ادانته بناء على اعتقاد قوي وإنما بناء على الجزم واليقين .
4- لا يجوز ادانة المتهم بناء على قول المدعي وحده لأن المدعي يدعي خلاف الأصل والمتهم محصن بأصل براءته وبالتالي فالقول قوله لموافقته هذا الأصل [30].

بعض التطبيقات القضائية للقاعدة

إن قاعدة الأصل براءة الذمة التي نص عليها القانون هي قاعدة الزامية للقاضي ، يتعين عليه اعمالها كلما ثار لديه الشك في الإدانة ، فإذا اعتبر القاضي الواقعة محل الشك ثابتة وقضى بالإدانة كان حكما باطلا ، ويجوز أن يستند الطعن في الحكم الى هذا السبب ، وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء لكونه مخالفة للقانون وللتطبيق القانوني السليم ، وعلى هذا قضت محكمة التمييز في أحد قراراتها على أنه : (( يكفي في المحاكمات الجزائية أن تشك محكمة الموضوع في اسناد التهمة للمتهم لكي تقضي بالبراءة لأن مرجع الأمر في ذلك الى ما تطمئن اليه في تقدير الدليل ))[31].
وتقول أيضا : (( إن تطبيق قاعدة أنه من الأفضل أن تبرىء المحكمة ألف مجرم من أن تدين بريئا واحدا يكون محله عندما تكون البينة محل الشك ))[32].
كما قررت أنه : (( تبنى الأحكام الجزائية على الجزم واليقين وليس على الشك والتخمين ، وإن تأكيد الشاهد أن المتهم هو الذي اشترك في جريمة السلب وأنه يؤكد ذلك بنسبة 90% ما يفيد وجود شك ، والشك يفسر لصالح المتهم )) [33].
وجاء في قرار آخر لها : (( …ويكون للحكم بالبراءة هذه القوة – قوة الشيء المحكوم به أمام المحاكم المدنية الدعاوى التي لم يكن قد فصل فيها نهائيا وذلك فيما يتعلق بوقوع الجريمة وبوصفها القانوني ونسبتها الى فاعلها – سواء بني على انتفاء التهمة أو على عدم كفاية الأدلة ))[34].
كما قررت : (( لمحكمة الموضوع مطلق الحرية في تقدير الدليل وتكوين عقيدتها وأن لها أن تقضي بالبراءة متى تشككت في صحة الدليل أو عدم كفاية أدلة الإثبات ، إلا أن ذلك مشروط بأن يشتمل حكمها ما يفيد أنها محصت وقائع الدعوى بكافة جوانبها وأحاطت بظروفها وأدلة الإثبات التي اعتمدتها النيابة في اسناد التهمة ))[35].
وتقول أيضا : (( شهادة الطبيب الشرعي بأن وفاة المغدور نتجت عن الإصابة بعيارين ناريين وأنه يشك في أن الطعنات قد تسببت بوفاتها هي خبرة فنية ، ويفسر الشك لصالح المتهم ولا يشكل بينة على أدلة المميز بالإشتراك في الجريمة ))[36].

الخاتمة

في نهاية هذه الدراسة لا بد من الإشارة الى النتائج التي توصلت الدراسة إليها من خلال بحث موضوع قاعدة براءة الذمة على النحو الآتي :
1- إن العقل يدل على براءة الذمة من جميع الأشياء ، فمن ادعى انشغالها فعليه الدليل .
2- توصلت الدراسة الى أن قاعدة الأصل براءة الذمة لا تقتصر فقط على المجال الجنائي ، بل يتسع مجال تطبيقها ليشمل مختلف جوانب الحياة من عبادات ومعاملات وغيرها .
3- أسس الفقه أصل البراءة على قاعدة استصحاب الحال ، واعتمادا على هذا التأسيس نستصحب أصل البراءة في أي مسأل الى أن يرد دليل على خلاف ذلك .
4- إن أغلب الدول نصت على هذه القاعدة في قوانينها وطبقتها المحاكم في قراراتها ومنها القانون الأردني ، حيث أورد هذه القاعدة في المادة (73) من القانون المدني كما تضمنه قانون أصول المحاكمات الجزائية كما استندت محكمة التمييز في الكثير من قراراتها على هذه القاعدة .
5- يعتبر القانون الأردني من القوانين القليلة التي تميزت بالاستعانة بالفقه الإسلامي في تفسير القواعد الفقهية ومنها قاعدة براءة الذمة ، حيث أحال القانون الأردني الى الفقه الإسلامي في فهم هذه القواعد وتفسيرها .
6- إن قاعدة البراءة تساهم في الحد من الأخطاء القضائية بحيث لا يدان أي شخص الا بناء على أدلة يقينية تثبت ارتكابه للجريمة ومسؤوليته عن وقائعها .
7- إن عدم تطبيق هذه القاعدة يؤدي الى اختلال الناس وتعدي بعضهم على بعض بغير حق ، فيدعي الناس على بعضهم حقوقا موهومة ويعجز المدعى عليه عن دفع هذا الإدعاء ، فتضيع الحقوق وتختل الحياة .

[1] المعجم الوسيط .ج(1).ص(20).

[2] الرواشدة ، سامي، القواعد الأصولية التي يستصحبها القاضي في الاثبات .

[3] المرجع ذاته .

[4] شبير ، محمد عثمان ، القواعد الكلية والضوابط الفقهية ، دار الفرقان ، ط1،2000م ، ص 147.

[5] المعجم الوسيط ، المرجع السابق ، ص 46.

[6] المعجم الوسيط ، المرجع السابق ، ص 315.

[7] داودي ، عبد القادر ، القواعد الكلية والضوابط في الفقه الاسلامي ، دار ابن حزم ، ط(1) ، 2009 ، ص 97.

[8] الزرقا ، أحمد بن الشيخ محمد ، شرح القواعد الفقهية ، دار القلم ، دمشق ، ط(2) ، ص 105 . و داودي ، القواعد الكلية ، مرجع سابق ، ص 97 .

[9] السيوطي ، جلال الدين ، الأشباه والنظائر ، الموسوعة الشاملة www.islamport.com ، ص 95 . كذلك داودي ، القواعد الكلية ، المرجع السابق ، ص 97-98.

[10] بنعمر ، محمد ، ابن حزم وأراؤه الأصولية ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ط(1) ن 2007 ، ص 287 .
كذلك الشراح ، يوسف حسن ، المأمول من علم الأصول ، مجلس النشر العلمي ، 2003، ص 242 .
كذلك الزحيلي ، وهبة ، أصول الفقه الإسلامي ، ج (2) ، دار الفكر ، دمشق ، ط (2) 1998 ، ص 901.

[11] الحجي ، مرهون بن زايد ، الاستصحاب عند الأصوليين وتطبيقاته الفقهية ، رسالة ماجستير ، جامعة آل البيت اشراف الشيخ الولي محمد مقبول ، ص 47 .

[12] الظفري ، أبوالوفاء علي بن عقيل ، الواضح في أصول الفقه ، حققه جورج المقدسي ، ج (3) ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 2000 م ، ص 190-191.

[13] الحجي ، الاستصحاب عند الأصوليين ، المرجع السابق ، ص 48 .

[14] الحجي ، المرجع ذاته ، ص 48 .

[15] داودي ، عبد القادر ، القواعد الكلية، مرجع سابق ، ص 98 .

[16] الظفري ، الواضح في أصول الفقه ، مرجع سابق ، ص 191 .

[17] بنعمر ، ابن حزم وآراؤه الأصولية ، مرجع سابق ، ص 287 .

[18] بنعمر ، المرجع السابق ، ص 287.

[19] داودي ، القواعد الكلية ، ص 100 .

[20] الشراح ، المأمول من علم الأصول ، ص 241 .

[21] الظفري ، المرجع السابق ، ص 192 .

[22] الزرقا ، مرجع سابق ، ص 110 .

[23] الزرقا ، المرجع ذاته ، ص 110 .

[24] الظفري ، المرجع السابق ، ص 193 .

[25] السيوطي ، جلال الدين ، مرجع سابق ، ص 95 ، كذلك شبير ، القواعد الكلية والضوابط الفقهية ، مرجع سابق ، ص 147 .

[26] شبير ، المرجع السابق ، ص 147.

[27] الزرقا ، أحمد ، المرجع السابق ، ص 114.

[28] العجرش ، فارس حامد عبدالكريم ، الاتهام والتجريم في الفكر القانوني المعاصر ، مقالة منشورة www.Lawjo.net

[29] جوخدار ، حسن ، أصول المحاكمات الجزائية ، ج 2 ، منشورات جامعة دمشق ط(2) 1992 ، ص 137 .

[30] اقتناع القاضي الجزائي عند الحكم بالبراءة ، مقالة منشورة www.qataru.com

[31] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 26/1993 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1995 ، ص 349 .

[32] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 62/1987 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1977 ، ص 816 .

[33] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 286/1995 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1996 ، ص 341 .

[34] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 196/1985 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1987، ص 351 .

[35] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 37/1994 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1995 ، ص 374 .

[36] قرار محكمة التمييز بصفتها الجزائية رقم 141/1996 ، مجلة نقابة المحامين لسنة 1998 ، ص 615 .